|
فحص الضمير الوطني السوري
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1334 - 2005 / 10 / 1 - 11:46
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
قد تكون سوريا عند مفصل حاسم من تاريخها. النظام يتعرض لموجة جديدة من ضغوط سياسية وإعلامية وأخلاقية وقانونية، وربما غدا اقتصادية أو حتى عسكرية، قد تتجاوز عتبة تحمله وتدفعه والبلاد نحو آفاق المجهول. وثمة قلق منتشر في البلاد من هذا المجهول الذي يتعذر تقديره ويصعب التحكم فيه. هذا قلق مشروع. غير أننا نلح على أن سياسة تبنى على القلق ستكون بالضرورة قلقة، أو حتى انهزامية. لا تقترح هذا المقالة سياسة محددة، ستحاول فرز الفاعلين الداخليين الأساسيين في المشهد السوري المحتمل، وتقدير أدوارهم الممكنة. إنها محاولة لفحص عقلنا وضميرنا الوطني قبل امتحان محتمل، قد يكون عسيرا.
الدولة اعتدنا أن نقول إن الدولة هي الفاعل السياسي الأكثر عقلانية، أو الأقل لاعقلانية، إن في العلاقات الدولية أو في حكم المجتمعات. أعقل من الأحزاب ومن الطوائف ومن الأفراد. وهذا لأن من المفترض أنها تمثل، في آن، المجتمع الوطني بكل فئاته، وتاريخ البلد بكل مراحله. ليس الأمر كذلك في سوريا للأسف. الدولة حزبية صراحة، وتحذف اكثر من نصف تاريخ البلد وذاكرته الوطنية، (تاريخ سوريا بين انهيار السلطنة العثمانية وعام 1963، مرورا بالاحتلال الفرنسي ثم المرحلة الاستقلالية، واسمها البعثي هو "عهد الإقطاع والبرجوازية" أو "عهد الانقلابات العسكرية"، ومرحلة الوحدة مع مصر، وصولا إلى "عهد الانفصال" المترنح الذي أسقطه البعثيون والناصريون). فيما تعلي من شأن مرحلة ما بعد 1963، وبالخصوص ما بعد 1970، لتمنح نفسها أبوة مطلقة للمجتمع السوري. إلى ذلك فإن استقلال الدولة عن النظام ضعيف جدا، والعناصر الوطنية والعقلانية والعمومية في بنية الدولة مهمشة ومعزولة. ضعف الدولة يتجلى في حقيقة أن العناصر دون الدولتية في تكوين وتفكير وولاء وممارسة طاقم السلطة أقوى من العناصر الدولتية. هذا ما يجعل المرء لا يراهن كثيرا على "الدولة" في الحد من مخاطر التناثر الاجتماعي والتنازع الأهلي. بل هو أصلا سبب الخشية من هذه المخاطر. إذ تبدو الدولة أشبه برهينة بين أيدي فاعلين دون دولتيين، الأمر الذي يجعل الخشية من نهج: "من بعدي الطوفان"، مبررا. ولا تزداد الخشية هذه إلا وجاهة إن أخذنا بالاعتبار أن نزع مدنية المجتمع السوري، أي عسكرته و"أهلنته"، كان أيضا نزعا لتمدنه، أعني "زعرنته" و"تشبيحه". من شأن ذلك أن يزيد فرص بروز ظواهر تجمع بين الخروج على القانون والبطولة الأهلية وتمجيد القبضاوية والعنف. لقد افتقرت سوريا طوال العهد البعثي إلى مقر عمومي للعقلانية والاعتدال. لكن لا عقلانية العشرية البعثية الأولى، التي شهدت حربين وثلاث انقلابات عسكرية وتغيير الأوضاع في الريف، كانت من النوع