موسى راكان موسى
الحوار المتمدن-العدد: 4797 - 2015 / 5 / 5 - 09:10
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
[3] - (( المثقف )) : (( نقد المثقف عند الديري )) :
كان قد تقدم بنا أن الطائفة (عند الديري) تربي المرء تربية قاصرة , يسدها بالرجوع إليها , و بطريقة ما يربط الديري بين ((الخروج)) و ((المثقف)) : { بقدر ما أنت تقلص من مساحات هذا الرجوع تخرج من قصورك و تكون مثقفا . مثقفا على طريقة عصر الأنوار } (ص 43) , إذ أن : { لا يمكن أن تكون مثقفا داخل طائفتك } (ص 29) .
{ متى إرتهن المثقف إلى جماعة أو إلى نص صار رجل دين , و متى إنفك رجل الدين من جماعته و نصه صار مثقفا } (ص 152) , هذا الإرتهان و الإنفكاك و ما يحصل بسببهما من تصيّر يغرقان في تعميم الديري الغامض و المتعسف , و لعل لنا بالتركيز على مفهومي ((النص)) و ((الفعل الحر)) ما قد يفك هذا الغموض , و بالتسلسل الآتي نحاول ذلك :
(1) : { المدينة صنيعة المثقف لا رجل الدين , رجل الدين لا يصنع مدينة , لأن المدينة يصنعها الفعل الحر , لا النص المقيد . النص يصنع جماعات و الفعل الحر يصنع أفرادا , النص يسبق الإنسان و الفعل يلحق الإنسان } (ص 152) , في البداية ظننتها [مدنية] و أن الخطأ المطبعي هو الذي جعلها [مدينة] , لكن خاب ظني مع الإستمرار بالقراءة , فحقا لدى الديري من الشجاعة الكثير لينسب المدينة إلى المثقف , بل و ليجعلها نتيجة للفعل الحر , هاكم الخلطة العجيبة : عليك بالخروج الذي يحوّلك إلى مثقف تمارس الفعل الحر فتصنع مدينة ! .
(2) : { رجل الدين لا يمكنه أن يكون مثقفا , يمكنه أن يكون مطلعا على الثقافة و ملما بأطرافها لكنه لا يمكنه أن يكون مثقفا بالمعنى الذي يحصر وظيفة المثقف في القيام بالفعل الحر , لأن الفعل الحر جوهر المثقف , و النص المقيد جوهرة رجل الدين . لا يمكن لرجل الدين أن يكون حرا من نصه السابق و جماعته , و المثقف حر لأنه حر من نص يسبقه و جماعة تقيده } (ص 152) , هنا تحديد للمثقف لا بربطه بالثقافة , فحتى رجل الدين بذلك يمكنه أن يكون مثقف , إنما بوظيفة لا يمكن لأحد القيام بها سوى المثقف , ألا و هي [الفعل الحر] , أما رجل الدين فيتحدد بسهولة بالنسبة للديري , إذ هو يتحدد بإرتباطه بالنص .
إن الفعل الحر يبدو و كأنه التحرر من كل إلتزام أو إرتهان سواء لجماعة أو نص , و بذلك يكون المرء خارجا بل و مثقفا , رغم أن هذا التحرر يحوي بعض الغموض كما الأوهام .
(3) : { فضاء التداول العام هو محصلة الفعل الحر الذي ينجزه المثقف في المدينة , رجل الدين يسعى لتوسعة فضاء التداول الخاص , (...) , فضاء التداول الخاص يحاصر فضاء التداول العام , بل هو يعمل في الغالب ضده } (ص 153) , هذا الصراع بين [التداول العام] و [التداول الخاص] هو صراع بين [المثقف] و [رجل الدين] , و يصوّر الديري الصراع على أنه صراع بين التقيّد و التحرر , و بلا شك لكلاهما (أي المثقف و رجل الدين) مصلحة فيما يدعوان إليه أو فيما ينصرانه , و لكن في تصوير المثقف و رجل الدين في ثنائية متضادة دائما هو تصوّر ساذج متعسف _و سنأتي لاحقا لتناول شريعتي كمثال_ , أما على مستوى وصف التداول بالعام و الخاص فهو من اللعب الكلامي , إذ أن كلا التداولين للمثقف و رجل الدين هو تداول خاص , و كلاهما يسعى إلى توسعته , و ليس هناك ما ينتصر لتسمية التداول عند المثقف بالعام إذ هو يصارع تداول رجل الدين , فلو كان عاما لإحتوى فيه تداول رجل الدين الخاص .
(4) : { الفعل الحر يتيح للفرد في المدينة أن يحلم و يتلون و يتعدد و يسافر و يضل و يشك و يعترض , بهذه الأفعال التي هي قوام الإنسان يتكون الفضاء الحر , فتكون المدينة } (ص 153) , عجيب حقا هذا الفعل الحر الأشبه بمصباح علاء الدين .
(5) : { المثقف هو وحده من يمكنه أن يوطن هذا الفعل أما رجل الدين فهو يوطن نصه في الفرد فيصير الفرد طائفة ناطقة بالنص . لذلك فالخروج على النص خروج على الطائفة و فضائها الخاص , إلى الوطن و فضائه العام } (ص 153) , بل هو فضاء خاص في مقابل فضاء خاص (و إن بدا أوسع) , فما الفضاء العام إلا لأنه يحوي بداخله صراعات بين خاص و خاص , و يجب أن نعي أنه حين يتسمى الخاص بالعام إنما لينتصر على خاص آخر , و هو ما يلجأ إليه الديري لينتصر لفضائه الخاص .
(6) : { الفعل الحر هو تصرف الإنسان في وجوده من دون الخضوع إلى سابق , بل هو التصرف في كل ما يسبقه } (ص 154) , لكن أليس هذا مدعاة للخضوع أو العبودية للسابق حتى و إن تغيّر التصرف فيه ؟! , كمثل : { حين يعيد الإنسان خلق الله مرات و مرات فإنه يمارس فعله الحر } (ص 154) , بائس حقا هذا الفعل الحر إذ يعتقد فعلا أنه حر , أنك حين تعيد خلق الله مرات و مرات (على حد وصف الديري) إنما تؤكد على عبوديتك لا الفعل الحر , و بعد أن تحقق لنا وهم هذا الفعل الحر يبقى مع ذلك غامضا أيضا ! .
