رام الله – فلسطين المحتلة
ينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ( المادة 18) الصادر عام 1948، والذي صادف مرور ذكراه قبل بضعة أيام، على حق كل إنسان في تبني الأفكار والعقائد والفلسفات والآراء بحرية تامة. وتنص مادة أخرى
( 19 ) في الإعلان على حق كل فرد في نشر الأفكار بأية طريقة مكتوبة أو منطوقة أو مرئية. والحق أن أحداً من الناس لا يمكنه الاعتراض من حيث المبدأ على مثل هذه الفكرة، وذلك انطلاقاً من المبدأ الإنساني الشامل والذي يقول بأن عليك أن تعامل الناس كما تريد أن يعاملوك. فإذا كنت على سبيل المثال لا توافق على تشريع فرنسي يحظر على الفتيات المحجبات دخول الجامعة، باعتبار أن ذلك التشريع يتدخل في حرية الناس الشخصية، فإن عليك بطبيعة الحال أن لا تسن قانوناً يلزمهن بالحجاب في الأماكن العامة. ومن البين بذاته أن ادعاء امتلاك الحقيقة لا يفيد هنا في شيء، ويجعلنا أسرى شريعة الغاب بالذات. فإذا كنت سأزعم أنني على حق عندما أمنع الفتيات من السفور لأنني أنطلق من ديني، فإن المشرع الفرنسي سيزعم بدوره أنه على حق لأنه ينطلق من مبادئه وقيمه..الخ والحل السحري الذي لا يحل شيئاً الذي يزعمه الناس في مثل هذه الأحوال هو أن حقهم أقوى من حق غيرهم لاعتبارات يستحيل إثباتها منطقيا أو تجريبيا. ومن ذلك ادعاء الفرنسيين أنهم ينطلقون من مبادئ عقلانية تتفوق منطقياً أو أخلاقياً على أفكار الشرقيين أو ادعاء المسلمين أنهم على حق لأنهم يستندون إلى سلطة المطلق ذاته أي إلى الله الذي يحتكرون سره كلية. هذه الادعاءات نموذجية أساساً للدعوة إلى حسم الخلافات الفكرية عن طريق القوة لا غير.
وبسبب هذا فإننا نظن أن البشر جميعاً يجب أن يلتزموا بمبدأ الحرية الفردية التامة في موضوع الفكر والاعتقاد، وفي موضوع النشر والتعبير على السواء. والحقيقة أن لهذا الاقتناع فوائد جمة واعتبارات ضرورية لنمو وتفتح الممارسة العقلية الفلسفية النظرية، والتجريبية جميعاً . ولا مراء في أن ادعاء احتكار الحقيقة هو رديف لتحريم الاشتغال بالعلم أو الفلسفة، مهما ادعى المرء أن تفكيره يجسد روح العلم والإبداع كأبهى ما يكون التجسيد. فهذا في واقع الحال إنما يهدف إلى التغطية على واقع قمع الآخرين ومنعهم من ممارسة حقهم الذي تكفله ملكاتهم الطبيعية ذاتها، باعتبار أن الخصيصة الجوهرية في الإنسان هو أنه كائن مفكر، أو بحسب تعبير أرسطو " حيوان ناطق " مع العلم أن ناطق اليونانية المشتقة من لفظة " لوغوس " إنما تشير إلى اللغة والعقل والنظام جميعاً . ومن هنا جوهرية التفكير بوصفه خصيصة الأنسنة الأولى مما يعني أن التخلي عنها يعني ببساطة تراجع الإنسان إلى مرتبة دون البشرية العاقلة وإن كانت لا تصل بطبيعة الحال إلى مستوى الحيوان الأعجم بالذات.
وينبني على الفكرة السابقة بطبيعة تاريخ البشرية أن الجهد الإنساني جهد تراكمي مشترك ينطلق فيه كل مشتغل بالعلم من الجهود التي سبقته ولا يلزم نفسه ما لا يلزم من تضييع للجهد والوقت بالبدء من الصفر في كل مرة مما يؤدي إلى أن يراوح البشر مكانهم لا يتقدمون قيد أنملة بسبب الإصرار على استقلال وهمي لا مكان له في الحياة الفعلية أبداً. وفي هذا السياق يبدو ابن رشد نبراساً يضيء للعالم كله تسامحاً ووعيا بقيمة التعاون. فقد لاحظ في كتابه المتميز" فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال" أننا ننظر في ما أتى به العلماء من المخالفين لنا في الملة ـ يقصد غير المسلمين ـ فإن كان صوابا أخذناه وشكرناهم، وإن كان خطأ نبهنا عيه وحذرنا منه وعذرناهم." هكذا إذن يكون الموقف الفكري الحر على أصوله، وأما تصيد أخطاء الناس بغرض التشهير بهم وإبراز تفوقنا تجاههم فليس من أخلاق العلماء في شيء. بل هي أخلاق "مغالطي خبيث" كما يخبرنا الرجل في موضع آخر هو كتابه الذائع الصيت " تهافت التهافت ".