الثوري أو "فوق العقلاني"، فيما كانت لا عقلانية العقود الثلاث اللاحقة وجها آخر لغريزة بقاء مفرطة التضخم والحساسية، تسببت في خضوع المجتمع السوري لانقلابات مستمرة كشرط لانتهاء عهد الانقلابات على مستوى السلطة. التحام الدولة والنظام والمجتمع الأهلي أضعف العناصر العقلانية والعمومية والوطنية في بنيتها. لقد نزع عمومية ووطنية جهازي الإعلام والأمن، وبدرجة أقل الإدارة والجيش. النظام التعليمي ذاته مضروب، ووظائفه في نشر وعي وطني ومواطني معطوبة. وجميع الهياكل هذه تعاني من فساد سرطاني، يلوث أجواء البلاد كلها بالزيف والقبح والانحطاط الأخلاقي، وينخر الأفكار والقيم والأخلاقيات جميعا. كيف يمكن تقوية الدولة؟ كيف السبيل إلى إنعاش وإنماء العناصر العمومية والوطنية والعقلانية في بنيانها؟ هذا سؤال سيطرح نفسه بحدة متزايدة على الديمقراطيين. بل إننا نميل إلى الاعتقاد بأن فرص الديمقراطية في سوريا تكون أكبر بقدر ما تضع نصب عينيها تقوية الدولة، مع ما يتضمنه ذلك من كل بد من تجديد وظيفتها القمعية بالذات. يتعين أن تكون تقوية الدولة، حيال المصالح الجزئية والروابط الأهلية، فضلا عن التهديدات الخارجية، عنصرا أساسيا في أي برنامج للديمقراطيين والوطنيين العقلانيين. من نافل القول إن تقوية الدولة تمر عبر قطيعة مع نظام السلطة الراهن.
الأحزاب السياسية الفاعل الاجتماعي الذي يحتل المرتبة الثانية من حيث العقلانية هو الأحزاب السياسية. فالدولة والأحزاب مصنوعة من عنصر الحداثة السياسية، أمة المواطنين الأحرار. الفرق أن الدولة تمثل الأمة كلها وتحوز العنف في الداخل والخارج، فيما الحزب قطاع من الأمة ولا يحوز العنف. لقد خسرت أحزاب "الجبهة الوطنية التقدمية" حزبيتها وسياسيتها معا، وتحولت إلى مشروعات عائلية، تغطي على اتضاعها بتعنت إيديولوجي، قومي أو شيوعي. وهي تشارك حزب البعث انعدام الاستقلالية والشخصية بحكم تماهيها المديد مع السلطة وتعودها على الامتيازات غير العادلة. السؤال المهم في هذا السياق يتصل بالدور المحتمل لحزب البعث إذا انفتحت آفاق البلاد على المجهول ووجد نفسه في المجتمع لا في السلطة. ما نسبة أعضاء الحزب الذين سيبقون بعثيين، وكم هم الذين سيلتحقون بروابطهم الأهلية، أو يتركز جهدهم على استعادة امتيازات جائرة ونفوذ غير شرعي واستثناءات غير قانونية؟ هل سيعود البعث حزبا انقلابيا؟ لقد أفسد نظام الحزب الواحد حزب البعث، ونزع عموميته ووطنيته، ومن المرجح كذلك أنه قلل قدرته على التكيف مع أي وضع لا يكون فيه منفردا بالسلطة. إن تداخل الحزب المديد مع السلطة الأمنية وتعايشه مع القمع أو مشاركته فيه قد قتل العناصر الشعبية في وعيه ونمى عناصر الاستئثار والقسوة واللاعقلانية فيه. وولادته مع حالة الطوارئ تنذر بأن لا يكون قادرا على العيش بدونها، أي دون تطبيع الاعتباط واللاقانونية. وفوق هذا كله