و على الرغم من أن الديري ينفي الصفة الدينية للمثقف : { المثقف لا صفة دينية له (...) هو التبسيط الذي يجعل من إستخدامنا للصفات إستخداما متخففا من العمق و الجدية } (ص 59) , إلا أنه يجيز إستخدام الصفة الدينية كتبسيط للتخفيف من العمق و الجدية , فهل هذا ما دعاه ليصف شريعتي ب : { إن هذا المثقف صاحب الرؤية الدينية } (ص 80) ؟ , و مع الديري نقرأ شريعتي :
{ ما يحسب لشريعتي أنه جعل للمجتمع الديني جسدا , بعد أن ظل يتوهم أنه يتوهم أنه دوما روح معلقة في السماء لا جسد لها يربطها بالأرض و ظلماتها } (ص 69) , إذ أن : { جغرافيا شريعتي تعلمك ألا تنخدع , فليس هناك حقانية معلقة في السماء , و القضايا لا تمشي على الماء , حتى ماء البحر حين يتحول إلى قضية فإنه لا يعود ماء , بل جغرافيا خارطتها مغيبة } (ص 70) .
{ أني وجدت في خطاب شريعتي ما يمكن أن يمثل قنطرة يمكن العبور بواسطتها نحو مرحلة التحرر من الإيديولوجية الدينية , أي يمكن قراءة شريعتي من قبل المتأدلج دينيا قراءة مقبولة بوصف شريعتي مدافعا عن الإسلام و إيديولوجيته و إن كان هذا الدفاع يخرج على الكثير من التصورات التقليدية , تبقى محاولة شريعتي مقبولة طالما أنها لم تعلن قطيعتها مع المبادئ الإيديولوجية ذات الأبعاد الدينية } (ص 73) , فشريعتي إذا وفقا للديري في موقع الوسط أو يكاد , رغم أن الديري أوحى لنا فيما مضى بنا في تناولنا للطائفة أن الوسط أو ما بين البين مستحيل , لكن يوضح الديري هذا الإشكال : { إننا مع خطاب شريعتي أمام محاولة تحديثية تستعين بالمنجزات الفكرية الغربية لقراءة واقعها الإجتماعي ذي التكوين الديني , إنها تستعين بهذه المنجزات لكي تقوم بعملية تطوير و تحديث من دون أن تخرج عن روح مجتمعها و ثوابته الدينية } (ص 74) .
{ شريعتي مثقف ملتزم , و هذه الصفة هي مصدر قوته , و في الوقت نفسه مصدر ضعفه بوصفه مفكرا , قوته لأنها دفعته لقراءة واقعه الإجتماعي و الثقافي و حركته لتغييره , و ضعفه لأنها شغلته كثيرا لدرجة أنه لم يكن يرى إلا ما يمكن أن يمثل إلتزاما إجتماعيا و سياسيا , كل ما لا يجد أثره المباشر من الأفكار في واقعه الإجتماعي كان يغيب عن ساحة تفكيره بل إن هذه الصفة دفعته في كثير من الأحيان لتبني مواقف تقييمية يطلق من خلالها أحكاما قيمة على الأشياء من غير إعتبار لذاتها فالمهم هو إرتباطها بالمجتمع , و بمدى قدرتها على التغيير تكتسب قيمتها الإيجابية , ربما كان شريعتي يعمل تحت مظلة مقولة ماركس ((علينا أن ننشغل بتغيير العالم لا بفهمه)) } (ص 75) , كما تقدم بنا أن صفة المثقف عند الديري هي في ممارسته الفعل الحر , و بهذا فشريعتي ليس مثقفا , لكن على ما يبدو أن تناول الديري لشريعتي فيه من التبسيط مما يحول دون التعمق و الجدية , لكن لا يمنع من أن يشار إلى شريعتي بأنه مثقف ملتزم و أن ذلك أثر عليه بوصفه مفكر (أي مثقف بدون تبسيط) , و للتوضيح : { الفرق بين الكاتب و المفكر , يكمن في الفرق بين الرؤية و الموقف , يصير الكاتب مفكرا متى كانت مهمته إنتاج رؤى , و يظل كاتبا فقط متى إنحصرت وظيفته في بناء مواقف } (ص 129) , أما مسألة [الإلتزم] هذه فسنتناولها مع الديري فيما بعد و التي على ما يبدو مرتبطة بالمتخيَل و المتخيِل , أما فيما يتعلق بمقولة ماركس فيبدو أن الديري بشكل عام لديه مشكلة حقيقة مع المقولات , عدا عن أصحاب المقولات , و لسنا بصدد الدفاع عن ماركس لكن نأجل الرد إلى موقع آخر لنبقى مع الديري في جغرافيا شريعتي , إذ يكمل على ذات صياغ نقده لشريعتي : { الفهم يأتي ضمن خطة العمل لكنه لا يحضر كأولوية بل كمتطلب يخدم هدفا أسمى , لذلك كثيرا ما يضحى به حين يكون وقع العمل أشد من وقع متطلبات الفهم } (ص 76) .
{ إن شريعتي لا يكتفي بالتنظير الثوري لمجتمعه بل راح يقرأ التاريخ وفق هذه الرؤية , و أخذ يعطي تفسيرا لفكرة الإمامة يتطابق و هذه الرؤية } (ص 76) , و يقرأ الديري قراءة شريعتي الملتزمة كاشفا إلتزامها هذا , دون أن ينسى أن يمدحه : { لا بد أن نسجل هنا أن شريعتي كان يتمتع بقدرات ذكية في تأويل الأحداث التاريخية تأويلا معاصرا , لا يتعارض مع منطق العلم الحديث و الفلسفة الثورية إلا أن هذه التأويلات التي تبدو للوهلة الأولى مقنعة جدا , لا تلبث أن تكشف عن تورط إيديولوجي و إن كان يحمل صبغة حديثة (...) راح يسبغ على جذوره الدينية العقدية التي شكلت مذهبه صبغة حديثة تتلاءم مع الوعي الحديث القائم } (ص 79) , إذ : { إن شريعتي يقدم سردية جديدة للتاريخ الإسلامي بوجه عام و للتاريخ الشيعي بوجه خاص (...) كان يقدم سرده للتاريخ في صورة تأويل حديث } (ص 79) .