من البين بذاته أننا لا نقبل بسهولة اختلافاً لا من قريب ولا من غريب. وفي ظل قيم تعلي من شأن الأنا وتهون من شأن الآخر يبدو أقل اختلاف مدعاة لنزاع يمكن أن يخرج عن هيبة وسيماء العلم ووقاره إلى غلواء الطيش والجهل. وهو ما كثفه محمود درويش بشكل جميل عندما عالج اختلافات الناس في ساحتنا الفلسطينية قائلاً:
وربما تقتلني أو أقتلك إذا اختلفنا حول تفسير الأنوثة
فكيف بنا يا محمود إذا اختلفنا حول فهم العالم أو الحياة أو الدين أو السياسة. ربما أننا لن نكتفي بأن نقتل المتورطين مباشرة في الصراع الفعلي بل ربما سنقتل أقارب المتورط وجيرانه وأبناء عشيرته الأقربين والأبعدين. ومن هذه الناحية فإننا نفعل بالضبط عكس ما اقترح فولتير:" ربما أختلف معك إلى حد التناقض، ولكنني مستعد أن أدفع حياتي ثمناً لكي تقول رأيك بحرية". الله يا فولتير كم نحن بحاجة في مشرقنا العربي إلى ربع ما تقول. فنحن على العكس لا نقبل الاختلاف مهما كان بسيطاً. وشعارنا هو إن كل من يطرح أفكاراً على يميني أو يساري قليلا أو كثيراً هو عدو مبين. حتى لو كان متفقاً معي في المبادئ والرؤى الأساسية، فنحن مع الرأي الواحد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، مثل رأي مولانا السلطان زعيم الدولة أو رأي مولانا المنظر زعيم الحزب. وكل من ينتقص حرفاً من حروف المفكر المبجل الذي يقود المؤسسة ـ صغرت أم كبرت ـ هو كافر أو مرتد أو خائن أو رجعي أو تحريفي إلى آخر القائمة العجيبة التي تحتوي فيما تحتوي الهرطقة والزندقة والتحريفية اليسارية أو اليمينية..الخ ولهذه الأسباب كثرت دائماً في ماضينا وحاضرنا الانشقاقات لكل صغيرة وكبيرة لأن مؤسستنا لا مكان فيها لمن يبتعد قيد أنملة عن الخط الأرثوذكسي الذي يقرره مجمع مكون على الأغلب من فرد واحد وحيد يحيط علمه بكل التفاصيل، ولا "يقدر" على ارتكاب أية أخطاء.
وقد كنا نظن فيما مضى من أزمنة أن احتكار الحقيقة في بلادنا العربية هي ديدن السلطان وأولو الأمر بالمعنى الموروث للكلمة وهو ما يهون باعتبار أن الناس في الماضي اعتادوا تقديس السلطة. وخاصة سلطة المفكر ورجل الدين ورجل السياسة. وفي هذا الباب يأتي تقديس الناس لأفكار أرسطو على امتداد ألفي سنة على وجه التقريب، إلى أن نجح العلم الحديث في إنزاله عن عرشه بعد تضحيات جمة وجهود مضنية اشترك فيها رجال ونساء لا عد لهم. ومن هؤلاء جاليلو الذي أثبت لزملائه الفيزيائيين بالدليل التجريبي أن الأجسام الساقطة من عل تصل الأرض في نفس الوقت بغض النظر عن كتلتها، فكذبوه في البداية وزعموا أنه على باطل لأن أرسطو " قال " خلاف ذلك. كأن أرسطو ضامن الحقيقة والحق المطلقين.
في بلادنا العربية هذه ما زلنا نعيش القرن التاسع عشر. وما زال السلطان السياسي في السلطة والمعارضة على السواء لا يحتمل نقدا أو قدحاً لكنه بالطبع يمنح الحرية التامة للتعبير المتفق معه والذي يمدحه ويعلي من قدر أفكاره العبقرية التي لم يسبقه إليها إنس ولا جان. ومن الغريب بالفعل أن مختلف القوى والتوجهات في الساحة الثقافية العربية تتفق ـ على اختلافها الظاهر ـ في عدائها لحريات ومن ذلك بالطبع السلطة الإقليمية في كل الأقطار التي ترى في الاختلاف والحريات خطراً يهدد وجودها من أساسه. وكذلك من يظنون أنفسهم حراس الشرع والديانات الإسلامية والمسيحية. ويضاف إليهم بشكل غريب التيار اليساري العلماني في جوهره والذي ينظر بريبة شديدة إلى الحريات على اعتبار أنها تقليعة برجوازية غربية تهدف إلى إلهاء الناس عن مشاكلهم الفعلية التنموية والتحررية كأن الانهماك في الهموم الثورية أو هموم بناء الاقتصاد الوطني تتناقض مع حرية الفكر المبدع وتتطلب القمع وكبت الحريات والانصياع التام لسلطة الرأي الواحد. "ولحسن الحظ" فإننا قد مارسنا على امتداد العقود الأخيرة التضحية بالحرية بسهولة تامة بوصفها الكبش الذي لا بد من ذبحه حفاظاً على هيبة الدولة أو مصلحة الثورة والجماعة أو حماية الدين من المارقين.
لقد كنا حتى اللحظة لا نستطيع قبول الاختلاف في داخل المدرسة الفكرية أو الفلسفية أو السياسية الواحدة، فحري بنا أن نتقاتل ونسفك الدماء عندما يتعلق الأمر بالخلاف بين المدارس التي لا تتفق في الأصول والجوهريات. لكن ذلك تم تجريبه بالجملة والمفرق فأوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم. ولذلك فإننا نظن أن من الواجب التفكير في جعل قواعد ابن رشد وفولتير ومن لف لفهما معياراً وضابطاً لنظرتنا الأمور قد يكون ذلك هو المخرج الصحيح. فقد ُأتخمنا من تجربة الواحد الذي يفكر للجميع، فيما يستطيع وما لا يستطيع، وآن له أن يستريح.
***********
كنعان