تعارض نظام الاستثناء الذي أقامه على الدوام مع الاستقرار والأمن الاجتماعيين وعطل إمكانية التوقع الرشيد عند المواطنين وجعل حياتهم نهبا للفوضى والعشوائية. بالجملة للم يكن حزب البعث فاعلا عقلانيا ولا يتفاءل المرء بدور عقلني له في آفاق سورية مفتوحة ومجهولة. تحت عنوان المعارضة السورية يمكن أن يميز المتابع بين المعارضة التقليدية ذات الأصول الإيديولوجية، اليسارية والقومية العربية، والمعارضة الحديثة التي تكونت في السنوات الأخيرة. المعارضة التقليدية بدورها تنقسم إلى معارضة علمانية (معتدلة وأقل اعتدالا) ومعارضة إسلامية (معتدلة واقل اعتدالا كذلك). بينما تنقسم المعارضة الحديثة إلى معارضة داخلية، ليبرالية الهوى، لم تستطع الوقوف على قدميها بعد، ومعارضة خارجية، بعض أطرافها مرتبط بأجندة الأميركيين، ويجمع بين شدة التطرف والانفصال عن الثقافة الوطنية. وربما يكون ثمة تنويعات إسلامية متطرفة و"قاعدية" الهوى ضمن المعارضة الحديثة. لكن يصعب التأكد من ذلك. ويتشكك كثيرون في وجود تنظيم "جند الشام"، أو في استهدافه النظام، إن وجد. المعارضة التقليدية أكثر عقلانية وسياسية من المعارضة الحديثة. فهي أكثر انفتاحا على القيم التي شكلت الثقافة الوطنية السورية، والتي، رغم معاناتها من أزمة حاليا، إلا أنها في متن كل وطنية سورية ممكنة. أعني بذلك قيم الاستقلال والوحدة الوطنية، ونوع معتدل من العلمانية، وصيغة، ربما مخففة، من العروبة. وهي تنفتح على شريحة أوسع وأطول من تاريخ سوريا الحديث (ليس لسوريا الحالية تاريخ غير حديث)، وما قبل تاريخ سوريا، قياسا بحزب البعث، وقياسا بتنظيمات حديثة تحذف نصف تاريخ سوريا (ما بعد 1963)، أو تتثبت تثبتا مطلقا على تغيير النظام البعثي. المعارضة التقليدية أيضا أوسع تمثيلا إمكانيا للمجتمع السوري. تنظيماتها العلمانية عابرة للطوائف (وإن تكاد اليوم تكون خالية من الأكراد، بعد أن كان لهم وزن مهم في الشيوعية السورية بمختلف تنظيماتها)، أو منفتحة على التعدد الديني والإثني للمجتمع السوري. هنا الإخوان المسلمون يعانون من مشكلة بلا شك. مشكلات المعارضة التقليدية كثيرة، بينها ضعفها الفكري وتشرذمها واكتهالها وضعف انفتاحها على المستقبل. كما أن ضعف الديمقراطية داخل الأحزاب يحد من عقلانيتها. إنها ايضا ضعيفة العزم والمبادرة، ما يجعل عقلانيتها مصنوعة من التعب ونقص الثقة بالنفس. هل يمكن للأحزاب السياسية أن تقوم بدور تأسيسي، توحيدي وديمقراطي، في حال واجهت سوريا تحديات مرحلة جديدة من تاريخها؟ هل يمكنها أن تحد من المفاعيل اللاعقلانية لنزع مدنية وتمدن المجتمع السوري؟ ما يمكن أن يقوله المرء بثقة هو إن غياب دور الأحزاب يجعل الأمور أسوأ. وخلافا لمزاج شائع، "مناقص" (نقيض مزايد)، بل عدمي، نميل إلى أنها قد تلعب دورا اكبر مما هو متوقع في عقلنة الأهواء والاندفاعات الاجتماعية.