{ و من المفارقات غير المألوفة أن يكون شريعتي المنحاز للرؤية الدينية للكون من الممجدين للفلاسفة الغربيين المعاصرين الذين تجاوزوا الديانات و أعلنوا موت الإله } (ص 80) , و لكن : { رغم هذه الإشادات التي أبعدت خطاب شريعتي من أسلوب رجم الغرب هذا الأسلوب المألوف في الخطاب الديني إلا أن شريعتي لا يفوت فرصة النقد و إثبات سلسلة الإخفاقات التي مني بها الغرب } (ص 80) , إذ : { إنه ينتصر للرؤية الدينية للكون و يعيد إنتاجها و يمنحها بعدا دلاليا حديثا وفق منطق نظري مثالي } (ص 81) , حقا في قراءتي لهذه المقتطفات الثلاث قلت لنفسي : إني لا أقرأ الديري يقرأ شريعتي فقط , بل و أيضا أقرأ شريعتي يقرأ الديري , فالديري له في مواقع بمؤلفه ما يكاد يتطابق مع شريعتي في كثير , من مثل : { لا غنى للإنسان عن المعرفة الدينية , فهي تجيب عن أسئلته الوجودية و الميتافيزقية , لكنها إن بقيت جامدة خارج حركة العالم و زمانه إعتراها الفساد } (ص 124) .
فالديري و كأنه يدعو إلى قراءة شريعتي بعين شريعتي أي بمعنى تحديث قراءة شريعتي و تجاوز شريعتي الماضي : {يبدي علي شريعتي إهتماما شديدا بقراءة تشكل المفاهيم الدينية المتعلقة بالمجتمع و تأويل المجتمع لها , يقرأ كل هذه التشكلات الخطابية قراءة تاريخية حديثة تستعين بمنهجيات علوم الإنسان التي بلورتها الحضارة الغربية إلا أن هذه القراءة تقف عند مقدسات لم تستطع تجاوزها , فهي تبعد من ساحة تفكيرها ما يتعلق بطبيعة المعرفة الدينية و رؤيتها و صياغتها للإنسان تاريخيا , تتعالى هذه الرؤية عن النقد و القراءة و يتجند شريعتي للدفاع عنها لحمايتها من ضربات التاريخ , و هي تبعد أيضا عن تفكيرها إمكان إخضاع مفاهيمها العقدية للقراءة النقدية } (ص 81) , إذ : { تكتفي بإعطاء تأويل حديث لها مع توجيه إنتقادات لتاريخ تشويهها , إنه يقوم بإعادة صقلها و لكن من دون القدرة على تجاوزها } (ص 81) , و بسؤال الديري التالي يوجه هذا التحديث بشكل مباشر : { لماذا لم تطل ثورة شريعتي منظومة المفاهيم و نظم تشكيلها للإنسان , و إكتفت بإعادة تأويلها بنفض غبار التاريخ الإجتماعي عنها ؟ لماذا لم تزح الغبار المعرفي ؟ } (ص 82) , و يعلل ذلك ب : { المعرفة النقدية التي كان يشتغل فيها محكومة بسياق إجتماعي و سياسي و حضاري , سياق الصراعات الإيديولوجية بين مختلف التيارات التي كانت تتنافس على الفوز بمناقصة مشروع النهضة و التقدم } (ص 82) .
{ لقد كان شريعتي واعيا لأهمية إنتاج هذه الإيديولوجيا و مدركا لأثرها الثوري في صنع الحضارات } (ص 82) , إذ أن : { قدمت هذه الإيديولوجيا نفسها في صياغة مقنعة عبرت عن نفسها بمشروع (العودة إلى الذات) الذات الإسلامية بعد تنقيتها من أجواء التاريخ الملوث } (ص 83) , و ينتقد الديري هذه الذات إذ : { لم تطرح الذات بوصفها عقلا يمتلك نظام تفكير معرفي (إبستملوجيا) بحاجة إلى مراجعة آليات إنتاجه , لم تطرح الذات بوصفها عقلا مكوّنا كونتها مجموعة من المنطلقات و المبادئ المنطقية و الشروط التاريخية , و لم تطرح بوصفها عقلا مكوّنا يفرض نمط تفكيره و شروط إنتاجه على كل العقول التي تعيش في محيطه } (ص 84) , لكن رغم ذلك : { رغم كل ذلك يبقى مشروع شريعتي محاولة جريئة مميزة من بين كل المشروعات التحررية , يحمل من الأصالة الفكرية (...) المتدينون لم يتحملوا جرأته و المتحررون لم يستوعبوا أو لم يريدوا أن يستوعبوا الحياة الجديدة التي بعثها شريعتي في الشكل الثقافي الديني } (ص 84) .
لم تكن قراءة (أو إعادة قراءة) الديري لشريعتي [خروجا] , بل إنها أقرب لتحديث قراءة شريعتي أكثر من تجاوز قراءة شريعتي , و لعل ما يمنع الديري من ممارسة هذا التحديث هي رغبته في البقاء دون إلتزام أي مثقفا يمارس الفعل الحر ! .
يبدع الديري بالألعاب الكلامية , لنأخذ إستراحة مع تلاعبه الآتي :
(1) : { العلاقة مع الفقيه محكومة بقانون الماهية , و العلاقة مع المفكر محكومة بقانون التصيير } (ص 53) , يقيم الديري فصلا متعسفا هو ثابت بالضرورة , هو لا يفترض حتى أن يكون هناك علاقة تداخل بين قانوني الماهية و التصيّر , يغيب عن الديري أن قانون التصيّر إنما هو تعبير عن قانون ماهية , و قانون الماهية يحوي تصيّرا , و إن إفترضنا أن الديري يلجأ للتبسيط سنصطدم مع تعمقه و جديته البائنة في فزلكته ليُضدد بين الفقيه و المفكر .
(2) : { قانون الماهية يفرض عليك أن تكون هو , و هذا يتطلب أن تكون حقيقتك ثابتة و أبدية } (ص 53) , في مقابل : { قانون التصيير يطلب منك أن تكون أنت و ما تفعله , و هذا يتطلب أن تكون حقيقتك متغيرة و متحولة } (ص 54) , لنمارس بدورنا فزلكة مُضادة [و إن لم تكن كذلك] , ألا تكون الحقيقة (مع قانون التصيّر) القائلة بأن الحقيقة متغيرة و متحولة هي بالضرورة حقيقة ثابتة و أبدية ؟! , و في المقابل (مع قانون الماهية) ألا يجعلنا القول بحقيقة ثابتة و أبدية نشك أنها ليست كذلك : فالحقيقة تتصيّر لتبقى ثابتة و أبدية ؟! , إن قانوني الماهية و التصيّر يكادان يكونان شيء واحد في حالتنا هذه (إن لم يكونا كذلك) , و ما الإختلاف إلا صراع يقيمه الديري لينتصر كمفكر (مثقف) و ذا فعل حر , و كذلك قد يقيمه الآخر لينتصر أيضا كرجل دين أو فقيه .
