مهاب مجدى يوسف
()
الحوار المتمدن-العدد: 4782 - 2015 / 4 / 19 - 09:41
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في المقال السابق تحدثنا عن " مَن خلق الكون ؟ " من زاوية عقلية ( فلسفية ) فقط ، اليوم نستكمل الجزء السابق و نتحدث عن " كيف تكوّن الكون ؟ " و بمجرد طرح السؤال بهذا الصيغة يمكن للعلم أن يجيب عليه ( فهو مازال يبحث عن إجابة للسؤال ) و لكن هذا ليس مجال حديثي ، سأنظر لهذا السؤال من زاوية لاهوتية ( العقل + الكتاب المقدس ) هذا يعني أن الحديث سيبدأ من النّـص لتفسير ما حولنا . أعلم تمام العلم أن " كيفية تكوين الكون " ليست مبحث لاهوتي ، لكن الفصل الأول و الثاني لسفر التكوين يذكر " خلق " و " ستة أيام " و ما إلى ذلك ، مما يدفع التفكير اللاهوتي إلى المقارنة بين ما وصل إليه العلم و ما يقوله النَـص . كما أن صيغة السؤال ستختلف من " تكوين " إلى " خلق " لأن التحدُث سيكون على نطاق لاهوتي ، لذا فهذا المقال عن " ماذا يقول الكتاب المقدس عن كيفية خلق الكون ؟ " يتبين من الوهلة الأولى أن الإجابة منتهية و هي : الله خلق الكون في ستة أيام . و لكن الأمور ليست بهذه البساطة ، فهناك العديد و العديد من الباحثين و اللاهوتيين قالوا بنظريات آخرى في هذه النقطة التي نحن بصدد التحدث عنها .
تكلم معظم آباء الكنيسة و مفسري الشريعة اليهود عن الخلق على أنه " ستة أيام أرضية عادية " ( فيما عدا قِلة قليلة ) و مع مطلع الحديث عن " نظرية التطور " و عن " العُمر الطويل للكون" ( و هو ما لا يذكره النَـص*) بدأ البحث و التحدث في هذه النقطة تحديداً و نشأ حينها العديد من النظريات ، منها ما قد تم التحدث عنه حديثاً ، و منها ما كان إحياء لأفكار و آراء قديمة و إلباسها ثوب العصر . و يمكنني تقسيم هذه النظريات إلى قسمين :
القسم الأول : تحت عنوان " كلاهما صحيح " ، و هو القسم الأكثر شيوعاً و يتبنى فكرة التوفيق بين العلم و النَـص ، و يكون بالنظر إلى النصوص بطريقة مختلفة تكون أقرب إلى العلم ثم تبسيط العلم ليكون مقارباً للنَـص .
القسم الثاني : تحت عنوان " هنا في الصين كل واحد في حاله " ، و هو رفع الراية البيضاء و الإستسلام في هذه النقطة إلى العلم فقط ، و إعفاء النص عن الخوض في مثل هذه المسائل ، و فصل النَـص الديني تماماً عن العلم .
و تحت كل قسم تندرج العديد من النظريات ، منها ما هو معروف بالفعل و منها ما هو غير مشهور ، و منها ما يثير الجدل و منها ما يمكن قبوله بسهوله ، سأعطي أمثلة لأهم هذه النظريات بحيادية و تبسيط غير مُخِل ، بقدر الإمكان ، لكي يكون المقال فقط إعطاء العناوين الرئيسية لنظريات عديدة حول هذا الموضوع .
1 ) القسم الأول : كلاهما صحيح :
----------------------------------
أ ) نظرية اليوم - الحقبة :
و هي النظرية الأكثر شيوعاً على الإطلاق في هذا الموضوع ، و هي تقول ببساطة أن أيام الخليقة المذكورة في سفر التكوين ليست أيام أرضية ( 24 ساعة ) إنما هي حقب زمنية ، لذا من السهل تطبيق مفهوم العُمر الطويل للأرض حيث أن هذه الأيام حقب زمنية قد تكون آلاف السنين . و تعتمد على نصوص آخرى ، مثال :
( مزمور 90 : 4 ) لأَنَّ أَلْفَ سَنَةٍ فِي عَيْنَيْكَ مِثْلُ يَوْمِ أَمْسِ بَعْدَ مَا عَبَرَ وَكَهَزِيعٍ مِنَ اللَّيْلِ.
( بطرس الثانية 3 : 8 ) أَنَّ يَوْماً وَاحِداً عِنْدَ الرَّبِّ كَأَلْفِ سَنَةٍ، وَأَلْفَ سَنَةٍ كَيَوْمٍ وَاحِدٍ.
و خلال هذه الحقب الزمنية تم التطور ( حيث اعتبر البعض أن التطور هو اسلوب الله في الخلق ) ، و أيضاً منهم مَن رأى أن هذه الأيام ليست بالترتيب فهناك حقب تم ذكرها في يومين ، فجمعوا اليوم الأول و الرابع في حقبة واحدة و هكذا .
و هناك من القدماء الذين تبنوا هذه النظرية الفيلسوف أوغسطينوس الذي قال أن أيام الخلق مختلفة عن هذه الأيام ، و هناك رأي آخر قديم أقره يوحنا ذهبي الفم أن الأيام الثلاثة الأولى ( قبل خلق الشمس و القمر ) لم تكن أياماً عادية بل كانت حقب زمنية ، لأن الشمس و القمر ما كانا خُلِقا بعد حتى نقول أنه يوم عادي " صباح و مساء "، و الأيام التي تلي اليوم الثالث لابد و أنها كذلك ( حقب زمنية ) .
