|
ممنوع عليك غلق باب الحمام
احمد الباسوسي
الحوار المتمدن-العدد: 4796 - 2015 / 5 / 4 - 14:09
المحور:
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
أنه الجحيم، ولا شيء غير ذلك. هل تتصور نفسك قادر على أن تعيش تحت ظل عذاب القهر والإلحاح؟!. أنه ببساطة عذاب مريض الوسواس القهري الذي ما بعده عذاب، أنت مدرك ومستبصر بكل شيء، وتعلم كل التفاصيل، لكن لا تستطيع أن تقاوم، أو تمنع ما تعتبره هراء وغير موضوعي. وقبل التوغل في سرد يوميات المرضى الذين كُتِب عليهم هذا العذاب نلقى الضوء على هذا المرض الذي لا يقسم العقل أو يهدده بصورة مباشرة، بل يدفع بالشخصية الى أتون نيران القهر والإلحاح قبل أن يحيلها الى رماد عديم اللون والفائدة. يتميز إضطراب الوسواس القهري بوجود الوسواس أو التصرفات القهرية أو كلاهما معا. والوسواس عبارة عن أفكار أو تصورات أو اندفاعات او تخييلات مستمرة يخبرها الشخص على اعتبار أنها دخيلة أو غير مناسبة، وينظر اليها على أنها غير مقبولة وتؤدي الى قلق وانعصاب مميزين. ومريض الوسواس القهري يحاول أن يخفض من تلك الانعصابات أو التوترات عن طريق تجاهل هذه الأفكار الوسواسية، أو قمعها من خلال تجنب مواقف معينة، أو الانخراط ضمن سلوكيات تهدف الى تحييد هذه الافكار الوسواسية عن طريق ممارسة طقوس معينة. وتشير التصرفات القهرية الى تلك الأفعال الأخيرة المتعلقة بالانخراط في أداء سلوكيات معينة بهدف تحييد هذه الأفكار الوسواسية، وذلك عن طريق التكرار المتواتر لعدد من السلوكيات المختلفة مثل غسل اليدين مثلا، أو عن طريق تصرفات معرفية مثل تكرار الصلاة، إعادة الحساب، أو تكرار الكلمات في الدماغ. ويغلب على هذه السلوكيات طابع المغالاة والمبالغة، وقد تكون غير مرتبطة واقعيا مع ما هو مفترض وجودها من أجله مثل العمل على تحييد أو منع الأفكار الوسواسية. وفي معظم الحالات يشعر الفرد أنه مدفوع لممارسة السلوك القهري حتى يخفض من الانعصابات المصاحبة للأفكار الوسواسية، أو لكي يمنع الأحداث الكارثية من الحدوث بحسب ما يعتقد. وينبغي التأكيد على أن الطقوس السلوكية، والتجنب ينتج عنهما التخفف المؤقت وليس الدائم من الانعصابات. وتشخيص اضطراب الوسواس القهري وفقا للدليل التشخيصي والاحصائي الامريكي للاضطرابات العقلية الرابع، النسخة المنقحة يتطلب وجود الأفكار الوسواسية والتصرفات القهرية بدرجة كافية للسيطرة على وقت الشخص (يظل مشغول بهذه الأفكار مدة ساعة على الأقل يوميا)، كما أن هذه الاضطرابات تتسبب له في انعصاب واضح واضطراب شديد. ويميل المريض باضطراب الوسواس القهري الى الاعتقاد بأن الأفكار تتوالد في رأسه. وبصفة عامة تكون الأفكار الوسواسية أو التصرفات القهرية مبالغا فيها وغير منطقية، ويكون المريض مستبصر بحالته جيدا، ويعطى مبررات لهذه الأعراض. والوساوس الأكثر شيوعا المتعلقة بالأفكار المتكررة عن التلوث( اعتقاد الشخص أن فيروسا سوف يصيبه اذا لمس مقبض الباب) أو الشكوك المتكررة( يظل الشخص حائر هل أغلق موقد الغاز او لم يغلقه؟) كما يحتاج المريض بالوسواس القهري من الآخرين الى تأكيدات مكتوبة عند تنفيذ أمر معين. وتنتابه حالة من التوتر والانعصاب الشديدين عندما تكون الأشياء غير مرتبة او غير منتظمة، ويصبح عدواني وشرس تجاه آخر يعتقد أنه يؤذي طفله، وتتملكه التخييلات الجنسية، حيث يتكرر عرض صور جنسية داخل رأسه. وغالبية السلوكيات القهرية تتضمن تكرار غسيل اليد، الاستحمام، النظافة، إعادة الحساب، تكرار المراجعة، تكرار الأفعال والأوامر، وطلب الطمأنينة. وهناك أمثلة تتعلق بأشخاص كان محتوى الافكار الوسواسية لديهم في التلوث، وكانوا يغسلون أيديهم حتى يجرح الجلد. وأشخاصا كانوا يعتقدون في انفسهم النجاسة وعدم الطهارة، ويجدون في تكرار الوضوء والصلاة تخفيفا لحدة