(3) : { علاقتك مع الفقيه تقوم على التقليد (...) و علاقتك مع المفكر تقوم على الصداقة } (ص 54) , إن وصف العلاقة مع الفقيه و المفكر بوصف منمط أقل ما يوصف بأنه سذاجة تعسفية يظهر هشاشة جدية و تعمق الديري .
(4) فأنت : { مع الفقيه أنت مع الله } (ص 56) , أما : { مع المفكر أنت مع الإنسان } (ص 57) , يوحي المقتطفان بتضاد قد ينطلي على البعض (خاصة و أن الديري أثمل فيهما من ألعابه الكلامية) , إلا أنه تماثل (و إن لم يشعر به الديري) بين [الله] و [الإنسان] , بل إن المقتطفين متماثلان في طرف واحد و ليسا متضادان في طرفين .
و لننتقل الآن إلى جزئية أخرى تتعلق بالخيال (متخيَل و متخيِل) : { كان سؤال سقراط الأثير في محاوراته : هل يمكن تعلم الفضيلة ؟ } { الفضيلة هنا , ليست هي , الورع , و التقوى , و مكارم الأخلاق , إنما الفضيلة التي شغلت سقراط في محاوراته , هي الخبرات و طريقة إدارة الحياة السياسية بكفاءة , أو لنقل بخيال خلاق , إذ الإدارة تحتاج إلى خيال مبدع , يخلق حلولا و يفك أزمات بدل أن يراكم مشكلات و يركب أزمات } (ص 179) , ربط الخيال بالفضيلة , إذ أن : { الخيال يوسع الواقع ليستوعب الجماعات المختلفة , و المتخيّل يضيق التاريخ و الواقع } (ص 177) , و على ذلك يُزاد : { العقل ينشط و يمارس فاعليته المسؤولة بالخيال , و ينشط كذلك و يمارس فاعليته بالمتخيل , لكنها فاعلية غير مسؤولة , ذلك لأن المتخيل نشاط جمعي يقوم على تصورات وجدانية غير حقيقية و غير واقعية , و المتخيّل يجد تصوراته الأثيرة في التاريخ , (...) , الخطاب السياسي العربي في مجمله موجه في الغالب إلى جماهير تعيش في التاريخ المتخيّل , لذلك ينشط هذا الخطاب بالمتخيّل الجمعي لا بالخيال الفردي } (ص 176) , إذ أن : { سيرة المخيلة تختلف عن سيرة الموقف من المخيلة , فالسيرة الأولى غير واعية و هي أقرب إلى عمل الإبداع , أما الموقف من المخيلة فهو موقف فكري يعبر عن خيار واع } (ص 89) , و يتناول الديري في هذا الشأن الصحوة الإسلامية المرتبطة بالثورة الإيرانية : { لم يجد خطاب الصحوة بحسه الإيديولوجي في خطاب الملاية ما يعزز من سلطته و إستحواذه و تفسيره لواقعة كربلاء , التي راح يؤولها لصالح حسه الثوري , و لأنه خطاب لا يحسن الإنصات إلى ما يختلف معه , فإنه لم يجد في الملاية غير علامة على نقص الوعي و التخلف و التقليدية و عدم القدرة على طرح الإسلام و كربلاء طرحا جديدا , لكنه لم يكن و مازال عاجزا عن أن يرى مأزقه في تضييق الإسلام و أدلجة كربلاء } (ص 93) , فقد : { كان الخط الحركي الإسلامي الذي مثلته خلال الثمانينيات , نداء لجمح هذه المخيلة , و توجيهها نحو شرع منضبط و عقل مؤدلج . كنت أرى في هذه المخيلة أسطورة تجتر الدمعة لا الفكرة , مخيلة لا تستجيب لحركة الواقع التي كنا مأخوذين بها حد مجاوزة الواقع } (ص 93) , و النزوع لجمح المخيلة بسبب : { كان الإسلام الحركي (...) يريد أن يغير الواقع , و هو يريد من التاريخ ما يغير به الواقع , لا ما يجعل الواقع ثابتا , و البكاء كان من وجهة نظر هذا الإسلام الحركي , يجعل من كربلاء تاريخا ساكنا لا متحركا , هو يريد أن يعرف اليوم معسكرات يزيد و معسكرات الحسين } (ص 97) , إذ أن : { الإسلام الحركي , يريدك أن تحرك الواقعة التاريخية , لتكون واقعة معاصرة , (...) , هو يريد أن يستخدم الواقعة في حركة صراعاته الحالية , و ليست لديه مشكلة في أن تنحرف الواقعة التاريخية عن سياقها التاريخي } (ص 97) , لكن رغم جمحه للمخيلة إلأا أنه لا ينفيها بالمطلق : { بالنسبة إلى الإسلام الحركي , المخيلة مهمة بقدر ما يمكن إستخدامها لتغيير الواقع و تحريك جمهوره , و تفقد أهميتها حين تفقد قدرتها على هذا الإستخدام , و هذا الإستخدام هو ما يجعل من المخيلة إيديولوجيا , هو يريدها في حالة إيديولوجية نشطة } (ص 98) , إذ أن : { فالنقد التاريخي الذي يصدر عنه الإسلام الحركي (...) ليس محكوما بأفق المدارس التاريخية المعاصرة و مناهجها المعرفية , بقدر ما هو محكوم بأفق الإيديولوجيا الحركية } (ص 98) , و في إطار ذلك يتناول المذهب الإخباري أو التدين التقليدي أو ما قبل الصحوة الإسلامية , مقتطفا من خطاب لمطهري : { المذهب الإخباري ضد مذهب الإجتهاد و التقليد , كانت الإخبارية حركة مناوئة للعقل , و هي تتميز بجمود و جفاف عجيبين } (ص 104) , و يستنتج في الختام : { أن حركة التدين الثورية الجديدة التي جاءت بها الثورة الإسلامية في إيران , ستجد في نمط التدين التقليدي الذي يمثله النمط الإخباري المعروف في البحرين (...) ما يتعارض معها , و أنها ستعمل على تغييره , (...) و إلا أصبح معارضة , و المعارضة تفضي إلى الصدام } (ص 107) .