الإسلاميون في هذا السياق المخصوص ينضوي تحت دال الإسلاميين الإسلاميون الحركيون حصرا، المنضوون في تنظيمات سياسية تهتدي بالإسلام أو بما يظنونه كذلك. السؤال هنا أيضا: إلى أي مدى يمكن أن يقوم الإسلاميون بدور في عقلنة المجتمع والدولة في مرحلة قد تكون مضطربة؟ إلى أي مدى يمكن أن يقوموا بدور وطني وعمومي؟ في أواخر السبعينات جرت عملية إيديولوجية سياسية عسكرية في أوساط "الإخوان المسلمين" السوريين كلفتهم وكلفت البلاد الكثير. قام شبان من أوساط الإخوان، مقتدين بالشيخ مروان حديد كقائد وملهم حركي (قتل في السجن عام 1976) واجتهادات الشيخ سعيد حوا التكفيرية، بعمليات اغتيال واعتداءات على شخصيات محسوبة على السلطة. هؤلاء الشبان هم "الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين" التي نفذت "مجزرة مدرسة المدفعية" في بداية صيف 1979 في مدينة حلب (راح ضحيتها قرابة 100 من طلاب الضباط، العلويين حصرا). قيادة "الإخوان المسلمين"، الخبيرة والعقلانية أكثر من غيرها، لم تستطع أن تدين العملية باتساق وتقف في وجهها، كما لم تستطع أن تؤيدها وتتحمس لها. كانت ترى قواعدها تنحاز شيئا فشيئا لـ"الطليعة المقاتلة" حيث "النزعة البطولية" و"الروح الاستشهادية"، دون أن تستطيع فعل شيء غير مغادرة البلاد. لسنا غافلين عن دور النظام وقتها في توحيد المتطرفين والمعتدلين، "الطليعة" والحزب الأم (هل كان رفعت الأسد هو "الطليعة المقاتلة" للنظام، وهو الذي جره إلى المواجهة المطلقة مع الإخوان جميعا؟ ثمة مؤشرات على ذلك، لكنها غير قطعية. التساؤل هذا مهم من وجهة نظر سياسية راهنة، بالخصوص في وجه من يعتبرون صراع تلك المرحلة بين رفعت والإخوان. التقابل الأصح هو بين رفعت و"الطليعة المقاتلة"، أو بين النظام و"الإخوان"). لكن تطرف النظام أو أطراف منه لم يكن السبب الوحيد لشلل قيادات الإخوان وغياب دورها العقلني. لقد كانت أيديولوجيتهم، وما فيها من عناصر تكفيرية وطائفية، تحتمل الخيار الذي أقدمت عليه "الطليعة المقاتلة"، بل كانت ضعيفة أمام إغرائه (تماما كما أن إيديولوجية التنظيمات الشيوعية تحتمل خيارات متطرفة، وربما إرهابية، وقد تستسلم لغوايتها). الأمر الذي فاقم اللاعقلانية وسوء الحساب السياسي لدى أولئك القادة الميدانيين من أمثال عدنان عقلة وهشام جمباز وغيرهم. بالمناسبة مثل ذلك جرى تقريبا في أوساط أكراد القامشلي والحسكة في آذار 2004. لم تستطع الأحزاب أن تقود الاحتجاج الكردي على مقتل مواطنين أكراد يوم 12 آذار خوفا من السلطة. ولم تستطع كذلك أن تعترض عليه وتوجهه خوفا من أن تخسر ما بقي لها من اعتبار في وسط جمهورها. في الفراغ القيادي الذي حصل تولت قيادة أمر واقع مكونة من فتيان ومراهقين مندفعين توجيه الاحتجاج، ما أسهم في خروج الوضع عن السيطرة ووقوع ضحايا آخرين على أيدي أجهزة أمن مبرمجة على الضرب. بالإجمال فاقم دور الإخوان في نهاية السبعينات العناصر اللاعقلانية والفئوية في تكوين النظام، وأسهم في تخريب الدولة والمجتمع معا. هل من المحتمل أن يتكرر ذلك اليوم؟ هل الإخوان مزدوجو الهوى اليوم ايضا؟ إلى أي حد يمكن للقيادات أن تعمل في إطار الوطنية العقلانية؟ إلى أي مدى تستطيع عزل المتطرفين المحتملين في أوساط الإخوان، والحد من دوافع الثأر والانتقام، والوقوف في وجه المتطرفين الجهاديين والتكفيريين المحتملين في المجتمع السوري؟ هنا يضاف هم آخر، يزيد الحاجة الوطنية إلى إسلاميين معتدلين: "السوريون العراقيون" (على وزن الأفغان العرب)، أي "المجاهدين" السوريين الذين قد يعودوا من العراق ويسهموا في "الجهاد" ضد "الروافض". في اجتهاداتهم خلال بضع السنوات الأخيرة توجهات ورؤى منفتحة تشجع على توقع دور عقلاني لهم في مواجهة مخاطر التحلل والنزاع العام. لكن هل لا يزالون يحتفظون بنفوذ في أوساط الجمهور الإسلامي المتدين؟ ألا يحتمل أن عيش قياداتهم في المنفى طوال أكثر من ربع قرن قد اضعف قدرتها على فهم واستيعاب وقيادة جمهور أكثر شبابا وتطلبا؟ المثقفون مهما بدا ذلك غريبا فإن "عمال العقل" أقل عقلانية من الأحزاب السياسية ومن الدولة من حيث المبدأ. هذا مرده أن الأحزاب تأخذ شريحة من الواقع بعين الاعتبار أوسع من تلك التي يأخذها المثقفون عادة. كان وزن المثقفين لافتا في مرحلة السنوات الخمس الأخيرة. لقد طبعوا العمل العام بطابعهم، إن للخير أو للشر. من ناحية منحوا الحركة الديمقراطية حضورا لا يتناسب مع قوتها الاجتماعية، وغطوا فترة إعادة تأهيل الأحزاب لنفسها، وحددوا أكثر من غيرهم أجندة النقاش الوطني والمعاني الأساسية في هذا النقاش. من ناحية ثانية أظهروا مألوف المثقفين من التشرذم وتكريس الذات، فضلا عن غلبة الهوى الإيديولوجي في حالات غير قليلة. هل يمكن للمثقفين أن يكونا فاعلا عقلنيا في السياق الذي نتحدث عنه؟ هل هم متحررون من الروابط الأهلية ليقوموا بدور وطني تواصلي؟ المثقفون السوريون منقسمون بعمق حول الموقف من الإسلاميين، هذا يضع بعضهم في موقع متحفظ حيال ما يسمونه "الديمقراطية العددية"، التي تعني ببساطة شديدة سيطرة الإسلاميين، وبتحديد اكبر المسلمين السنيين، على السلطة. ويفضل بعضهم نظاما "علمانيا"، ولو كان استبداديا، على نظام يخشون أنه يسعى من وراء الديمقراطية إلى التدخل في الحياة الخاصة وفرض نمط حياة عقيدي وغير حديث. ضمن هذا المناخ الموسوم بالتوجس وعدم الثقة، من غير المحتمل أن ينشأ ما يشبه حركة "كفاية" المصرية. فلم تقم هذه الحركة إلا لأن قطاعا مهماً من المثقفين والناشطين المصريين رفضوا "التواطؤ مع الدولة لاستمرار حجب الشرعية أو اضطهاد التيار الإسلامي الاعتدالي، رغم التخوف الأصيل من هذا التيار لأسباب تاريخية وإيديولوجية وسياسية" (من دراسة ممتازة لمحمد السيد سعيد بعنوان "النضال الشعبي من أجل الديمقراطية في مصر، ألقيت في اللقاء الخامس عشر لـ"مشروع دراسة الديمقراطية في البلدان العربية، متوفرة على الرابط: http://www.mafhoum.com/press8/248S62.htm). الموقف من الإسلاميين هو القضية المفردة الأكثر إثارة للشقاق في أوساط المثقفين السوريين، تسبق حتى الموقف من السلطة، بل يكاد الموقف من هذه يمر مرورا محتوما بالموقف من هؤلاء. هذا من خصائص الاجتماع السياسي السوري التي لا يمكن إغفالها. والمشكلة ليست في انقسام الرأي بحد ذاته، بل في تخلي بعض المثقفين عن مسؤولياتهم العقلنية لمصلحة إشاعة المخاوف وتغذية الانفعالات الفئوية ورعاية الغرائز بدلا من العقل. من جهتنا نعتقد انه ليس هناك أية مشكلة في "الطوائف في ذاتها"؛ ثمة مشكلة خطرة حين يتولى مثقفون "نقل الوعي من خارج" إلى "طوائف في ذاتها" لتغدو "طوائف لذاتها"، هذه "طائفة حداثية" وهذه "طائفة علمانية" وهذه "طائفة قومية"... وبدلا من عقلنة الأهواء والولاءات دون الوطنية ينزلق مثقفون إلى تطييف الثقافة. هذا استسلام غير مشروط للطائفية، أو أعلى مراحل استقالة المثقفين وتخليهم عن دورهم العقلني، بل الوطني.