الانعصابات الناتجة عن فكرة النجاسة. وينتشر هذا المرض بين نحو (2.25%) من بين الجمهور العام. وبدايته لدى الذكور في عمر يتراوح بين (6-15) عاما، وعند الاناث في عمر يتراوح بين (20-29) عاما، ويحدث لدى الأطفال الذكور بصورة مضاعفة لما يحدث لدى البنات. لكن في مرحلة الرشد يتساوى معدل الحدوث بينهما. ومريضنا الحالي واحد من هؤلاء، التقيته للمرة الأولى بالعيادة منذ اربعة أسابيع على الأقل، بدا شاحب، ضعيف، كأنه خارج توا من قلب معركة عظيمة، وضع في يدي ورقة تحويل من قبل رئيس الوحدة ومعالجه في نفس الوقت مع التوصية المعتادة. الشكوى الرئيسية كانت طول مدة الاستغراق في الحمام، أحيانا يمضى اليوم كله داخل الحمام، تشغله جدا النظافة بعد الاخراج، يستغرق وقتا كبيرا في التأكد من نظافته بعد عملية الاخراج، يخاف من غلق باب الحمام عليه وهو بالداخل، وليطمئن فانه يترك باب الحمام مفتوحا، كثرة مرات تكرار غسيل اليد بطريقة ملحوظة ولافتة، كذلك ارتباكه أثناء الصلاة وتكرار أداء الصلاة والوضوء أيضا، وأحيانا تلك الافكار المزعجة التي تتواتر في رأسه تسب الدين والله والرسول ولا يستطيع منعها. لم يسعفني الوقت ساعتها أن اتعرف عليه بصورة أعمق، ضربت له موعدا التقيه في خفارتي التالية في المساء، لم يحضر ولم يتصل للاعتذار، وأخيرا بعد اربعة أسابيع ظهر في مبنى العيادات الخارجية، مر على غرفة 8 والتقاني قبل أن يدلف الى طبيبه المعالج، ومثل العادة في هذا اليوم المزدحم والمضطرب بالأحداث لم أجد من الوقت سوى الاتفاق معه على مجموعة من الاجراءات المعرفية/السلوكية التي تساعده في مقاومة الأفكار الملحة من دون ان يضطر لممارسة طقوسه المعتادة التي أحالت حياته الى جحيم. ضربت له موعدا آخر قريب. لم يحضر مثل العادة. تيقنت أن مواعيد المساء لا تناسبه، أغلقت ملفه حتى ظهر مرة أخرى اليوم. صباح الخميس 21 نوفمبر2009 (متابعة) أخيرا ظهر في مجال المتابعة، المزاج اكتئابي، شاحب على الرغم من عنايته بهندامه، يبدو مرهقا، وربما يائسا. بادرته مالك؟ قال "صاير لي نوع من القلق والخوف، تحوشني ضيقة في صدري، أحاول أقاوم، ولما أستحمى أحاول أخلي نفسي عادي لكن الضيقة والخوف تتملكاني. لكن بصفة عامة الوقت المستغرق في الاستحمام انخفض". لم أقتنع بمنطقه، خريطة وجدانه، مزاجه، وجهه، وحتى كلامه، كل ذلك يؤكد أننا لم نبرح مكاننا بعد، وربما يكون قد حدث مستوى من التدهور مقارنة بالسابق. طالبته بضرورة الالتزام بما تفقنا عليه سابقا من عناصر البرنامج العلاجي. قابلته لاحقا عند طبيبه المعالج الذي بادرني بمجرد ظهوري، اتفقت معاه يا دكتور احمد ييجي جناح 41 يمضي اليوم كامل فيه وتعمل له برنامج للتغلب على وساوسه. هكذا كانت نظرة طبيبه المعالج أيضا المتوافقة مع نظرتي السابقة. كان المريض يبدو خائفا قلقا، غير مرتاح. اتفقنا على اللقاء الاحد القادم لعل وعسى. صباح الخميس 21يناير 2010 (متابعة) مثل العادة لم يحضر الموعد المضروب له، ولم يحضر الجناح لتمضية يوم كامل يتلقى فيه تدريبات واجراءات تتعلق بنوعيات معينة من العلاج السلوكي/المعرفي لمعالجة تلك الافكار الوسواسية الملحة القاتلة. بل اكتفى بالحضور صباح كل يوم خميس موعد العيادات الخارجية. اليوم على أي حال بدا في حالة مزاجية أفضل مقارنة بالأسبوع الماضي . قال " بديت البرنامج لكن مرات أغسل مرة واحدة، ومرات أرجع وأعمل مرتين وثلاثة. فيه مقاومة. الامور ماشية كويس لكن مرات أسرح وأستسلم ". ما يتحدث عنه طبيعي مع بدايات تطبيق البرنامج العلاجي، طلبت منه الاستمرار ومتابعتي هاتفيا، لكنه كالعادة لم يفعل، ولن يفعل. أرشدته على بعض الامور التي ينبغي أدائها لمساعدته في التغلب على الافكار الوسواسية وكذلك الطقوس. وعد بالالتزام والتعاون وبضرورة تطبيق البرنامج العلاجي. صباح