لعل قانون الماهية الذي سنه الديري فيما سبق يجد نفيه (أو تناقضه) في موضوع الخيال و الكم الذي يتصيّر فيه , العجيب أن الديري يعتقد أن الخيال يخلق حلولا دون النظر في مدى ملاءمة هذه الحلول للمشاكل المطروحة في [الواقع] , عوضا عن تناسيه و تجاهله لكون الخيال يخلق مشاكل لا حلول فقط , و تبدو نظرة الديري تجاه الوضع الديني السابق للصحوة أو التدين التقليدي و كأنه يصفها بأنها لا أيديولوجية أو أنها تعبير عن وضع سليم في خياله و أحلامه ! , إن الخيال (متخيَل و متخيِل) يجد أساسه من الواقع بل و يشارك في الواقع و حركته , و ما صراع الصحوة مع التقليد إلا شكل من أشكال الرغبة في الوجود و البقاء , و الديري إنما لا يدافع عن التدين التقليدي إنما يدفع بإتجاه تحديث للصحوة كما دعا سابقا إلى تحديث شريعتي , فقصده من نصره الخيال هو إنتصاره للعلمانية , فهو يوافق خطاب مطهري السابق في تضاده مع الإخبارية (النقلية) : { العلمانية هي تقديم العقل على النقل } (ص 120) , فإن كان هذا إحدى آرائه بالعلمانية فهو ينقضه فيما بعد , فعجيب هي تلك المعاني و القيم المتناقضة التي ينزعها الديري على [العلمانية] : { لقد فهمت العلمنة بهذا المعنى الروحي , تحرير حركة روح الإنسان بتجلياتها المتعددة من هيمنة الذروة أو السيادة العليا أو الحاكمية المطلقة } (ص 121) , و يسير أبعد من ذلك بشكل صريح : { الجانب الروحي الذي نفاخر فيه في الإسلام من غير العلمنة , يغدو مجرد دوائر صغرى تأخذ مسميات مذهبية و طائفية , و تصبح لكل دائرة روحها المغلقة عليها , هي روح مغلقة على طائفتها و مذهبها و غايتها الخلاص ليس في الدنيا بل الخلاص في الآخرة } (ص 123) , إذ أن : { المعرفة الدينية ستغدو شيئا من التاريخ الماضي إن لم تتعلمن , و تلك مهمة يقوم بها اليوم علم الكلام الجديد } (ص 124) , فالديري بقدر ما يزعم الخروج هو يوسع الداخل ليس إلا , طائفة الخارج .
و يترك الديري لنفسه بابا خلفيا يهرب منه : { العلمنة مفهوم مركب } (ص 132) , لكن العجيب في الديري أنه في هجومه على الآخرين يهاجم نفسه من حيث لا يشعر : { أن المعرفة الفلسفية لا تحتاج إلى شواهد من التاريخ و لا نصوص من الدين , أنت أمام حجاج عقلي , عليك أن تصوغ حجتك بالمنطق و تسوغها بالفلسفة } (ص 116) , و هو كذلك , فأنت حقا لا تحتاج لشواهد تاريخية و لا نصوص دينية (أو مقولات تقتبسها) في معرفتك الفلسفية (مهما بدت رديئة و عقيمة !) , لكن يبدو أن الحجاج العقلي تحوّل في جوهره مع الديري إلى تلاعب كلامي : أن المنطق يصوغ لك حجة (و ليس أن تصوغ حجتك بالمنطق : كما يقول الديري) , و كذلك شأن الفلسفة إذ تختلف الفلسفة المسوغة بالحجج المنطقية عن الحجج المساغة بالفلسفة , هذه هي المعرفة الفلسفية التي ينتصر لها الديري ! , و يبدو أن الرد الملائم على ديري في ذلك هو ما يورده الديري نفسه (ضد نفسه) : { أن المعرفة الإيديولوجية التي تقدمها الحركات الدينية أو غير الدينية حتى , تقوم دوما على الفوضى الدلالية و الخلط الدلالي للمفاهيم , و عبر هذا الخلط تسمم المفاهيم التي لا تريدها فتتشوه في نظر أتباعها , و بهذا تضمن بقاء مؤيديها ضمن هيمنتها } (ص 119) .
و لعل هذه الصورة عن العلمانية سببها العقيدة التي يعتنقها الديري [الحلولية الكمونية] , فهو إذ ينظر ينظر من خلالها , و يقيس الأشياء من منظورها : { مفهوم الحلولية الكمونية يمثل بذرة هذا الكل المركب الذي نشأت في سياقه العلمانية } (ص 132) , إذ أن : { الحلولية الكمونية المادية تنزل الإله إلى الكون و المادة و تسلب منه إسم الإله فيتحول إلى القوة المطلقة أو الطاقة أو الطبيعة أو المادة . إن حلول و كمون الإله في المادة أو الطبيعة , و ليس تجاوزه لها , جعل المادة أو الطبيعة تكتفي بما فيها , (...) , كل واحد منها يكتفي بعالم مادته و ما يحل فيه أو يحايثه (حيث هو فيه) و لا يحتاج إلى شيء خارجه يفسره } (ص 133) , فينتهي للقول : { ستكون هذه الحلولية الكمونية مسؤولة عن العلمانية الشاملة التي فصلت الأشياء كلها عن الإله و الغايات و الأخلاق , و جعلت المادة مطلقة و الدولة مطلقة و السوق مطلقة و (... إلخ) , كل هذه المجالات مطلقة من أي تقييد متجاوز , ليس هناك مركز أعلى (إله) يضبط أو يتحكم في الأرض و ما عليها } (ص 133) , طبعا لن يكون هناك مركز أعلى (إله) إذ جميعنا مركز أعلى و كلنا هذا الإله , لكن و على الرغم من ذلك إلا أن هذا الحديث يخفي في داخله تمركز أعلى لإله , تمركز الإله في المثقف .
و ننتقل مع الديري حيث يُضادد بين المثقف و السياسي , و ضمنيا بين المثقف و السلطة :
(1) : { السياسي ينسجم مع توقعات السلطة التي يمثلها , و أفقها , و السلطة لا تنسجم مع الفني , لكنها تحتويه . السياسي ينسجم مع السائد و الأكثرية و النافع و اليومي و المستقر , إنه ينسجم مع ما يمكنه من أن يعزز من حكم سلطته } (ص 145) , و ذلك يضاد به : { الفني أو المثقف (على جهة أن فعله فني) ينسجم مع توقعات الهامش المنفلت من إحكام السلطة , ينسجم مع ما هو عارض و أقلي و متحرك و غير يومي , إنه ينسجم مع ما يمكنه من أن يخلخل السلطة } (ص 145) .
