|
من دروس الحرب الأهلية اللبنانية
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 4784 - 2015 / 4 / 22 - 20:43
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أربعة عقود مرّت على اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية العام 1975 والتي استمرّت نحو 15 عاماً، حتى توصّل المتحاربون إلى اتفاق الطائف العام 1990 . ولم يكن ذلك بمعزل عن توافق إقليمي كان له الأثر الكبير في إخماد نيران الحرب وإطفاء الحرائق ووقف النزاع المسلّح، الذي اتخذ بُعداً دينياً وطائفياً، حتى وإنْ ارتدى ثوباً سياسياً، بحيث كان كل فريق يريد التمدّد على حساب الآخر، ولم يكن من خيار سوى السلاح، الذي لم يدمّر الآخر فحسب، بل قام بتدمير نفسه، سياسياً وأخلاقياً ووطنياً ونفسياً، في ظل غياب الحوار والعقلانية والمشترك الإنساني، ذلك إن ممارسة العنف ضد الآخر، هو ممارسة للعنف ضد الذات أيضاً، بتدمير الجانب الإنساني لديه . والعنف لا يولّد الاّ العنف، وبهذا المعنى فإن دائرة العنف اتّسعت لتشمل الجميع، وتشعل فيهم نار الحقد والكراهية والكيدية والثأر ومحاولة القضاء على الآخر أو إقصائه أو تهميشه . على الرغم من طول مدّة الحرب لكنه لم يكن فيها منتصرون ومنهزمون، ورابحون وخاسرون، فقد اكتوى بلظاها الجميع من دون استثناء، ودفع الجميع فاتورة استحقاقها بغضّ النظر عمّن بدأها ومن استمرّ فيها، ودور العامل الخارجي في إذكائها، على المستوى الإقليمي والدولي . وإذا كانت الدولة اللبنانية قد تأسست في العام ،1920 فإن دستورها المُبرم العام 1943 كرّس الطائفية والطوائفية، ووضع امتيازات لأمراء الطوائف لا أحد يريد إلغاءها، بل عمل الجميع على توسيعها على حساب الفئات الأخرى أو للحدّ من نفوذها، حيث كان يعتبرها خصماً، وجعلته الحرب يتعامل معها بصفتها عدواً يستحق الاستئصال . لقد أدّت الحرب الأهلية اللبنانية إلى تدمير الدولة، في حين كان فريق يسعى إلى إصلاحها وإعادة النظر بتركيبتها، وفريق ثاني يريد التمسّك بصيغتها بسبب هواجسه من الآخر، وإذا بالدولة تنحسر وتذبل وتعوّم، ولم يستطع اتفاق الطائف من إنقاذها، وإذا كان له من ميزة، فإنه تمكّن من وقف الحرب، ولكنه كرّس النظام الطائفي والطوائفي، عبر حصص ونسب وقانون انتخاب لا ينتج سوى التقسيم والتقاسم والمحاصصة، ليس بتخصيص رئاسة الجمهورية للمسيحيين "الموارنة" ورئيس الوزراء للمسلمين السنّة ورئيس البرلمان للمسلمين الشيعة، بل امتدّ التقسيم إلى ما هو أدنى من ذلك، وكما يقال من الوزير وإلى الخفير . كان "المسلمون" بغض النظر عن اختلافاتهم يريدون تحسين مواقعهم متّخذين من واقعهم مبرراً لذلك، في حين كان المسيحيون يشعرون بالقلق، ليس في لبنان وحده، بل في دول المنطقة عموماً، حيث اتسعت دائرة الاستهداف والتمييز تدريجياً، التي تعتبر حاضنة لزرع الشكوك وتنمية الأحقاد وتسميم العيش المشترك، حيث يصبح التفاهم والتوافق والمشترك الإنساني تكتيكاً ومناورة على الرغم من الادعاءات والمزاعم . للأسف الشديد لم تدرك الأطراف اللبنانية جميعها المنزلق الخطر والدرب الوعر الذي اندفعت فيه، وبعد أربعين عاماً يستمر النقاش والحوار عن هواجس هذا الطرف واستعصاءات الطرف الآخر، من دون تجاوز ما حصل ومن دون تحديد مواقع الخلل والمثالب والعيوب، فقد كانت محاولة كل فريق بسط سلطانه على الآخر كارثية على الجميع مهما أسبغ عليها من حجج أيديولوجية وسياسية، ويكفي جردة حساب اليوم لنعرف كم سال من دم لبناني غزير على هذه الأرض الطيبة المعطاءة، بكل ما تحمل من طاقات بشرية فكرية وثقافية وأدبية وفنية وعلمية وحضارية؟ وهذا الدرس الأول الذي ينبغي استيعابه جيّداً . لقد تصوّر كل فريق أنه يملك الحقيقة وله بهذا المعنى الأفضلية في تحديد مصير لبنان، فكانت فصائل مسيحية من كتائب وقوات لبنانية وأحرار يطالبون بوطن قومي للمسيحيين فقط، يصطّفون سوّية لإلغاء الآخر بزعم وقف التمدّد الإسلامي ومنع الفلسطينيين من العبث بأمن لبنان بغض النظر عن بعض الممارسات السلبية، وكان فريق الحركة الوطنية الذي ضم قوميين بمختلف توجهاتهم واشتراكيين وشيوعيين وغيرهم من أوساط مسلمة بالدرجة الأساسية، ومعهم الفلسطينيون يريدون وضع حد للنفوذ المسيحي، تحت شعارات دعم المقاومة وإعادة بناء الدولة على أسس جديدة، وإصلاح المؤسسات والقوانين، بحيث تكون عابرة للطائفية والطوائفية . ولم يستطع الطرف الأول فرض رؤيته، كما لم يتمكّن الطرف الثاني إجبار الآخر على قبول رؤيته، الأمر الذي أوصل الجميع بعد حرب بشعة إلى طريق مسدود . وكان لا بدّ من البحث عن القواسم المشتركة مجدّداً، وفي مقدمتها وقف القتال والجلوس إلى طاولة مفاوضات، وهو ما حصل في الطائف حين اجتمع "أعداء الأمس"، ليتوصّلوا إلى صيغة ترضي التوازن الإقليمي السوري - السعودي، ولا تتعارض مع التوجّه الدولي، خصوصاً بعد انحسار دور الاتحاد السوفيتي والاطاحة بأنظمة الكتلة الاشتراكية في أواخر الثمانينات، وصعود نجم الولايات المتحدة كلاعب مهيمن ونافذ على العلاقات الدولية . هل يمكن اليوم الاستفادة من التاريخ ودروسه وعبره وعدم تكرار ما حصل من فواجع ومآسٍ، أم إن النسيان والمصالح الضيقة تحول دون ذلك؟ فقد كانت تلك الحرب هي: حرب الخارج الإقليمي والدولي على الداخل اللبناني، وهي حرب الكتل الدولية الكبرى على الأرض اللبنانية، أي أنها حرب الآخرين قام بتنفيذها الفرقاء اللبنانيون بوعي أو من دون وعي، لاسيّما في ظلّ صعود غرور القوة وعنجهية السلاح ومحاولة إملاء الإرادة على الآخر . إن الحرب اللبنانية، وربما اليوم حروب المنطقة، لم تكن حرباً لبنانية خالصة، مثلما لم تكن كذلك حروب المنطقة، بما فيها الحرب العراقية - الإيرانية التي دامت ثماني سنوات بالكمال والتمام من العام 1980 ولغاية العام ،1988 فلماذا إذاً يدفع اللبنانيون وشعوب المنطقة ثمنه غالياً؟ ذلك هو الدرس الثاني من دروس الحرب الأهلية والحروب الأهلية التي تجري اليوم أيضاً في العراق وسوريا وليبيا واليمن، وأينما كان التدخل الخارجي كبيراً، كان من الصعب وضع حدّ لتلك الحروب، طالما يتم تغذيتها وصبّ الزيت على النار لإشعالها، خصوصاً عندما يتم تدفّق السلاح والمال، ويترتّب على ذلك مصالح جديدة وتجار حروب ومتحينو فرص من سياسيين عابرين أو من زعماء طارئين . لقد اختلطت الأوراق وضاعت المعايير وأصبحت لغة السلاح هي اللغة الوحيدة للحوار بين الفرقاء، وحتى مع الخراب والدمار، فكان كل فريق لا ينظر بما لحق به من خسائر وما لحق بالدولة اللبنانية، بل ينظر لما أصاب الآخر من خسائر، وهي صفة ملازمة للصراع التناحري الإلغائي . صحيح أن الحرب قد توقّفت، وأن اتفاق الطائف كما يوصف جاء بصيغة "لا غالب ولا مغلوب"، لكن الأمور اليوم ازدادت تعقيداً وتداخلاً إقليمياً أكثر من السابق، وأصبحت العودة إلى ما قبل 13 إبريل/نيسان العام 1975 غير ممكنة، وهو درس ثالث من دروس الحرب، خصوصاً وإن أية محاولة للتغيير أو للتأثير في الآخر، لا يمكن أن تحسم بالقوة أو باستخدام السلاح، وهو ما تم الرجوع عنه بعد معاناة طويلة، ولكن كما يقال "بعد خراب البصرة" . ألم تكن الحرب إذاً لا مبرّر لها، وأن نتائجها كانت كارثية على الجميع من دون استثناء، إذْ لا يمكن فرض المشروع الخاص على حساب الآخر، مهما كبُر أو صغُر حجمه طالما هو شريك في الوطن، وهو درس رابع على الجميع تعلّمه الآن، حتى وإنْ كان بعد أربعة عقود من الزمان، وعلى الأقل تدريب الأجيال القادمة على تهجيّه من الطفولة ولحين النضج . لقد استثمرت "إسرائيل" عدو اللبنانيين والعرب جميعاً تلك الحرب، لتشنّ هجومها الموسّع على الجنوب اللبناني وتجتاحه في العام ،1978 وعادت مرّة أخرى لاجتياح لبنان وصولاً إلى العاصمة بيروت في العام ،1982 حين كان اللبنانيون يقاتلون بعضهم بعضاً، وعلى الرغم