لقد أصبح موضوع الهجرة منذ ما يربو على عدة عقود من بين أكثر الانشغالات حضورا لدى الفعاليات المدينة ببلادنا, خصوصا وأنه يلامس مختلف المستويات والأبعاد سواء كانت اقتصادية, اجتماعية, ثقافية أو سياسية. وإذا كان الحديث عن الهجرة يثير قضايا كاستعمالها عملة صعبة ومحاولة الحد من نشاطها الثقافي والسياسي وحصرها في دور اقتصادي, فإن حقل الهجرة المغربية ملغوم بعناصر مركبة ويصعب فيه أمر زرع أو حصاد ثمار نافعة للوطن والمهجر بسبب ما يريد البعض أن يضيف على هذا الملف من قداسة تحرم على المواطن مكمن خباياه وما يبث فيه البعض من بذور الشقاء وضياع بين مغامرات الاحتواء والتأثير والاستغلال وغياب الفاعلية الحقة.
فظاهرة الهجرة نفسها عرفت عدة تطورات من مرحلة لأخرى ومن حقبة تاريخية لأخرى, ويمكننا في هذا الإطار أن نجزم بأننا نعيش اليوم أخطر وأدق مرحلة على مر التاريخ.
فظاهرة العولمة, وأحادية النظام العالمي الجديد وما أفرزه من هيمنة للمؤسسات المالية, التي أخضعت الكون لمنطق المعاملات المالية الصرفة, والتي لا تولي أي اعتبار للإنسان, مما زاد من تفاقم الأزمات الاقتصادية في العالم وأحدث انعكاسات كارثية على الشعوب الفقيرة التي أصبحت تعاني من ويلات المجاعات والحروب وانعدام لا بسط شروط العيش الكريم وهو ما أدى بدوره إلى تسارع وتيرة الهجرة, نحو المناطق الأكثر استقرار ورخاء, وما يسجل يوميا من حوادث الهجرة السرية لأفواج من الشباب والأطفال عبر حدود هذه الدول. والصور التي تتناقلها وسائل الإعلام تبقى خير شاهد على ذلك عن انعكاسات "النظام العالمي الجديد" التي لا تقتصر فقط على الدول الفقيرة, وإنما شملت البلدان الغنية أيضا, حيث تزايد عدد المؤسسات الإنتاجية التي تغلق أبوابها أمام القوة التنافسية للشركات الكبرى, مما ضاعف من وثيرة تسريح العمال, وكذا تراجع هذه الدول نفسها عن العديد من الامتيازات التي كانت تعد مكتسبات لشعوبنا, الشيء الذي أدى إلى تزايد أعداد المعطلين وتراجع مستوى العيش داخل هذه البلدان وهو ما وفر لشعوبها, أرضية خصبة لتصاعد التطرف واللاتسامح وتنامي تأثير الأطراف السياسية اليمينية المتطرقة خاصة, والتي عملت على استغلال هذا الوضع لتصعيد النزعة العدائية نحو الأجانب ومن تم تفشي ظاهرة العنصرية وهو ما يلاحظ بكثرة في العديد من البلدان كألمانيا, فرنسا ومؤخرا إسبانيا من خلال أحداث اليخيدو. إن الوضعية السوسيو- اقتصادية بالمغرب, وما تعرفه من انسداد الآفاق أمام مختلف الشرائح الاجتماعية وأمام الشباب بصفة خاصة, جعلت منه أحد البلدان الأكثر تصديرا للمهاجرين, والأرقام المسجلة خلال السنوات الأخيرة توضح هول الكارثة التي يعيشها بلدنا يوميا عبر ما تشهده المياه الفاصلة بين الضفتين:( ففي سنة 2001 وصل عدد المهاجرين السريين عبر قوارب الموت إلى 6588 مهاجرا ليرتفع هذا العدد سنة2002 إلى 7653 وخلال الفترة الفاصلة بين يناير وأبريل لهذه السنة وصل العدد إلى 8265.