(2) : { السياسي يدير المعنى العام و المشترك , و ينطق بإسمه , و يتحرك ضمن ممره الضيق , و ممكنه المعدود و المحدود . و المثقف يبتكر المعنى الخاص و يعارض العام و المشترك , و ينطق بشخصه } (ص 145) .
(3) : { السياسي ناطق بالشامل , لذلك فهو رجل الشوامل رجل الجماعة . و المثقف ناطق بالهامل , لذلك فهو رجل الهوامل رجل الفرد . السياسي لا يغير ثقافة المجتمع , بل يستثمرها و يؤكد شموليتها له و لجماعته , و المثقف يهدد ثبات ثقافة المجتمع بل و يعارضها . السياسي يمكن أن يكون معارضا للسلطة السياسية أو متواطئا معها , لكن المثقف لا يمكن أن يكون إلا معارضا للسلطة في كل تجلياتها } (ص 146) .
(4) : { أحادية السياسي تتمثل في دفاعه عن الواحد , و إنحيازه لجماعته , السياسي لا يمكنه أن يكون لأكثر من جهة , لذلك هو وحيد الجهة وحيد الرؤية وحيد المعنى } (ص 146) , في مقابلة : { تعددية المثقف تتمثل في دفاعه عن التعدد , و إنحيازه للشخص و تكثيره للمعنى , و إنفتاحه على كل الجهات } (ص 146) .
(5) : { السياسي رجل حكم , و المثقف رجل حكمة (فلسفة) . رجل الحكم رجل سلطة و نفوذ و هيمنة , و رجل الحكمة رجل رؤية و تبصر و فتح و حرية } (ص 147) .
(6) : { السياسي يبرهن بالتفكير الأعوج , و بقدر ما تكون أحاديته و تحيزه , يكون إعوجاجه . (...) إذ أن البرهان السياسي , نتيجته تسبق دليله و تاليه يسبق مقدمته } (ص 147) , لكن : { المثقف ليس مشغولا بالبرهان , قدر إنشغاله بالرؤية , لأنه ليس مهموما بالتصديق على موقف و الدفاع عن ثابت , هو مهموم بفتح أفق للحياة يرى من خلالها الشخص , و يكون نور هذه الرؤية برهان الشخص الخاص . برهان المثقف منحاز للشخص , و برهان السياسي منحاز للجماعة } (ص 147) .
(7) : { السياسي صفته الجبن , حتى لو صرخ في وجه السلطان , لأنه لا يمكنه أن يصرخ بالحقيقة في وجه جمهوره , حين يصرخ في وجههم لا يعود سياسيا , لأنه سيكون قد فقد الوجه الذي به يسوس } (ص 147) , أما : { المثقف صفته الشجاعة , فهو ينطق بالحقيقة في وجه التاريخ , و لا يحتمي بالناس , بل إن صفة المثقف تتمكن فيه أكثر حين يفقد الناس أكثر } (ص 148) .
(8) : { لا يفقد السياسي معناه حين يقال له : إنك كاذب . لكن يفقد المثقف صفته حين يكذب . و المثقف لا يكذب حين لا يقول الحقيقة , بل حين لا يقول طرقها المتعددة . أما السياسي فإنه يكذب حتى حين يغطي الحقيقة بأقوال حقيقية . حقيقة السياسي تقال لمرة واحدة فقط , لأنها أحادية , و حقيقة المثقف تقال مرات و مرات , و في كل مرة تكشف وجها جديدا , لأنها متعددة } (ص 148) .
(9) : { السياسي يشتغل في (فن الممكن) لكنه لا يشتغل في هذا الفن بفن , (...) , لأن ممكناته محدودة العدد , و يمكن إحصاؤها } (ص 148) , إذ أن : { ممكنات السياسي محدودة ال (إما) . في حين ممكنات المثقف , لا تعرف (إما) لأنها حرة و قادرة على أن تجمع المتضادات و المتناقضات و قادرة على أن تبتكر الكثير من الممكنات . السياسي له من (فن الممكن) الإسم , و المثقف له المعنى و الجوهر } (ص 149) .
(10) : { المثقف يفتح ممكنات الحياة على أشكال مختلفة , و السياسي يختار من ممكنات الحياة أشكالا محددة } (ص 149) .
بغض النظر عن مغالطة الفصل الساذج المتعسف بين المثقف و السياسي (كما سبق و إرتكبها مع رجل الدين) , يتضح لنا جليا ثمالة الديري [الخيالية جدا] في النيل من السياسي و الإنتصار للمثقف ما أمكنه , حتى بات المثقف (كما أشرنا سابقا) ما يمثل تجسدا للمركز و المُركِزْ الأعلى (إله) , يقع الديري بما يقع فيه العامة من مغالطة هي الظن بإيجابية المثقف و إستحسانه دائما و أبدا , ليس المثقف من لا يكون سيئا أو شريرا أو من لا يمكنه أن يكون كذلك (نلجأ للتبسيط للتوضيح كما الديري في إستعماله) , بل على العكس , إن المثقف هو من يقدر أن يكون سيئا أو شريرا , حتى و إن لم يكن كذلك حقا , إلا أن المقدرة موجودة فيه , لأنه مثقف .
و فيما لو عنى الديري صنف معيّن من المثقفين في إنتصاره الدائم و المتطرف لكنا عذرناه في ذلك (مثل تصنيف غرامشي) , و لا أعتقد أن الديري يعوّل على ((فضيلة الخيال)) و ((العلمانية)) و ((الحلولية الكمونية)) و ((الفعل الحر)) و ((عدم الإلتزام)) و ((التصيّر)) في تحديد المثقف , فهن رغم ما يحتوين من غموض و وهم و مغالطة , إنما يعكسن صورة الديري نفسه , و لا أعتقد أن الديري فيه من الأنانية الكثير (على غرار الشجاعة) ليعمم ذاته لتكون هي إنموذج أو مثال المثقف [الحق] ! , كما أن المثقف الذي يقف في الطرف المضاد للسياسي (و الذي يحاول الديري الإنتصار له) يبدو مخنثا في اللا تحدده و اللا تعيينه , و المصيبة لا تقف هنا بل تتجاوز مجرد تحسين هذه الصورة لتكون الصورة الفضلى , بل و العظمى ! .
