|
السعادة .. حقيقة أم خيال
صبري المقدسي
الحوار المتمدن-العدد: 4791 - 2015 / 4 / 29 - 14:21
المحور:
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
مقدمة لم يكن من السهل على أعظم المفكرين والفلاسفة والاطباء فهم كنه الانسان ومعرفة أسراره طوال التاريخ البشري العريق، بالرغم من الدراسات الدينية والنفسية والتشريحية والعلمية الكثيرة وذلك لأن الانسان وبحسب جميع العلماء والمفكرين هو كائن بشري معقد، بل هو من أعقد جميع الكائنات الحية. ولذلك لم يبطل العلماء والمفكرون يوما عن البحث في حياة الانسان ومعاناته وطموحاته وقابلياته الداخلية والنفسية. وقد قضى بعضهم الحياة بكاملها ليصلوا الى نتيجة واحدة شاملة وكاملة ألا وهي معرفة الذات والمكنونات الداخلية. وقد حصرها الفيلسوف الاغريقي سقراط في مقولته المشهورة (إعرف نفسك). وهو نداء لا يزال يرن في آذان كل شخص بشري ويدعو من خلاله للدخول الى أعماق النفس. ولأن من لا يعرف نفسه لا يكون في مقدوره معرفة طريقه ومعرفة الآخرين من حوله. وظل الانسان العادي بدوره يبحث دائما عن حياة هنيئة تسودها المحبة والسلام. ولم تكن غايته من كل تصرفاته ونشاطاته عبر تاريخه الطويل إلا الحصول على تلك الدرّة الثمينة التي يتمنى الجميع الوصول اليها وهي (السعادة). ولعبت الإختراعات والإكتشافات المختلفة، كالكتابة والزراعة والكهرباء والراديو والتلفزيون والحاسوب الألكتروني والانترنيت والموبايل، دورا لا ينسى في تحقيقها والتنعم بالراحة والهناء الدائم. فالتوق الى السعادة إذن موجود في أعماق كل كائن بشري. إذ من منا يفضل الشعور بالقلق والتوتر والألم، على البهجة والاستقرار والامن والسلام. ومن منا لا يريد الخلود والعمر الطويل لنفسه في هذا العالم. فلو تسنى للإنسان لعاش مئات السنين بل آلاف السنين من دون أن يتعب من الحياة. ولهذا يدأب في البحث عن الطرق والوسائل اللازمة لإطالة عمره على الارض. وتذكر ملحمة كلكامش في العراق القديم، كيف أن البطل المذكور جاهد في البحث عن ثمرة الخلود، ولم يفلح في الحصول عليها، وإنقاذ صديقه الحميم (أنكيدو) من الموت المحتوم. ولا يزال الأطباء يحاولون جهدهم في اكتشاف العقاقير والأدوية والطرق والوسائل المختلفة في سبيل تطويل عمر الانسان، وزيادة سعادته وهناءه ولكن من دون جدوى. سنحاول في هذا الكتاب أن نوجز بقدر الإمكان الطرق والوسائل التي استخدمها الانسان، والتي يستخدمها الى اليوم للحصول على السعادة، وللتخلص من التفكير السلبي الذي يمنعه من الحصول عليها. وما قادني وشجعني لكتابة هذا الموضوع هو حاجة الكثير من قراء العربية من العرب والاكراد وأبناء القوميات الاخرى، للشعور بالسعادة، وتذوق طعمها، ولضرورة وجود الأمل والرجاء في قلوب الكثيرين منهم، ولتقوية الروح الايجابية فيهم، ولوضع الابتسامة على وجوه المكتئبين منهم.
البحث عن السعادة ليس هناك شخص في الوجود إلا وينشد السعادة. ولا ينجح معظم الناس في الوصول الى هذا الهدف، إذ منهم من يصل اليه، ويكون من المحظوظين. ومنهم من يكد ويتعب، ولكن من دون جدوى، ولا يحصل إلا على اللذة أو المسرّة الوقتية التي تزول بمجرّد إختفاء الباعث الرئيسي لها بعد فترة وجيزة. كالحصول على حَمّام نظيف بعد يوم شاق ومُتعب، أو الانتهاء من وجبة غذاء لذيذة أو شراء سيارة جديدة أو بيت جديد أو القيام في نزهة أو سفرة جماعية. لما كانت الحياة رحلة يعيشها الانسان بحلوها ومرها، فكذلك السعادة التي يدوم العمل على تحقيقها دوام الحياة. ولكن السعادة الحقيقية تسمو على السرور والمادة والطعام والشراب والجنس والثروة واللهو والإثارة واللذة والشهرة والمنصب والسلطة والنجاح. وتختلف معناها بإختلاف الناس وحاجاتهم. وليس لها عمر معيّن ولا وقت مُحدّد. ولا يُمكن القول بأننا سعداء اليوم وتعساء غداً، إذ يجب أن يكون للسعادة ديمومة واضحة وأكيدة. كما يؤكد الدكتور مارتن سيلغمان في دراسته الحديثة: بإمكانية تنمية السعادة وبشكل دائم ومستقر، وعلى أن يستطيع الانسان العيش في أعلى مستوى يسمح به حيز السعادة. فالنظرية التي ترى أن تنمية السعادة أمر غير ممكن، تعتبر إحدى معوقات البحث العلمي وليست عقيدة أصيلة في البشر(السعادة الحقيقية ـ ترجمة د. صفاء الأعسر مع مجموعة من الاساتذة). فالسعادة إذن ليست تخديرا للنفس أو إقناعا لها بما هو ضد الحقيقة والواقع، ومن الممكن للإنسان أن يحققها في الواقع. ولكنها ليست سلعة تباع وتشترى، أو عمل نقوم به، أو قناع نرتديه. كما ولا يتم الحصول عليها بالإكتساب أو بالقرعة أو باليانصيب. ولكنها كما يقول المثل الصيني: وردة نقتطفها من حدائق بيوتنا وليس من بيوت جيراننا. أو بالاحرى هي هبة نحصل عليها أو ضيف طيّب يطرق أبواب بيوتنا، ولكن للأسف قد لا نسمع غالبا طرقاته. إذ يضيع صوت طرقاته بين صراخاتنا وصراخات الجيران، ومعمعات الحياة، وضجيج الشوارع، وصخب الموسيقى المعاصرة المزعج. والسؤال المهم الذي يطرح نفسه في حياة كل انسان: هل يمكنني أن أكون سعيدا وكيف؟. ويكمن الجواب الأنسب في كيفية طرح السؤال نفسه. إذ من الأفضل أن يكون السؤال: هل أريد أن أكون سعيدا؟، وهل أسمح بالسعادة الحقيقية أن تقوم بعملها في حياتي؟. وغيرها من الاسئلة التي تخطر في بال معظم الناس كل يوم عن: ماهية السعادة؟ وعن كيفية وجودها؟ وكيفية الحصول عليها؟ وكيفية الاحتفاظ بها؟، وفيما إذا السعادة موهبة الهية تولد مع البعض، ويُحرم منها البعض الآخر؟، وعن سبب وجودها لدى البعض، وحرمان البعض الآخر منها؟، وعن كيفية إزالة العقبات في الوصول اليها؟ والفرق بينها وبين اللذة والمتعة والسرور؟ وعن السعادة الحقيقية والسعادة الوهمية والخادعة؟!. يتوقف الجواب لكل هذه الاسئلة في طبيعة الحال على مفهومنا للسعادة. فإذا إعتبرناها لذة مطلقة بلا نهاية، وراحة كاملة بلا تعب، فهي وهم وخداع للنفس. إذ لا يمكن تحقيق هذا النوع من السعادة في واقع الحياة اليومية إلا لنسبة قليلة جدا من الناس. وأما إذا إعتبرناها هناءاً نسبيا وقناعة بالحد الأدنى من المتطلبات أو بالحد المتوفر منها، فهي إذن ممكنة للجميع. وهذا لا يمنع من وجود بعض الناس الذين يتذوقون طعمها، ويتكيفون مع المحن اليومية، ويتعاملون مع المشاكل والصعوبات برؤية تختلف عن الناس الآخرين. لأن ممارسة الفرد للايمان، والعمل الدؤوب، والرضى الكامل عن الحياة والزواج الصحيح والمؤسس على المحبة الحقيقية والتمتع بالفكر الايجابي البناء مع القناعة الكاملة بالحياة والطموح المعقول، كلها أمور تجعل من الفرد سعيدا بكل معنى الكلمة. ومع أن الكثير من الاديان والمفكرين والفلاسفة، يستبعدون وجود السعادة في هذه الحياة، ويعتبرونها نسبية مؤقتة، إلا أن تحقيقها ممكن وغير مستبعد. فهي إحساس جيد وإستمتاع بالحياة ورغبة تواقة في المحافظة على هذا الاحساس وصيانته (ريتشارد ليارد). وأما التعاسة التي هي على العكس من السعادة والتي لا يرغب فيها أي فرد أو مجتمع، ولا يتمناها أي شخص بشري، فهي تتلخص في نظر المعوزين والمحتاجين الى لقمة خبز، وفي نظر المسجونين الى الحرية، وفي نظر المرضى والموجوعين، الى الصحة والعافية. وإذا سألنا عدد من الناس من مختلف المستويات والتخصّصات والأجناس عن ماهية السعادة؟ يأتي الجواب في طبيعة الحال مختلفا، لأن الكل يفهمها بحسب ميوله وأهوائه وطريقة تكوينه. إذ يرى البعض بأنها تأتي من القلب، والآخر يراها عقلية وجدانية. ويرى البعض أنها في الثقافة والعلم، والآخر يراها في القناعة بما هو موجود. ويرى البعض أنها في الايمان، والآخر يراها في الحب والعثور على زوجة. ويرى البعض أنها في كثرة الأولاد وإشباع الرغبات العاطفية والجسدية، والآخر يراها في الهدوء وعدم المسؤولية. ويرى البعض أنها في الانفلات والحرية، والآخر يراها في الصحة والعافية. ويرى البعض أنها في ممارسة الهوايات والألعاب المختلفة، والآخر يراها في الجمال والملبس الأنيق. ويرى البعض أنها في العمل والنجاح فيه، والآخر يراها في جمع الثروة والمركز الاجتماعي. ويرى البعض أنها في العيش بالقرب من الطبيعة والاستمتاع بجمالها الخلاب، والآخر يراها في الجلوس في حديقة بيته مع أفراد عائلته. وغيرها من الدلائل والامور والحالات الكثيرة على المستوى النفسي أو الروحي أو العقلي أو الجسدي التي تؤثر في زيادة ونقصان السعادة في حياتنا اليومية. ومع أن هناك آراء عديدة حول السعادة وتعريفها، ولكن من المهم أن نميز بين الشعور اللحظي بها لدى معظم الناس كالاحساس بنشوة لقاء جديد أو تعارف جديد أو بعد الانتهاء من مشاهدة فيلم جميل أو بالتمتع بسهرة جميلة مع صديق قديم وغيرها من الإمور والحوادث التي تزرع في النفوس نكهة جميلة وتترك في القلب أثرا بالغا ومؤثرا. والامر البالغ في الاهمية هو مستوى الشعور بالسعادة ومحاولة إدامة هذا النوع من الشعور الجيد. ولذلك فالتعريف العام للسعادة: هي أنها حالة روحية ونفسية واجتماعية وجسدية قبل أن تكون مادية في مفهومها ومدلولها ومضمونها وغاياتها، وذلك لتحقيق نوع من التوازن بين الجوانب المختلفة في الفرد أو المجتمع. وهناك في الحقيقة تعاريف أخرى كثيرة عن السعادة وعن أسبابها ومسبباتها، التي تعطيها الدراسات العلمية، والتي تستند على الحالات الفردية الخاصة والمشاعر والآمال المستقبلية، ومنها أن السعادة هي الغاية التي نعمل ونجاهد بشتى الطرق والوسائل للحصول عليها. وهي شيء نفسي، نرغبه ونبذل الغالي والرخيص من أجل الحصول عليه. وتعني في ما تعنيه الابتهاج الدائم. فهي تتجول في دواخلنا وتملأنا بالفرح في التعامل مع الآخرين، وفي مواجهة مشاكلنا النفسية والجسدية. ولا يتم الحصول على هذا النوع من السعادة إلا بالعمل الجدي والمخلص، وبتقديم الخدمات المختلفة للمجتمع، بما يُرضي الضمير ولتحقيق عالم ملئه الخير والكرامة والجمال والحرية والحق والعدالة. وإذا بحثنا عن المعنى الرئيسي لكلمة السعادة في معظم اللغات العالمية فنجد معنى واحد وموحد يدل على الحظ السعيد والفرصة الجيّدة والحدث الجميل. وأما في رأي المجتمع، فالسعادة مستحيلة التحقيق إلا بوجود شعور حقيقي بالبهجة والاستمتاع والحب. وفي رأي الدين فالمعنى الحقيقي لها فهو أعمق بكثير إذ هي: الاتحاد مع الله الخالق وممارسة وصاياه. والهناء في الحياة اليومية، والعيش في وئام مع الطبيعة والبيئة، ومع أنفسنا والذين من حوالينا للحصول على البركة من الأشياء المحيطة بنا. وفي إقتناء الراحة والمجد والخلاص والحياة الحقيقية. فالمؤمن يرى سعادته في ايمانه وتضحياته وبذله للذات وفي العيش قريبا مع عرش النعمة متمتعا بسمو وجمال الشركة مع الله. والمدهش في الامر أن المؤمنين الحقيقيين لايشعرون بالوحدة وآلام الزمن والخوف من الموت والعدم، بل يعيشون في يقين وهدوء بعكس الملحدين الذين يعيشون من دون أمل ولا رجاء بالحياة بعد الممات. وأما في رأي العاملين في سوق الأعمال التجارية وأصحاب الأعمال الحرة، السعادة هي النجاح في العمل والتقدم الى الأمام. وهي عكس التعاسة والحزن والشقاء في بعض الدول، إذ يعاني الناس من أجل لقمة العيش، ويموت المئات بل الآلاف منهم في الكوارث والأمراض المختلفة، دون أن يحصلوا على العيش الكريم، وعلى الأمل بالشفاء من الامراض المختلفة، كما في الهند وافريقيا وبعض الدول النامية. وفي تعريف شامل ومنتشر للسعادة يؤكد المثقفون المختصون: بأنها قوة داخلية تشيع في النفس راحة نفسية وطمأنينة داخلية وإنشراح في الصدر ونقاء في الوجدان وشعور عميق بالرضا وقناعة تامة في ادخال السرور في قلوب الآخرين وقلوب الذين يخدمون، وفي رسم البسمة على وجوههم، وفي تقديم العون لهم والإحسان إليهم، وفي القدرة على مواجهة مختلف العقد النفسية والتكيّف معها من خلال التحكم بالانفعالات والمشاعر والأعصاب. ويختلف معنى السعادة، من شخص الى آخر، ومن منطقة الى أخرى. فهي ليست محصورة بين الاغنياء والشباعى، بل تنتشر أيضا بين الفقراء والمضطهدين الذين يستطيعون أن يكونوا سعداء من دون أن يكون لديهم مصدرا كافيا من المعيشة اليومية. لأن السعادة تكمن في أعمال البر والطهارة والتواضع والرحمة أكثر مما تكمن في الإسراف والبذخ وأعمال اللهو والعربدة المنتشرة هذه الأيام. وليس السعيد حقا بكثرة أمواله، ولا بجمال قامته وطلعته، ولا بجمال سيارته وثيابه، وقوة منصبه وسلطانه. بل السعيد حقا، الذي يقتنع بما عنده. ويكون سلاحه تفكيره، ويشعر بأنه سيد نفسه وكأنه يملك كل شيء، مع أنه لا يملك شيئا. ومن يقرض من لطفه أكثر من هباته، ويعيش حياة روحية وفكرية، مقتنعا بوضعه وطموحاته بعيدا عن الطمع والامور الدنيوية التي تقلق وتجلب كل أنواع الشرور. ويرى الفلاسفة التقليديون مثل افلاطون وآرسطو وسقراط، بأن هناك بُعداً آخر للسعادة، فهم ينظرون اليها بطريقة بعيدة عن المادة والصحة وتقلبات الحياة المختلفة. ويُميّزون دور الصحة والثروة والصداقة في نمو وزيادة السعادة، مع التأكيد على دور العقل، وممارساته الفكرية والمعرفية، وانجازاته المختلفة في تحقيقها أكثر من أي شىء آخر. فمن يرغب بالغنى والثروة مثلا، فإن غايته ليست في المال بقدر ما هي في السعادة. والذين يرغبون بالشهرة، فإن غايتهم ليست في الشهرة، بقدر ما هي في الوصول الى السعادة من خلال الشهرة. وكذلك الذين يرغبون في الوصول الى منصب مرموق ومكانة اجتماعية رفيعة، ولكن غايتهم ليست بالضرورة الوصول الى الجاه والسلطة، بل السعادة التي توفرها تلك الدرجة أو تلك المكانة الاجتماعية. ويعود الأمر نفسه بالنسبة الى الذين يرغبون في الحصول على الرشاقة والصحة. وأما في رأي الفلاسفة والمفكرين المعاصرين، فالسعادة الفردية ترتبط ارتباطا جوهريا بسعادة المجتمع. ويَدّعي هؤلاء الفلاسفة، بأن السعادة الفردية مستحيلة دون السعادة الجماعية، لأن الإنسان لا يستطيع العيش بمفرده، إذ يولد بطبعه محتاجا الى من يقوم بتربيته وتكوينه وتشكيله، من الناحية الجسمية والنفسية والاجتماعية. وتعتبر التعاسة على العكس من السعادة، إذ تعتمد بكاملها على الفشل والتفتت، لكونها تفتقر الى الاندماج والتنسيق بين العقل الواعي والعقل اللاواعي، وبين الفرد والمجتمع. وتعود المسببات الرئيسية للتعاسة الى النظام الاجتماعي أولا، ومن ثم الى الحالة النفسية والعقلية للفرد، كالاختلالات النفسية، وطريقة العيش والتعامل مع الأشياء ومع الآخر. فالشعور بالتعاسة والحزن شيء، والشعور بالاكتئاب شىء آخر. وتبلغ مسببات الاكتئاب من الشدة بحيث تصل بالمرء الى حالة من اليأس والضياع في بعض الأحيان. فالاكتئاب سيء ومميت في بعض الاحيان وخاصة عندما يصل الى مراحله النهائية. إذ يفرض سيطرته على المريض، بصمت وهدوء، ويسلب منه بهجة الحياة، ويوقعه في أشد أنواع الحزن واليأس. ويؤكد الاطباء النفسانيون بأن الإكتئآب يؤثر على الصحة البدنية لدى الفرد، ولاسيما عندما يصل الى الحالة الخطرة من العزلة القاتلة التي تؤدي الى الانتحار. وقد يصيب الانسان أيضا القلق، وهو إرتباك فكري مزعج، يقتات على مخاوف وشيكة، ويسبب للمريض الحنق والإحباط والرعب والذعر. وتسيطر عليه كل المفاهيم السلبية، بالاضافة الى المخاوف من الامور المحيطة، والشعور بالضعف في التمييز بين ما هو عرضي عابر، وما هو أساسي وجوهري. وأما الشعور بالانانية فهو شىء سيىء وسلبي أيضا، ويبلغ من الشدة في بعض الاحيان، وخاصة عندما يتمركز حول الذات ويبقى في دائرة الأنا الشريرة. وتؤدي به الحالة الى الحزن والتعاسة، وبلوغ المعاناة الحقيقية في كيفية التنسيق والاندماج، بعكس الانسان السعيد الذي لا يُعاني من تلك الصور البشعة، بل يحاول جهده المستطاع أن يسعد غيره من البشر. فالسعادة إذن تساعد على الأهتمام بالأهداف السامية. وتحاول منح الجسد انسجامية رائعة، وتعطي للفرد الفرصة في الإبداع، والخطوات العملية لتحقيقها بفرح وبشاشة، ومن دون قلق وضغط وأنانية. ففي الحقيقة كل إنسان يستطيع أن يصنع سعادته، إذا التزم بقوانينها وبتطبيق الخطوات الموصلة اليها، ولكن الامور السيئة والسلبية المحيطة بنا تمنع ذلك وللأسف الشديد. ولعل ما يساعد على زيادة السعادة والسرور في حياة الناس والمجتمعات البشرية هو النمو الاقتصادي سواء في الفرد أو في المجتمع. والدليل الأكبر على ذلك وجود نسبة معينة من أهل المجتمعات المتمدّنة التي استطاعت ان تخلق نوعا من التوازن بين الرخاء الاقتصادي والحفاظ على القيّم الروحية التي تمارسها في بناء وتأسيس العائلة السعيدة. وما نعني بالعامل الاقتصادي، المال والثروة والجاه والقوة والنجاح في العمل. ولكن قد لا تحقق كل هذه الأمور مجتمعة، السعادة المنشودة من دون وجود الايمان والقناعة والطموح المعقول. وإن كانت السعادة والهناء قد تحققت في البلدان الغنية والمتطوّرة بعد التطورات التقنية والتكنولوجية، وأفادت نسبة معينة من البشر، ولكنها في الواقع سببت أيضا في زيادة نسبة الجرائم والإدمان على المخدرات، وزيادة نسبة الانتحار، كنتيجة طبيعية لزيادة القلق والكآبة، وحالات من العزلة والأمراض النفسية والعصبية المختلفة. لأن المال الوفير والغنى الفاحش، وان سد فراغا في القلوب، إلا أنه يفتح فراغات هائلة من القلق والهموم النفسية التي لا يتمناها أحد في الحياة. ولهذا يقال في سبيل المثل: لو كان للإنسان كل الاموال، وإستطاع شراء أفخم البيوت، فهل يستطيع شراء العائلة؟. ولو إمتلك أجمل الحدائق والزهور، فهل يستطيع شراء الحب؟! ولو إستطاع شراء كل الكتب في العالم، فهل يستطيع شراء الثقافة والمعرفة؟! ولو حصل على أعلى المناصب في العالم، فهل يستطيع شراء تقدير واحترام الناس؟!. وتؤكد الكتب المقسة لمعظم الاديان على أن محبة المال تحيل الى إرتكاب الفواحش والمعاصي، فالمحبة من هذا النوع هي أصل كل الشرور. ولذلك فالمحظوظين في العالم لا تحميهم أموالهم من الشرور، ولا تبعد عنهم الحزن والألم، بل تشكل لكثير منهم عائقا، إذا ما لم يستخدموها بصورة صحيحة، ولاسيما إذا ما أخذت من قلوبهم المكان المخصص لله وقيمه المثلى. ورب سائل يسأل: كيف يُمكن خلق السعادة في حياتنا وفي حياة الآخرين؟، ويأتي الجواب من قبل الفلاسفة بصيغ مختلفة ومتناقضة أحيانا. وتبدو معظم تلك الاجوبة مبهمة وغامضة بحيث لا يستطيع الانسان ان يختبرها في الواقع الحياتي المعاش. وأثبتت بعض تلك الأجوبة المثالية فشلها في الواقع العملي، إذ طالما نادى الفلاسفة بتأسيس جمهوريتهم المثالية التي يتعايش فيها الناس بمحبة وألفة وسعادة. كما في جمهورية أفلاطون لدى الفيلسوف الأغريقي (أفلاطون)، ومدينة الله لدى الفيلسوف الجزائري(القديس أوغسطينوس)، والمدينة الفاضلة لدى الفيلسوف والمؤرخ العربي (الفارابي)، والاممية الشيوعية لدى الفيلسوف الاشتراكي الشيوعي (كارل ماركس). ولعل المفهوم الاممي الشيوعي الماركسي هو المثال الوحيد الذي طبق في الواقع العملي. ولكن بعد عقود من التطبيق لتلك النظرية من ناحيتها السياسية والاقتصادية والعلمية والاجتماعية، أصابت وللأسف الشديد التفكك الأخلاقي والاجتماعي لدى الشعوب التي حكمتها، وفككت الكثير من العوائل والمجتمعات في المناطق التي كانت تحكمها وتديرها. وتسببت أيضا في خلق الآلام والأوجاع التي لا توصف طوال فترة التطبيق الاشتراكي سواء في روسيا أو في غيرها من البلدان الاشتراكية السابقة. ولا نقصد هنا بالإساءة الى النظرية الشيوعية بقدر ما نقصد بالطرق الخاطئة التي تمت في تطبيقاتها وممارساتها سواء على مستوى السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي.