وما يزيد من تفاقم الهجرة السرية انطلاقا من المغرب, هو موقعه الجغرافي كبوابة نحو أوروبا. مما جعله يستقبل نوعا آخر من المهاجرين, ويتعلق الأمر بالأفارقة المنحدرين من جنوب الصحراء والفارين من جحيم المجاعة والاقتتال والآملين في عبور أرض الأحلام إلا أن حلمهم هذا سرعان ما يتبخر ليجدوا أنفسهم في النهاية عرضة للابتزاز من قبل الشبكات المنظمة للهجرة السرية (وللإشارة فقط, فقد وصل عدد هذه الشبكات التي تم تفكيكها خلال سنة 2001 وحدها إلى 135 شبكة ) كما انهم يضطرون غالبا إلى ممارسة مختلف المهن الوضيعة لضمان عيشهم بما في ذلك التسول والدعارة, وقد ساهم كل هذا في تصاعد وتيرة العداء نحوهم مما ينذر ببزوغ ميولات عنصرية اتجاههم رغم ما يعرف على المواطن المغربي من تسامح وقدرة على التعايش.
لهذا فإننا كفاعلين مدنيين لا يمكننا أن نبقى مكتوفي الأيدي أمام الكارثة التي تهدد حياة المئات من المهاجرين من مختلف الجنسيات بمياه البوغاز, بل ونؤكد أن كل هذه المآسي ما كانت لتحدث لو تم اعتماد رؤية استراتيجية تعالج هذه الظاهرة في كل أبعادها وتقطع مع سياسة التعاطي الأمني وإغلاق الحدود. كما نعتبر أن الحل الحقيقي يمر عبر تحقيق تنمية شمولية ومستدامة تحافظ على الموارد الطبيعية والبشرية للأرض, وتعيد التوازن لعلاقات الشمال بالجنوب وذلك باعتماد التوزيع العادل للثروات وإعادة الاعتبار للإنسان.
I- اعتبار الهجرة ناتجة عن عاملين أساسيين:
1- عامل خارجي ويمكن اعتبار هذه المرحلة تمتد من بداية الستينات إلى غاية بداية الثمانينات:
اعتبار كون تهجير المهاجرين من قلب وطنهم نحو الخارج وبالخصوص نحو أوروبا مع بداية الستينات هي خدمة مفروضة لصالح مشاريع الحكومات الأوربية التي كانت بحاجة ليد عاملة صلبة ومطيعة تنهض باقتصادياتها, بعد أن دمرت الحرب العالمية II مقومات البنيات التحتية لهذه الدول, وبعد أن أدت الحربان إلى شبه فناء لجيلين من الشباب.
نتاجا للسياسات الاقتصادية والاجتماعية الممنهجة من قبل المغرب بهدف التنصل من جزء هام من الشباب والدوس على حقهم المشروع في عمل يضمن كرامتهم الإنسانية وكرامة أفراد عائلتهم فقد أصبح التهجير نحو الخارج تجليا طبيعيا لهذه السياسة.
ففي هذه المرحلة يمكن القول أن هناك عوامل جاذبة أكثر منها طاردة, وخير دليل أن هناك من الشباب من فضلوا آنذاك عدم الذهاب إلى أوربا طامعين في مستقبل أفضل في المغرب (لكن ندموا فيما بعد).
- 2 عامل داخلي:
وهي المرحلة الممتدة من بداية الثمانينات إلى غاية الآن:
نتاجا للسياسات الاقتصادية : ذات الطابع الاستعماري المفروضة على الحكم بالمغرب من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي عبر برنامج التقويم الهيكلي, حيث أصبح من المستحيل توفير مناصب شغل لأعداد هائلة من الشباب المعطل لتمس في نصف الثمانينات حتى حاملي الشهادات العليا.
وأمام انسداد الآفاق لم يبق لشباب المغرب سوى البحث على مجالات لتوفير مستقبل آمن بالمهجر.