و نعود مرة أخرة لنؤكد أن الفصل بين السياسي و الثقافي هو باطل الأساس و الجذر , فحتى و إن لم تكن مهتما بالسياسة أو حتى الثقافة فهي مهتمة بك , بل و يتعدى ذلك مجرد الإهتمام , و حتى في جهلك لهما أو في إلتجائك لموقف عدمي إنما تتحدد على خارطتهما , جدير بالملاحظة و الذكر أن الفصل بين السياسي و الثقافي هو فصل تعسفي ليس إلا , و يكتملان بوحدة واحدة مع الإجتماعي بل و حتى الإقتصادي , لكن يبدو الديري ممن يهوى الفصل , و ذلك لينتصر للمثقف بتبيان تميزه [المطلق] فهو إن لم يكن مطلق فهو الأقرب للمطلق , و لا أعتقد أن بعد كل هذا الكم و الكيف و الكيل للإنتصار للمثقف لا يكون فيه المثقف كذلك , و في طرائق الديري التي إكتسب صفة الفصل نتناول الآتي : { المجتمع ليس مجموعة أفراد , بل منظومة علاقات متعددة , و مهمة المثقف العمل على هذه العلاقات تفكيكا و نقدا و بيان ما تنجزه في المجتمع من أحداث و وقائع و مآزق و أزمات . البعد السياسي هو بعد من أبعاد المجتمع , و لا يمكنه أن يكون الممثل الوحيد لما هو معقود في المجتمع من علاقات , أي أن التمثيل السياسي لا يعكس حقيقة العلاقات الإجتماعية } (ص 189) , و يكمل ليوضح : { الصراعات السياسية التي نشهد وقائعها بشكل منتظم لا تمثل حقيقة الصراعات الإجتماعية , كما يفيدنا بورديو (( فالصراعات السياسية لا تعكس حقيقة الصراعات الإجتماعية , لأنها تدور بين تنظيمات أكثر مما تدور بين طبقات و فئات )) } (ص 190) , إذ أن : { هناك صراعات إجتماعية تحركها روابط مذهبية و تاريخية و ثقافية , (...) , و مهمة المثقف هو تفكيك هذه الروابط غير المدنية و نقد معناها } (ص 190) , لنبدأ ببورديو , فصحيح أن الصراعات السياسية تدور بين تنظيمات أكثر مما تدور بين طبقات و فئات , لكن هذا ظاهريا ليس إلا , فكما تقدم بنا فحتى الجهل و العدم في الساحة السياسية هو شكل من أشكال الصراع السياسي و هو الذي يجعل الفئات و الطبقات بعيدة في الظاهر عن شكل الصراع السياسي , إن هذه التنظيمات في هيكلتها و جذريتها الإجتماعية إنما هي وحدة واحدة في صراع إجتماعي سياسي (بل و حتى إقتصادي) , و من السخف حقا أن تكون [الروابط] المذهبية أو التاريخية أو الثقافية محركة للصراعات الإجتماعية , إنما الصراعات الإجتماعية تستغل هذه الروابط المذهبية و التاريخية و الثقافية , فلنا أن نتخيل (ملبين بذلك دعوة الديري للخيال الفضيلة) كم سيبدو سخيفا أن نعتقد أن فلان يكره علان فيتصارع معه , أو جماعة فلان تكره جماعة علان فتتصارع معها , فقط لإختلافهما حول مسألة من يستحق الخلافة بمنأى عن أي جذور للموضوع قد تكون إجتماعية : بل إن ثقافتهما و إختلافهما لن يكون له وجود إن لم تكن له جذور إجتماعية في الأساس ! , يقول الديري : { السارد يمتلئ بصور الإلوهية المتعددة في العالم , فيثمل بجمالها و جلالها , على النحو الذي تخبرنا به كؤوس السهرورودي "اللهم إنا في الثمالة كؤوس تمتلئ بك" } (ص 185) , فهل إمتلأ الديري و هو الحلولي الكموني فثمِلْ , و جرى عليه ما يجري على السكران من تخبط ؟! .
و يلجأ الديري إلى كانط : { كانط ترك لنا في وصيته تعريفه للفلسفة : (( السماء المضاءة بالنجوم فوق رأسي و القانون الأخلاقي في داخلي )) } { هذا التعريف يختصر أهم سؤالين في فلسفة كانط : ماذا أستطيع أن أعرف ؟ ماذا علي أن أفعل ؟ } (ص 171) , إذ أن : { السماء المرصعة هي المعرفة , هي العالم الخارجي عالم الظواهر و هو فضاء المعرفة و هو ما أستطيع أن أعرفه . و القانون الأخلاقي في داخلي هو الذي يحدد قانوني الذي أعمل به } (ص 171) , لم يتعمق الديري في عالم الظواهر الكانظي (فضاء المعرفة) و بالتالي لن نتناوله , أما بخصوص القانون الأخلاقي الداخلي فنوّد أن نوضح أنه في حالة وُجدْ فهو ليس مطلق متطابق في داخل كل إنسان , هو إذ يتحدد بمجموعة من المؤثرات , و الأخيرة نسبية و غير ثابتة , و يكمل الديري في لهو مُتصوّف : { السماء التي يمكن للإنسان أن يعرفها هي التي تتحدى معرفة الإنسان , و هي التي يُسأل عنها , و هي التي يحكم بإسمها , و هي التي يمكنه أن يوسعها و يستثمرها , أما السماء الغائبة فهي تلك التي يشتاق لها و يصعد بروحه إليها , لكنه إن جعلها ميدان إستثمار و ذريعة حكم , فإنه سيفقدها و يفقد حريته معها و يحوّلها سلطة تحجب ضوءه الداخلي } (ص 171) , نموذجنا أو مثالنا [الديري] المثقف تظهر عليه علامات الثمالة , فما عساه يكون هذا الضوء الداخلي ؟! و من عساه الذي يسائله عن السماء ؟! , أولم يشدد مثقفنا المثال على ضرورة عدم الإرتهان لنص لنكون مثقفين بإنفكاكنا ؟! , لكن على ما يبدو يجوز للمثقف المثال ما لا يجوز لغيره من مثقفين (و هم ليسوا مثقفين حقيقة إنما للتبسيط ليس إلا !) .