التفاؤل خلق الله الانسان على أحسن ما يرام، ومنح له الإمكانيات الكبيرة والرائعة التي تمكنه من أن يحيا متنعما وسعيدا. ولم يخلقه ليكون تعيسا أو حزينا. وما أصاب الانسان في الحياة من نكبات ومشاكل إنما كان بسبب إدارته الخاطئة وتفكيره غير الصائب والبعيد عن الصواب والحقيقة. فهو إذن مخلوق حر ومُخيّر، ولم يجبره الله على إتباعه أو لعمل الخير، بل أعطاه الحرية في القرار والاختيار. وجعل فيه الروح التفاؤلية التي قلما نفكر فيها، وقلما نستخدمها. وهذا ما نود التنوير عنه في هذا الموضوع والبحث فيه بإسهاب وبساطة شديدين. فالتفاؤل كلمة مليئة بالقوة والعزيمة والصفاء، نحتاجها في عالمنا اليوم بالرغم من الشر والخطيئة والفشل في الجوانب الكثيرة من حياتنا. وهو مرادف للبهجة والتيمّن، ومأخوذ من اليمين، ومعناه البركة والنزوع إلى رؤية الجانب المشرق من الأشياء، وتقوية الأمل في الحياة، وفي نُصرة الخير على الشر، وفي غلبة النور على الظلمة. وإذا نظرنا للتاريخ البشري نستطيع أن نحكم بغلبة كفة التفاؤل على كفة التشاؤم، بالرغم من كل الحروب والكوارث الطبيعية والسياسية والاجتماعية. والدليل التاريخي الأقوى لما نقول هو إنتقال البشرية من الطور الهمجي الى الطور المدني والحضاري أو في إرتقاء البشرية من المرحلة الدونية الناقصة الى المرحلة التقدمية العالية، وذلك في مجالات عديدة، منها التطور التقني والتكنولوجي، ودور الصحة في القضاء على الكثير من الامراض التاريخية، وفي طول معدل الاعمار في كثير من الشعوب البشرية، بالاضافة الى تطور الثقافة والنهضة العلمية في مختلف المجالات. ولا بد من التنويه على أن التفاؤل مفهوم ضروري لتكوين الأهداف التي تتعلق بحياتنا. وعلينا أن لا ننسى على أن الفكر الايجابي الذي يقود الى التفاؤل، هو من أهم الكنوز الفكرية التي يحتاجها الانسان في حياته اليومية. وأما الفكر السلبي فهو فكر هدام ومُدمّر ولذلك على الانسان أن يبعد عنه الروح السلبية وأن يحاول دائما أن يكون إيجابيا في نظرته للحياة وللإمور بالرغم من صعوبة وإستحالة ذلك في بعض الاحيان. وهذه حقيقة دينية وعلمية لا شك فيها، لأن العلم والدين كلاهما يدعوان الى التفاؤل والسعادة. فلا يمكننا أن ننكر بأن الانسان يواجه فترات صعبة جدا في حياته، ولكن الانسان المتفائل يواجهها، ويتغلب عليها بروح ايجابية بناءة. وإذا فشل في مواجهتها فإنه يعتبر ذلك بداية لمرحلة جديدة من الصراع من أجل النجاح والتقدم. ولكن الانسان المتشائم يتعامل مع الامور على العكس من ذلك، فهو يقبل بالفشل الذي يُنزل به الى أسفل الدركات في جميع النواحي الاجتماعية والنفسية والاقتصادية. ويستنتج في النهاية بان الحياة نفسها هي شقاء وعذاب وآلم، ولا تستحق التضحية من أجلها. وجدير بالاشارة أنه ليس هناك فرق بين التفاؤل والتشاؤم في التجارب الحياتية فقط بل في كيفية الاستجابة للأشياء وكيفية إدراكها. فعندما يمر شخص متفائل في وضع حرج مثلا، فهو يفترض مسبقا بأن الحياة سوف تتحسن. وبينما المتشائم يعتقد بأن الحياة، صعبة ومؤلمة، وسوف تبقى كذلك. وتترك الحالتين بصماتها العميقة على الناس وعلى صحتهم ومستقبلهم. ولا غرابة في أننا نجد في واقع الحياة اليومية بأن الاشخاص المتفائلون يعيشون بصحة أحسن من الاشخاص المتشائمين. إذ يُعمّر المتفائلون عادة أكثر من المتشائمين. فالمتفائلون يتحررون من المعوّقات والتقاليد الاجتماعية التي تؤخر وتقلل مسيرة البشر للتقدم الى الامام. ولكن المتشائمون يبقون متخبطين في واقعهم السلبي، ويندبون حظهم العاثر. ويتضح هذا خاصة في حالات المرضى الذين يعانون من السيدا(الإيدز) أو السرطان وغيرها من الامراض المزمنة والخبيثة التي تحتاج الى قوة الايمان للصبر والاحتمال وللقضاء على اليأس والتشاؤم والإحباط والموت. ولذلك ينصح الاطباء والعلماء النفسانيون بإستقبال المشاكل والصعوبات بالايمان والابتسامة والضحك والتفاؤل إذ هي كلها مفيدة للجسد والروح. وتساعد على تجاوز المعوقات والمشاكل المختلفة. فإذا تعرض المرء الى مشكلة حقيقية، فعليه أن لا يزيد الامور تعقيدا بالحزن والتعاسة، بل الأفضل أن يتفائل بشأنها. ولكن من يعتزل الضحك والتفاؤل بعد محنة أو تجربة مريرة، يظل في تعاسة يصنعها بنفسه لنفسه، وتدوم تعاسته لفترة طويلة ولا يدفع ثمنا لها إلا هو، ولا يلوم إلا نفسه. وقد يحتاج الانسان بين الفينة والاخرى الى نصائح وتوجيهات تفيده في بناء شخصيته وتقوية روحه الايجابية. ومن أهم تلك النصائح: التركيز على العيش ببساطة ومن دون تعقيد كبير. لأن الحياة نفسها بسيطة وغير معقدة، والتعقيدات الموجودة هي في الواقع من صنع الانسان نفسه، وبسبب مشاكله وهمومه الداخلية والنفسية. ولا بد أيضا من المحافظة على نظافة أنفسنا ونظافة محيطنا وبيوتنا، من التلوّث. لأن البيئة، هي بيتنا الذي يجب حمايته. فإن كان بيتنا خربا ومتوسخا فكيف تكون حياتنا يا ترى؟!. والشىء الآخر الذي يُعد بالاهمية نفسها هو التخلص من الأنا المُهلكة والمدمّرة في النواحي المختلفة من الحياة، مع التركيز على الجمالية في الحياة، وفتح الآفاق الجديدة من التحديّات التي تساعدنا على الخروج من مشاكلنا اليومية، وتدخلنا في هدوء وسلام داخلي. مع التصرف في طبيعة الحال بثقة وفعالية ومثابرة مستمرة في جميع خطوات حياتنا. وعلى رأس كل ذلك، تجنب القلق والتوتر النفسي، من دون التسليم بالفشل، مع توطيد العزم على البحث والدراسة والعمل والابداع. وتعد تلك الطرق والوسائل بحسب المقاييس العلمية لعلم النفس من الطرق المضمونة والناجحة في خلق الروح التفاؤلية التي يحتاجها المرء في حياته. وقد نسمع كثيرا من البشر يقولون: ((ليست وضعيّتي جيّدة ولكنني سوف أسعى الى تحسينها)). فهذا السعي هو القوّة المُحرّكة للأفكار التي تساعد الانسان للخروج من اليأس والوصول الى الأمل، والى تحقيق الأهداف الحميدة بطرق شتى. وتؤكد الدراسات الاختبارية، بأن الناس الذين يتطلب عملهم القعود الكثير في مكاتبهم، يتعرضون للحزن والتشاؤم أكثر من الذين يتحركون أثناء العمل. ومن الملفت للنظر ان نسبة المتفوقين في أسواق البيع والشراء من بين المتفائلين، تفوق أكثر بكثير مقارنة مع المتشائمين أثناء العمل في المخازن والشركات والتأمينات الصحية، وشركات التأمين على الحياة، وفي كل أنواع الاعمال التجارية الاخرى. ويفسر علماء النفس والمختصون، التقسيم الموجود بين البشر بالنسبة الى المتفائلين والمتشائمين الى وجود دوافع فكرية تصل الى العقل الباطن في فكر كل شخص، بعضها ايجابي وبعضها الآخر سلبي. وينهمك البعض في منع الدوافع السلبية من الدخول الى حياتهم، ويرحبون بقدر الامكان بالدوافع الايجابية. وأما البعض الآخر فيجد الاستعداد اللازم لإستقبال الدوافع السلبية التي تملأ حياتهم بالروح السلبية المحبطة والمقلقة والتي تلقي بهم في الفشل والاحباط. ولعل التربية البيتية هي المسؤول الاول، التي تصيب الاطفال بالصدمات العنيفة وتجعلهم يميلون الى التشاؤم. والعلاقات المتوترة بين الوالدين، تؤثر بصورة سلبية على مستقبل أولادهم. بالاضافة الى الكوارث الانسانية والطبيعية التي تصيب العائلة، وتطبع بصماتها في عقولهم وقلوبهم. وعلى العكس من هؤلاء الذين تحكمهم الروح الايجابية، ويعملون على تحقيق وإنجاز الكثير من الامور في حياتهم بسبب روحهم المرحة وتفائلهم الجيد. وتجدر بالاشارة على أن متعة الحياة تكمن في التجديد والتحديث النابع من دواخل البشر، وفي جعل النفس في منأي عن صعوبات الحياة. ولكن ليس في الحقيقة كل ما يتمناه المرء يُدركه، ولا يُمكن أن تسير الأمور على وتيرة واحدة دائما. فكما أن الحياة فيها حزن وألم وعذاب، فإن فيها أيضا راحة وفرح وسلام. وكما أن فيها عمل ونجاح وابداع، فيها أيضا فشل وسقوط وإنحطاط. ولذلك لابد إذن من ممارسة هذه العقلية التفاؤلية في الحياة اليومية والنظر اليها نظرة إيجابية كأن نقول لأنفسنا: ((شكرا لله على الصباح الجديد الذي ننتظره بفارغ الصبر))، ويؤثر هذا التعبير على نشاطنا ومشاعرنا، ويجعلنا مستعدين للعمل والبناء بدلا من لعن اليوم الجديد، كقول البعض في صباح كل يوم: ((سيكون يوما حارا أو باردا، متعبا أو مضجرا، طويلا أو قصيرا، ممطرا أو مشمسا))، مما يقضي على العزيمة، ويضعف الطاقات ويزيد الهموم والأحزان. والسؤال الذي قد يسأله البعض، هل التفاؤل جيّد دائما وفي كل الاحوال؟ والجواب في طبيعة الحال، لا يمكن أن يكون الانسان متفائلا في كل شىء وفي كل الأوقات. فالانسان المتفائل قد يقع في بعض المشاكل بسبب حسن نيته وثقته المُفرطة بنفسه أو بغيره، أو بسبب النظر الى الناس الأردياء الذين ينوون شرا بالمنضار الايجابي البناء. ولكن لابد من الحيطة والحذر، وخاصة في حالة اتخاذ القرارات. إذ يجب على المرء أن يكون حكيما حتى لا يورط نفسه في مشاكل مستعصية لا مخرج منها، كما يؤكد السيد المسيح في انجيله الكريم: ((كونوا حكماء كالحيّات وودعاء كالحمام)). فالتفاؤل إذن أمر حسن ومحمود، إذ يساعد الناس على النجاح، ويعينهم على التركيز في المستقبل، ويسهل لهم الامور، مهما كانت صعبة ومستحيلة. فهو طريق مضمون للحصول على السعادة الحقيقية، التي تدعونا الى تحقيقها بالطرق الصحيحة والغير الملتوية. معرفة الذات إنشغل الإنسان منذ قديم الزمان في محاولات جادة لفهم ذاته ومعرفة صفات وسمات شخصيته، وكيفية التحكم في نوازعه وسلوكه وتصرفاته. وأهتم أيضا في معرفة طبيعة وصفات الشخصيّات التي يتعامل معها، والإهتمام بتصرفاتها في المواقف المختلفة، والطباع الحقيقية التي تخفيها، والتحقيق فيما إذا كانت، سيئة أم حسنة؟ طيّبة أم شريرة؟. ولا شك أن للحياة هدفا ومعنىً بالرغم من كل المحن والحواجز التي تطرق بابنا وتعترض سبيلنا. إذ لا مفر من التجارب والاضطرابات ما دمنا نعيش على هذه البسيطة. ولهذا حاول الانسان منذ القدم أن يكتشف معنى الحياة ومغزاها الحقيقي، ومن ثم تحقيق أهدافه فيها. ومن الامور التي إحتاجها الانسان دوما لفهم ذاته، ولتحقيق ما يحتاج اليه هي الحاجات الروحية والنفسية والغريزية والبيولوجية والفسيولوجية. وتأتي الحاجات الروحية في القمة من ذلك بشهادة التاريخ والعلم والواقع. لذلك فلا بد من تحديد المحاور الأساسية في كيفية التفكير الدائم في الذات بنية التعرّف على القدرات الشخصية، وكيفية الاستفادة منها، وتوظيفها بصورة صحيحة. وكان السحر والتنجيم وقراءة الابراج والكف والفنجان وغيرها من الوسائل والطرق المختلفة، بمثابة الاجوبة لكثير من الاسئلة المُحيّرة، ولمعرفة المستقبل، وحل المشاكل اليومية. ولا يزال الانسان يستخدم بعض من هذه الطرق في الاوساط البشرية المختلفة. وأما الفلاسفة والمفكرون فلم يهتموا كثيرا في إستخدام الطرق الغير العلمية والمنافية للعقل، بل ركزوا على الأغلب في إستخدام المعرفة والعقل والمنطق والايمان والصلاة والتأمل والاستبصار كوسائل لمعرفة النفس ومعرفة الذات والآخرين. وهذا ما سوف نركز عليه في موضوعنا هذا، لأن العلم والمنطق مع الايمان هي من الركائز الاساسية الصحيحة والثابتة التي تعطي الانسان الطريق القويم في الوصول الى مبتغاه. ولما كانت غاية البشر السعادة والهناء، فإن السعي الجدي والأول للوصول الى هذا الهدف هو معرفة الذات. وقد إعتبر تحقيق كل ذلك من إحدى الركائز الأساسية لعيش الحياة الهنيئة والسعيدة. فالحياة السعيدة لدى الكثير من البشر إذن تتم في معرفة الذات، وتبدأ حقيقة بالعطاء. لأن في العطاء غبطة أكثر من الأخذ. كما يقول الرسول بولس. وتبدو الحياة عظيمة في هذا الاتجاه لوجود غرض سامي يعيش الانسان من أجله. وهي الغاية نفسها التي من أجلها حققها الله منذ البدء بتحقيقها للبشر:((أن يكون لكم حياة)). ولكن ما يؤسف له، وصول البعض الى مرحلة من السأم والملل من الحياة، بالرغم من جمال الحياة وعظمتها، وروعة الامور التي فيها، وذلك بسبب محدودية أفكارهم وإستمرارهم في نهج مقيّد واحد لا تغيير فيه. وقد تصل الامور بهؤلاء الناس في بعض الحالات الى التعاسة والشقاء، من دون سبيل الى تغيير نهجهم واسلوب حياتهم. إذ منهم من يصل الى درجة من الانانية، ويبدأ بعبادة نفسه عن طريق صنم صغير نسميه (الانا)، والذي يصعب التحرّر منه، ومن شره وسلطانه. وقد تصل الامور في البعض الآخر من الناس الى الوقوع تحت مخالب صنم آخر نسميه المال. ويضحي هذا النوع من البشر بكل شىء من أجل الحصول عليه، وتكديسه في بيوتهم وبنوكهم، ليجعلوا منه صاحب السلطان الأكبر في حياتهم. ولا يهمهم كثيرا كيفية الحصول عليه بقدر ما يهمهم الحصول عليه وإمتلاكه. وتصل بهم الحال في معظم الاحيان الى خدمتهم لأموالهم بدلا من أن تخدمهم أموالهم المُكدّسة. ولذلك يحذر السيد المسيح من الطمع والركض وراء المال والثروة في قوله: من الأيسر على الجمل من أن ينفذ في خرم الإبرة من أن يدخل الغني ملكوت السموات. ومن أجمل الأمثلة على ذلك ما جاء في انجيل لوقا 12/ 13 ـ 21 ، إذ يموت الرجل الغني في القصة قبل أن يبدأ في إستخدام ما جمعه في مخازنه الكبيرة. ولا يحارب المسيح في هذه القصة، الطموح الشخصي والتخطيط للمستقبل. ولكن ما يرفضه هو القلق من أجل المال، والسعي لكي لا تكون الحياة محصورة في الأموال، وفي حفظها وتكديسها فقط. فالحياة أثمن عطية قدمها الله للأنسان. وعليه يجب أن يعرف الانسان قيمتها، وأن يعيشها بكل معنى الكلمة. فهي بسرها وسحرها وجمالها، قصيرة بالنسبة لمن يفهم معناها ويصل الى مغزاها، ويتذوق عمقها، ويعرف مكنوناتها ومغزاها. ولكنها تبقى طويلة ومملة لمن لا يفهمها ولا يعرف السبب من وجوده هنا في هذه الحياة. ولذلك يجدر بالانسان أن لا يُضيّع الفرص المتاحة له في أمور تافهة لا معنى لها، بل عليه أن يستغلها وينظر اليها نظرة ايجابية. وأن يُمارس الفضائل الحسنة، وأن لا يخجل من استشارة من هو أكبر وأحكم منه في الامور المستقبلية، ليضمن حياة الرفعة والسموّ، ويحقق اليقضة العظمى له ولغيره. والغريب في الأمر أن الكثير من البشر يمرون في هذه الحياة، وهم لا يعرفون شيئا عن الوجود والحياة، ولا يهتمون سوى بالامور المعيشية والقضايا الطبيعية المحيطة بهم. وإن كان آباؤنا وأجدادنا معذورون في معيشتهم البسيطة سابقا، فلا عذر لنا ولأبناءنا اليوم في التقوقع في زوايا الأزقة، والإنغلاق على أنفسهم من كل صوب وإتجاه. وعلينا أن لا ننسى بأن الحياة قد لا توفر لنا ما ننتظره، فهي لا تلمع في كل جوانبها. وإن كانت تتميز اليوم بسرعتها، وتنوع مشاكلها، والأزمات النفسية العميقة التي تضرب الفرد والمجتمع يمينا ويسارا. إلا أنها مع ذلك تبدو رائعة وعظيمة في جوانب كثيرة ومن نواحي متعددة. وقد يصدف أن يفشل الانسان في الوصول الى أهدافه النبيلة، ولكن عليه في هذه الحالة أن يتعامل مع الإمور بهدوء وبروحية قوية وإيمان عميق. ولكن كثيرا ما يتشاكى الناس قائلين بأن الحياة ليست عادلة، وبأن البشر لا يحصلون على الفرص نفسها. ولكنهم ينسون بأن عليهم خلق الفرص وإيجادها، إذ لا تهبط عليهم الفرص من السماء صدفة. فالفرص كثيرة لمن يتعب ويجد ويبحث عنها. ولعل من أعذب وأجمل الفرص، هي التي يضحي المرء من أجلها ليلا ونهاراً. ولكن في الناس أنواع من البشر يختلفون في المواهب وفي محاولة إقتناءهم للفرص، إذ منهم من ينضج ويشق طريقه في الحياة ليستقر نفسيا وفكريا. ومنهم من يحتاج الى بذل الجهود المضاعفة لكي يصل الى هذا السموّ. ومنهم من يختار البقاء في دائرته الضيقة، رافضا كل انواع التغيير والتطور، فيبقى في مؤخرة المسيرة. ومنهم من يختار العيش ببساطة وسذاجة ويتنقل من الحياة، دون أن يترك أية آثار بارزة. والأخطر من هؤلاء كلهم المتقوقعين والرافضين للتحديث والتجديد، الذين لا يعلمون ولا يعلمون أنهم لا يعلمون. وعلى هؤلاء تجنب الجمود والتقوقع في الدوائر الضيقة التي هم فيها، والتخلص من روح الخوف من الفشل، وحذفه نهائيا من قواميسهم للحصول على كل ما يريدون في الحياة من أماني: كالسعادة والحب والنجاح والثروة والنفوذ والشعبية والشهرة. ولكن بأصول ومعقولية، ومن دون حيل وتطرّف وعنجهية. وجدير بالاشارة أن هناك برامج روحية تساعد على التغيير والسموّ في الحياة. وينصح المختصون بتخصيص فترة كل يوم للتامل، ويفضل أن تكون في مكان هادىء بعيدا عن الضوضاء والصخب التي تمنع الولوج الى داخل النفس العميقة. وقد جاء في كتاب (التأمل حضور لله وللذات) للكاتب (برنارد بونفان) ما يثبت ما ذهبنا اليه وذلك عن الاختلاء كفرع من فروع التأمل، إذ يقول: ((إذا ما كانت الحياة الباطنية هي حياة في الداخل، فالاختلاء هو بابها اللازم والضروري. ومن يختلي، ينسحب من التبعثر اليومي، فيجمع نفسه ويوجه انتباهه نحو ذاك الذي يعنينا حقا. وعندما ندخل في الصمت تصبح آلاف الاصوات في الحياة اليومية، واضحة. ومن يختلي يلاحظ الضجيج الذي في داخله ومن حوله، ولكنه لا يوجه الى ذلك اهتماماً. بل يترك الامور وشأنها، ففي نظره هو بين يدي الله الخالق، وأمام عنايته الربانية فقط)). فالتأمل غايته السموّ بالعقل والروح، ويساعد الإنسان للوصول الى حالة من السموّ الروحي والصفاء الذهني بعيدا عن التأثيرات النفسيّة والعصبية اليومية لكي يستطيع الانسان من خلاله السيطرة على المشاعر والأحاسيس الداخلية في الأعماق، وللتخلص من الضغوطات العصبية والنفسية. ولعل القدرة والقابلية على نفوذ الانسان الى دواخله لمعرفة نفسه، وللسيطرة على أحاسيسه ومشاعره، تعتبر من أهم الامور في حياة كل فرد، لكي يكون في مقدوره فهم الحياة وفهم الآخرين ورؤية الطريق الذي يسلكه في الحياة. إذ كما ينظر الانسان كل يوم في المرآة، وينظر الى وجهه ليزيل آثار النوم عنه، وينظف أسنانه ليزيل آثار الأكل العالقة عليها، ويغسل جسمه ليزيل آثار التعب والشقاء عنه. هكذا بالنسبة الى دواخله، إذ يحتاج الى رؤية نفسه من الداخل، والى تنقيتها من الشوائب العالقة فيها. لأن المعرفة للذات وللآخر، هي أشياء مقدسة يرغبها الانسان، ويعشقها منذ نعومة أظفاره. فإذ عرف الانسان ذاته، يكون في مقدوره معرفة الاخرين، ومعرفة نواياهم والتمييز بين الخير والشر والنور والظلمة بيسر وسهولة. لم يكن هذا الأمر غريبا على الانسان الذي كان دائم السؤال عن نفسه ومكنوناته بمختلف الطرق والوسائل، وبصورة دائمة. ولكنه يعتبر غريبا على الكائنات الحيّة الاخرى التي حسمت مسارها، وسَعتْ في أهدافها بصورة واضحة، وتَمثلت في الملجأ والمأكل والمعشر الجنسي للإستمرار في الحياة. إذ لم تحدث ظاهرة التطور لأي كائن حيّ كما حدث للانسان. أي لم تحدث أية تغييرات تصل الى ما وصل اليه الانسان. ويجيب الكتاب المقدس عن ذلك في قوله بأن الله خلق الكائنات الحيّة لتعيش حياة حسيّة غريزية، بينما الانسان خلقه على صورته ومثاله، وجعل فيه ملكة الخلق والإبداع، وأعطاه عالما غير مكتمل، حتى يُشارك في إكماله، ويعمل على تحسينه وتجميله واتمام ما بدأه، وأعطاه كذلك المسؤولية في ادارته وتوجيهه توجيها صحيحا كما جاء في سفر التكوين: ((واملأوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا على أسماك البحر وطيور السماء وكل حيوان يدب على الأرض)) تك 1/28 . فالانسان إذن ليس لعبة مسيّرة يحركها الله كيفما يشاء، بل هو مخلوق مخيّر خلقه ليكون سيّدا حرّا، وأعطاه الفرصة لكي يعمل كل ما في وسعه وكل ما عليه. وما نراه اليوم من الاكتشافات والاختراعات التي أبدع فيها الانسان هي أكبر دليل على خصوصية الانسان وعظمته دون الكائنات الحيّة الاخرى. ولذلك فالانسان يمر في مراحل مختلفة من النمو والتطور، ويبدأ عقله بالنمو مع جسمه ومداركه كل يوم. الى أن يصل الى مرحلة التغيير والنضوج، والتمييز بين ما يُريد وما لا يُريد، وبين ما هو صح وما هو خطا، وما هو شرير وما هو صالح. ولكن هناك أنماطا وصفاة سلبية تلزمه منذ صغره وحتى يوم وفاته، والتي يصعب تغييرها بسهولة، ومن الممكن تغييرها بشىء من التحديّ والمثابرة المستمرة، وبإتخاذ خطوات مشجعة تساعد على النضوج والاستقرار النفسيّ والروحيّ. وبالاستفادة من الخبرات السابقة وإختيار الفرص الجيدة والانطلاق بها في بناء الذات وتثبيت الأركان في خدمة الفرد والمجتمع والانسانية جمعاء. ففي رحلة الحياة الطويلة والمليئة بالتجارب والمطبات، يحتاج الانسان الى تقوية ثقته في نفسه، وإبعاد الشك والحيّرة والإرتباك من حياته، وإزالة الغموض والابهام في طريقه، والتركيز على أهدافه المنشودة للوصول الى معرف الذات، والتمتع بالحياة السعيدة التي هي من أكمل الاهداف وأجملها. وقد يسأل الانسان السؤال المحيّر والمُهم دائما: الى متى يستمر البحث؟ وما هي الحقيقة؟ والى متى يستقر المرء فكره ويطمئن باله وتبتهج روحه؟. قد يكون الجواب عندما يصل الى الحقيقة، ولكن المرء يسأل السؤل نفسه الذي سأله بيلاطس البنطي للمسيح قائلا: وما هي الحقيقة؟. ولكننا نترك الجواب بدورنا للقراء لكي يبحثوا ويستنبطوا بطريقتهم الخاصة إحتراما للكرامة البشرية ولقابلياتهم الفكرية والعقلية. لأنه إذا عرف الانسان الحقيقة فإنه يستطيع أن يعرف نفسه ومن حواليه، ويكون بمقدوره معرفة اتجاهه ومسيرته في الوجود. ولهذا تعتبر مسألة معرفة الحق جزء من مسألة معرفة الذات للبلوغ الى حالة النضوج المطلوبة كما صرّح المسيح لليهود: ((إن ثبتم في كلامي كنتم حقا تلاميذي، وتعرفون الحق والحق يُحرركم)) يوحنا 8 / 32 .