أ)- الهجرة السرية:
ستنشط الهجرة السرية أساسا مع توقيع إسبانيا على اتفاقية شنكن, والتشديد على الحصول على التأشيرة, ناهيك عن النمو الاقتصادي الذي أصبحت إسبانيا واحتياجها ليد عاملة غير مستقرة (من أجل الوقوف في وجه باقي الدول الأوربية اقتصاديا), فمن منطلق المقاربة السياسية يمكن اعتبار أمور ظاهرة الهجرة السرية لأعداد هائلة من الشباب رغم ما ينطوي عليه طريق البحر من مخاطر الهلاك هو في الواقع عملية للتخلص من أفواه الجائعين ومستلزمات تلبية مطالبهم الأساسية في العيش الكريم أما الناجون المحتملون من هذه المغامرة فإنهم لا محالة سيضطرون إلى التفكير في موطنهم الأصلي وجلب الأموال إليه بالرغم من أنه لم يشرف وجودهم واضطروا إلى مغادرته على مضض. فانطلاقا من هذه المقولة وبناءا على أحداث ووقائع أخرى فالهجرة السرية تعتبر نتاج سياسة مسطرة من طرف الحكم بالمغرب, وإذا تحدثنا عن لغة العصر أو ما يصطلح على قوله بقوارب الموت, فالمغرب يعتبرها فيتو سياسي يستعمله مقابل ربح سياسي واقتصادي متى شاء وما عسكرة الشواطئ التي دشنها خلال 1992 عن الهجرة السرية إلا خير دليل على ذلك.
فالهجرة السرية أو قوارب الموت أصبحت تماثل المضاربات العقارية أو مضاربات أرواح البشر نكثر منها عندما تشاء الظروف ونقلل منها عندما تدعو الضرورة, بل نحذفها إذا أردنا أن نظهر أننا قادرون على ذلك, مقابل ربح سياسي أو اقتصادي متوخى.
فأرقام المهاجرين السريين تتزايد أو تتضاءل بناء على تصريحات المسؤولين.
- نفس الاستغلال الذي يستعمله المغرب, تستعمله إسبانيا من المفاوضات وضغط على الاتحاد الأوروبي مقابل بعض الامتيازات السياسية والربح المادي كصرف آلاف الدولارات من أجل إدخال تكنولوجيا على السواحل من أجل مراقبة المهاجرين, أموال يمكن أن تشكل الحصن, الذريع للهجرة السرية إذا تم الابتعاد عن التفكير العسكري للسواحل, وتم تعويضه بالتفكير الإنساني.
- لكن كل هذه التصريحات لن يعفي أوربا عامة وإسبانيا خاصة من مسؤوليتها تجاه الهجرة السرية سواء الوافدة من المغرب أو من باقي أنحاء العالم فالهجرة السرية توفر لأوروبا يدا عاملة بالمميزات التالية:
- يد عاملة مطيعة يتم استعبادها لعدم توفرها على أي حق من الحقوق المنصوص عليها في المواثيق الدولية.
- يد عاملة يتم استخدامها في القطاعات الأكثر شقاوة (البناء, النظافة, الفلاحة...) نتيجة رفض السكان الأصليين لها.
- تدخر خزينة الدولة ملايين الدولارات سنويا لعدم استفادة هؤلاء من الحماية الصحية, التعويضات, التنقل, التأمين... عدم تطبيق الحد الأدنى للأجور.
- تمكن الدول الأوروبية الحفاظ على التوازن الاقتصادي والبشري الاستراتيجي, حيث يمكن لهذه الدول طرد بعض من المهاجرين السريين, كلما انخفض معدل فرص الشغل, وحيث أن هذه الفئة لا تشكل خطرا على المدى البعيد لعدم توفرها على حقوق الإقامة.
- الحفاظ على المهاجرين السريين كجيش احتياطي من أجل ضرب الحركات الجماهيرية الجادة, وذلك بطرح العامل المهاجر.
وفي الأخير, لا يسعنا هنا إلا أن نعلن رفضنا لكل السياسات الأوروبية التي تحاول تكريس التمييز ضد المهاجرين كما لا يفوتنا, بهذا الصدد, أن نحيي وقوف المنظمات المدنية الإسبانية إلى جانب نضالات المهاجرين المغاربة أوسار فيصل المشروعة بإسبانيا ضد قانون الهجرة التعسفي.