من إسقاط اتفاق 17 مايو/أيار 1983 في ظل مقاومة لاتفاقيات مذلّة مع "إسرائيل" بدأت خلال الحرب اللبنانية، وهي المعروفة باسم "كامب ديفيد" و"الصلح المنفرد" مع مصر 1978-،1979 في حين استطاعت المقاومة في الجنوب تحرير الأراضي اللبنانية، باستثناء مزارع شبعا في انتصار كبير العام ،2000 اضطرّت فيه "إسرائيل" إلى التسليم بالهزيمة والانسحاب، وهو درس خامس من دروس الحرب الأهلية . أما الدرس السادس فلا يزال محطّ تجاذب، لأن الإنسان أحياناً لا يتعلّم من التاريخ بمكره المعروف ومراوغته حسب تعبير هيغل ويكرّر أخطاءه، فالصراع الحالي أفضى إلى تعطيل الدولة اللبنانية، وما زال منذ نحو عام لا يوجد رئيس للبنان ومجلس النواب يمدّد لنفسه، والطبقة السياسية تزداد تباعداً والفساد المالي والإداري يضرب الأطناب، وتكاد تكون الدولة أقرب إلى حالة انحلال أو تفسّخ، حتى وإنْ كان غير مرئي، خصوصاً ازدياد التبعية للخارج . لبنان الحالي يستمر في حالة "اللاّحرب واللاّسلم" وتضيع "الهوّية اللبنانية"، وتتقدّم عليها الهوّيات الفرعية، بل المجهرية أحياناً، سواء كانت الهوّية المذهبية أو الطائفية أو الدينية أو غيرها، لدرجة أصبحت هذه تمثّل مجتمعات أقرب إلى دول أو جزر معزولة يتحكّم فيها الزعماء، في حين بتراجع النظام اللبناني، ويصبح الحلم بدولة مدنية عابرة للطوائف والأديان والانقسامات الأيديولوجية وعلى أساس المواطنة، بعيد المنال، خصوصاً بحكم الجوار السوري المُحترب منذ أربعة أعوام وانتعاش الجماعات الإرهابية وأعمال الاغتيال والتدمير المستمرة . وإذا كان من درس سابع شامل لكل هذه الدروس التي تندرج تحته كفرعيات، هو ضرورة الحفاظ على الدولة الوطنية، وتلك مسؤولية الجميع بلا استثناء، يفترض ذلك تحسين شروط العيش المشترك، ومراجعة ما حصل برؤية نقدية ليس للانتقام، بل للاستفادة منه لعدم تكراره، خصوصاً عندما يتم إنصاف الضحايا وتعويضهم وإصلاح النظام القانوني والقضائي وأجهزة إنفاذ القانون وتأكيد حكم القانون واعتماد معايير العدالة الانتقالية مع أخذ مبادئ التسامح بعين الاعتبار .
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اليمن هذه البئر المخيفة
-
ما بعد الملف النووي الإيراني
-
- اغتيال الحضارة -
-
عبدالحسين شعبان يحكي قصة «عبدالرحمن النعيمي» في كتابه «الرائ
...
-
بين “إيبدو” و”باردو”
-
المسيحيون -وموسم الهجرة إلى الشمال-
-
في اليوم العربي لحقوق الإنسان
-
الإرهاب و”حوار باريس- 4”
-
عربي عوّاد: الشيوعية في عزّها
-
مقاربات غراهام فولر القديمة - الجديدة
-
خربشات على سطح القصيدة إلى محمود البياتي
-
الثور المجنّح ونحيب التاريخ
-
الخشية من ما بعد داعش!
-
آرا خاجادور : الشيوعية المعتّقة-آرا: آلهة الشمس-الحلقة الخام
...
-
العدالة الاجتماعية والشرق العظيم
-
آرا خاجادور : الشيوعية المعتّقة-هوّية الحزب: شؤون وشجون-الحل
...
-
آرا خاجادور : الشيوعية المعتّقة-الحوار مع حزب البعث- الحلقة
...
-
مدوّنات آرا خاجادور الشيوعية- الحلقة الثانية
-
آرا خاجادور : الشيوعية المعتّقة- شيوعية وهمهمات وتاريخ!
-
لماذا تخشى “إسرائيل” من القضاء الدولي؟
المزيد.....
-
السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
-
الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
-
معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
-
طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
-
أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا
...
-
في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
-
طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس
...
-
السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا
...
-
قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
-
لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|