الثقة بالنفس استطاع الانسان بمرور الزمن التحرر تدريجيا من الغرائز التي كبلته بفضل التطور الفكري والثقافي والتقني الذي عرف به عبر القرون. وتظهر البحوثات العلمية بأن الانسان هو الكائن الوحيد الذي سيطر وبنجاح على غرائزه من الاكل والشرب والنوم والجنس، فعدلها وكيفها، مع غرائز أخرى ضبطها أو دفعها بإتجاه البناء والعمران كالغضب والانانية والطمع. ويعيش الانسان في المجتمعات الحديثة وسط أمواج عاتية من الإغراءات المادية والمغريات الحسية والجنسية التي تقوده بعيدا عن الروحانيات والاخلاقيات. وتلعب مسألة الثقة بالنفس واكتساب الخبرات الحياتية، دورا مهما في كيفية العيش، وكيفية الانسجام مع الظروف الحياتية الجديدة. ولذلك يحتاج الانسان الى أن يكون على وعي تام بذاته، وان يكون نشيطا ومنتجا ومبدعا في أعماله، ومعطاءً ومحباً في خدمة الآخرين، وخدمة المجتمع الذي يعيش فيه، من خلال التواصل بين الناس والثقة المتبادلة بينهم. ولكن النجاح قد لا يكون من نصيب الجميع، إذ أن الكثير من البشر يصطدمون كل يوم بصدمات عنيفة واهتزازات متوالية، تخلق فيهم إحساسا بالقصور عن أداء العمل، ينتهي بهم الحال إلى التخاذل والفشل المستمر. فإذا كان التواصل والاتصال واضحا ودقيقا، والثقة عالية وقوية، فإن الامور تسير على أحسن ما يرام، والنتائج تكون متفائلة ومريحة. ولكن إذا إنعدمت الثقة أثناء العمل وخاصة بين العامل ورب العمل أو بين العمال أنفسهم، فالعمل يكون صعبا ومستحيلا، والاجواء تكون مقلقة ومهزوزة. فالحياة نفسها تصبح مستحيلة فيما إذا عشنا في عالم ليس به من يمكن الثقة فيه. إذ ينقلب العالم في مثل هذه الظروف الى حالة من الفوضى وعدم الانضباط، ونكون مثل الذي يسير من دون هدف في أرض مظلمة أو في إتجاه غامض. فالثقة إذن أمر جوهري لا بد منها في حياة كل واحد منا. ومن معانيها الكثيرة والمهمة الاعتماد على الشخص الذي نتعامل معه والمحافظة على الوعود التي يطلقها، بالاضافة الى الأمانة والالتزام والاستقامة في التعامل اليومي. وأما الشكوك وعدم الثقة فهي أمور لاحقة، يتعلمها الناس بعد اصطدامهم بالواقع ومواجهتهم في مواقف الحياة المختلفة والمريرة. إذ أن يزرع الفشل الضغينة والقلق في النفوس ولكن من المفروض على الفرد الذي يقع في المواقف الفاشلة أن يجعل منها خبرة تدفع به للأمام في التجارب المستقبلية الاخرى. ولطالما إعتبر الناس مسألة النكث بالوعود وعدم الوفاء بها من الامور المدمرة للثقة، إذ لا يمكن بناء الثقة وإنماءها من دون الوفاء بالوعود التي يقطعها المرء على نفسه. فالمحافظة على الوعود أساس مهم في التعامل البشري، إلا إذا كان من الصعب على الانسان الحفاظ عليها أو من غير الحكمة القيام بذلك. ولذلك على الناس الاهتمام بإنتقاء الكلمات والمفردات المناسبة في التعامل مع بعضهم البعض أي أن يكونوا على دراية ومعرفة تامة بالامور، وعلى إستعداد جيّد في قبول النتائج قبل استخدامهم لكلمة (وعد) أو (أعد) أو (أعدكم). ومن التعاريف العديدة عن الثقة بالنفس، التعريف الشائع والمنتشر لدى الاوساط الشعبية وهو: أن الثقة إعتماد على شخص آخر بخصوص أمر ما بفعل إرادي وإختياري صرف. وهو إختيار يقوم به الشخص من دون جبر ولا إكراه. فالعلاقات البشرية لا بد أن تشتمل على ثقة متبادلة، وإلا فإن الحياة نفسها تصبح فارغة ومن دون معنى. وتظهر البذرة الاولى للثقة في العائلة وخاصة بين الرجل والمرأة ومن ثم بين الآباء والابناء والمراهقين منهم في الخصوص. وتتبين نتائجها بعد ذلك بين الأبناء أنفسهم وفي المجتمع الذي يعيشون فيه، إذ يجب أن يكونوا جديرين بالثقة، وبتحمل المسؤوليات المتزايدة بحرص وحكمة ودراية جيدة. ومن التعاريف الاخرى للثقة والتي تعتبر من أشملها وأدقها هي: ان الثقة إيمان الانسان بقدراته وقابلياته وامكانياته. أو هي شيء نفسي جوهري في شخصية كل فرد بشري، يفيد وجودها لتقوية العزيمة والارادة. أو هي التمكن من شيء وضبطه والإحكام عليه والإطمئنان إليه والإنتفاع منه وإستخدامه إستخداما صحيحا. أو هي التحكم على الجسم والفكر والاحساس والسلوك والعالم الخارجي، وتوقع النجاح في جميع الامور الحياتية من دون خوف ولا خجل وترك التأثير في الآخرين، بإصرار واستمرار والشعور بالتفاهم وتبادل الأفكار بينهم. وأما في التطبيقات العملية فالثقة تعني الاعتماد أي أن يعتمد الفرد على الشخص ويتكل عليه سواء في العمل أو في تكليفه لمهمة ما. وهذا يعني أن الثقة هي الخطوة الاولى نحو النمو والتطور والانجاز، أو هي الخطوة الصحيحة نحو السعادة والنجاح. وأما في خصوص الثبات على المبدأ والتقلب المزاجي، بالاضافة الى الامانة والالتزام والاستقامة والصدق، فهي كلها أمور تساعد على زيادة الروابط بين شخص وآخر، وتعمل على الإستعانة به والإطمئنان اليه سواء في العمل أو في الحياة اليومية والاعتيادية. وجدير بالاشارة أن الثقة لا تولد مع الانسان بل يكتسبها عادة من خلال التربية العائلية والتجارب الحياتية، ومن خلال المحيط الذي يعيش فيه. وتكمن ضرورتها في أنها تساعد في اقامة العلاقات الجيدة والناجحة بين الفرد وبين الذين يتعامل معهم. وتشجع على التآلف والانسجام، وتقلل من مشاعر الخوف والخجل، وتزيل من امكانية المواجهة أثناء الخلافات والتصادمات والمجازفات. وتختلف الثقة بالنفس من شخص الى آخر، ومن محيط الى ثان. فمن تكون ثقته عالية في التكلم مثلا قد لا يعني بالضرورة أن تكون ثقته عالية في الطبخ أو السياقة أو غيرها من الامور. وأما مسألة تحقيق الاهداف فهي أيضا من المسائل المتعلقة بالثقة بالنفس. إذ أن الفرد الذي تكون لديه ثقة عالية في موضوع معين، قد لا يكون له الثقة نفسها في موضوع آخر. ويفضل الناس عادة التعامل مع الشخص الواثق بنفسه، أكثر من الشخص الغير الواثق من نفسه. لأن الناس عادة يتفائلون بالتعامل مع الانسان الناجح في عمله والمعتز بشخصيته، بإعتباره المثل والقدوة لهم في حياتهم المستقبلية أكثر من الفاشل الذي يندب حظه العاثر. ومن الامور المهمة الاخرى في مسألة الثقة بالنفس، هي القدرة على الصمود والمواجهة في الحالات الحرجة كالمواقف التي تحتاج الى المواجهة مع الأفراد أو مع أرباب العمل. وكذلك القدرة في مواجهة التجارب والمشاكل والأحداث والفعاليات اليومية. إذ كما أن الفرد الذي يبني بيته على الصخر ولا يتزعزع بالأعاصير والأمواج، فكذلك الشعب الذي يختار لأدارته حكومة حكيمة وعاقلة. فإنه يبني أساسا متينا للبلد وللشعب من دون أن تتزعزع أساساته، ومن دون أن تتدهور أوضاعه. وأما الفرد الأناني الذي لا تهمه أمور العائلة والمجتمع والبلد الذي يعيش فيه، وكذلك الحكومة التي لا تهمها سوى ملء جيوبها بالدولارات وإقامة المشاريع العائلية الخاصة، فلا يكون لذلك الفرد الأناني، ولا لذلك البلد السائب، مستقبل مشرق. إذ أن أساساته تكون موضوعة على الرمل، ويتهدم ويخرب بعاصفة خفيفة أو بزلزال مهما كانت قوته خفيفة، لأن أساساته تكون مبنية على الرمل، ويكون مثل البيت المبني من دون أبواب ونوافذ، معرضا للعابثين والسراق واللصوص. فالثقة واجبة أيضا بين الشعب وقيادته وبين الاحزاب وأتباعها. والويل لحكومة لا يثق بها الشعب، ولا تجد من يعير أهمية لقراراتها، كما يحدث في الكثير من البلدان النامية التي تحكمها حكومات إستبدادية لم تنتخبها شعوبها المحكوم عليها بالسكوت المطبق. وما ينطبق على القائد والسياسي ينطبق أيضا على الشخص العادي، إذ أن الواثق من نفسه يكون عادة شجاعا ومطمئنا من دون تردد. وقادرا على تحمل الصعوبات والمشاكل المختلفة، ومؤهلا للتعامل الصريح والحكيم مع المشاكل التي يتعرض لها. وأما الذي ليس له ثقة بنفسه، يبدأ في عمل، ومن ثم يتردد ويتركه، ويبدأ في غيره، ثم يهمله وينتهي به الحال الى ضياع وقته وتبديد جهده. وكثيراً ما يمشي في قضية، ويتوقف عاجزاً عن إكمالها ويصيبه الإحباط، لأنه لا يستطيع رؤية طريقه والإتجاه الذي يسلكه، فهو يظل يتجاهل الغاية الحقيقية من وجوده. ولعل من الامور التي تفيد في بناء الثقة بالنفس هي الشجاعة وعدم الخوف من النقد الاجتماعى والمثابرة والسعي الجدي في تحقيق الاهداف الصعبة، ومحاولة لعب دور الشخص الاول في الامور الحياتية، والتأكيد على المظهر والنظافة الشخصية، وطريقة ارتداء الملابس النظيفه والانيقة مع الإيمان الذي يعد من الركائز الاساسية في بناء الثقة بالنفس، ويعطي القناعة في الحياة، ويشجع على العمل، ويخلق الطموح، ويدفع الى التقدم والتطور في كل شيء. ولذلك تجد الذين لا يؤمنون يقضون عمرهم في كيفية تكديس الأموال، وإن نجحوا دنيويا، ولكنهم يفشلون في الحصول على الغاية التي يركضون وراءها، وفي تحقيق السعادة التي ينشدونها كما ينشدها الجميع. ومن الامور المهمة الاخرى التي تلعب دورا في تنمية الثقة بالنفس هي العمل والاجتهاد. فالعمل يعزز القدرة على تحقيق الهدف في الحياة، ويعطي القابلية الكبيرة في إنجاز المهمات الموكولة الى الشخص العامل. إذ يستطيع العامل الواثق من نفسه تحقيق الإنجازات أكثر بكثير من العامل الغير الواثق من نفسه، وذلك بسبب تسلحه بالإيمان، وإطمئنانه في كل ما يقوم به، وقدرته على طرد أفكار الخوف والهزيمة والفشل، بعكس الانسان الغير المؤمن الذي يغلبه الخوف ولا يتسلح بالأمل والرجاء. ولا ننسى ما للرياضة من دور في تنمية الثقة في النفس، وفي جعل الانسان مُحبا للحياة والنشاط والعمل الجدي. وتثبت البحوثات العلمية بأن الرياضة لا تنحصر فوائدها في الحصول على الرشاقة فقط، بل تتعدى فوائدها لتشمل العقل والجسم والنفس. إذ تساهم في زيادة الهدوء والسعادة والصحة الجيدة. بالاضافة الى دورها الفعال في وضع الابتسامة على الوجوه الكئيبة، ومساعدتها في التخلص من بعض الامراض النفسية. ولابد للإنتباه على أن الشعور بالثقة بالنفس يتوقف على نوعية الافكار التي تحتل العقل، فإذا فكر الانسان في الهزيمة فهو يكون عرضة لأن يُهزم. وإذا فكر في النجاح فهو يستطيع أن ينمي طاقة جبارة يتغلب بها على الصعوبات والمشاكل، فيكون ناجحا في أمور حياته. فالانسان يستطيع إذن أن يصنع مستقبله، وفي الغالب هو الذي يسبب في نجاحه أو فشله. ومن الامثلة الحياتية التي تشبه كثيرا كيفية اقتناء الانسان الثقة في النفس هي السباحة، إذ يضطرب الانسان في أول درس يتعلمه في السباحة، ويجدها من أصعب الامور، ومن ثمّ يتعلم تدريجيا في كيفية الطواف على الماء. وكلما أزدادت شجاعته، كلما تعلم أكثر، وزادت ثقته بنفسه، ويجدها بعد ذلك من أسهل الامور وأبسطها. وينطبق الشيء نفسه بالنسبة الى المرافعة في قاعات المحكمة، حيث يرافع المحامي القضايا القانونية التي يجدها صعبة في اليوم الاول. ومن ثمّ تزداد ثقته بنفسه كلما مارس مهنته أكثر فأكثر. وهكذا بالنسبة الى الأعمال الاخرى، التي تتحول إلى تجربة نافعة ومتكاملة، وذلك بالمثابرة والممارسة المستمرة ومعرفة نقاط الضعف وفي صوغ القضايا والامور بطريقة أحسن من قبل. وأما الشعور بالنقص أو فقدان الثقة بالنفس فإنه يؤدي في حقيقة الامر الى فقدان الاتزان، وفقدان السلوك الداخلي والخارجي الذي ينتهجه الشخص البشري، مما يصل به إلى مرحلة مرعبة من الإهتزاز في شخصيته. وقد يكون هذا الشعور مُدمّرا لأحلامه ومحطماً لطموحاته. وسرعان ما يتحول الانسان الذي يمر في هذا المجال من حالة الفرح والسعادة إلي حالة من الحزن والتعاسة، ويفقد بالتالي كل شيء جميل وممتع في حياته. وليس غريبا أن لا يكون مثل هذا النوع من البشر ناجحا في أي شىء يعمله، بعكس الواثق من نفسه الذي ينجح دائما في تحقيق نفسه في كل الامور بسبب مثابرته المستمرة.