الفاعلون الأهليون تعريفا غير عقلانيين ودون وطنيين، سواء كنا نتحدث عن إثنيات أم عن مجموعات دينية أو مذهبية. هذا ليس اتهاما بحال، بقدر ما هو متصل بربطنا بين العقلانية وبين الانفتاح على أوسع قاعدة اجتماعية من السوريين وأطول مرحلة من تاريخ بلادهم. الأسئلة التي تطرح في هذه السياق تتصل بدور الجماعة الكردية، بدور الطوائف والمجموعات الدينية، بدور العشائر والمجموعات القرابية. من جهتنا نميل إلى التشاؤم حيال دور الأهليين. إنه مبدأ للتشرذم واللاعقلانية والأنانية. ومن ثوابت تاريخنا الحديث أن الأهلي يصعد على حساب الوطني بقدر ما يتعاظم دور الخارج حيال الداخل. وهذه سمة السنوات المقبلة في المجال المشرقي كله.
السورية والعروبة يكتشف المرء في سياق تفحص الضمير السوري أن البلاد تفتقر إلى مبدأ موحد فعال، سواء تجسد في مؤسسة أو فكرة أو شخص أو رمز، مبدأ يمكن أن يعطي للوطنية السورية وجها وقواما يتعرف عليه كل السوريين. وإن كان لنا أن نستدل من سياساته، فإنه لا يبدو أن النظام يدرك الحاجة إلى مبدأ وحدة حي، أو لا يعطيه ما هو جدير به من اهتمام. يستغني بالوحدة السلبية للمجتمع الممسوك عن الوحدة الفعالة للمجتمع ذاتي التماسك. لكن هذه وحدة جهازية، سندها الخوف وليس الأخوة ولا المساواة في الحقوق ولا شراكة المواطنة. اليوم، وبدعم خفي من النظام، تنبعث تنويعات خرقاء من عقيدة "سوريا أولا"، دون أن يكون لها من مضمون غير الابتعاد عن العروبة، وتغذية شوفينية سمجة متدنية المستوى، بشهادة النموذج الذي رأيناه منها بخصوص العلاقة مع لبنان (يحتاج لبنانيون إلى الانتباه إلى أن الشوفينية السورية ضد بلدهم أوثق صلة بازدراء العروبة من الالتزام بها، بل إنه ليس غير العروبة يمكن أن تلجم هذه الشوفينية). تستفيد "السورية المطلقة" هذه من استنزاف الفكرة العربية، التي كانت مبدأ الوحدة الفعال، على يد أنظمة تجمع بين الطغيان والفساد ورصيد من الهزائم العسكرية. دون حريات وحقوق إيجابية، كانت عروبة الأنظمة قد ارتدت إلى وجه أمسح بلا ملامح، ثم دفعت طوال عقود ثمن إخفاقات استراتيجية وتنموية كبيرة، تسببت فيها أطقم حكم غير مؤهلة. العروبة قطاع عام، ولطالما عوملت كما يعامل القطاع العام: ينهب ويشتم معا. إن السورية التي لا تتحدد إلا بالتمايز عن عروبة مستنزفة خاوية من المحتوي مهددة بان تكون جوفاء خاوية مثلها، دون أن تمر بمرحلة شباب حيوية وواعدة كما كانت العروبة قبل أن يستعمرها نظام الحزب الواحد. وفي صورتها الراهنة هي غير مؤهلة للصمود وجه الطائفية ومخاطر التمزق الأهلي، إن لم نقل إنها نظرية التصدع الأهلي (كي نستخدم تعبيرا ملطفا). من أجل وطنية سورية دستورية، موحِّدة وموحَّدة، ثمة حاجة إلى نقاش عام واسع يأخذ باعتباره تاريخ سوريا الحي ومجالها الحضاري وثقافة شعبها وخياراته المرجحة.