الخميس 18مارس2010 (متابعة) يبدو المزاج طيب اليوم، المظهر رائع، الوجه مضيئ، هذه المرة بادرني بمجرد أن جلس على الكرسي " المرة دي فيه مقاومة، الخوف قعد يروح مني، خشيت الحمام حوالي الساعة (8) عملت كل شيء وخرجت حوالي الساعة (9)يعني حوالي خمسين دقيقة المقاومة تعطيك جرأة، وشجاعة وتنور وجهك "، هكذا قالها بنفسه، لكن ماتزال هناك مشاكل مثل تكرار غسيل اليد، والخوف في الحمام عندما يغلق الباب، ومايزال الوسواس المتعلق بالنظافة بعد الاخراج موجود، يقول " الامور خفت شوية الحمدلله بفعل المقاومة، أصبحت اخيرا أغلق باب الحمام عليا على الرغم من الخوف اللي ينتابني " . شجعته على الانجاز الذي تحقق، وأهمية الاستمرار في كسر تلك الدائرة الوسواسية، اتفقنا على الاستمرار في برنامجنا والمقاومة واللقاء في الجلسة التالية. لكنه لم يلتزم بأي شيء، لا هو حضر الى مبنى العيادات مثل العادة، ولا اتصل بي على الخط الساخن، كما اخبرني طبيبه المعالج انه لم يعد يظهر في مبنى العيادات. والحقيقة الصادمة لدى هؤلاء الذي يعانون من ويلات مرض الوسواس القهري تتمثل في استبصارهم التام بحالتهم ومشكلاتهم، وتتميز شخصياتهم بالتكامل لدرجة الانسجام بشكل شبه طبيعي مع واقعهم الاجتماعي، لكن يظل واقعهم الشخصي مؤلم، يعانون من ويلاته وحدهم، لا يظهرون كثيرا في مستشفيات الطب النفسي، ربما يظهرون في العيادات الخارجية أحيانا، لكن من الصعب أن تضبط مريضا بالوسواس القهري محتجز داخل أجنحة الطب النفسي مع المضطربين عقليا. والحقيقة الأهم أن مثابرتهم على العلاج والانخراط في سياق برنامج علاجي نفسي طويل المدى ضعيفة للغاية. فهم لا يثابرون على مشقة العلاج ومراحله، ولا يتنظمون في برامج علاجية تأهيلية، وكأنهم يفضلون تحميل أنفسهم مشقة وعذابات أفكارهم الوسواسية، وسلوكياتهم غير المنطقية والغير قابلة للسيطرة، وكأنهم يلومون أنفسهم ويحملونها مغبة كل ما يجري داخل رؤوسهم من أفكار شاذة عبثية وغير منطقية، وتصرفات عقيمة الهدف والجدوى لا تحمل لهم سوى العذاب والألم.
#احمد_الباسوسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الموكب (قصة قصيرة)
-
لذة ممنوعة
-
طلاق بالأمر (العلاج النفسي)
-
تلاشي (قصة قصيرة)
-
الصعيدي الذي قهر الفصام
المزيد.....
-
-لقاء يرمز لالتزام إسبانيا تجاه فلسطين-.. أول اجتماع حكومي د
...
-
كيف أصبحت موزة فناً يُباع بالملايين
-
بيسكوف: لم نبلغ واشنطن مسبقا بإطلاق صاروخ أوريشنيك لكن كان ه
...
-
هل ينجو نتنياهو وغالانت من الاعتقال؟
-
أوليانوف يدعو الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتحقق من امتثال
...
-
السيسي يجتمع بقيادات الجيش المصري ويوجه عدة رسائل: لا تغتروا
...
-
-يوم عنيف-.. 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية على
...
-
نتنياهو: لن أعترف بقرار محكمة لاهاي ضدي
-
مساعدة بايدن: الرعب يدب في أمريكا!
-
نتانياهو: كيف سينجو من العدالة؟
المزيد.....
-
الجِنْس خَارج الزَّواج (2/2)
/ عبد الرحمان النوضة
-
الجِنْس خَارج الزَّواج (1/2)
/ عبد الرحمان النوضة
-
دفتر النشاط الخاص بمتلازمة داون
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (مقدمة) مقدمة الكتاب
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (3) ، الطريق المتواضع و إخراج
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
ثمانون عاما بلا دواءٍ أو علاج
/ توفيق أبو شومر
-
كأس من عصير الأيام ، الجزء الثالث
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
كأس من عصير الأيام الجزء الثاني
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
ثلاث مقاربات حول الرأسمالية والصحة النفسية
/ سعيد العليمى
-
الشجرة الارجوانيّة
/ بتول الفارس
المزيد.....
|