الصداقة يُعدّ الانسان كائنا اجتماعيا بطبعه، ولا يستطيع أن يستغني عن الآخرين في حياته اليومية، إذ يتمتع بقدرات عظيمة في تكوين الصداقات لغرض استمرار العلاقات الاجتماعية، والتمتع بحياة نفسية وجسمية جيّدة، وذات معنى. ولذلك نجده قد انشغل تفكيره الانساني منذ بداية نشوء الحضارات والثقافات العالمية، بتكوين الصداقات، وبشرح معناها، والكتابة عنها في قصص وملاحم شعرية كثيرة. وخير مثال على ذلك (ملحمة كلكامش)، وهي المثال الشعري الرائع الذي يُجسّد معنى التضحية الحقيقية التي يُقدمها كل صديق لصديقه. إذ حزن كلكامش على الأسى الغالب على قلب صديقه انكيدو. فواساه كلكلمش قائلا: لماذا إغرورقت عيناك بالدموع يا صديقي العزيز، فأجاب انكيدو وقال: اشعر بالعبرات تخنقني يا صديقي، ولقد تراخى ساعداي واستحالت قوتي وهنا وضعفاً... فقال كلكامش لنقتل معا خمبابا الرهيب، مصدر جميع الشرور الذي يعيش في الغابات، لكي نزيل الشر من العالم. وتردد انكيدو بسبب ضعف جسمه، وشعوره بأنه في النزع الأخير من حياته. فقرّر كلكامش الذهاب بعيدا للبحث عن ثمرة الخلود لكي لا يذوق صديقه طعم الموت أبدا ويكون له الخلود. فوجد بعد الشقاء والعناء ثمرة الخلود صدفة في المياه العميقة، ووضعها جانبا الى أن يغتسل من الوحل والطين، فأتت الحيّة وأكلت الثمرة وتغير جلدها، فسميت بالحيّة. ورجع كلكامش حزينا، خائبا بعد كل هذا الجهد والعناء، وعلم بأن الموت واجب وحق للجميع من دون استثناء. وهناك شواهد تاريخية أخرى على طول تاريخ البشرية عن الصداقة والأصدقاء. حيث يزخر التاريخ بقصص عن العلاقات الجيّدة والسيئة بين الأصدقاء من الامراء والملوك، وبين الدول والشعوب. ويزخر التاريخ بعدد من الشواهد التاريخية في خيانة بعضهم، والدور المشرّف للبعض الآخر في إبعاد الشر، وتجنب ويلات الحروب والنزاعات الدولية، وفي إرساء السلم بين الدول والشعوب المتحاربة. لأنه من المفروض أن تخفف الصداقة من كاهل الشعوب والدول، وتزيل عنهم قلق العداء والحروب، وتقضي على المنافسة الغير العادلة بينهم في سباق التسلح، وتضيف طعما حلوا في نشر المحبة والسلام التي تعد من الاسس المهمّة للسعادة التي تنشدها الشعوب والامم في العالم أجمع. ويزخر الكتاب المقدس بشواهد كثيرة عن الصداقة والأصدقاء الذين كانوا يعتمدون على بعضهم البعض، مثل صداقة الله لأبينا إبراهيم الذي سُمي خليل الله. وصداقة يسوع لتلاميذه كما جاء في إنجيل يوحنا:((ما من حُب أعظم من هذا أن يُضحي الإنسان بنفسه في سبـيل أصدقائه. وأنتم أصدقائي إذا عملتم بما أوصيكم به. أنا لا أدعوكم عبـيدًا بعد الآن، لأن العبد لا يعرف ما يعمل سيده، بل أدعوكم أصدقائي، لأني أخبرتكم بكل ما سمعته من أبـي)). يوحنا 15: 13 ـ 15. فالخطاب موجه من خلال التلاميذ لكل البشر، إذ يدعو السيد المسيح البشرية جمعاء للدخول ضمن الصداقة المقدسة التي ترتكز على المحبة النزيهة والخالية من المصالح الزمنية المؤقتة. وتعرف القواميس والمجامع اللغوية المختلفة الصداقة بأنها مشتقة من الصدق والمصداقية. أو هي الحياة في الجماعة، إذ لا يمكن للفرد أن يكون صديق نفسه أو بالأحرى لا يستطيع أن يعيش لوحده. والصديق هو الصدوق والمصادق، وجمعه صدقان وأصدقاء. وقد يقال للواحد صديق، وهو من يصدقك في موّدته، وتصدقه في مودتك، ويُعرف بالمصارحة والألفة والثقة المتبادلة. وتعرف الصداقة أيضا: بأنها شعور شفاف بين روحين، يشعر كل من الطرفين بأنه يعيش في روح الآخر، كما أنه يرحب بروح صديقه ويدعوه الى بيت قلبه الرحب. وهي التعبير الصادق عن الروح التعاونية بين أثنين أو أكثر من البشر، أو إحدى الحاجات الضرورية للحياة لانه لا يقدر ان يعيش فرد ما من دون صداقة أو أصدقاء مهما توفرت له من الخيرات. وأما الصديق: فهو مرآة صديقه والملاذ الذي يلجأ اليه في وقت الشدة والضيق، والدواء النفسي لكثير من المشاكل. ومن الممكن اعتباره الملجأ الحصين الذي يلجأ اليه في جميع الأوقات ومن دون موعد مسبق. وتصبح الأوقات والأماكن مرغوبة ومحبوبة بسببه. وهو يضفي نعمة وبهجة في الأماكن التي يكون فيها، ولكن ليس كل من يجالسه ويعاشره لفترات طويلة صديق حميم بالضرورة، إذ لا بد من طول العشرة والتجربة والتضحية التي تكشف عن خفايا الشخص. وليس كل من يقدم هدية ما أو خدمة مجانية هو صديق بالضرورة، وذلك لأن العطاء ولاسيّما العطاء المجاني يوثق القرابة ويقوي العلاقات، ويُزيد عُرى الصداقة وينميّها. لطالما إحتاج الانسان الى هذا النوع من الاصدقاء الحقيقيين الذين يتحدون في الأذواق، ويشتركون في المسرّات والأحزان، والذين يجب الإتكال عليهم في الامور الحساسة بثقة ومن دون خوف. فالصديق الحقيقي هو أن يسعى في تحقيق أحلام صديقه. فعلى الفرد الذي ينوي أن يكون له صديق أن لا يتردد في السير أكثر من نصف الطريق نحو الآخر الذي يريد صداقته، وأن لا يتردد في إلقاء التحية والمبادرة بالكلام الجميل والصادق. ومن الصفات التي يجب توفرها بين الاصدقاء: الوداعة والصبر والسماحة والغفران، إذا تطلب الامر في حالة وجود سوء الفهم أو حتى سوء النية لأمر ما. إذ أنه من الضروري جدا أن تغمض عينيك أحيانا عن الغلطات غير المقصودة من طرف الصديق العزيز، أو أن تتغاضى عن العيوب والزلات غير المقصودة. وإذا أقدمت على تقديم النصيحة، وحاولت الإصلاح، فإفعل ذلك بحذر وبصورة غير مباشرة تجنبا من التجريح والاساءة. ولعله من الامور الضرورية للحفاظ على الصداقة وديمومتها: ستر العيوب وكتمان السر، لأن عدم الأمانة يؤثر في صميم جوهر الانسان، ويجعله غير جدير بالصداقة الحقيقية. والنزاهة في العلاقات والثقة المتبادلة والتي هي المفتاح المهم في بناء الأسس الاولية للصداقة الحقيقية بعيدا عن الأفكار السلبية. والتعامل من منطلق الحب والعطاء والصدق والصفاء، لأن الصداقة من دون حب تكون هشة وتزول مع الزمن وكذلك الصداقة من دون صدق وإخلاص، فالصديق الحقيقي يجب أن يكون حاضرا للدفاع عن صديقه وبالوقوف معه في وقت الضيق. ولابد من التنويه أيضا على أن الصداقة تسمو على الهفوات والزلات التافهة. وقد يفقد صديق ثقته بصديقه الحميم، لاسيما إذا كان الجرح بسبب زلة أو خطأ مقصود. ولكن التصرف بهذا الشكل يُعد غدرا وغطرسة، لأنه لا يمكن أن ينسى المرء كل الحسنات والمآثر الطيّبة، ويصم أذنيه عن الحقيقة التي تبقى ناصعة البياض. والطريق الأسلم والأصوب في طبيعة الحال هي الغفران والمصالحة. ولذلك تعلم الأديان في عقائدها ضرورة الغفران لصحة الانسان وسعادته. إذ كما صالحنا الله بتضحية ابنه الوحيد من أجلنا بالرغم من تجريحنا المستمر له عبر التاريخ وعدم طاعتنا له، فكيف يصعب علينا مصالحة بعضنا بعضنا ومن دون شروط مسبقة. فالصداقة إذن ضرورية ومصيرية بالنسبة الى البشر في كل مكان وزمان. فهي تخلق شعورا بالبهجة والاستمتاع بطعم الحياة والقدرة في استمالة الناس بعضهم لبعض. ولا يُقدّر المرء عظمة الصداقة بالدرس أو بالكلمات، وإنما بالخبرة والممارسة. ولذلك يصف البعض الصداقة بأنها علاقة تكاملية بين الاشخاص أو الأفراد أو العوائل، إذ يغتني كل شخص بالآخر من خلالها. ويُشترط فيها الانسجام والتناغم اللذين لا يساويهما شيء، وذلك لخق وحدة جذرية تجعل المرء واحدا مع أخيه الانسان. فالحياة نفسها مجرّد محاولة تكاملية من الاخذ والعطاء والوحدة مع الآخر. ويظهر ذلك في حالة تطبيق مبدأ(الواحد من أجل الكل، والكل من أجل الواحد). ولطالما طبق هذا المبدأ، مختلف أنواع البشر سواء من الاخيار أو من الاشرار، في فعالياتهم الجيدة أو الرديئة، وأعمالهم الخيرة أو الشريرة. وليس من الشرط إتفاق الأصدقاء فكريا وثقافيا، إذ ليس من الضروري أن يكون بينهم التوافق الفكري الكامل. إذ قد يختلفان في المواقف السياسية والعلمية والدينية والممارسات الرياضية والفنية ويبقون مع ذلك أصدقاء. فالصداقة صورة راقية من صور التفاعلات الاجتماعية بين أفراد المجتمع، لكونها حاجة انسانية وضرورية في مفهومها الحقيقي والخالي من المصالح والمطامع الزمنية والدنيوية. وهي أيضا ملمح إنساني مدني، إذ لا يتصور انعقاد الصداقة في مملكة الحيوان ولا بين الحيوان والإنسان ولا بين الإنسان والأشياء الجامدة. ويؤكد معظم العلماء والباحثين المختصين على ان الصداقة حاجة مهمّة وضرورية في الحياة، إذ لا يقدر أحد أن يعيش من دون أصدقاء، مهما توافرت الملذات والامكانيّات. وتؤكد تلك البحوث والدراسات، بأن المرء يتمكن من معرفة السبل الصحيحة في كيفية انتقاء الأصدقاء بعناية فائقة الأهمية. ومن هذا المنطلق قد يخطر في فكر شخص بشري السؤال البسيط التالي: هل أستطيع العيش من دون أصدقاء؟، ولماذا يا ترى أحتاج الى وجودهم معي؟. لا بد من التأكيد على أن الانسان الذي يعيش من دون أصدقاء، يرتكب في الحقيقة حماقة فضيعة في حق نفسه. لأن الحياة من دون أصدقاء تكون صعبة ومستحيلة. فالحياة ليست للعزلة بل للرفقة، وليست للوحدة والانعزال، بل للألفة والشركة. لأنه لو عشنا في الوفرة والرفاهية، وامتلكنا قصورا فخمة وممتلكات باهضة الثمن، وليس لدينا أصدقاء نثق بهم ونشاركهم أفكارنا وميولنا وطموحاتنا، فإننا نفتقد حقيقة الى الوسيلة المهمة للسعادة الحقيقية ونكون من أتعس الناس. وقد ثبت لدى معظم العلماء النفسانيين بأن الشخص الذي يعيش وحيدا وبدون أصدقاء حقيقيين في موقع عمله، يُحقق فرصة أقل للإحساس بالإنتماء الوظيفي والعائلي والوطني من الشخص الذي له أصدقاء حقيقيون. وقد ثبت أيضا بأن الذين يحضون بثلاثة أو أربعة أصدقاء أو أكثر قد يكونون أكثر سعادة من الذين لهم أصدقاء أقل. ونستثني من هذا المفهوم، إبتلاء البعض بنوع سيىء من الأصدقاء الذين يقودون أصدقائهم الى المشاكل والمعاناة الكثيرة التي لا يتمناها أي شخص في حياته. وقد يحدث بأن يفضل البعض العزلة، بسبب فقدان الثقة بالآخرين أو بسبب حالة نفسية يجب علاجها، فهذه حالة سيئة لا يدفع ثمنها الا الذي ينعزل وحيدا فيحكم على نفسه بالحزن والأسى. ولعلنا نسأل؟ كيف يمكننا ان نجد في عالمنا المغشوش في معظم جوانبه، الصداقة الحقيقية أو الأصدقاء الحقيقيين الصادقين؟. والجواب في طبيعة الحال هو أن التجربة خير برهان. فالانسان لا يعرف الناس إلا بعد أن يختلط بهم. ولا يستطيع معرفتهم، إلا بعد أن يعرف جوانب القوّة والضعف في تكوينهم الشخصي أو البيولوجي أو النفسي، وحينئذ يستطيع أن يكتشف الجوانب نفسها في شخصيته من خلال التعرف عليهم وعلى شخصياتهم. ولذلك يؤكد علماء التربية وعلم النفس بأن الصداقة تبدأ في الحقيقة في العائلة. فعلى الآباء والأمهات الإنتباه بصورة جدية على أهمية العلاقات الاجتماعية في اسرهم، وبالتركيز على وجود الصداقات، للإنطلاق منها الى خارج العائلة لغرض توسيع دائرتها. وخير طريقة للقيام بذلك هي تشجيع الأولاد على التسجيل في النوادي الرياضية والنشاطات الدينية سواء في المؤسسات الدينية أو الاجتماعية المختلفة. ومما يدعو للأسف الشديد هو اهمال الكثير من الاسر والعوائل لهذه النقطة المهمّة. إذ قد تمر العلاقات العائلية بالبرود والضعف في بناء أواصر الصداقة التي يأسف المرء لعدم وجودها، والتي يتمناها كل طفل في عائلته. وتؤثر تلك العلاقة الباردة على نفسية الأولاد وعلى مستقبلهم. ولذلك تقتضي الضرورة الاجتماعية والاخلاقية على الجميع بفتح جسور الصداقة مع الآخر خارج نطاق الأسرة والعائلة، بالرغم من الشائعات التي تنتشر هنا وهناك، والتي تدعي بعدم وجود الصداقة الحقيقية، وبعدم وجود أصدقاء يمكن الوثوق بهم. والطريقة الصحيحة والسليمة هي في عدم الخوف من بناء علاقات الصداقة بين الناس. ولذلك لا بد من هدم الجدران التي تحجز الناس من الممارسات الاجتماعية التي ترفع من معنوياتهم والتي تزيدهم من ثقتهم بأنفسهم. لأن الصداقة تلعب، دورا كبيرا في التفاعل الاجتماعي، وتؤدي الى نمو القيّم الخاصة من الغيرة الايجابية والمنافسة الشريفة في العمل والابداع، وتعلم الدروس المهمّة في التضحية ومساعدة الآخر، والتعاون والمشاركة والتواصل والتفاعل الجدي في المجتمع.
الحرية الحرية هي المثال الأعلى للسعادة الحقيقية لأنها تلائم الارادة الحرّة للإنسان الحرّ. ومن مفاهيمها الرئيسية أن يفعل المرء كل ما تجيزه القوانين، وأن لا يُجبر على فعل ما لا توجبه القوانين. فهي إذن حق لكل فرد في كيفية العيش والانتماء والفكر والفعل والتصرف والمسؤولية والتنقل، والعمل من دون تقييد أو منع من أحد، طالما لا تخالف القوانين ولا تضر بالآخرين وممتلكاتهم وراحتهم ووجودهم. وتعتبر الحرية اليوم من أقدس وأغلى ما يملكه الانسان، لكونها هبة مجانية يموت من أجلها الالوف والملايين في كل أنحاء العالم. فهي تعتبر أهم قيمة انسانية، ومن إحدى العلامات البارزة في مسيرة التاريخ. إذ ينشدها الناس في كل مكان، ويميلون الى إقتناءها والحصول عليها، والسعي وراءها بكل ما أوتو من جهد وقوّة وعزيمة. ولا يوجد حقيقة فرح أعظم من فرح الانسان الحرّ، ولا سعادة تضاهي سعادة المجتمع الحرّ. ومن معاني الحرية الرئيسية، قبول الانسان لذاته، وقبوله للاخرين بالرغم من كل الظروف الاجتماعية والثقافية والنفسية. وعلى أن يتم ذلك بروح متفتحة ومتحرّرة، وذلك لغرض تحقيق الانسان لإنسانيته وانسانية الآخرين، والوصول الى درجة تقبل الذات والمجتمع، والعمل على إنماء الذات والمجتمع نحو الأحسن، والإنفتاح نحو الحرية الشخصية التي تكمن في حرية التصرف والعمل والفكر، مع حرية المساواة أمام القانون بإعتبار القانون المسؤول الأول والأساس لجميع الأحكام. وتؤكد التطورات الحديثة في المجتمعات المتمدنة أن الحرية لم تحصل عليها تلك المجتمعات بين ليلة وضحاها، ولكن بعد نضالها المرير من أجل العدالة والمساواة. لأنه لا يمكن تحقيق الحرية الحقيقية في فقدان العدالة والمساواة. ولذلك يقال بأنه: الحرية لا توجد من دون عدالة ومساواة، ولا توجد عدالة ومساواة من دون الحرية الحقيقية. ومن الحريات التي يقتنيها الانسان في حياته: • الحرية الطبيعية، وهي امكانية عمل شيء من دون أي مانع طبيعي أو جسماني. ويتأسس هذا المفهوم على أساس أن الله حرّ، فلابد من أن تكون خليقته حرّة، وجديرة بخالقها ومستقلة عن جميع القوى المخلوقة. • الحرية النفسية، وهي التعبير الصادق عن الأفعال النابعة من الأعماق بروية وهدوء، والاستقلال التام عن المبرّرات الداخلية. • الحرية الاجتماعية، وهي تقوم على تبادل العلاقات مع الناس المحيطين، لأن الحرية الحقيقية هي التي تهتم بحرية الآخرين كما يقول المثل الشائع: ((أنا حرّ لأنني أتعامل مع الأحرار)). إذ ما الفائدة من حريّتي إذا كان الناس من حولي لايتمتعون بها. فالحرية إذن مدرسة يتعلم من خلالها الإنسان كل شيء جديد، ويمارس ما يراه مناسبا ومفيدا. وتشمل الحرية كل الامور المسموح بها من القانون والاعراف. وقد تصل حتى الى درجة المأكل والمشرب. وبالرغم من أن الانسان حرٌ في حياته، إلا أنه ليس حراً في تدمير نفسه وصحته لمجرّد أنه حر أن يأكل ويشرب الى حد الإفراط والتخمة والمرض. وليس الانسان كذلك حراً في أن يأكل الطعام السىء والمُضر حتى وإن كان جائعا وبائسا. وبالنسبة الى رغبة الانسان في أكل لحم الغنم، فهو ليس حراً في إبادة الثروة الحيوانية. وكذلك الشخص الذي يحتاج الى الطبخ والتدفئة وصنع الأدوات المنزلية، فهو ليس حراً في إبادة الثروة الزراعية وتخريب البيئة والطبيعة وما شابه ذلك. ومما يؤكد على عدم وجود الحرية المطلقة في العالم هو تمتع البلدان الليبرالية بالأنظمة التي تمارس الحرية، ومع ذلك تمنع على مواطنيها التعري الكامل في الاماكن العامة. وهي تمنع كذلك كل أنواع الملابس في الأماكن التي تحدد الزي الخاص. فالحرية إذن لا تعني الفوضى، ولا هي القيام بما يشاء الفرد من دون حدود بخلاف القوانين والآداب لإشباع الرغبات الجسدية والحسيّة. بل هي الفهم الحقيقي للقيم والإلتزام الواعي بالمُثل المذكورة بدافع المحبة والتغيير والتقدم. وقد يؤدي سوء استعمال الانسان للأشياء والمواد الى ارتكاب شرّ كبير، كالسكين مثلا وهي أداة جيدة بحدّ ذاتها. ولكن استعمالها الخاطيء قد يؤدي الى حدوث جرح أو قتل أو موت. وهكذا بالنسبة الى التلفزيون والتلفون والإنترنيت وجميع الأشياء الاخرى التي نستطيع استعمالها سواء للخير أو للشر. ويتوقف ذلك الى مدى استعداد الانسان في معرفة الخير، وتمييزه عن الشرّ، وممارسته الشيء الذي يُناسبه. وكذلك على قابلية الانسان في تحرير نفسه من الأنانية والطمع والتعلق الشديد بالمادة والجهل والغرور الفارغ. ومن أهم الركائز الاساسية للحرية: • المساواة: وهي ركيزة مهمة وضرورية من الركائز التي تستند اليها الحرية في تطبيقاتها العديدة، إذ لا يُمكن أن يكون الفرد حرّا، إذا ما لم يكن بمقدوره أن يتصرّف في أملاكه وحقوقه مثله مثل الآخرين. إذ يجب أن تكون المساواة في الحقوق والواجبات لجميع الأفراد والاطياف البشرية من دون ما تمييز. فالحق والواجب في الطبيعة متلازمان، ولا يقوم أحدهما من دون الآخر، ولا تقوم الواجبات من دون الحقوق التي تقابلها. • العدل: وهو الركيزة المهمة الاخرى، ومن إحدى دعائم الحرية القوية والاساسية. والركن الأساسي للحكم والمجتمع الانساني في سبيل ترسيخ العدالة الاجتماعية ولمنع إحتكار وإستغلال الآخرين. ولا يظهر العدل إلا في منح الحق لأصحابه، وفي منع الظلم والعدوان سواء على الفرد أو على المجتمع بالعموم. ومن أبسط تعاريفه في القواميس اللغوية: ((إعطاء كل ذي حق حقه)). • الديمقراطية: وهي الميزة التي تتأسس في كل مجتمع بعد تحقيق الحرية والعدالة والمساواة. والنمط السياسي الذي تمارس فيها الحرية ولاسيما الحرية المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والتي لايمكن تطبيقها الا بواسطة القانون. وتتضمن الديمقراطية جميع أنواع الحريات المشروعة مثل الحرية الفردية وحرية الرأي وحرية المعتقد وحرية التجوال والسكن والمراسلات والحريات الدينية، والثقافية، والأدبية، وحرية الاجتماع والعبادة والتعلم والتعليم والتظاهر مع ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي تتضمن الحق النقابي وحق الاضراب وحق السلامة وحق الحرية في العمل والملكية، وحرية التجارة والصناعة، بالاضافة الى واجب إحترام حرية الغير من دون ما تمييز. ونستنتج مما سبق أن الحرية الحقيقية تقوم على عدم جهل أو تجاهل حقوق الذات وحقوق الآخرين، وعلى أهمية الاستماع اليهم بإستمرار ومنح الفرصة لهم، ولاسيما بالنسبة الى الاجيال الشابة منهم، وتشجيعهم للإسهام اليومي والدائم في صناعة القرار وصياغته النهائية. لأن الاستماع الجيّد لهم يجعل المسؤولين مُدركين بمسؤوليتهم وقادرين على التمييز بين الحق والباطل. وتعدّ هذه طريقة فضلى للتخفيف من حجم الصراعات والحروب والازمات الاقتصادية، وتجعل من الآخر يشعر بوطنيته ويعمل على تقوية بلده وتحسين عمله وعلاقته بمجتمعه. كما يُقال: ((تنتهي الحرية الشخصية حينما تبدأ حرية الآخرين)). وجدير بالاشارة أن المفاهيم المنتشرة بين الشعوب تؤكد على الحرية من خلال إحترام الفرد وعدم سحقه والغاء دوره في المجتمع. إذ يتكون المجتمع من مجموع الافراد الاحرار والتي تتكون منه كل المجتمعات البشرية، وبالتالي الانسانية جمعاء، بأديانها وعروقها وأصنافها وثقافاتها وحضاراتها. فلا يمكن إذن أن تجتمع حرية حقيقية في مجتمع ما، من دون الاحترام والتقدير لجميع الثقافات والافكار والمذاهب والأديان الموجودة هناك. ولا يمكن أيضا وجود الحرية من دون وجود حوار بناء بين الثقافات والأديان. فالحوار هو الأساس في كل حضارة متطوّرة ومتمدّنة. إذ يعطي ثروة ثقافية وحضارية لا تقدر بثمن، وأبعادا تاريخية وآفاقا مستقبلية لإبداعات الانسان وإنجازاته. ويوفر آليات قوية لتنظيم الاختلافات الفكرية والسياسية والاجتماعية والاخلاقية بين الثقافات المختلفة. ويضيف نفحة من الإحترام المتبادل بين الثقافات المختلفة بطريقة تثري الجميع. وأما الحرية المزيّفة الكاذبة، فالقصد منها التغاضي عن المباديء الأدبية والقيم الروحية والنظم الاجتماعية، ومحاولة خلق جو من الخلط المقصود بين الصح والخطأ، وبين الحق والباطل، وبين الفضيلة والرذيلة، وذلك لغرض تخريب المجتمع، وطمس هويته، وقيمه وأخلاقياته وقيادته والسيطرة عليه بصورة إستبدادية غير عادلة. ولذلك تحمست الاديان الابراهيمية للحرية، وقدمت النصائح الايجابية الصريحة من خلال كتبها المقدسة عن تحرير الانسان. وأكدت منذ نشوءها على صون كرامة الانسان، بإعتباره مخلوق على صورة الله ومثاله. وعلى أن الله أقامه وكيلا وسيّدا للعالم لكي يدير شؤونه، ويجعله صالحا للسكن له ولنسله. وتظهر الكتب المقدسة أيضا، أهمية الانسان وكرامته، وبأن الله لم يُخلقه ليكون عبدا أو مسّيرا، وانما خلقه حرّا ومُخيّرا في معظم أعماله. فليس الانسان انسانا إن لم يكن حرّا أو إذا فقد حريته. فلا أحد يحكم عليه الا نفسه. فإن اختار النصيب الجيّد، وجد فيه جزاءه. وان ظل الطريق وأختار السوء فهو المسؤول الوحيد عن خطئه، كما أكد سفر تثنية الاشتراع: ((وقد اشهدت عليكم اليوم السماء والارض، بأني جعلت بين أيديكم الحياة والموت، البركة واللعنة. فإختر الحياة لكي تحيا انت وذريتك)) 30 / 19. وتشهد المسيحية وبصورة خاصة على مفهوم الحرية وتطبيقاتها. وتؤكد على أن المؤمنين يجب أن لا يجعلوا الحرية فرصة للجسد والشهوة، بل فرصة للمحبة بالخدمة والحياة المستقيمة. وتعود أهمية الحرية في حماية الفرد من الكبت النفسي وفي تشجيعه على الابداع وإثبات الوجود في جميع المجالات. وتنطوي الحياة المسيحية على الحرية والانضباطية معا من دون السماح لمغريات الحياة وتحيدها عن الهدف الذي هو تمجيد الله، وتبشير الناس وتعميدهم، وجعلهم اخوة يحبون بعضهم بعضا. فالمسيحية هي دعوة للحرية، وقد جاءت لتحرّر الانسان الباطني من عبودية الشر. ومن الواضح انه ليس هناك شيء خارجي له تأثير في إحداث بِرّ المسيحي او حريّته، لأنه ماذا ينفع النفس إذا كان الجسم حرّا، يأكل ويشرب ويسلك كما يشاء؟ والعقل مقيّد من التفكير الصائب بالامور الحياتية والثقافية. ويؤكد الواقع والتاريخ بأن أهمية الحرية للبشرية لا تقل عن الاكتشافات الثورية الاخرى في التاريخ البشري، كالكتابة الأبجدية والزراعة والصناعة والنار والحديد والالكترون والاتصالات وكل الإنجازات التي عرفها الإنسان عبر التاريخ. ولا ريب في أن التقدم الهائل في كل هذه المجالات لم يكن ممكنا لولا شعور الانسان بنوع من الحرية والأمان. فمهما كانت حاجة الشعوب الى المهارات وأصول التقنية المختلفة، فحاجتها الى الحرية والعدالة والمساواة، هي أهم من كل شىء آخر. ولذلك نظمت الامم المتحدة، القوانين الاخلاقية الجديدة بخصوص الحرية وحق الشعوب في تقرير المصير وحق الحرية الدينية وحق الفرد في تغيير دينه أو عقيدته مع حق الانسان في حرية الفكر والصحافة والعبادة والضمير. إذ تقول المادة الاولى من ذلك الدستور: ((يولد جميع الناس أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلا وضميراً، فعليهم ان يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء)). وأما بخصوص الحرية الدينية في تغيير الدين أو في رفضه والعيش من دون ديانة فتقول المادة 18: ((لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين. ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة، وإقامة الشعائر ومراعاتها، سواء كان ذلك سراً أم مع الجماعة)). فالحرية إذا هي مرحلة مهمّة من المراحل التي يعيشها الانسان لكي يحصل على السعادة التي ينشدها في حياته، وهناك اثباتات من خلال الدراسات العلمية بأن الناس الذين يعيشون تحت مظلة الانظمة السياسية والديمقراطية الحرّة المستقرة، وفي المجتمعات التي تتمتع في استقرار سياسي مزدهر، يتمتعون بسعادة مزدهرة أكثر من الذين يعيشون تحت مظلة الانظمة الإستبدادية والديكتاتورية. وهذا دليل أكيد على ان النظام قد يكون وسيلة يتنعم من خلاله الفرد والمجتمع بالحياة الكريمة والعيش الرغيد. وختاما، اتمنى أن أرى الحرية تفرش بجناحيها على جميع الشعوب والمجتمعات والأفراد. والكل مدعو للتحرر من الافكار القديمة والانظمة الاستبدادية الغاشمة. ولكن على كل فرد بشري أن يبدأ بتحرير نفسه من الداخل أولا ثم المحيط الذي يعيش فيه. إذ ما الفائدة من الحرية والديمقراطية في بلد كل أفراده مقيدون بأغلال وسلاسل حديدية.
