تعرضت بيئة العمل وما زالت تتعرض لأبشع ما يمكن من اخطار ناجمة عن مضمون وتوجهات ومنهجية النظام السياسي للعولمة بإدارته الاميركية الصهيونية وخاصة لجهة تغيير مفهوم الدولة من دولة رعاية الى دولة بوليس ولجهة فرض شروط جديدة لتنظيم سوق العمل بمفهوم اقتصاد السوق، وبالغاء كل القوانين والأنظمة الناظمة له، وكذلك بالغاء كل الضمانات والتأمينات الاجتماعية وسائر اشكال حماية ديمومة العمل، كل ذلك لمصلحة حرية رأس المال وتغييب بل انهاء الآليات المؤدية الى العدالة الاجتماعية. ان هذا النظام يتغذى على الفقر البشري، وعلى تدمير البيئة، ويولد التفرقة الاجتماعية ويقضي على حقوق المرأة وحياة الانسان. وعلى المستوى الدولي، انتج هذا النظام الفروقات الشاسعة ما بين الشمال والجنوب، واوسع الهوة بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة كما بين الاغنياء والفقراء في الوطن الواحد.
ان الشروط الجديدة للعولمة تُفرض على الدول النامية عبر مؤسسات صندوق النقد والبنك الدوليين، وعبر منظمة التجارة العالمية، بقرارات قيصرية وقسرية وملزمة على حساب الدولة، والسيادة، والاستقلال، وبالتالي يُفرض على الدول الفقيرة الحاق اقتصاداتها وسياساتها الاقتصادية بنظام الاستعمار الجديد المتمثل بالادارة الاميركية وبشراكة كاملة مع الحركة الصهيونية.
لذلك لا يمكن البحث في بيئة العمل بمعزل عن شروط العمل وبمعزل عن التطورات الاقتصادية الاجتماعية المعيشية.
وفي النص، فان اتفاقية العمل العربية رقم 13/1981 حددت شروط واهداف بيئة العمل كالآتي:
<<ان التطور يتم لصالح الانسان ولبناء المجتمع العربي اقتصاديا وحضاريا وانسانيا بشكل لائق وبما يتناسب مع روح العصر، ومع تطلعات الدول العربية نحو مستقبل افضل للقوى العاملة وتحسين بيئة العمل وجعلها اكثر ملاءمة للقدرات البشرية>>.
وبالاستناد الى هذا النص، نحاول، هنا، ان نراجع الواقع المؤلم لبيئة العمل في لبنان.
لقد نص قانون العمل اللبناني في المواد 61 و62 و63 و64 و65 على الشروط الواجبة لبيئة العمل لا سيما لجهة السلامة والافادة والتهوئة وتجديد الهواء والمياه الصالحة للشرب والمراحيض واخراج الغبار والدخان ومنامة الاجراء والاحتياطات المتخذة ضد الحرائق.
كذلك ثمة قوانين عدة وانظمة ومؤسسات تتولى مهام في اطار بيئة العمل منها:
قانون طوارئ العمل والحماية والوقاية والسلامة الصادر بتاريخ 16 ايلول 1982 بمرسوم اشتراعي رقم 136.
قانون الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في الباب الثاني: (ضمان طوارئ العمل والامراض المهنية الذي لم يطبق حتى تاريخه).
المرسوم الاشتراعي رقم 80 المتعلق بانشاء مؤسسة عامة تدعى: المؤسسة الوطنية للاستخدام، والمحددة بشكل واضح في المادة الثالثة منه وهي:
تتولى المؤسسة الوطنية للاستخدام رسم وتنفيذ سياسة الاستخدام في لبنان بصورة عامة، كما تتولى بصورة خاصة وعلى سبيل المثال لا الحصر، المهام التالية تأمينا لتحقيق اهدافها:
انشاء مكاتب استخدام في بيروت والمناطق اللبنانية كافة والاشراف عليها.
مكافحة البطالة عن طريق تأمين نسبة مرتفعة للاستخدام.
المساهمة في تشجيع المشاريع ذات الانعكاس على سوق العمل.
المساهمة في كل ما من شأنه رفع مستوى اليد العاملة.
القيام بالدراسات والابحاث الرامية الى تحديد السياسة العامة للاستخدام.
مجالس العمل التحكيمية:
تحديد الأجور وسياسة الاجور بالزامية تحديد الحد الأدنى للأجور عبر لجنة مؤشر الغلاء (المعطلة).
اتفاقيات العمل العربية والدولية المبرمة في لبنان ولا سيما رقم (1) العربية و(98) الدولية.
وبالمقارنة بين مضمون هذه التشريعات وما تقوم به السلطات المختصة بالممارسة في اكثر الاحيان، تبرز تناقضات واضحة والتزامات تقوم بها السلطة لمصلحة اصحاب العمل على حساب العامل وحقوقه.
وانطلاقا من هذه الحقيقة، ولتوفير بيئة عمل سليمة علينا التصدي لمخاطر العولمة بعدما توضحت شروط النظام السياسي للعولمة وفرض قوانينه الجائرة والظالمة عبر مؤسساته غير الانسانية لفرض هيمنته الاستعمارية بأبشع صوره الوحشية بفرض سلطة رأس المال عبر تسلط الشركات المتعددة الجنسيات مستخدما آلته الحربية (الاميركية الصهونية) لقهر شعوب الارض وبالأخص شعوب العالم الثالث.