رهان على المستقبل قد يكون السوريون مضطرون لمواجهة تحديات ضخمة وغير مسبوقة. النظر إلى الوراء لن يكون متاحا، ولن يصلح أساسا لسوريا الجديدة. ورغم أن المستقبل قد يكون مفعما بالمصاعب، فإننا نعود إلى القول إن الخوف من المستقبل أقل صلاحية لبلورة سياسة صحيحة اليوم. هذا أصح ايضا إذا أخذنا بالاعتبار ضعف تأثير المعارضين والديمقراطيين والوطنيين العقلانيين على مسار أوضاع البلاد في الشروط الراهنة، وهو ضعف ناجم مباشرة عن حرص النظام الشديد على ضربهم وإقصائهم، مخلصا لغرائزه الأصيلة. إنهم في وضع من لن يخسر غير أغلاله في حال التغيير. ورغم أن تغير الأحوال محفوف بالمخاطر، إلا أنه قد يفتح الباب لدور اكبر لجميع الفاعلين الذين ذكرناهم، بمن فيهم الديمقراطيين والوطنيين العقلانيين. كيف يمكن، دون الإغضاء عن أسوأ الاحتمالات، بلورة سياسة جسورة تصون البلاد وتجنبها الفوضى، بل تفتح أمامها آفاقا أوعد؟ الديمقراطيون والعقلانيون مدعوون إلى التحرر من الخوف والانهزامية، وإلى الرهان على المستقبل.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العقيدة والهوية ونزع العلمانية
-
أخلاق بلا أخلاق
-
أوجه اللاعقلانية في السياسة السورية
-
لماذا لن ينجح تصدير الديمقراطية من أميركا للعرب؟
-
تسمية الأشياء بغير أسمائها: الإعلام محصنا ضد الحقيقة
-
خوض الحرب السابقة
-
إصلاح سوريا ولبنان للإصلاح بينهما
-
سياسة الفرط والبعثرة: إعادة احتلال الميدان العام في سوريا
-
من أين يأتي التغيير؟ جدليات الداخل والخارج في -الشرق الأوسط-
-
السيف والندى: تأملات سياسية
-
في تضاعيف المسألة الإرهابية
-
الإسلاميون ومبدأ الشرعية المتساوية
-
علمانية في العالم الاجتماعي أم في عالم المثل؟
-
علمانية وإسلامية وديمقراطية في السجال السوري
-
حقائق وزير الحقيقة البعثي
-
الانحلال حلا: تأملات لا عقلانية في الشرط العربي
-
البعثية السورية: من الإرادوية إلى الإداروية
-
استعصاء
-
وحيدا على قيد البقاء المطلق: حزب البعث في أسر السلطة
-
هايل ابو زيد: آخر ضحايا نظام الاستثناء الأمني
المزيد.....
-
كيف يعصف الذكاء الاصطناعي بالمشهد الفني؟
-
إسرائيل تشن غارات جديدة في ضاحية بيروت وحزب الله يستهدفها بع
...
-
أضرار في حيفا عقب هجمات صاروخية لـ-حزب الله- والشرطة تحذر من
...
-
حميميم: -التحالف الدولي- يواصل انتهاك المجال الجوي السوري وي
...
-
شاهد عيان يروي بعضا من إجرام قوات كييف بحق المدنيين في سيليد
...
-
اللحظات الأولى لاشتعال طائرة روسية من طراز -سوبرجيت 100- في
...
-
القوى السياسية في قبرص تنظم مظاهرة ضد تحويل البلاد إلى قاعدة
...
-
طهران: الغرب يدفع للعمل خارج أطر الوكالة
-
الكرملين: ضربة أوريشنيك في الوقت المناسب
-
الأوروغواي: المنتخبون يصوتون في الجولة الثانية لاختيار رئيسه
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|