العمل تتوفر في عصرنا الحاضر، الفرص الكثيرة للأفرد والمجتمعات، ولكل ذي رغبة في العمل والانجاز. ويحتاج كل مجتمع بشري لنموه ونهضته وتطوره، الى إسلوب من المثابرة المستمرة للقدرات العقلية والفكرية والنفسية التي تعد المقياس المهم والرئيسي لتحقيق النمو الاقتصادي والنهضة الصناعية، ولإقتناء التقنيات التكنولوجية المتطورة، وذلك بوجود الطاقة البشرية الفاعلة. فالمعطيّات المادية والطبيعية، ليست كافية في البلدان، إذ تحتاج الى تنمية قدرات شعوبها العقلية والفكرية لكي تنهض وتتطور. وقد يحدث أن البلدان التي تستخدم تلك المعطيات إستخداما صحيحا مع القدرات العقلية والفكرية فهي تنمو بسهولة وتتطور وتسبق الشعوب الاخرى في جميع الميادين كما هو الحال في معظم الدول الاوروبية والامريكية الشمالية. وقد يصدف أن تستخدم الشعوب المعطيات الفكرية والعقلية من دون وجود المعطيات المادية والطبيعية وفتنتصر على المعوقات وتنمو وتتطور كما في اليابان وكوريا الجنوبية والنمور الاسيوية. ولكن الويل لأمة تمتلك كل أنواع المعطيات الطبيعية والمادية ولا تستخدم معها القدرات الفكرية والعقلية. فيكون مصيرها التخلف والخمول والفشل في كل المجالات، وتواجه الانحطاط والتدهور سواء على مستوى الفرد أو المجتمع كما هو الحال في بلداننا الشرق أوسطية وفي العالمين العربي والاسلامي. وجدير بالاشارة أن التطور التقني والتكنولوجي في الغرب، لم يكن ممكنا لولا تلازم تقدم التقنية مع الفلسفات العلمية والعلوم الانسانية. ولذلك يتعيّن على مجتمعاتنا وحكوماتنا التخلص من هذه الحرفية في النقل، لأن الحرفية تقتل الروح الإبداعية، وتُجمّد طاقاتنا وإمكانياتنا، وتجعلنا غير قادرين على تحريرنا من قيود الماضي وتبعاته الثقيلة. فما نفتقده في مجتمعاتنا وحكوماتنا الشرق أوسطية، من خلال استيراد التكنولوجيا العلمية وحدها من دون بذل الجهود الحقيقية في التصنيع، ومن دون الاستثمار في بناء المعرفة العلمية واستيعاب الفلسفة العلمية هو أمر في الحقيقة يجعلنا من الشعوب الاتكالية والاستهلاكية من الدرجة الاولى. وينطبق الشىء نفسه بالنسبة الى الثقافة والعلوم الانسانية، وذلك بإستيرادنا للنظريات الجاهزة والمنهجيات الثقافية الغريبة عن محيطنا الجغرافي، ومحاولة تطبيقها في مجتمعاتنا، من دون دراسة عميقة وتدقيق كبير. ولقد أصبح من المعلوم اليوم أكثر من أي وقت آخر، أن الصراع من أجل البناء والنهضة هو الصراع السائد في العالم كله. إذ لا يمكن لأي مجتمع مهما كانت مصادره الطبيعية أن ينهض ويتطور من دون عمل أبناءه. وما قامت به الشعوب المُتمدنة خير دليل وبرهان على ذلك. إذ لولا تضحية أبناءها وعملهم الدؤوب، لما كان في إستطاعتها الوصول الى هذه الدرجة من الرقي الحضاري والاقتصادي والتقني. ولقد ثبت أيضا من خلال التاريخ والواقع أن البلدان التي تتمتع بتوفير الحرية والديمقراطية لشعوبها، تتمتع بنظام عمل أحسن وبتوفير الاجواء الصحية أكثر من الشعوب التي تحكمها الانظمة الاستبدادية. فما على الشعوب النامية إلا الاقتداء بالشعوب الديمقراطية المتمدنة، والسماح لأبناءها بالعمل الحرّ، وبفتح أسواقها الاقتصادية، وخلق الفرص من دون تقييد أو إستبداد. فالعمل إذن مشروع جماعي تتعهد الأفراد في القيام به لصالح الجماعة. أو هو إلتزام يتعهد به الشخص البشري لنفسه أو لشخص آخر أو للدولة سواء كان من أجل الأجر أم من دون أجر. ولا يأتي العمل إعتباطا أو من دون نظام وترتيب. إذ يحتاج الى تخطيط ومثابرة وجهد كبيرين. وقد يكون الجهد عقليا أو عضليا لتحقيق المصلحة الخاصة أو العامة. وتشجع معظم الاديان الرئيسة في العالم على العمل الدؤوب، وتمجد المثابرة والابداع في الانتاج والتطور، وتدعو الى التعاون بين الكائنات البشرية جميعها للقيام بدورها الفعال بحسب قصد الله الذي هو إتمام عمل الخلق الذي بدأ به والذي علينا إتمامه. وتثبت حركة التاريخ بأن الحضارات التي سلبت الحريات الفردية وطعنت في حقوق الانسان، وعملت على سحق الفرد على حساب الدولة والمجتمع والدين، كانت في الحقيقة حضارات استبدادية فاشلة. ولكن ما يدعو الى الأسف الشديد وجود بعض الشعوب التي لا تزال تعاني من هذا التعسف، وهذه المرارة، ولاسيما في الدول النامية والمتخلفة التي تجثم على صدور شعوبها أنظمة استبدادية تحول دون التقدم والتطور السياسي والحقوقي والاقتصادي والثقافي والحضاري، مما يمنعها من الشروع بأية نهضة حقيقية، ومن إرساء أية معالم صادقة وعادلة لمستقبلها ومستقبل أجيالها المظلم. حاولت الشعوب اليوم تحقيق أمنيتها، كما يحاول كل فرد في تحقيق أمنيته ونهضته. وجاهدت جهادا طويلا وشاقاً من أجل أن يحيا كل فرد فيها حياة كاملة من خلال مهنة يختارها أو منصب يشغله، وذلك لكي يعطي كل فرد فيها معنى لحياته ومغزىً لوجوده. فلا نستغرب إذن من إنشغال معظم الناس في أعمال مختلفة، وتحمل البعض منهم مشقة فائقة في المناجم والصحاري والطرقات والمجاري والجبال من أجل تكوين أنفسهم وعيشهم بكرامة حقيقية. ولكن قد يختلف الناس في مواقفهم من العمل. إذ منهم سلبيون جدا، ويحاولون جهدهم في تجنب العمل، والتهرب من تحمل المسؤولية. ومنهم من يحب العمل، ولكنهم يفضلونه على طريقتهم الخاصة، ويجدون صعوبة في البدء به، والتضحية في إكماله. فتجدهم يبحثون دوما عن الفرص الافضل والاسهل في إقتناء الاموال. ومنهم أيضا من ينزعج من العمل، ويعمل لغرض كسب العيش فقط من دون الشعور بالخدمة من أجل الآخرين من خلال العمل، فلا يجد هؤلاء السعادة والمتعة من عملهم. ومنهم من يضحي من أجل إيجاد فرصة العمل، ويعمل بكد وإخلاص، فينجح ويكون من المبدعين والسعداء الحقيقين. ومن الواضح جدا أن الذين يعملون ويضحون من أجل أعمالهم، يُحترمون أكثر من الذين لا يعملون. فالذين يعملون بجد وإخلاص، ويعانون من أجل عملهم كالاساتذة والفنانين والمفكرين والعلماء وعمال المصانع والمعامل والمعلمين والفلاحين والفراشين والزبالين، والذين يجازفون بحياتهم في تجربة اختراع جديد أو بإستكشاف القمم الشاهقة أو بإستكشاف الفضاء، لهم في الحقيقة مكانتهم في المجتمع تختلف عن مكانة العاطلين عن العمل والذين يصبحون عالة على مجتمعاتهم وعوائلهم. ولذلك نستنتج بأن المقصود من العمل ليس شعور العامل بالرضى عما أنجزه فحسب، بل هو نفع المجتمع وتنظيمه. لأن الانضباطية والمتابعة المستمرة، هي في الحقيقة من الوسائل الضرورية التي تحث المجتمع العامل، وتعمل على تحريك الاقتصاد في أي بلد أو شركة أو معمل، وتجعل من المجتمع، أي مجتمع أن يشعر بقيمة عالية وبكرامة سامية: ((لأن العمل لا يحط من قيمة وكرامة الانسان بل بالعكس يشرّف الانسان، فهو يسهل الحياة الكريمة. والشيء الذي يحط من كرامته هو معاملته كأنه سلعة يراد بها كسبا وربحا، ولا تقدر فيه الا قيمة عضلاته وقواه)) البابا لاون الثالث عشر. فمن واجب الانسان إذن أن يعمل لتحقيق الغاية المستقبلية المُثلى. إذ لا يمكن تحقيق شيء في الوجود من دون العمل. فلولا العمل لحكمت الفوضى على كل شيء، وإنتشر الفساد والتسيب واللامبالاة، ولتخلف البشر بكل معنى الكلمة وتجمّدت الحضارات وإندثرت. لأن العمل والقانون والانضباط، تعمل كلها على فتح باب الفرص على مصراعيه، وخلق جو من الأمن والأمان لحماية العامل والشركة والمواطن والدولة. ولذلك يقال: بأن العمل هو قانون الحياة. وتعتبر الحياة فارغة من دونه، إذ يتعب الشخص الذي لا يعمل أكثر من الشخص الذي يعمل. لأن في العمل، راحة ونمو وتطور وسلام وتقدم. وأما في البطالة فهناك خسارة وملل وانكسار وكآبة وشر وموت. ولكن العمل لا يعني الاستغلال وبذل الطاقات من دون معنى وبطريقة لا إنسانية كما كانت تفعل الأنظمة الرأسمالية سابقا. إذ كانت تعتبر البشر مجرّد آلات لتقديم القوّة الانتاجية، ولم تكن تعير للقوة العاملة بقدر ما كانت تهتم وتقدر الآلات ونفقات الصيانة وتجديدها بإنتظام وإهتمام واستمرار. ولطالما إستخدمت تلك الانظمة الطبقات العاملة، كوسائل لتحقيق أهدافها الايدويولوجية والاقتصادية. وقد سببت تلك التصرفات اللاإنسانية في تحطيم شخصية العمال، وتدمير كرامتهم، وفي منعهم من بلوغ غايتهم الدنيوية والأبدية. لأن الانسان لم يخلق من أجل الدولة، وإنما الدولة وجدت أصلا لخدمة الانسان. وقد أثرت القوانين الدولية كثيرا على مستوى العمل، وعلى حقوق العمال في معظم بلدان العالم بعد الحرب العالمية الثانية. وتطورت القوانين بمرور الزمن. إذ نشأت قوانين رائعة تحمي العاملين والموظفين والرؤساء والمرؤسين. ولذلك فلا يستيطيع أرباب العمل حتى في البلدان الأكثر رأسمالية، إستغلال مرؤسيهم، بسبب وجود تلك القوانين والأنظمة. وبسبب وجود النقابات العمالية التي تحميهم وتدافع عن حقوقهم المسلوبة. وقد ثبت لدى معظم الشعوب المتمدنة اليوم بأن المؤسسات العمالية لا تنجح إلا بنجاح العمال والموظفين فيها. فكل مؤسسة أو معمل لا تحترم عمالها أو موظفيها، تؤثر بصورة سلبية على مستوى العمل والانتاج وتؤدي بالتالي الى فشل تلك المؤسسة. فمن واجب اصحاب السلطة ورؤساء الشركات والمؤسسات الاقتصادية إذن خلق جو من البهجة والمحبة والتفاؤل في مؤسساتهم وشركاتهم ومعاملهم. وعليهم أيضا خلق الدافع والحماس، وتشجيع روح التطوّع والرغبة في الخدمة، بدلا من دافع الواجب والاضطرار والرغبة في الربح الدنيء. وعلى العمال والموظفين في المقابل، رؤية عظمة العمل الحقيقية لأجل خدمة مجتمعاتهم وخدمة الآخرين. وعليهم أيضا التحلي بالنشاط والاجتهاد والمواظبة، لتحقيق الانتاج وانجاز المهمة الملقاة على عاتقهم. وعليهم أيضا الحفاظ على الاحترام اللازم بينهم والحفاظ على العلاقة الجيدة مع رؤساءهم وأرباب العمل، من دون أن تتحول تلك العلاقة الى التابع والمتبوع أو الخادم والمخدوم أو السيد والمسود. فالعلاقة الانسانية بين البشر هي المقياس التي تقوم عليها الحضارات البشرية وهي القدرة الفريدة التي نملكها للتعامل مع بعضنا البعض. وقد أعطت هذه العلاقة الفريدة الحقوق والواجبات التي علينا صيانتها وإحترامها كحق العمل وحق الراحة وحق المشاركة وحق الحياة والصحة وصيانتها. وبدأت الشركات الكبرى بتأثير تلك المفاهيم والتعاليم العظيمة في فتح أبوابها لمشاركة العمال والموظفين وبإعطائهم الحصص في أسهم الشركات والمعامل التي يعملون فيها، لكي يصبح كل عامل أو موظف شريكا في العمل بالاضافة الى كونه عاملا أو موظفا. فالطريقة المثلى في الحياة إذا هي العمل، مع أن العمل ليس غاية بحد ذاتها. إذ لا يوجد من يعمل لمجرد العمل، لأن العمل يجب أن يبقى وسيلة للوصول الى غايات وأهداف، بعضها بعيدة وصعبة، وبعضها قريبة وسهلة المنال، كالحصول على المورد المالي الكريم لغرض المعيشة. ولكن عندما ينحصر العمل على الأمور المعيشية والمورد المالي فقط، يفقد عندئذ طعمه الذيذ ويصبح واجبا مزعجا وعبئا نفسيا ثقيلا. إذ يفترض في العمل أن يتضامن الجسد والروح والفكر والخيال معا، وأن يكون هناك مناخا مريحا يستمتع به العامل، ويرتاح منه طوال فترة العمل. ولذلك فمن المعروف في الدوائر الصحية أن العمل يُطيل العمر، بعكس البطالة التي تعجل في تدهور حياة الشخص، وتضع حد لها. إذ تعد البطالة عقبة في سبيل النمو السوي للفرد، لأنها تدفعه الى التفكير في توافه الامور، والغرق في نوم عميق، وفقدان الفرص الضرورية لبناء الذات. وجدير بالاشارة أن الانسان ليس الكائن الوحيد الذي يعمل لأن الكائنات الحية جميعها تعمل بطريقتها الخاصة وتخدم بعضها بعضا. فالتراب مثلا يخدم البذرة التي تجد طريقها اليه. والثلج الموجود على الجبال، يخدم بإمداد الجداول والأنهار والبحيرات بالماء العذب. والشمس أيضا تخدم بنورها وحرارتها من دون أن تدرك ما تصنع. والأرض تخدم بدورانها وعطائها وخيراتها. وحتى البراكين والزلازل والعواصف الهوجاء، تقوم بدورها في إحياء التربة، وتجديدها مع التغيرات الطبيعية الاخرى التي تخدم الحياة بطريقة وأخرى. فإن كان للعمل دوره في تجديد الطبيعة والارض والمناخ والكون فإن له دور عظيم أيضا في تجديد طاقة الانسان وإسعاده وفرحه وسروره، لأن فيه إنجاز وإبداع يجعل من العامل يشعر بوجوده في تحقيق شىء ما للآخرين. فالعمل يتطلب الجهد العضلي والفكري والرغبة في اتمامه، كالنحت والرسم والبناء والفلاحة والشعر والكتابة والموسيقي والعلم والخياطة وغيرها من المهن التي يرغبها الانسان ويعمل على اتمامها. ولذلك يعتبر معظم الناس النجاح في العمل، حدثا مهما في حياتهم. لأن النجاح يوطد ثقة المرء بنفسه، ويزيد في طمأنينته، ويتيح له الحصول على المعيشة الجيدة له ولعائلته. ويصف الكتاب المقدس العمل بأنه هبة سماوية أعطاها الله للإنسان منذ أن خلقه، إذ أوصاه بفلاحة الارض وهناك أيضا صورا رائعة عن الرجل الناجح والسالك بالكمال، والعامل بالحق والمتكلم بالاستقامة والغامض عينيه بالنظر الى الشر. فإذا اشغل أمواله واستثمرها فهو يكنز لنفسه كنوزا مضاعفة. فمن يعمل ويكدح، يستحق الاحترام. ومن لا يعمل يسقط نفسه في التهلكة والشر. ولا يوجه الكتاب المقدس الكلام ضد العاطلين عن العمل، وضد الذين يجبرون على ترك أعمالهم، والذين يبحثون عن العمل ولا يجدونه. بل يوجه ضد الكسالى والرافضين للعمل. وكان يسوع المسيح المثال والقدوة في ذلك، إذ كانت رسالته رسالة خدمة، وارادته إرادة خدمة، ولا تأتي العظمة في مفهومه إلا في خدمة الآخرين. وحارب الرسول بولس في رسائله وتعاليمه، الكسل والبطالة وإعتبرهما خطيئة ومرض يؤديان الى الجوع والعزلة. فهو نفسه كان يعيش من صنع الخيَم، لكي لا يثقل على غيره، بل لكي يكون مثالا لهم، ليدفعهم الى العمل الشريف(1كو 4/12). وكان الرسول يقول لرفاقه ان المهارة في العمل العادي هي هبة مجانية من الله. وكان دائم التهجم على الذين لا يعملون، لأن من لا يعمل لا يأكل. وكان يدعو الجميع الى العمل والمنافسة في الطيبات، والمشاركة مع الآخرين في الخيرات والعيش من أجل اسعادهم. وقد أعطى الانسان منذ قديم الزمان قيمة سامية وثمينة للعمل الذي حقق له شخصيّته وثبت له وجوده. وعمل على تزويده بالدعائم الأخلاقية الثابتة مثل الطموح والاستقلال وروح المشاركة مع الآخرين. ولكن ما نأسف له هو إستغلال الانسان لأخيه الانسان أثناء العمل في المجتمعات القديمة والحديثة وخاصة في المجتمعات الاقطاعية والرأسمالية. ولا تزال الطبقات العاملة في بعض الدول تعاني الأمرين، وذلك بسبب جشع وطمع الاثرياء والحكومات المستبدة. ونتمنى حقيقة أن تنعم كل الشعوب بديمقراطية حقيقة، وأن تعمل على القضاء على كل أنواع الاستغلال البشع. لأن الانسان يحمل مجموعة من الأحاسيس والمشاعر الحيّة التي لا بد أن تقدرها الدولة أو المؤسسة أو رب العمل. ولذلك فعلى المسؤولين وأرباب العمل، التعامل الصحيح مع العمال، واحترام طاقاتهم وقابلياتهم وأحاسيسهم وعقائدهم وتحفيزهم للعمل، وتذكيرهم بالدوافع التي تدفعهم وتحفزهم على إتقان العمل. الصحة يحتاج الانسان في مراحل نموه المختلفة الى من يقوم بتربيته وتكوينه وتشكيله، من الناحية الجسمية والنفسية والاجتماعية. فهو يتميز عند ولادته بعجز كبير. إذ يأتي الى العالم صغيرا وضعيفا، ولا يستطيع في لحظة ولادته عمل شىء بمفرده. ويكون كمن لا حول له ولا قوة. يحتاج الى محبتنا وحناننا ودفاعنا وشجاعتنا وحمايتنا ومساعدتنا لكي ينمو ويبلغ سن الرشد، ولكي يتغلب على العقبات والتحديات الخارجية والداخلية. ومن العقبات والتحديّات التي يواجهها الانسان منذ ولادته بل منذ الحبل به، الامور الصحية سواء الجسدية أو النفسية. فالطفل الذي يكتشف نقصا في محبة أهله من خلال تعاملهم السىء معه سواء للتحكم به أو استملاكه أو تعذيبه، يشعر بالضيق والتمرد. وتجتمع فيه كل أنواع الطباع السيئة من الخوف والغضب والكراهية. والعلاج الوحيد لذلك هو الاعتناء به ومحبته، لأن المحبة هي السلاح الوحيد الذي نستطيع بها القضاء على كل المشاعر السيئة واللامسؤولة التي تمنع الانفصال والعزلة والتشرد. وساعدت البحوث العلمية الحديثة وخاصة في العقود الاخيرة من الزمن، في إحداث التطورات الكبيرة في المجال الصحي، مما جعلنا نعتمد على كثيرا المعرفة العلمية والطبية في الخصوص لزيادة مستوى الصحة في مجتمعاتنا البشرية، ولإطالة معدل الاعمار الى مستوى 75 و 85 سنة وما فوق. بعد أن كانت معدل الاعمار عند مطلع القرن العشرين 40 سنة و50 سنة. مع أن معدل الاعمار لا يزال متأخرا في البلدان النامية، إذ لا يتجاوز 50 سنة أو أقل في بعض المناطق النائية في افريقيا والهند. ولكن هناك آمالا كبيرة حتى في تلك البلدان لإحداث تطورات كبيرة في المجال الصحي وفي المجالات الاخرى. وتشهد البلدان المتمدنة طفرة نوعية كبيرة في المجال الصحي. ونتوقع في نهاية القرن الحالي أن تبلغ مستويات الاعمار فوق 100 سنة وأكثر. بالاضافة الى قابلية العلوم الطبية الحديثة في المساهمة للقضاء على الكثير من الامراض المستعصية، والتنبوء بكثير من الحوادث الطبيعية قبل حدوثها. ومعرفة التغييرات المناخية، وعلاج الكثير من الأوبئة والأمراض التي كانت تقضي على عدد كبير من البشر في القديم. ومع التطورات العلمية المختلفة، التي تبدو أنها قد نجحت في قيادة العالم نحو المزيد من الاختراعات والاكتشافات لخدمة البشرية، وتسهيل أمورها، وتحسين أحوالها المعيشية. إلا أن المسيرة العلمية عجزت حتى الآن وللأسف الشديد، عن ضبط الكثير من تلك الحوادث والظواهر الطبيعية، كالعواصف الشديدة، والزلازل والبراكين، والأمراض المستعصية، مثل السرطان والروماتيزم والايدز (السيدا)وغيرها. ونتمنى أن يكون في مقدور العلماء والاطباء القضاء على جميع تلك الأمراض والأوبئة، والسيطرة على تلك الظواهر الطبيعية المختلفة. وذلك لتخفيف معانات الناس ولتأمين الصحة والغذاء لسكان العالم الذي بلغ عدد الذين يعيشون تحت خط الفقر فيه بحسب الاحصائيات الحديثة أكثر من 1700 مليون شخص، يعيش معظمهم في الهند وافريقيا. وكجزء من الحل لهذه المعضلة العالمية، لابد من توظيف المعارف البشرية الصحية ونشرها بين الناس، والقيام بحملات عالمية من برامج محو الامية، وفتح المجال للطاقات العمالية والتوظيفية الفعالة في كل المجالات بحرية وديمقراطية. لأن النظام الديمقراطي هو الضامن الوحيد في إعطاء المجال بمجال في هذا الاتجاه. إذ تشير الاحصائيات العالمية أن معظم الشعوب المُتمدّنة قد إنتصرت على الامية، وإستطاعت أن تنشر ثقافة صحية بين رعاياها بطريقة علمية ومدروسة. ولعل ما يقلق الجميع في العالم هو التضاعف الفضيع في عدد سكان الارض خلال فترة قصيرة من الزمن. فإذا كان عدد سكان العالم 5.5 بليون شخص في منتصف القرن العشرين، فإنه قد بلغ اليوم 7.3 بليون نسمة. وسوف يتجاوز العدد، وبحسب التوقعات الاحصائية العالمية، بحدود 12 بليون في سنة 2020 ميلادية. وفي سنة 2040 سوف يصل العدد الى 18 بليون شخص. وتكمن المشكلة الكبيرة في إمكانية الارض لإستيعاب كل هذا العدد من الافواه البشرية مع وجود الامكانيات المحدودة من الموارد الطبيعية والغذائية على الارض. ومهما يكن من أمر التطورات العلمية السريعة في العالم إلا أنها خلقت صراعات كثيرة، ومن أهمها وأكثرها إنتشارا، الصراع من أجل الحياة، والعيش