طبعا إلا و يكون للحقيقة نصيب من قِبَل الديري , فهو إنما يقدم حقيقة في تضاد مع حقائق أخرى : { الحقيقة في تصورهم (...) , هي اليقين و الإيمان و ما لا يمكن الشك فيه , و هي ضد الظن , و هي الحضور المطلق للأشياء , هي الشيء الذي لا يتطرق إليه الوهم و الخيال , و هي ما لا يتعدد و يختلف . الحقيقة هي الواقع و الصدق , هي ما يوجد خارجنا , هي ما يوضع خارج الذات و حدوده , لذلك يتصورون الحقيقة موضوعية و ليست ذاتية . الحقيقة في تصورهم هي ما لا يمكن أن يقال بعده شيء } (ص 183) , و قد أحرج الديري بذلك نفسه (و نظرته في مجملها مثالية ميتافيزقية) , و يبدو أنه وجد في [الأداة] ما يبعد عنه الحرج : { الحقيقة مضافة دوما إلى وسيلتها و أداتها , هي منسوبة إلى الأداة التي نستخدمها , لذلك الحقيقة ليست ما نراه و ننظر إليه بقدر ما هي ما به نرى أو ما منه ننظر (...) , الحقيقة في الأداة , ما تكشفه لك الأداة و تريك إياه و كأنك تلمسه و تشمه و تتذوقه و تسمعه هو حقيقة أداتك لا الحقيقة . لذلك تبقى الحقيقة ليست مطلقة , مطلقة من أداة تنسب إليها } (ص 183) , إذا ف : { البحث هو طريق أداتك , أي الطريق الذي تشقه و تفتحه أداتك } (ص 183) , العجيب أنه بالرغم من ذلك يصف الديري الحقيقة : { الحقيقة متشظية و مختلفة و مفصلة و بقدر ما تستطيع أداتك من فتح طرق متشعبة للوصول إليها , تستطيع أن تسردها بقدر أكبر من الإتساع } (ص 184) , و : { الحقيقة لا يملكها طريق , فتفاصيلها لا يستوعبها طريق واحد , لذلك تظل الحقيقة نسب و علائق يكثر منها الإنسان ليتعلق بالحقيقة لا ليصلها } (ص 184) , و هذه الأداة حققت للديري الكثير ف ((الحقيقة ليست ما نراه و ننظر إليه بقدر ما هي ما به نرى أو ما منه ننظر)) , فالحقيقة ذاتية [تكاد تتطابق ككانطية] و ما ((فضيلة الخيال)) و ((العلمانية)) و ((الحلولية الكمونية)) و ((الفعل الحر)) و ((عدم الإلتزام)) و ((التصيّر)) إلا علائق , و رغم ذلك لا يصلها ! , سيخيب أمل العرفانيين و المتصوفة لذلك , لكن إن لم يكن الوصول ما أثمل الديري فهل العلائق هي التي أثملت ؟! , يبدو أن مثقفنا الديري بعد كل ذلك يملك قناعة كبيرة , إلا أن كانت حيلة كلامية أخرى يقيم بها حقيقة الوصول بالعلائق , نتمنى ألا يكون الأمر كذلك رغم غموضه .
و نختم بتناولنا فقرة ترتبط بكل ما سبق تقريبا في إطار نقطة ((المثقف)) : { الإصلاح مشروع فهم , لا مشروع تغيير , المشاريع الإصلاحية الدينية التي شهدتها تجربتنا الإسلامية مشاريع تغييرية , و المشاريع التغييرية تغير أشخاصا و أنظمة و قوى و مصالح , لكنها لا تغير ذاتها , فهي لا تفهم ذاتها و كيف رُكبت تاريخيا و فكريا و تخييليا , و لقد حكم هذا التغيير الذي لا يستند إلى فهم , مشاريع الإصلاح الدينية و القومية و الماركسية و الثورية و العروبية , التي كانت تتمثل مقولة ماركس الشهيرة (( على الفلاسفة أن ينشغلوا بتغيير العالم بدل أن ينشغلوا بفهمه )) , و مقولة الإمام مالك الشهيرة (( لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها )) كان الجميع مهووسا بشهوة التغيير الذي يُملك سلطة , لا شهوة الفهم الذي يولد معرفة } (ص 298) , مشكلة الديري الأساسية هي في حصره للفكرة في إطار ذاتوي مجرد أي خارج إطار الإجتماع و ما يحتويه من تناقضات بالتالي صراعات , ضمن وحدة حركة الكل بالكل في الكل , لذلك فالديري يكتفي بالفهم في وصف الإصلاح , طبعا لا نقول أن الإصلاح تغيير لا فهم , لكننا نقول أن الإصلاح فهم و تغيير (وحدة النظرية و التطبيق) , تغيير الذات الإجتماعية لا يتأتى من فهم الفرد الذاتوي المجرد بل من الفهم الإجتماعي الموضوعي , و لا يكتفي بمجرد الفهم بل يتعداه لفعل التغيير بعد أن أدرك ميكانزمات التغيير .
و لا أدري بصراحة ما عساها تكون مشكلة الديري مع المقولات المُقتبسة , و لا أريد أن أتهم الديري بالتحريف فيها سواء كلفظ أو كمعنى أو الإثنين معا , و أتجاوز عن الإتهام إلى تناول المقولة المنسوبة لماركس , فعلى الرغم من إعتقادي أن شخص كماركس لا تخفى خلفيته على شخص مثقف كالديري إلا أني أجد مما يوحي به النص أن معرفة الديري لا تتجاوز المعرفة السطحية التي عند العامة , على الرغم من إحتجاجه ببورديو و إرتهانه بكانط و قراءته لشريعتي ! , و لنتسذنج قليلا و لنسلم بأن المقولة المنسوبة لماركس هي له , يا ترى ما عساه يكون مؤلف ماركس الشهير [رأس المال] و الذي يكاد يعرفه الجميع سواء مثقفين و عامة و غيرهم ؟! , أهو إنجيل أم كتاب حكم بوذية أم مشروع تغيير ؟! , هو مشروع [فهم] , لكنه كمشروع فهم هو عكس (أي ينقض) الفهم العقيم و البائس الذي بقى سائدا و لا يزال بعضه حاضرا رغم إحتضاره , هو مشروع فهم مرتبط بالتغيير , لا مشروع تغيير منفصل عن الفهم أو مشروع فهم منفصل عن التغيير , إن ماركس لا يكتفي بالدعوة لفهم أو تفسير العالم بل و لتغييره أيضا , و هذا ما يعجز الديري عنه , المثقف .
#موسى_راكان_موسى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