|
الفقر المعولم والعبرة من نيو أورليانز
نسيم ضاهر
الحوار المتمدن-العدد: 1331 - 2005 / 9 / 28 - 13:54
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
"من ساواك بنفسه فما ظلمك" الفقر المعولم والعبرة من نيو أورليانز في خضمّ المشكلات التي تعصف بالمنطقة، تتناول النخب العربية الشأن السياسي/ الاستراتيجي بإسهاب، غافلة عن أن ثمّة مواضيع مخجلة تنحت في القرية الكونية، ومتجاهلة ذاك المعطى الجامع المؤلم المتمثل بالفقر المعولم. ربّ قائلٍ ان ثمة أولويات تفرض ذاتها على وجدان المستضعف، فما باله من مآسٍ بعيدة وليدة مجتمعات مرفهة أسهم قادتها في قهره وسلب مقومات نهوض شعوبه بأكملها، حصيلة استعمار مديد بصيغته الكولونيالية التقليدية الآفلة وطبعته التوسّعية الجديدة؛ وربّ مجادل أن الاشتراك في المعاناة يجعل التعاطف مع الضعفاء بديهياً، مقتصراً على الإدانة السياسية، رافعاً إياها إلى مصاف التضامن الأسمى، الممكن المتوافر، ما يعفي من مشقة التنقيب عن جذور ظاهرة الفقر ومسبباتها المتداخلة، ويكتفي بوصفها نتاجاً للسياسات المتبعة وحاصلاً للتمييز والاستغلال الطبقي واللهث وراء المرابح. لقد حفلت الأدبيات، والماركسية منها بخاصة، بنصوص نقد الاستلاب؛ كما بيَّنت ثابتة جشع رأس المال وعرَّت آليات حرمان الشغيلة من القيمة المُضافة، ثم اغتنى الكفاح التحرري المعادي للاستعمار بروافد مدارس فكرية من بيئات غير عمالية، وطنية عالمثالثية أو دينية، اجتمعت مع مُناهضي الكولونيالية في المتروبولات على مطاردة النهب الاستعماري، واعتبرته بحق العائق الأساسي أمام تطوّر البلدان الخاضعة وانعتاقها من التخلف وسماتِهِ، والوجه الآخر لقانون الرأسمالية في مرحلة انفلاشها على أعتاب العولمة الزاحفة. درجت العادة الأدبية في النصف الأخير من القرن الماضي على حشر غالبية البشرية ضمن فضاء هيولي وصف بالعالم الثالث لتعذر احتوائه في إطار المجموعتين، الرأسمالية المتطورة والاشتراكية، المتنافستيْن آنذاك. وذهبت مدرسة استطوتنت المعسكر الاشتراكي إبان الحرب الباردة إلى المناداة بالطريق اللارأسمالي عنواناً لمساره المقبل. ولقد دحضت العولمة المتسارعة هذه النظرية في الأساس، فغابت عن واجهة البحث والتداول وسقطت مقومات تحليلاتها. لكن مقاربتها التبسيطية وتعميمها المغفل للتباينات والتفاوت العميق بين المكوّنات العالمثالثية لم تبارح الساحة فاستمرت الشمولية في النظرة سيدة الموقف انطلاقاً من تعريف المسبب الجامع للتخلف أي شهوة رأس المال، دون تفسير مقنع لوثبة دول كانت يوماً في مصاف التابع الكولونيالي انتقلت بجهودها ونشاطها إلى مراتب أعلى في الاقتصاد والمجتمع، رغم اشتراكها في المعاناة ووقوعها موضوعياً عرضة لذات الكوابح التي أوجدتها المتروبولات اولاً ثم الشركات المتعددة الجنسية إلى العولمة في ما بعد. فنمور آسيا المعروفة بقيت لحقبة قريبة نسبياً تقبع في مستوى سائر دول العالم الثالث، يلفها الجمود وتستشري فيها البطالة وأعراض الفقر. مع ذلك، حققت هذه البلدان قفزة مشهودة إلى الأمام وأضحت منافساً للدول الأكثر تقدماً في مجالات عديدة. كما أن الهند والبرازيل، وكلاهما شبه قارة شاسعة وذات كثافة بشرية عالية، تمكنتا في ربع القرن الأخير من إجراء اختراق علمي وتكنولوجي/ صناعي واعد، يضعهما اليوم على عتبات ولوج نادي النخبة، أخذ يخرج قطاعات تعدادها الملايين من دائرة العوز المدقع، رغم ثقل الموروثات وحجم الصعوبات والمعضلات الاجتماعية التي قلّ مثيلها في بلدان شبيهة. ثمة حقيقتان تتصدران ليومنا موضوع (أو ظاهرة) الفقر في العالم بغير منازع. أولاهما أن هذه الآفة ما زالت حاضرة في أبرز الدول المتطورة. وثانيهما أن معطى الفقر يترك بصماته الصارخة على مجموعة دول (عائدات بعضها من ثرواتها الطبيعية محترمة) جامعها المشترك بنى اجتماعية تقليدية محافظة تقيدها العوازل السياسية والفكرية الماضوية وتحجب عنها > المعاصرة والانفتاح. بيد أن منهج الدمج العشوائي بين المستويين المعتمد من ثقافة سائدة عربياً يطيِح بالمقارنة الهادئة والنسب المتفاوتة، ويحيل الفقر إلى دائرة القدرية الملازمة لحياة البشر، أو يعتد بوجوده المحدود في المجتمعات المتقدمة ليقفز إلى استنتاجات وأحكام سياسية مضخمة ومسبقة ويُخفي العيوب الكامنة