لأطول فترة ممكنة من الزمن في سعادة وهناء. ولكن الحياة ليست هيّنة وسهلة، ولا يمكن تجاوز كل الصعوبات من دون تضحية، ومن دون الحصول على العلم والمعرفة. لأن التسلح بالمعارف هي من الامور الضرورية اليوم أكثر من أي وقت آخر. إذ كثيرا ما يعيش الناس في حالات وأنماط سلوكية تصل بهم الى حد اليأس من الحياة نفسها، ويلجئون الى مختلف أنواع العادات السيئة والمضرة، كالتدخين والقمار والإدمان على الكحول والمخدرات، وإساءة إستخدام العقاقير وغيرها من الامور التي تذهب بهم بعيدا عن الصحة والسعادة التي ينشدونها. فالتدخين والمسكرات والمخدرات هي في الحقيقة من الخبائث التي تضر الانسان. ولها آثار مُهلكة على الافراد والمجتمعات وإقتصادياتها، لكونها تسبب الخمول والكسل والنوم، وبالتالي الموت، ولكن بجرعات عالية. وبحسب منظمة الصحة العالمية أن التلوث الناجم عن التدخين مثلا، يمثل أهم عامل للتلوث البيئي، وأكبر عامل للتسبب في مرض السرطان وأمراض القلب وتصلب الشرايين. وكذلك انتشار المخدرات بين مختلف الطبقات البشرية التي تبحث عن زيادة اللذة الجنسية والنشوة المؤقتة والهروب من الواقع المرير والبحث عن واقع جديد. وأثبتت البحوثات العلمية الخاصة بأن المواد المخدرة تعمل على عكس طبيعة الدورة الطبيعية للجسم. فهي إما تقلل من سرعة الدورة الدموية أو تعمل على زيادة هذه الامور عن معدلها الطبيعي. وللمخدرات أنواع كثيرة ولكن من أخطرها وأشدها ضررا: • الحشيش ومن آثاره: الفتك بالدماغ والرئتين والجهاز التناسلي وفقدان الشعور بالزمان والمكان وارتفاع ضغط الدم وتسارع ضربات القلب والتقيوء والقرف وتحويل المدمن الى شبه آلة لا شعورية. • الهروين ومن آثاره: تباطوء نبضات القلب وإضطراب في الضغط الدموي وجفاف الفم والامساك وقلة البول وارتفاع نسبة السكر في الدم وكبت الشهوة الجنسية وظهور العجز الجنسي. • الكوكايين ومن آثاره: القدرة على إثارة الجهاز العصبي المركزي وتخفيف حدة الانضباط الاخلاقي، تسارع في نبضات القلب، إتساع حدقة العين، إرتجاف الاطراف، فقدان القوة الحيوية، ارتفاع ضغط الدم، اضطراب في التنفس والدورة الدموية، نقص الوزن، اصفرار الوجه، اضطراب البصر، بالاضافة الى العبء الاجتماعي، لأن المدمنين نادرا ما ينجحون في إعالة أنفسهم ناهيك عن إعالة عوائلهم. وجدير بالاشارة أن عصرنا الراهن يشهد إنتشارا للامراض الخبيثة والمهلكة التي تقضي على أعداد كبيرة من البشر. ومن أكثر تلك الامراض رهبة وفزعا للإنسان، هي السرطان الذي يمثل ثاني أكبر الأمراض القاتلة في العالم. ومن أسبابه المعروفة حتى الآن: البيئة: والتي تسبب في 80 % من حالات السرطان المنتشرة في العالم. والتبغ والنرجيلة: والتي تسبب الاصابة بسرطان الرئة والحنجرة والفم واللسان. والعادات الغذائية الخاطئة: كاللحوم والبروتينات الحيوانية. ولذلك يؤكد معظم الاطباء والاخصائيين بأن سر الصحة يكمن في النظام الغذائي اليومي، وفي تناول الفيتامينات المناسبة، مع المحافظة على نظافة الجسم بالماء النظيف. فالغذاء المناسب يعتبر عاملا أساسيا في الوقاية والعلاج من معظم الامراض ولاسيما السرطانية. وتثبت الابحاث العلمية أيضا بأن الفواكه والخضروات يمكن أن تكون عامل وقاية مضاد للإصابة بهذا المرض. إذ كلما تناول الفرد كميات كبيرة من الفواكه والخضروات، كلما كانت إحتمالات إصابته بالأمراض السرطان قليلة. فالصحة الجسدية والنفسية إذن تتوقف كما هو معروف على الإحتياطات المتخذة، وعلى نوعية الغذاء الذي يأكله الانسان أكثر مما تتوقف على الأطباء. لأن الغذاء عندما يكون سيئا فلا جدوى من الأدوية. وعندما يكون جيّدا فلا حاجة للأدوية. ولابد من التأكيد على أن الافراط في الأكل والشرب كما هو مثَبت قديما وحديثا، يؤذي سلامة العقل والجسم، ويؤدي كذلك الى تدمير كامل للصحة الجسدية. لأن الجسم البشري له قدرات محدودة في الهضم والحركة والتفكير والانفعال، فإذا ما أجبر الجسم على تحمل المزيد من الاعباء، فإنه يضطرب ويمرض. وقد تصل حالة المرض في بعض الاحيان الى التخمة والموت. فلابد إذن من السيطرة على الشهوات لإرضاء العقل والإرادة، ولابد أيضا من التحرر من القيود المادية واللذات الجسدية المُدمرة مع تجنب الإكثار من الغذاء الحيواني، والاكثار في المقابل على الغذاء النباتي. لأن اللحوم تؤثر سلبا في صحة الانسان، وفي عاداته وطبائعه، وتخلق فيه شخصية شرسة وسلوكا عدائيا في تصرفاته. بينما الاكثار من أكل النباتات والخضاروات والفواكه، يؤدي الى التقليل من الاصابة بالامراض السرطانية، والى زيادة الروح التفائلية والتسامحية في الشخص المتعود عليها بصورة ملحوظة. ولذلك صدق الفلاسفة الاغريق قديما قي قولهم: بأننا نشبه ما نأكل، وما معناه أننا لو أكلنا لحم الغنم كثيرا، فإننا نأخذ طباع الغنم، وإذا أكلنا لحم الخنزير تقل لدينا المروءة، ويزداد عندنا اللؤم والخبائث. أما إذا أكثرنا من الفواكه والخضراوات والنباتات فتفيض عندنا الروح المرحة، ويزداد فينا الحب للناس والطبيعة والحياة. ويكتشف العلم كل يوم أهمية التغذية الصحية التي تحتوي على كافة العناصر الغذائية والغنية بالألياف والخضراوات والتي تحافظ على الصحة الجيدة والعمر المديد. وتؤكد القاعدة الذهبية للصحة على ضرورة الاعتدال في تناول الطعام، وعدم خزنه في المعدة لسد الجوع بل أن التصرف مع الأكل بحكمة مع أداء النشاط الحركي عوضا عن اللجوء إلى النوم بعد الوجبات الغذائية، فالنوم بعد تناول وجبة طعام يزيد من خمول الإنسان وكسله. فعلى الانسان مراقبة أنواع الأكل الصحيح لمنع الاصابة بأنواع من الأمراض الشائعة هذه الأيام مثل السرطان والسكري وتصلب الشرايين وانواع الجلطات والتوترات العصبية المختلفة، كالامراض النفسية والعصبية. والتي تظهر أعراضها عادة في الرأس والرقبة والصدر والمعدة والقلب والامعاء، والتي غالبا ما تسبب قرحة الأثنا عشر، وتشنج البواب، وإلتهاب القولون، وغيرها من الامراض والاعراض التي تنشأ بصفة عامة، وتتفاقم في حالات الإثارات الانفعالية. فالصحة إذن عامل مهم لنمو وزيادة السعادة للفرد والعائلة والمجتمع. وتزيد العقل نشاطا وديناميكية. فلا يستطيع المرء أن يفهم واجباته والتزاماته بصورة صحيحة من دونها. ولذلك فمن الضروري على الانسان أن يتسلح بثقافة صحيّة جيدة. وأن يكون على علم في كيفية عمل أعضاء جسمه، وأن يحتفظ بها سليمة بقدر الامكان. ولكن قلما يهتم الانسان وللأسف الشديد بصحته وكيفية عمل أعضائه عندما يكون قادرا وفي أوج قوته وصحته. وعلى العكس من ذلك المرض، إذ يزيد من كآبة الفرد والعائلة، ويقضي على السعادة بسبب الالم والتفكير في العضو المريض. لأن فقدان الصحة هو فقدان القدرة على العمل وفقدان الحياة الهنيئة والمريحة، وبالتالي فقدان السعادة المرجوة. وقد ثبت لدى الكثير من العلماء النفسانيين أن التوعية الصحية الصحيحة والثقافة الجيدة والاكل الصحي والصحيح كلها معا لها دور كبير في تجنب الكثير من الامراض. وان الايمان والصلاة والعبادة لها دور كبير في علاج الكثير من الامراض، وخاصة أن الاطباء يقرون بأن أكثر من 70% من الامراض المنتشرة في العالم هي في الحقيقة أمراض نفسية يمكن علاجها بقوة الايمان وممارساته العبادية الكثيرة.
الحب والزواج يسأل المرء دائما عن معنى الحياة ومغزاها. ولا ينبع المعنى الحقيقي للحياة إلا من خبرة الحب. فالحياة من دون حب هي في الحقيقة حياة فارغة وجامدة ومن دون طعم. ولكي يكون الحب حقيقيا، يجب أن يوجه الى الشخص الآخر، من أجل ذاته فقط، وليس من أجل جماله أو ماله أو شخصيته أو سيارته أو وظيفته أو نسبه. وهذا ما نسميه بالحب الصادق من دون شروط ولا مغريات. فالحب بحد ذاته هو العطية الفريدة الممنوحة للبشر من قبل الله. ولهذا يكد الانسان ويتعب طول حياته بإسم الحب، ومن أجل الحب. وقد يكون الحب موجها تجاه الحبيب أو الحبيبة أو تجاه الله والمخلوقات. ويمر كل واحد منا في مرحلة نحتاج فيها الى من يشاطرنا الحب. نأتيهم ويدانا ممدودتان، واحدة للعطاء، والاخرى للأخذ. وهذا يثبت حاجة كل واحد منا الى الشعور بالحب. فالحب في الحقيقة قرار عاقل يصدر من قلب صادق ملهم، يبذل الغالي والرخيص من أجله. ويتضمن تقديم الذات مع الميول والرغبات بأمانة، ومن دون إنتظار لشيء في المقابل. ويتصف الحب بالرغبة في المشاركة والعطاء والوصول الى الغير بالإحترام للآخر، وقبوله مع عاداته وتقاليده، ونواقصه وسيئاته. ولذلك يؤكد العلماء والمختصون على أن المتزوجين أسعد من غير المتزوجين، وأقل إكتئابا منهم. وبأن الزواج يحمي في الحقيقة الأفراد من المشاكل العديدة، وخاصة من القلق والكآبة والإنتحار. ولهذ السبب تشهد المجتمعات المتطوّرة وجود زيادة واضحة في حالات الإكتئاب مع زيادة نسبة الجرائم في المناطق التي تكثر فيها حالات الطلاق، وأينما تزداد نسبة العازفين عن الزواج. قد يبدأ الحب بين شخصين بصورة مفاجئة أو بعد موقف نبيل أو بسبب مشاركتهما في العمل المشترك أو بسبب انجذاب خفي وغامض، أو قد يتم بغمضة عين في الثانية الاولى. ولكن على الشباب أن ينتبهوا للتكافوء الروحي والثقافي والاجتماعي والأخلاقي بينهما بعد أن يتعارفوا جيدا لغرض تحقيق التآلف والوفاق بينهما في زواج صحيح مبني على أسس صحيحة وصادقة، وليس على زواج مبني على النظرة الاولى والابتسامة السريعة وغيرها من أنواع الحب الاستهلاكي السريع والمؤقت. فالانسان إذن ملزم بتبادل الحب مع الآخر، وبإعطاء الحياة بالاتحاد معه أو معها في الزواج الذي هو شركة متبادلة واتحاد متبادل في الفكر والرأي والأمل والفرح والحزن وفي اليسر والعسر. لأن مقياس قيمة الانسان هو بقدر قوته في إقامة الصلات مع الآخر، بالتعرّف الى خصاله وميوله ونقائصه، وبإتحاده معه في حب صادق الى أقصى درجة ممكنة من التعاون والتكامل. ففي الحب إذن جمال وسعادة لا يضاهيها جمال في الوجود. وفي الزواج أيضا، متعة وتضحية لا مثيل لهما في الحياة أبدا. ولذلك لا تكمل مسيرة الانسان إلا في مقدرته على الإرتباط بالآخرين. فالرجل مدعو لكي يخرج من عزلته وأنانيته للإتحاد بالمرأة التي يختارها زوجة له بل رفيقة له للعمر كله. والزوجان مدعوان للإرتباط بباقي البشر والتعرّف على مشاكلهم وتفهم أحوالهم وآلامهم وآمالهم. لم يخلق الانسان كي يعبر كل مراحل الحياة لوحده، لأن في قلبه رغبة دفينة للوصول الى الكمال والسعادة والخيرات جميعها. ولا يتم ذلك في طبيعة الحال إلا من خلال الزواج الذي هو أصلا عقد ثنائي بين رجل وامرأة يرتبطان بمقتضاه من أجل التعاون والمعيشة المشتركة، لخيرهما المشترك، ولإنجاب البنين، ولإستمرار الحياة والمجتمع. لم يكن الزواج في القديم سوى اتفاق بين شخصين أو أكثر للعيش معا ولإنجاب الاطفال. وكان يتم قديما من دون قوانين وأنظمة تضبط حقوق وواجبات الزوجين. ولعبت شريعة حمورابي في بلاد ما بين النهرين دورا كبيرا في تأسيس المفاهيم الشرعية حول الاسرة. وكانت تلك الشريعة بمثابة الشريعة الانسانية الاولى في التاريخ البشري القديم والتي سنت القوانين والتشريعات، للمحافظة على قيم الزواج وقيمته المثالية. وتطورت الشرائع في العهد الموسوي، وأصبحت العلاقة بين الرجل والمرأة تسمو الى درجة الارتباط العائلي والعشائري كمفهوم مؤسس من قبل الله نفسه، والذي بدأ في الفردوس حينما خلق الله آدم وحواء. كما جاء في سفر التكوين 2/ 18ـ 19 : فقال الرب الاله ليس مستحسنا أن يبقى آدم وحيدا. سأصنع له معينا نظيره. وتؤكد القصة التوراتية على وجود غاية للزواج كما جاء في الفصل نفسه: وباركهما الرب وقال لهما إنمو وأكثروا وأملأوا الارض 1/ 28 . وأما في العهد المسيحي، فالزواج أخذ طابعا مقدسا من العلاقة المشتركة بين الرجل والمرأة، وذلك من خلال الحب والزواج لكي يصبحا جسدا واحدا بالارتباط الزواجي المقدس أمام الله والانسان. فليس هما بعد أثنين بعد الزواج بل جسد واحد. وما يربطه الله لا يفرقه الانسان(الانجيل). وجعلت المسيحية الزواج أفضل ضمان للحب، والمكان الطبيعي للسعادة، والطريق الملائم لتحقيق القداسة، ولتحقيق كيان الانسان ونموه في علاقة تبادل حب متواصل بين الرجل والمرأة دون سواهما. وذلك من أجل تأمين استمرار الجنس البشري، ومن أجل توفير العلاج الملائم للشهوة بين الزوجين: الزواج خير من التحرق بالشهوة (الرسول بولس). وقد ساهمت الشريعة الاسلامية أيضا في تطوير مفهوم الزواج وأعطت له قيمة ثمينة لزيادة النسل وبناء العائلة وإنشاء الأمة. وغيرت الكثير من المفاهيم الوثنية المنتشرة في الجاهلية ضد المرأة، وطورت الميراث القديم بطريقة تصون المرأة وتحافظ على حقوقها وتؤكد على واجباتها. وأصبح الزواج بمرور الزمن مصدراً مهماً من مصادر التربية الانسانية والتربية الاجتماعية والتربية الدينية. وهو مشروع حياتي وإجتماعي وروحي، يطال تقريبا كل أبعاد الانسان في سيرته على الارض، وفي علاقته مع الله والآخر. ولهذا يمثل مفهوم الاسرة من أجمل وأروع المفاهيم التي تطورت بمرور الزمن لتحافظ على قدسية الحياة، ولصيانة المجتمع البشري من كل سوء وأذية. وقد إهتمت المنظمات الدولية التابعة للإمم المتحدة من خلال مواثيقها ومؤتمراتها الدولية بالاسرة. وأكدت على دور المرأة والاسرة في بناء المجتمع، وقيمته وقدسيته. ففي المادة(16) من الاعلان العالمي لحقوق الانسان تؤكد على أن: الرجل والمرأة لهما حق التمتع بحماية المجتمع والدولة، ولذلك يجب أن يكون للرجل والمرأة ابتداء من بلوغ سن الزواج حق معترف به في التزوج وتأسيس أسرة. لذلك ينبغي في العشرة الزوجية قبل كل شيء أن يجد كل من الطرفين الشريك المناسب بحسب البيئة والظروف الاجتماعية التي يعيشون فيها سواء في الزواجات المترتبة من قبل الأهل أم المترتبة من خلال رؤيتهم لبعضهم البعض، وتبادلهم الحب والغرام لفترة زمنية الى أن يُقررا الزواج. ولكل منا تقريبا ذكريات بليغة عن أسرنا وعوائلنا التي نعتبرها بمثابة المدرسة التي نتعلم منها العلاقات والمسؤوليات والعادات الاجتماعية وغيرها. فالعلاقة بين الابوين، ومن ثم بينهم وبين أولادهم، تبقى المقياس الذي يبني عليها الاولاد علاقاتهم مع الآخرين. وكذلك المسؤولية التي يوزعها الابوين هي أيضا المقياس المهم لتعلم الاولاد الدروس الاولى في المسؤولية. إذ يجب أن يعطى الآباء مسؤوليات محددة لأطفالهم وأن يقوموا بتدريبهم وبتنمية الشعور فيهم بالانتماء للأسرة والمجتمع. ففي الاسرة يتعلم الطفل الدرس الاول عن العلاقات، وعن التكلم بلغة، والتعبير عن كل ما يجيش في صدره من أفكار وهموم وأفراح من دون خوف أو خجل. ويتعلم كذلك الكثير من الصفات والقدرات والوظائف النفسية التي من شأنها أن تؤثر كثيرا في الطريقة التي يتفاعل بها مع نفسه ومع الآخرين. هذا بالاضافة الى تعلم الدروس الاولى عن الحب والكراهية والثقة والامانة والعلاقة بالجنس الآخر. ويؤكد معظم العلماء والمختصون بأن الكارثة الكبرى في حياة البعض من الاطفال، تكمن عندما لا يكون في مقدورهم أن يثقوا بأهاليهم، والذين يمثلون بالنسبة اليهم الامان المطلق. فإن أي عطب يحدث في مسألة الامان والثقة في الحياة العائلية، يؤثر حقيقة على حياة الاطفال وعلى شخصياتهم في المستقبل. فالعائلة يجب أن تعيش حياتها بصدق وصراحة واخلاص، كوحدة متكاملة وكجسد واحد. بحيث أن مشكلة الفرد الواحد في العائلة هي مشكلة الاسرة كلها، وفرح الفرد الواحد في العائلة هو فرح الاسرة بأكملها. ولا بد هنا من تشخيص بعض المعوقات السلبية للزواج السعيد والتي ترهق الزوج بالديون بسبب المبالغة في تكاليف حفلات الزواج، سواء من طرف الزوج أو من طرف الزوجة. مما يخلق الصعوبات في تحقيق الانسجام بين الرجل وزوجته. بالاضافة الى التدخل الزائد والسلبي ولاسيما في المجتمعات الشرقية من قبل أهالي الزوجين، مما يخلق مشاكل عويصة وتصبح حجر عثرة في طريق السعادة الزوجية. ولا يتم تصحيح هذه العلاقة في طبيعة الحال إلا بالإتزان في العلاقات، وبتخصيص الوقت الكافي للأمور العائلية، وبوجود الصراحة والتعاون المشترك بين الزوج والزوجة لخير العائلة ومستقبلها. ولعل من الامور الاخرى التي تساعد في حل الاشكاليات بين أفراد العائلة الواحدة هي في تحديد الهدف والإتجاه فى الحياة الزوجية. وممارسة التضحية من أجل وحدة الهدف والمصير، مع استخدام مبدا الغفران والمسامحة عوضا عن اللوم والعقاب. وكثيرا ما ينسى الزوجان أن هناك دائما حلولا لمشاكلهم ولكن التسرع في إتخاذ المواقف وعدم الاصغاء الى بعضهم البعض، أمور تجعل من العشرة الزوجية جحيما لا يطاق، وتؤدي الى أذية الطرفين وبالاخص الاطفال. فالزواج إذن شركة، بين الزوج والزوجة، رأس ماله: التفاهم والاحترام والصراحة. من المفروض أنهما يكملان بعضهما بعضا لتكوين اتحاد بين شخصين مع إحتفاضهما بخصوصياتهما. والحب الزوجي هو حب حصري تام ونهائي يجرحه الطلاق ويفسده. ولهذا تؤكد المسيحية على أنهما أي الزوجان يصيران بالزواج جسدا واحدا. إذ يتكاملا في مناخ من الحب والعطاء والتضحية، وفي انصهار روحين وقلبين معا، لتحقيق السعادة التي تتحقق من خلال الزواج، وتعطي الامل على وجود مكان يمكن للسعادة الحقيقية أن ترى النور من خلاله. ولكن الحياة ليست دائما وردية اللون، لأن الحب مبني على مشاعر وأحاسيس بشرية ولهذا فمن الممكن أن يمر الزواج بالصعوبات والمشقات. إذ قد تمر عائلة في قمة السعادة لفترة زمنية وتتغير الامور وتنقلب سعادتها الى تعاسة حقيقية، بعد أن تصل الامور بالزوجين الى الانفصال والطلاق النهائي مما يجرح الزواج ويفسده. ولما كانت العلاقة بين الرجل والمرأة، أساسا علاقة حب، فكان لا بد من الجنس أن يوجه ويُدمج في الحب. لأن الحب وحده يجعل الجنس أمرا انسانيا مقبولا ومحبذا. واللذة الجنسية جزء لا يتجزأ من الحالة البشرية، وهي لا تتعارض مع الدين والقيم، بشرط أن لا تباح وأن لا يسمح بها خارج الزواج. ولكن يفترض في إتمامها وجود حالة إتحاد شرعي بين الرجل والمرأة. ولذلك لا تسمح معظم الاديان بأن يكون هذا العطاء خارج العشرة الزوجية، وإلا إنقلب العالم الى مشاعية وفوضى جنسية عارمة، فلا يبقى للزواج قيمته، ولا للأسرة معناها الحقيقي. وقد يسأل سائل ماذا إذا لم يكن هناك حب بين الزوجين؟ أو ماذا لو انتهى الحب بين الزوجين بعد فترة من الزمن؟. فهل هناك فرصة ثانية للطرفين؟. ففي الاديان وجهات نظر مختلفة وتفسيرات متباينة على ذلك. إذ منهم من يسمح بتعدد الزوجات وبالطلاق لعدد من المرات كما في الاسلام. ومنهم من يحدد الطلاق في حالات خاصة جدا تبطل الزواج وتجعله غير صحيح كما هو الحال في المذهب الكاثوليكي. ومنهم من يسمح بالطلاق في حالة الزنى فقط كما هو في المذهب (الارثوذكسي). علما بأن المسيحية تقر بشريعة الزواج بامرأة واحدة مدى الحياة، بإعتبار الزواج تتمة لمشيئة الله الكاملة منذ البدء. وعلى أية حال فالزواج فرصة ثمينة على البشر أن يبحث في كيفية إيجادها. وقد يساعد الزواج على تحقيق السعادة أو قد يفشل في ذلك. وقد تكون الحياة الزوجية حياة هنيئة مباركة مليئة بالراحة والسكينة أو قد تكون شقاءً وعذابا لا يُطاق. ولكن من كان في بيته سعيدا يعيش مع الناس سعيدا. ومن كان في بيته تعيسا يكون مع الناس ضيّق الصدر متبرّما حزينا.