لذلك، علينا ان ننتقل من حالة التشرذم الى البدء بتوحيد الجهود لما يخدم مصلحتنا اللبنانية ومصلحتنا العربية وخاصة بعدما سقطت عمليا كل اتفاقيات الذل والعار التي سميت باتفاقيات السلام مع العدو الصهيوني، والتي رفضت من قبله بدعم اميركي وقح وفظ، كما سقطت المحاولات التي جرت لابدال التعاون العربي بتعاون شرق اوسطي.
وفي زمن التكتلات الاقتصادية المفترض ان تؤمن التكاملية بحسب التوجهات الدولية لتنظيم التجارة العالمية، وانطلاقا من مصلحتنا اللبنانية والعربية علينا العودة الى التعاون العربي بروح امل جديدة، وقد اصبح هذا التعاون ضروريا بل ملحا لكن برؤية جديدة، خاصة أنه لا يمكن لأي بلد ان يحافظ على اقتصاده ويؤمن الاستقرار بامكانياته الخاصة لوحده.
ان هذا الامر يتطلب اكثر من اي وقت مضى الاقرار الفعلي بقيام السوق العربية المشتركة بدءا بتنفيذ وتطوير المنطقة التجارية الحرة العربية الكبرى، ووضع خطة لتطوير البحث وبرامج البحث العلمي وتجهيزاته والاستفادة من الأدمغة العربية وتأسيس شبكة للعلماء والتكنولوجيين العرب. وبات من الضروري البحث في تنظيم سوق العمل العربية بدءا بحرية تنقل الاشخاص وخضوعهم لشروط واحدة، لمواجهة البطالة والقضاء على الفقر واجتثاثه، وذلك انطلاقا من مشروع منظمة العمل العربية (البرنامج الشامل لتشغيل الشباب العربي).
وقد آن الأوان لاعادة النظر في الهيكلية الاقتصادية العربية وتغيير السياسات الاقتصادية المعتمدة وبوضع الآليات الانتقالية من الاقتصاد الريعي الى اقتصاد منتج بما يؤسس لاقتصاد سليم ومتين يسهم في ادخال الوطن العربي في اطار الاقتصاد العالمي كجزء اساسي منتج وفعال.
ولتأمين بيئة عمل تحمي العمال من الاضرار الصحية ومن اخطار العمل والآليات ينبغي ان يتم الاقرار بالديموقراطية والحريات وبما يضمن الحقوق الاساسية للعمال، كالحق في الحياة والحق في الأجر العادل، وحق التعبير، والتحرك بحرية، ثم وبشكل خاص الحرية النقابية وذلك بتنفيذ المعايير الدولية والعربية الاساسية لا سيما ما نصت عليه اتفاقيتا العمل 87 الدولية و8 العربية وملحقاتهما والشرعة الدولية لحقوق الانسان... ويتطلب ذلك الافراج عن الحركة النقابية بحيث تكون التعددية القاعدة الاساسية لاعادة بنائها من خلال وضع استراتيجية جديدة لها تتلاءم مع سمات المرحلة وتحدياتها وتأخذ دورها المستقل والطبيعي في التمثيل الثلاثي، وبما يضمن ممارسة دورها في الدفاع عن الوطن والانسان ويؤسس لمجتمع مدني جدي وحقيقي قائم على احترام حقوق الانسان وبما يكفل مشاركة المجتمع بكافة فئاته بالقرار الوطني.
انه السبيل الوحيد الى مستقبل آمن يعيش فيه الجميع برفاهية وعدالة، مجتمع يتضمن الغاء الفقر والجوع، والاستجابة لحاجات الانسان الاساسية، كالسكن، والغذاء، ونظافة البيئة، والصحة وتحسين نوعية الحياة وضمان البطالة والشيخوخة.
ويجب ان يؤمن للعمال حق الحصول على عمل مضمون، في شروط تمكنهم واسرهم من العيش بكرامة والاكتفاء من دون حاجة الى أحد. ولا بد من اقامة المؤسسات التأهيلية لتأمين التنمية المستدامة بما يعيد تأهيل العمال الحاليين والذين سوف يدخلون سوق العمل بما يتلاءم مع شروط الانتاج وحاجة السوق. وفي كل حال لا يمكن الفصل بين البيئة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، والتأكيد على اهمية دور التعاونيات وتأمين الحماية الاجتماعية لهؤلاء الذين لا يستطيعون ايجاد عمل وبدخل مضمون وحماية الموارد الوطنية، وانتاج الطاقة واستهلاكها، والبدء فعليا بوضع الاجراءات التنفيذية لتنمية المجتمع المحلي لتخفيف الضغط عن المدن.
لايجاد بيئة عمل جدية علينا ان نؤسس لمقومات مقاومة عربية فعلية وفاعلة لمقاومة اطماع الشراكة الاميركية الصهيونية بتوفير كل المستلزمات على كل الصعد والميادين.
() نائب رئيس الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان
©2002 جريدة السفير