في المجتمعات. إنّ استمرار هامش الفقر في الولايات المتحدة علامة سوداء تشير إلى تقاعس مؤكّد لمن تعاقبوا على إدارة دفة السلطة، هو بالمحصلة وليد نظرة طبقية إلى المحتاجين والمشرّدين. تجد السياسات الاقتصادية المتبعة تبريرها المستور في التاريخ والاجتماع، مصدره أساساً التمييز العنصري، وريث حقبة العبودية، والدونية التي أسبغتها البروتستانتية على <<الكسالى>> كونهم قد خالفوا الإرادة الإلهية الداعية للعمل والقانون الطبيعي الناظم له. وينطبق هذا الموقف السلبي على صعاليك البيض والسود بسواء لمشاركتهم الواقع الاجتماعي عينه، مع فارق في نسبة الملونين الفقراء إلى مجموعهم، وانتمائهم المديني الكثيف غالباً. غير أن الدراسات الميدانية تؤشر أيضاً إلى تباطؤ استيعاب فاقدي العمل نتيجة الصرف من الخدمة بفعل التحوّلات التقنية وزيادة الإنتاجية، واعتبار الأمر ضريبة مؤقتة للمتغيرات البنيوية لا بدّ من دفعها، يعول على حركية المجتمع في امتصاصها لاحقاً وإعادة النصاب إلى سابق عهده. لكن الدراسات المعللة تجرؤ على مكاشفة الضحية بمعطيات/ حقائق مؤلمة تفيد بوجود عناصر ذاتية مقلقة تفرز التهميش وتشدّ إلى حضيض المجتمع، جَرّاء مناخات <<ثقافية>> اتكالية وسلوكيات عنصرية مقلوبة تجيز المحظور لأصحابها انتقاماً من مجتمع يرونه غريباً عن واقعهم الرث ومسؤولاً بالكامل عنه وعن أفعالهم بالذات. مع ذلك، وكيفما توزعت المسؤوليات، يبقى أن دولة الرعاية الاجتماعية الشاملة ما زالت بعيدة المنال شرقاً وغرباً (بدليل نيو أورليانز المنكوبة وطوابير مدن روسيا) وان استئصال الفقر مادة أخلاقية واجتماعية بامتياز حيال معطى لا ينقذ من وصمته التذرّع بكثافة المهاجرين الوافدين وتنميط الهامشية الغارقة في أدنى السلم الاجتماعي مع ما يستتبعه ذلك من أعراض وأمراض تعيد إنتاج الحرمان وتفاقمه. في المقلب الآخر، تتصدر المنطقة العربية لوحة قاتمة لناحية التنمية البشرية والبطالة وتفاوت الدخل والتوزيع العادل للثروات. وتظهر تقارير الأمم المتحدة اتساع الهوة الاجتماعية باضطراد خلافاً لوفرة الموارد. وحيث لا منازعة في توصيف الواقع الجلي، ترفع الموانع السياسية سدوداً في وجه الحلول الغائبة ويُعزى الفشل أساساً إلى أسباب خارجية خبيثة تريد النيل من الهوية وتشل قدرات الفعل. بيد أن إيقاف التخلف (والفقر المستشري) على العامل السياسي، على أهمية هذا العامل، يؤول إلى تجاهل البحث في بواطن المرض المُتأصّلة في أحشاء المجتمع، من إفرازات فكر سائد ينتحل صفة الدفاع عن منظومة قيمية بمواجهة المستعدي الآخر، وينزلق موضوعياً إلى تغليف البؤس بموروث الأصالة والتقاليد. فخير معين لاستنباطاته إنما يجده في الانفصال المصطنع عن سائر العالم بغية تمرير مقولة الاختلاف الجذري وبالتالي تفادي المقارنة المحرجة والخروج بعلاجات غيبية لمشكلات مادية قائمة؛ وعليه تشطح المغالاة في التمايز إلى غير سبيل القبض على جذور المسألة ومعاينة الواقع الحسي على حقيقته، وتمنّن النفس بوصفات عديمة الفعالية تستحضر الماضي وتجد فيه الدواء الشافي لداء غريب المنشأ نزل بمجتمعاتنا عنوة وهي البريئة من أعراضه أصلاً. في هذا السياق ينتفي العجب من احتقار الآخرين واستصغار مآسيهم، ويُؤخذ فقراؤهم بجريرة السياسات على قاعدة من ساواك بنفسه فما ظلمك.
#نسيم_ضاهر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءات في التجارب الحزبية والحركات الاسلامية
المزيد.....
-
سحب الدخان تغطي الضاحية الجنوبية.. والجيش الإسرائيلي يعلن قص
...
-
السفير يوسف العتيبة: مقتل الحاخام كوغان هجوم على الإمارات
-
النعمة صارت نقمة.. أمطار بعد أشهر من الجفاف تتسبب في انهيارا
...
-
لأول مرة منذ صدور مذكرة الاعتقال.. غالانت يتوجه لواشنطن ويلت
...
-
فيتسو: الغرب يريد إضعاف روسيا وهذا لا يمكن تحقيقه
-
-حزب الله- وتدمير الدبابات الإسرائيلية.. هل يتكرر سيناريو -م
...
-
-الروس يستمرون في الانتصار-.. خبير بريطاني يعلق على الوضع في
...
-
-حزب الله- ينفذ أكبر عدد من العمليات ضد إسرائيل في يوم واحد
...
-
اندلاع حريق بمحرك طائرة ركاب روسية أثناء هبوطها في مطار أنطا
...
-
روسيا للغرب.. ضربة صاروخ -أوريشنيك- ستكون بالغة
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|