الصلاة مارس الانسان الصلاة عبر التاريخ وفي كل الظروف والمناسبات سواء المفرحة أو المحزنة. وفي كل الثقافات والحضارات المتخلفة أو المتطوّرة. وكتب الناس عن الصلاة وعن تعريفها وغايتها وكيفية ادائها، قديما وحديثا. ولا يزال الانسان يكتب عن إحتياجه اليها، بالرغم من التطوّر العلمي والتكنولوجي في كل المجالات. فالصلاة هي المفتاح الذي يفتح المؤمن بها أبواب الفرج والراحة والسلام. إلا أنها ليست كافية، إذ يحتاج المؤمنون الى الأعمال الصالحة مع الصلاة والعبادات التي يقدمونها لله. فهي إذن حلقة الوصل بين الإنسان والله. توجهه نحو ربه لغرض اسعاده، ولربط علاقة الصداقة بينهما. وتختلف في طريقة أدائها وأحكامها وأنواعها، وفي عدد المرات التي يجب تلاوتها يوميا، من دين الى آخر، ومن ثقافة الى أخرى. وقد يسأل المرء عن الغاية من الصلاة، وعن فاعليتها وفائدتها الروحية والزمنية. وتتلخص فائدتها الكبرى في تأسيس العلاقة الحيّة مع الله والتقرّب اليه، والإنسياق الى ما يأمر به من اقامة الخيرات التي من المفروض ان تسعد الانسان في الحياة الحاضرة والحياة الأبدية، بالاضافة الى دورها في النهي عن فعل الشر والإثم، ومساعدتها للإبتعاد عن الحقد والغضب واليأس والتعاسة. ولكن هناك دائما من ينكر أي دور للصلاة. إذ يعتبرها البعض نوع من أنواع الخرافة أو السحر أو شىء من الماضي يجب التخلص منه. وأذا أمعنا النظر في مثل الفريسي والعشار في الانجيل نجد رفض الله لصلاة الفريسي وعبادته وأعماله، وذلك بسبب فرض ذاته على الله عوضا عن إلتماسه لمشيئة الله. وكذلك في إدعائه الكمال، ناسيّا ان الكمال لله وحده. بالاضافة الى إفتخاره بأعمال الرحمة والصلاة والصدقة التي عملها لكي ينظر اليه الناس. وأما العشار المُحتقر من قبل الجميع، فإنه أكتفى بالقول في تواضع وإماتة كبيرين، ومن دون أن يكثر الكلام قائلا: ((اللهم ارحمني أنا الخاطيء)). حيث كان يرفع صلاته ودعاءه بصلاة قلبية صادرة عن روح منكسرة. ويؤكد المسيح في هذا المثل على رجوع العشار الى بيته صافي النية، مقبولا من الله، مبرّرا من جميع خطاياه. وأما الفريسي فصلاته كانت وبالا عليه، إذ أظهرت تستره بالتقوى الطقسيّة، وكبرياءه الفارغ في تحدثه عن نفسه، وفي طريقة تطبيقه للناموس والشريعة. ففي الصلاة يتوجه المؤمن الى الله، ويقوم بين يديه، ويتحدث معه ويخاطبه بمجموع الحواس، ويصغي اليه في عمق كيانه. فهي إذن التعبير الطبيعي عن شعورنا نحوه، إذ نناجيه في حالات الحزن والألم، ونشكره في حالات الغبطة والفرح، ونستغيث به في وقت الضيق والألم، ونحمده على بركاته ووجوده في كل الأوقات لتسبيح أسمه، وتمجيد أعماله التي لا تحصى من أجل البشر. ولهذا فلا يمكن التغاضي عن الصلاة، إذ كما أن التغذية ضرورية وواجبة لعيشنا المادي، ولبقاءنا أحياء، كذلك الصلاة فهي ضرورية أيضا لتساعدنا في الوصول الى درجة من السموّ والهدوء النفسي والجسدي. وتتوضح ضرورتها اليوم أكثر من أي وقت آخر، وذلك بسبب صعوبة العالم الذي نعيش فيه، وبسبب المشاكل النفسية وإنتشار العقليات الوثنية والصنميات الجديدة التي بدأت تسود عبادتها في العالم كله، كحب المال والطمع والجشع والجنس والصراع من أجل السلطة والقوة وغيرها. وجدير بالاشارة أن الصلاة تمنح قوة روحية تفيد المصلين، بحيث يستطيع المصلي عن طريقها أن يكون على إتصال خفي ودائم بالله. والمقصود بها أن يكون المصلي في شركة روحيّة دائمة مع الله. ويشكل الإنقطاع عنها لفترة معيّنة خطرا على المصلي، إذ يوقف الصلة مع الله، وينحدر به تدريجيا الى الروح العالمية وتغلب عليه المصلحة الذاتية والزمنية. وتفيد الصلاة بتذكير المؤمن دائما بوجود إله حيّ مُحب عطوف يقرع باب قلوبنا، وينتظر دوما بأن نفتح له لكي يحل علينا ضيفا، ويزيدنا نعمة وسلاما. ولكن إنشغالاتنا اليومية من مشاهدة التلفزيون وجدالاتنا العقيمة حول الأمور التافهة، تمنعنا في كثير من الاحيان للإصغاء اليه. ولهذا فمن لا يُصلي يفقد دفئه الروحي، ويُعد ميّتا روحيا، ويكون كمن يفقد الجسد غذاءه المادي ويموت. وللصلاة أنواع عديدة ومتنوعة. ولعل من أجمل الانواع وأروعها، التأمل والمناجاة لله. ويتم هذ النوع من الصلاة عادة في رفع العقل والقلب معاً إلى الله، فتنعكس طبائع الله وجماله وأمجاده على المتأمل أو المناجي، ويصبح حينئذ على مثال الله. وقد استخدم هذا النوع من الصلوات الرهبان والمتصوفة على مر العصور لإقامة الشعائر والصلوات والتدريبات، وذلك عند شروق الشمس وغروبها ليدل على دور الطبيعة وعلاقتها مع الدورة الطبيعية للأرض. وقد ذكرت الكاتبة (باتريشا كارنغتون) في كتاب التأمل ص 81 : أن تقنيات التأمل يتم فيها تركيز الانتباه على التنفس، وهي تقنيات ضد الارق وتختصر الطريقة في أن تأخذ نفسا عميقا ببطء وأنت تفكر في حرف (ش) عند الشهيق وحرف(ز) عند الزفير. وتنصح الكاتبة على الاجراء الطبيعي للشهيق والزفير براحة وهدوء، ومن دون أدنى تشدد أو تعصب. والمهم في الصلاة أو المناجاة أن يكون الإنسان في شركة روحية عميقة مع الله، وأن تنبع صلاته من قلب مؤمن خاشع لكي يبقى في شركة وصداقة مع الله لضمان سعادته على الارض، وضمان الحياة الابدية معه. ويتم ذلك كتعبير حيّ وصادق ينبع عن شوق كامن فى أعماق النفس للتحدث إلى الله، والى مد جسر التواصل مع الآخر. فالصلاة تفتح حياتنا على الله، وتفتح حياة الله علينا. وقد تنتابنا فترة من الإخفاقات والإنتكاسات، نشعر فيها بأن الصلاة لا قيمة لها ولا فائدة منها. فنلتجيء لأمور أخرى تبعدنا عنها. وقد تكون النتيجة خطيرة، إذ أن الغرور والكبرياء يمنعاننا من الرجوع الى ممارستها ثانية. وكذلك السأم وقلة الإيمان وعدم الثبات في محبة الآخرين، وعدم التطبيق الفعلي والعملي للكلمات التي نستعملها، والتي تخلق فينا حالة من الازدواجية في ما نقوله لله، وفي ما نفعله في حياتنا العملية. ولا بد من تغيير نوعية الصلاة، وعدم استعمال الكلمات نفسها في تأملاتنا وعبادتنا للقضاء على حالة التشتت والبرود، بالاضافة الى حاجتنا للقلوب النظيفة، والافكار النقية والبعيدة عن الحقد والبغض والكراهية وروح الانتقام. ولعل الغاية الرئيسية من الصلاة هي للسمو بالانسان الى أعلى. فهي لا تتم باللسان فقط، ولكن بالفكر والقلب معاً، وبما فيه من الرغبات والأشواق والمشاعر. وتؤكد معظم الاديان بأن الصلاة، فعل إلهي وبشري، يجب علينا ممارستها بدون انقطاع لكي نحصل من خلالها على النور الداخلي الذي يساعدنا على معرفة عيوبنا وأخطاءنا، ولنملآ بها فراغات قلوبنا، ولنشدد بها عزيمتنا، ولنخلق فينا من خلال ممارستها قلبا حيّا وروحا جديدة. ولا بد من التذكير بأن الصلاة لا تغير قصد الله، ولا تبدل خططه، ولكنها من المفروض أن تغيرنا لنصل من خلالها الى درجة من السمو الروحي الى أن تختفي ارادتنا الذاتية تلقائيا، وتتحقق ارادة الله الصالحة فينا. فالانسان خلق لكي يكون سعيدا، وقد طوب المسيح حالات كثيرة يظهر فيها الانسان مضحيا وخادما ومتواضعا ومضطهدا. فيا لسعادة الانسان الذي تكون تعزيته صادرة من الله رأسا، التعزية التي لا يستطيع غيره أن يمنحها. ويا لسعادة الانسان الذي يكون له المواعيد والعهود من الله نفسه في حكم الارض، وفي كل عمل يقوم به، وخاصة في حالة العشرة الزوجية التي غالبا ما تؤكد على إمكانية تحقيق السعادة الحقيقية من خلالها، وخاصة إذا كان الزواج مبنيا على أسس صحيحة وصادقة. إذ تلعب الصلاة دورها الحقيقي في سعادة الزوجين والاسرة، كمفتاح لكثير من الامور المعقدة والمتشابكة بين الزوجين، كما يُقال المثل الامريكي الشائع: ((تصلون معا، تبقون معا You pray together You stay together)). ولكن الصلاة لا يمكن تعطي مفعولها ولا أن تظهر تأثيرها الروحي، إلا إذا تمت في طابع من البساطة والتواضع، وفي هدوء وخشوع وتقوى. فعلى المؤمن أن يعمق طلبه، وأن يرفعه الى فوق في تكريم الله وتبجيله، بما يتفق عظمته وقدرته. ولكن على المصلي أن لا يكون أنانيا، وأن لا يطلب لنفسه فقط، بل أن يشمل الآخرين في طلباته، وإلا فإن صلاته تكون غير حقيقية. وعلينا أيضا أن لا نأخذ الصلاة كمطية لتحقيق الارباح أو وسيلة للحصول على الماديات والزمنيات. بل العكس تماما، إذ علينا أن نجعل الماديات والزمنيات مطية لها. فعندما يتجه المرء الى الله من خلال الصلاة في أوقات الشدة والأزمات. تعطي له القوة الحقيقية للاستمرار في العمل، بالرغم من الظروف المعاكسة والمعادية أحيانا. فالصلاة الحقيقية والتي تتم في روح منسحقة مجردة، تمنح الشجاعة والثقة والامل في ايجاد الفرص الجديدة للحياة، فهي تعطي الملاذ الحقيقي لمواجهة كل أنواع العقد والمشاكل والصعاب. وتعين المصلين للتغلب على الفشل، ولتحويله الى النجاح، وتساعدهم في التخلص من الخوف بكل أشكاله وخاصة الخوف من المجهول، لتنقذهم من أشد حالات الضعف واليأس ومن الامراض النفسية المتعددة.
الايمان كثيرا ما يسأل الناس عن الايمان؟ وعن لغزه وفائدته؟ وعن مساعدته في إنماء سعادة الانسان وهناءه؟ وعن إمكانية المؤمنين في أن يكونوا أسعد من غير المؤمنين؟ هذا ما نود الإيجابة عليه من خلال بحثنا عن الايمان وعلاقته بالسعادة والهناء. ولهذا تؤكد الاديان الابراهيمية في عقائدها على أن الله حيّ وقريب، وهو الاله الحاضر دائما، فلا شيء يغيب عنه. وقد جاء لكي يبحث عن الانسان، كأب يبحث عن ابنه الضائع. فعلى الابن أيضا أن يبحث عنه ويؤمن به. وقد سعى الانسان للحصول على السعادة والهناء في كل عمل يقوم به وفي كل فعل يصنعه. وكان لا بد له من أن يعيش بحسب أهداف الله وتصميمه الخلاق وسط تيارات الحياة المتشابكة. ولما كانت السعادة تعتمد على الجهاد من أجل الوصول اليها عن طريق الايمان والاعمال النابعة عنه. لذلك كان لا بد للمؤمن القيام ببعض الممارسات الطقسية كالصلاة والصوم والعبادات الاخرى لتحقيق هذا الهدف، ولتحقيق ما يشتاق اليه الانسان. ولطالما أخطأ الانسان في إختيار الطريق الصحيح في مخاطبة الله والتقرّب اليه، وهنا تكمن المسألة، إذ يشقى الانسان في طلبه وإستغاثته من دون تحقيق رغباته ويفقد بالتالي اتجاهه وسعادته وهناءه. فالايمان إذن، حالة قصوى يعيشها الفرد في صور وأشكال كثيرة، تتغير مع تغيير الرموز. وتبدو الحياة من دون الايمان وهما وبلبلة وفوضى وسرابا. إذ يرتفع المؤمن من خلال الايمان بعيون روحية عميقة، الى مستوى يرى فيه ما لا يُرى بالعين المُجردة، وما لا يمكن سماعه بالإذن العادية. ويشترط بالايمان بالله وبقدرته الربانية، معرفته، والثقة به، وبالاشياء غير المعلنة، وغير المرئية، والعمل بحسب ناموسه ووصاياه وأن يكون هذا الايمان مبنيا على أسس سليمة ومتماسكة ومتناغمة، ومؤسسا على أدلة صحيحة وصادقة. ومتضمنا، الارادة الصالحة، بالاضافة الى الوحي والعقل. وللثقة أهمية كبيرة في الايمان بالله والدعاء له. لأنه إذا كان الله الذي يهتم بشؤون الكون ويعتني بجميع مخلوقاته، ألا يستطيع أن يدبر أمورنا الخاصة ويعتني بنا؟!. ولكن ما يهدم هذه الثقة، الضعف والخوف والشكوك. فالشكوك تبعد الله عن حياتنا وتجعل من مشاكلنا أكثر صعوبة للحل. ولذلك يتطلب الإيمان بالله وجود ثقة راسخة لا تتزعزع بالرغم من الظروف المحيطة التي تثبت العكس، لأن الله قادر ان ينزع من حياتنا كل المعوّقات، وان يبعد من طريقنا كل ما من شأنه ان يعوّق عمل الايمان في داخلنا. فهو قادر أيضا أن يخلق فينا حبا حقيقيا غنيا وعميقا، حبا لا يخون ولا يتراجع، ويبعث فينا سلاما داخليا لا يتزعزع في أزمات الحياة المختلفة. ولعل الناس يسألون عن فائدة الايمان وعن الامور التي نحصل عليها بعد أن نؤمن ونضحي من أجله بكل ما هو غالي ورخيص؟. إن ما نحصل عليه من خلال الايمان بالاضافة الى الخلاص الاواخري الذي يتم بتعاون الانسان مع الله، هو الإطمئنان وإقتناء السلام الداخلي الذي يكتشف من يقتنيه السعادة الحقيقية. ويؤكد البابا يوحنا بولس الثاني الراحل على ذلك قائلا:((إن الايمان نافع لأنه يحث على الإستجابة للمتطلبات الأخلاقية الانسانية. ويمكننا أن نؤكد أن فائدة الايمان تكمن، بكل بساطة في أن نؤمن وأن نثق)). ولا بد من الاشارة على أن الايمان ليس مجرد حقائق نظرية وألفاظ وتعابير جامدة نتعلمها منذ الصغر على ظهر القلب. وليس شيئا ملموسا على الاطلاق ولا تصريحا أو تأشيرة للدخول الى السماء أو عملة من النقود نشتري بها عطايا الله. ولكنه ضمان الخيرات التي ترجى وبرهان الحقائق التي لا ترى(عبر 11/1)، أو هو قوة عملية وتصديق للأمور غير المرئية أو هو علاقة الصداقة والحوار بين الله والانسان والإلتزام بينهما بعهود ومواثيق. وتؤكد المسيحية في عقائدها على أن الايمان هو أعظم هبة مُنحت للبشرية. وما نحتاجه فقط هو الإستسلام المُطلق لله بالرغم من توافقه مع العقل أو عدم توافقه، لأن الله هو الذي يلهمه ويوحيه للإنسان الباحث عن السعادة وعن الشعور بالأمن والطمأنينة، والمتلهف لإنهاء مشاكله اليومية وعذاباته النفسية والجسدية من كل أنواع الشكوك والخوف والقلق والأمراض النفسية والجسمية التي قد تؤذيه أو تهلكه وتصل به في بعض الاحيان الى الموت المحقق. ولعل الخطأ الشائع الذي يقع فيه معظم المؤمنون هو الاتكال على مشاعرهم وأحاسيسهم والقياس عليها بدلا من الاتكال على الارادة الصالحة التي تقودهم نحو الله. لأن المشاعر والاحاسيس قد تتغير وتتقلب. ولكن الارادة المسلمة لله تماما والمركزة على مشيئته الصالحة، تبقى ثابتة وراسخة. فالارادة هي القوة الحاكمة في طبيعة الانسان. ومتى ما إتجهت الارادة إتجاها سليما، فإن القوى الاخرى تتبعها في نفس الاتجاه. ومتى ما ملك الله على إرادتنا التي تعبر عن شخصيتنا وكينونتنا الحقيقية فحينئذ الله يخلقنا خلقا جديدا ويجعلنا متلهفين لعبور الظلمة الى النور والعيش في سعادة وهناء. ولذلك فإذا أردنا التغلب على الصعوبات والمعوقات والمشاكل اليومية، فلا بد من القياس على إرادتنا وليس على مشاعرنا الخداعة والمهزوزة التي تشبه كثيرا السفينة المشدودة بالمرساة والتي تضطرب بسبب العواصف الهوجاء. ولكن إذا كانت السفينة مشدودة شدا قويا، فلا تهتز مهما كانت العواصف شديدة وقوية. وكذلك بالنسبة الى الارادة القوية والصالحة، فهي لا تهتز إذا كانت مثبتة بالايمان الذي هو مصدر القوة والشجاعة، والذي يضل ثابتا وشامخا وقويا، مهما كانت العواصف والأمطار شديدة وقوية، لأن بناءه يكون على أساس من الصخر، فلا يتزعزع. فالإيمان إذن حاجة نفسية فطرية، يحتاجه الإنسان في نشر بذور المحبة والحنان والعدل والإحسان والصدق والأمانة. وغايته هي الحصول على السعادة التي هي بمثابة الدرة الثمينة والجوهرة الغالية. ويعطي الايمان للحياة معناها، ويوفر للإنسان قاعدة يرتكز عليها في حياته وأعماله. وينقذه من النوازع الشريرة مثل الحسد والكراهية واليأس والأنانية والخداع والرذائل الاخرى. ويعطيه القوة والقدرة في محاربة القلق والكآبة والملل في النفوس، ويزوده بالقابلية على الصبر في الشدائد والرضى والقناعة والإطمئنان. والسير بخطى ثابتة نحو الأهداف المستقبلية الرائعة. بالاضافة الى جرأة الإنسجام مع الآخرين مهما كانت خلفياتهم وأجناسهم وأوطانهم وثقافاتهم. ولذلك تبدو الحياة من دون الايمان مثل الورقة المقطوعة من غصنها، والتي تتلاعب بها الرياح الهوجاء. ولكن من يقتني الايمان، يقتني في الحقيقة على السعادة الحقيقية ويكون فرحا بشوشا بالرغم من شدائد الامور ومصاعبها. كما يقول الرسول بولس: افرحوا في الرب كل حين، وأقول أيضا أفرحوا (فيليبي 4:4). ولكن لا يمكن في الواقع أن نفرح كل حين، وفي ذات الوقت أن نكون مستسلمين للقلق. فالايمان يعلمنا كيفية التغلب على الافكار المقلقة، وكيفية الإبتسام للإمور المختلفة بروح مرحة. والملفت للنظر في قول الرسول (افرحوا) النابع من قلبه في وقت كان نفسه في ظروف صعبة جدا، إذ كان سجينا ومضطهدا. ويعلمنا الرسول كيفية السيطرة بقوتنا الروحية على الظروف الخارجية مهما كانت قوية وظالمة. ويشجعنا على التغلب على الظروف الخارجية الصعبة، وأن لا ندعها تؤثر على حياتنا الداخلية وعلى سلامنا الباطني. ولهذا كان المسيحيون الاوائل اقوياء بالايمان الذي قلب حياتهم رأسا على عقب كما حدث مع بطرس واخوته الرسل الذين غيرهم الى اناس فرحين بإيمانهم وشجعانا في كرازاتهم ومتعاونين فيما بينهم. ولم يكن ليحدث شىء من هذا لولا قوة الروح وتقويته لهم وإعطائهم ثماره اللذيذة من المحبة والفرح والسلام وطول الأناة واللطف والصلاح والامانة والوداعة وضبط النفس. (الغلاطيين 5 : 22). ومن هنا نستدل على أن السعادة الحقيقية لا يُمكن أن تكون مستقلة عن الله. والبحث عنها بعيدا عنه يمثل سرابا ووهما. والذين يفعلون ذلك يُفسدون حياتهم وحياة أقربائهم وأصدقائهم، ولا يمكنهم الحصول على الفرح والسلام والسعادة، إلا بعد الثقة الكاملة بالله الذي يسيطر على جميع الظروف الحياتية والذي يعد في الوقوف بجانبنا مهما تكن الظروف والأوضاع.
الأمل والرجاء يسعى الانسان طول حياته في البحث عن الطرق الملائمة لراحته وإطمئنانه وسعادته. ولذلك كان عليه أن يجتهد في طلب حقوقه بجرأة وشجاعة. فمن لا يحاول ويجتهد يعتبر غير ملتزم ومن الخاسرين. فعلى الانسان أن يحاول الوصول الى أهدافه بكل الطرق المسموحة، وأن يتجاوز الظروف الغير الملائمة، بالرغم من كل الصعوبات والتحديات التي يواجهها في حياته. ويلعب الامل دورا كبيرا في تحقيق غاياته للحفاظ على بقاءه حيّا وطموحا وفعالا. إذ كما أن الغذاء ضروري لعيش الانسان المادي وبقاءه حيّا، كذلك الرغبات والأماني والأحلام، فهي ضرورية لنجاحه ولتحقيق مستقبله. ولكي يحقق الانسان كل ذلك كان يجب عليه التركيز على منحى واحد من مناحي الحياة، وذلك بتحويل الأحلام والأماني والآمال لديه الى واقع يومي معاش. فالشخص الذي لا هدف له في الحياة يشبه كسفينة بلا دفة أو كسائق من دون اتجاه أو كجسم من دون مناعة. ولا بد من تحديد ما يريد الانسان، لأن القرارات التي نصنعها تتحكم في مصيرنا ومستقبلنا أكثر من الظروف التي نصنعها من خلال تصرفاتنا وأعمالنا. وتكمن المتعة الحقيقية في تحديد الهدف، والعمل على تحقيقه والوصول اليه. إذ لابد من دافع قوي للإقدام على العمل وإتمامه. والوسيلة المشجعة لهذا الدافع هي التسلح بالأمل والرجاء. وجدير بالاشارة أن هناك رابط قوي لا ينفصم بين النجاح والايمان، وبين الأمل والعزيمة. فلكي ننجح ونكون سعداء في حياتنا يجب علينا أن نختار لأنفسنا قضية، ونعمل على تحقيقها بروح عالية وإرادة قوية. ويؤكد الكثير من المختصين والمفكرين المؤمنين بصعوبة حصولنا على السعادة الحقيقية، إذا عشنا حياة تقتصر فقط على ممارسة الامور الطبيعية، كالأكل والشرب واللعب والنوم. فإذا أردنا العيش في حياة ذات معنى ومغزى فلا بد من وجود الهدف. ولا بد أيضا من أن نضع أمامنا مجموعة من الاهداف الصغيرة التي تقربنا من الهدف الاكبر. ولكن الاهداف يجب أن لا تكون بعيدة المنال وغير واقعية بل يجب أن تتناسب مع الطاقات والقابليات والقدرات الشخصية، لأن معرفة القدرات الشخصية وتناسبها مع الاهداف المُحدّدة تعطي القوة الكافية للأشخاص أثناء تحقيقها. ولذلك فالانسان الذي يرسم له الاهداف في الحياة، ويرجو ويأمل دائما يكون عادة أكثر قوة وصلابة من الشخص الذي يتنازل بسهولة ولا يأمل بتحسن الامور. وخير مثال على ذلك (يوسف ابن يعقوب) الذي باعه أخوته للمصريين، ولكنه أثبت نجاحه بإيمانه ونزاهته وبتخطي الحواجز والعراقيل ليصل الى درجة رئيس الوزراء في الدولة الفرعونية. وأبدع كوزير ونجح في جميع خططه الاقتصادية. وأثبت نجاحه في السيطرة على المجاعة العاصفة التي شملت العالم المعروف آنذاك. وكذلك (هنري فورد) صانع السيارات الامريكية المعروفة(فورد Ford) الذي لم يفقد أمله في صنع موتور السيارات الكبيرة (6 و 8 بستن Celender ) بعد محاولات فاشلة عديدة، كانت تعد بالمئات. والعالم (توماس أديسون) الذي فشل أيضا مئات المرات الى أن نجح في إختراعه للمصباح الكهربائي. فالامل إذن شرط لا بد منه في الحياة. إذ يساعد على التقدم نحو المستقبل المشرق الملىء قوّة وشجاعة، ويدفع الى العمل والنمو والتفاؤل والابداع. وأما اليأس فهو عدود لدود للإنسان، إذ يقوده الى التشاؤم والفشل والإحباط. ويوقع في شباك التخلف والتأخر والنحيب المستمر على الماضي السحيق. كما يحدث في معظم شعوب الشرق الأوسطية التي تتكلم عن الماضي أكثر مما تتكلم عن الحاضر والمستقبل. فلا غرابة من إنطوائها وتقوقعها وبقائها في زوايا التاريخ المظلمة. والغريب في امرها أنها لا تعي مصيرها ومستقبلها الكئيب والمزري، بل تضل ترى نفسها من خلال تاريخها فقط ولا تقرأ ما يحدث في العالم من تغييرات وتطورات. وكأن ماضيها منزل من السماء، فإذا مسّه المرء، تزلزلت الارض، وسقطت السماء، وتناثرت النجوم، وأظلمت الشمس، وانتهت الحياة. ولا بد من وجود الامل التسلح بالثقة العالية بالمستقبل الباهر الذي بوسع الانسان احرازه وتحقيق أمنياته وتمنياته. فالأمل نزعة فطرية تعلم التشبث بالحياة، رغم معرفة الانسان بأنه ماض الى الموت لا محالة. فلابد إذن من وجود الامل والرجاء للإقدام على أية مهمة ناجحة سواء للفرد أو للعائلة أو للمجتمع بأكمله. إذ كما أن الفرد الذي يعيش من دون الامل يعتبر من الخاسرين والفاشلين، كذلك المجتمع الذي يعيش من دون أمل ولا رجاء فلا مستقبل له، ويبقى بالتالي متخلفا عن الركب الحضاري. مع أن الامل والرجاء يتشابهان في مفاهيمهما وضرورتهما إلا أنهما يختلفان في بعض الجوانب. فقد يخطأ الانسان في أمله، ويفشل. ولكن الرجاء لا يُخيب ظن المؤمنين، لأن الفضيلة تقود المرء للسعادة، وتساهم في توسيع آفاقه نحو المستقبل المشرق. وقد يسيطر الحزن والأسى على قلوب البعض بسبب فقدان عزيز أو حدوث حادث مؤسف، فتزيح السعادة والتفاؤل من حياتهم. ويحدث هذا عادة عندما يحدث الموت صدمة، في حادث غير متوقع، لا ينتظره الانسان. وتلعب الصلاة دورها في هذه الحالة، إذ تمنح التعزية في الاوقات الصعبة كما جاء في مزمور داود النبي 34/ 18 ((قريب هو الرب من منكسري القلوب ويخلص المنسحقي الروح)). لأن الله قدير في معالجة الفراغ الذي يتركه موت عزيز على القلب، ويتفهم الالم وعنده فقط الدواء الشافي، وما علينا إلا ان نطرق بابه، وهو حاضر ليفتح لنا ذراعيه كما يذكر داود النبي مزمور 23 / 4:((إذا سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شرا لأنك معي عصاك وعكازك هما يُعزيانني)). ولكن تبدو الحياة قاسية في بعض الاحيان، إذ قد يغلب الضباب على مسيرة البعض من الذين يفشلون، فيصيبهم الفشل ويلقون اللعنة تلو العنة، وينسون بأن الصراخ في وجه الحياة لا يجدي نفعا ولا يفيد. وتكون النتيجة المتوقعة، هجوم اليأس وتحكمه ولاسيما إذا سلكنا دروبا تبعدنا عن الله وحكمته وإرشاده، وإعتمدنا فقط على مشاعرنا وأحاسيسنا. وتنتشر حالات اليأس في العالم إنتشارا كبيرا في عصرنا الراهن بسبب التعقيدات الكبيرة في الحياة. وتدعو النسب الحديثة الى الاندهاش الكبير. ولعل الأسباب التي تؤدي الى كل ذلك تكمن في فقدان الايمان، وعدم وجود الأمل والرجاء وعدم وجود القدرة في مجابهة الواقع المشحون بالصعوبات المادية بعيون إيمانية تعطي الامل والرجاء بغدٍ أفضل. ولكن لا يزال الانتحار يحصد عدد كبير من البشر كل سنة، وخاصة في المجتمعات المتمدنة والبلدان الضعيفة في الايمان بالله كما في السويد واليابان. وتختلف الآراء حول الانتحار إذ يعكس عند البعض شجاعة الشخص المنتحر، وأما عند البعض الآخر، يمثل الجبن بعينه أو يدل على الإنعكاس لفشل الانسان، وعدم الحاجة الى إستمرار حياته. فالامل إذن هو الحل الاسلم في الحياة، والطريق المغمور بالطموح المستقبلي عند الانسان. وهو الضوء الذي تراه عندما يستغرق الجميع في الظلام. والابتسامة التي ترتسم على وجهك عندما تتساقط دموعك. والنافذة التي من خلالها يدخل نور التفاؤل في حياتك ليضئ لك الدروب المعتمة التي قد تخلفها نوائب الدهر القاسية. وقد يفقد الانسان الطعم الحقيقي للحياة، ويشعر بأن الحياة لا معنى لها طالما هناك تعب وشقاء وألم ومرض وموت. وهناك تيار نشأ في الغرب يتركز مفهومه على ان الأشياء كلها باطلة، ولا معنى لها. فلا يوجد داع للعمل والتعب والتضحية، كما صرح الكاتب الفرنسي البير كامو قائلا: ((حياتك لا معنى لها، سواء عشت أو مت، فالنتيجة لا تختلف)). ولا يرى الكاتب هنا قيمة للفرد البشري، لأنه لا يرى معنى للوجود. فالوجود برأيه زائل وسيتلاشى كل شىء يوما ما. ويضيف أبو الوجودية (جان بول سارتر) قائلا: ما معنى العمل وما معنى الجدية في الحياة إذا كان كل شىء الى الزوال. وما المعنى من البناء الحضاري والتقدم البشري ان كان مصير الانسانية الى الزوال. فلا معنى في مفهومه للعمل والتعب والجدية في الحياة. والافضل أن يتسكع الانسان في الشوارع، ليتذوق طعم الحرية المطلقة وليعيش من دون مسؤولية تذكر. وثبت فشل تلك الافكار برفض الواقع لها. فالحياة لا تقبل ما يناقض الطبيعة، وما يحط من قيمة الانسان. إذ تجعل هذه المفاهيم من الانسان أقرب الى البهيمية، وتجرده من روح المسؤولية التي يجب أن يتحلى بها دائما وأبدا. فالمسؤولية هي من أهم الامور التي تخلق في الانسان الرغبة في الوجود والحياة. وما جهادنا في الحياة، إلا دليل على حبنا للحياة، ورغبتنا في تحمل مسؤولياتنا كبشر ومواطنين. ولذلك تقدس الاديان العمل وتعتبره أساس الخليقة. ويؤكد المسيح على مفهوم العمل ويقدسه كما جاء في انجيل يوحنا 5/ 17 : إن أبي ما زال يعمل، وأنا أعمل أيضا. فإن كان الله يعمل بإستمرار فعلينا أن لا نيأس من الحياة بل أن نعمل لنغير وجه العالم نحو الاحسن والاجمل. فالعمل إذن أمر مقدس في جميع المفاهيم والمعتقدات البشرية. لأنه بالعمل والمثابرة والاجتهاد فقط يكون للبشر حقوقا وواجبات. لأنهم يختلفون بدون دون شك في المواهب والملكات والقابليات. ولذلك علينا معرفة طاقاتنا وإمكانياتنا وتحقيق ما تؤهله لنا كفاءاتنا، وعلينا الاستفادة من الفرص المتاحة أمامنا بقدر الامكان. فالحياة فرصة، وما علينا إلا بتحمل تجاربها وصعوباتها بصدر رحب، وقلب ملىء بالعزيمة، وباعطاء المجال للأمل والرجاء. فالامل يزيد فينا الرغبة في العودة من جديد، والبدء من جديد في حياة جديدة. ويجلعنا نستقبل البسمة ونتوقع النجاح حتى في أشد المراحل عتامة وقساوة، فهو شعلة تضىء في ظلمات حياتنا، وفسحة تزيح عن صدورنا كل ما يعكر صفو حياتنا. وتثبت الدراسات والتجارب العلمية أيضا بأن الامل هو المعين الرئيسي القوي لمواجهة شدائد الحياة واضطراباتها. والذي يدفع بالانسان الى الامام، ويزوده بالطاقات التي تنطلق به نحو المستقبل. ولولاه لما كان في مقدور الانسان التكلم باللغات، والسيطرة على الكائنات الحية الاخرى، وتحقيق الاختراعات والاكتشافات والتطورات التكنولوجية والتقنيات الحديثة التي قربت البشرية من بعضها البعض، وجعلت من العالم بمثابة قرية صغيرة(القرية الكونية).
المصادر والمراجع ـ الكتاب المقدس ـ لويس، سي إس: المسيحية المجردة ـ أوفير للطباعة والنشر ـ عمان 2006. كيرك، ماري، ترجمة ادوارد وديع عبد المسيح: الزواج الناجح ـ القاهرة 1996 . ـ ارنولد، جان كريستوف، ترجمة قسطندي شومالي: مكتبة المنار 2001. ـ هورست، ريتش، ترجمة داليا وهيب: فن التواصل ـ دار الثقافة ـ القاهرة 2005. العربي، رمزي: ما هو الحب ـ دار الرفيق ـ لبنان 2006 . ـ شو، القس بول، تعريب فخري كرم يوسف: الصلاة مفتاح النهضة ـ القاهرة 2005 . ـ ماير، ف. ب، تعريب فؤاد حبيب: امتحان الايمان ـ القاهرة 1990 . ـ ليارد، ريتشارد، تعريب علي زيتون: السعادة ـ دار علاء الدين ـ دمشق 2008. ـ سليجمان، د. مارتن أي . بي، تعريب: مكتبة جرير ـ العربية السعودية 2006 . ـ بيك، د. آرون، ترجمة د. عادل مصطفى: العلاج المعرفي والاضطرابات الانفعالية ـ دار النهضة العربية ـ بيروت لبنان 2000. ـ كوهين، ستيف، ترجمة حسان بستاني: الفوز بثقة الناس ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت 2005 . ـ بتلر، د. تيموثي، تعريب مها حسن: ذروة النجاح ـ مكتبة العبيكان ـ السعودية 2001. ـ براون، غاي، تعريب احمد العمري: طاقة الحياة ـ مكتبة العبيكان ـ السعودية 2003. ـ سويندول، تشارلز ر: تخطي الحواجز ـ دار منهل الحياة 2008 . ـ سيجل، الدكتور بيرني، ترجمة الدكتور عزت شعلان: السلام والحب والشفاء ـ دار الشروق ـ القاهرة 2003 . ـ كارنغتون، باتريشا، ترجمة اقبال ايوب: التأمل ـ بغداد ـ دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد. ـ همفريز، توني، تعريب: فاطمة عصام صبري: قدرة التفكير السلبي ـ العبيكان 2003 . ـ ميتكالف. ج، تعريب فخري كرم يوسف: تأملات في الحياة الجديدة القاهرة 1985 . ـ در لوخت، الاب فرانس فان اليسوعي: من أنت ايها الحب؟ دار المشرق ـ بيروت 2006 . ـ طربية، د. مأمون: تميز ... وتواصل بنجاح ـ دار المعرفة ـ بيروت لبنان 2005. ـ وصفي/ الدكتور أوسم: صحة العلاقات ـ القاهرة 2006. ـ بولاد، هنري: اله المستحيل من الامل الى الرجاء ـ دار المشرق ـ بيروت 1996 . ـ جرمانوس، الاب جرمانوس: العاطفة والجنس والسعادة ـ بيروت 2009. ـ بندلي، كوستي: الجنس ومعناه الانساني ـ منشورات النور ـ بيروت 1980.
المحتويات المقدمة البحث عن السعادة التفاؤل معرفة الذات الثقة بالنفس الصداقة الحرية العمل الصحة الزواج الصلاة الايمان الأمل والرجاء
#صبري_المقدسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العالم: عقائد وأعداد واجناس وإقتصاديات
-
الاديان: اعداد وارقام
-
أقوال الفلاسفة والقادة والعلماء في الدين والاديان
-
الأديان والعقائد: أعداد وأرقام
-
مختصر تاريخ الديانات الرئيسية الكبرى
-
إمهاتهم شتى ودينهم واحد
-
الديمقراطيات العربية قادمة آجلا أم عاجلا!!
-
هل ستنجح المجتمعات الإسلامية في التوفيق بين الديمقراطية والإ
...
-
إلى متى ليل العرب ينجلي يا أيها الشاعر العظيم؟!!
-
الثقافة وديناميكية التجدد
-
الموسوعة المسيحية: النشوء والتكوين
-
الدرب الجديد
-
المستحيل يتعشش فقط في عقول من يؤمنون به
-
البروتستنتية من الوجهة النظر الكاثوليكية
-
الهرطقات عبر العصور
-
فهم حركة العصر الجديد
-
حوار الاديان: دواء شافِ للإنسانية المُعَذَبة
-
السياسة والإرهاب
-
الدين والعلم بين الصراع والمصالحة
-
الحرب والسلام
المزيد.....
-
ماذا نعرف عن صاروخ -أوريشنيك- الذي استخدمته روسيا لأول مرة ف
...
-
زنازين في الطريق إلى القصر الرئاسي بالسنغال
-
-خطوة مهمة-.. بايدن يشيد باتفاق كوب29
-
الأمن الأردني يعلن مقتل مطلق النار في منطقة الرابية بعمان
-
ارتفاع ضحايا الغارات الإسرائيلية على لبنان وإطلاق مسيّرة بات
...
-
إغلاق الطرق المؤدية للسفارة الإسرائيلية بعمّان بعد إطلاق نار
...
-
قمة المناخ -كوب29-.. اتفاق بـ 300 مليار دولار وسط انتقادات
-
دوي طلقات قرب سفارة إسرائيل في عمان.. والأمن الأردني يطوق مح
...
-
كوب 29.. التوصل إلى اتفاق بقيمة 300 مليار دولار لمواجهة تداع
...
-
-كوب 29-.. تخصيص 300 مليار دولار سنويا للدول الفقيرة لمواجهة
...
المزيد.....
-
الجِنْس خَارج الزَّواج (2/2)
/ عبد الرحمان النوضة
-
الجِنْس خَارج الزَّواج (1/2)
/ عبد الرحمان النوضة
-
دفتر النشاط الخاص بمتلازمة داون
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (مقدمة) مقدمة الكتاب
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (3) ، الطريق المتواضع و إخراج
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
ثمانون عاما بلا دواءٍ أو علاج
/ توفيق أبو شومر
-
كأس من عصير الأيام ، الجزء الثالث
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
كأس من عصير الأيام الجزء الثاني
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
ثلاث مقاربات حول الرأسمالية والصحة النفسية
/ سعيد العليمى
-
الشجرة الارجوانيّة
/ بتول الفارس
المزيد.....
|