ب ) نظرية الفجوة :
و هي نظريةً مشهورة و قديمة أيضاً ، تقول بأن الله خلق فقط السماء و الأرض ، ثم سمح للتطور بأن يحدث ، ثم استمر هذا حقب زمنية طويلة ، و بعدها حدث خراب ( و يرى الكثير أنه خراب حدث نتجية سقوط الشيطان و هو مَن دمّر الأرض ) ، ثم جاء الله و أعاد الأرض كما كانت في ستة أيام و خلق آدم . و هو حل لوجود حفريات قديمة و حل لوجود التطور ، و حل أيضاً لمشكلة العُمر الطويل .
إنطلق صاحب فكرة العمر الطويل ( توماس تشالمرز 1780 - 1847 ) من الإختلاف اللفظي بين :
( تكوين 1 : 1 ) فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ.
( تكوين 1 : 7 ) فَعَمِلَ اللهُ الْجَلَدَ وَفَصَلَ بَيْنَ الْمِيَاهِ الَّتِي تَحْتَ الْجَلَدِ وَالْمِيَاهِ الَّتِي فَوْقَ الْجَلَدِ. وَكَانَ كَذَلِكَ.
فهناك فرق بين العدد الأول " خلق " ( بالعبرية : بارا H1254 ) أي أنه خلق من العدم و هو فعل فاعله الله فقط ، أما العدد السابع " عمل " ( بالعبرية : عاشاه H6213 ) و التي تعني عمل من مادة موجودة أصلاً أو إستكمال العمل . و بهذا إنطلق تشالمرز بنظريته قائلاً أن ما حدث أولاً هو الخلق ، أما ما تم ذِكره هو إعادة تعمير ما خرب و هو ما حدث في ستة أيام .
جـ ) نظرية اليوم و الفاصل :
و هي توفيق بين نظرية " اليوم - الحقبة " و النظرة التقليدية للنَـص ، فتقول أن الخلق تم في يوم عادي ، و لكن بين كل يوم و آخر حقبة زمنية طويلة ، أي أنه عندما يقول اليوم الثاني فهو يقصد أنه ثاني يوم يخلق فيه الله ، لكنه ليس اليوم التالي لليوم الأول مباشرة بل هناك حقبة زمنية طويلة فاصلة بين اليوم الأول و الثاني .
د ) نظرية يوم الوحي :
و هي تقول أن الخلق ( أو التطور ) تم في فترات زمنية طويلة جداً قد تكون آلاف السنين ، ولكن الله أظهر لموسى ما عمله في رؤيا خلال ستة أيام فقط ، و بهذا يكون ما سجله موسى هو ما رأه في الرؤيا ( ستة أيام ) و ليس ما هو قد تم حقيقةً . و بهذا يكون مفهوم الُعمر الطويل له وجود .
هـ ) نظرية الجنة :
و هي فقط حل لمعضلة العُمر الطويل ، فهي تقول بأن الفترة التي قضاها آدم و حواء في الجنة هي حقب طويلة جداً ، و هذا كان حل بسيط لمشكلة عُمر الأرض ، فبهذا يمكن للأرض أن يكون عمرها أي عدد ، لأن الحقبة التي قضاها آدم و حواء في الجنة غير معروفة .
2 ) القسم الثاني : هنا في الصين كل واحد في حاله :
--------------------------------------------------
أ ) نظرية رمزية الأحداث :
و هي نظرية يتبناها العديد من المدارس اللاهوتية الأكثر إنفتاحاً و خاصة المدارس الكاثوليكية ، و هي تقول ببساطة أن ما تم ذكِره في سفر التكوين الفصل الأول و الثاني هو سياق أسطوري غير حقيقي ( بل بالأحرى الفصول الأحد عشر الأولى من سفر التكوين ) لتوضيح نقاط هامة :
1- الله هو خالق الكون ، سواء بتطور أو خلق بطريقة " كُن فيكون " .
2- الكون مخلوق للإنسان .
3- توضيح مفهوم " الخطية الأصلية " .
و لكن كل ما ذُكر من أحداث هي أحداث أسطورية ، تم صياغتها بهذا الإسلوب الرائج في فترة كتابة النص ، كما فعل فلاسفة اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد بإستخدامهم قصص رمزية تحاول عبرها فهم الإنسان و الكون . و الجدير بالذكر أن القائلين بهذه النظرية يعترفون بإقتباس الكاتب من الأساطير الشرقية القديمة مثل " ملحمة جلجامش " ، ويقولون أنه تم الإقتباس و لكن هناك إختلافات في غاية الأهمية ، على سبيل المثال :
هناك مُن كان يؤمن بوجود آلهة متعددة متصارعة و لكن الكاتب ذكر إله واحد خالق للكل . و البعض اعتقدوا أن القوى الطبيعية ليست مخلوقة بل هي آلهة ، فهناك مَن كان يعبد الشمس و القمر و الكواكب ، و اعتقدوا بأنهم يتحكمون في حياة البشر و مصيرهم ، لكن الكاتب ينزع هذه القداسة و صفة الألوهة ، فيذكر الشمس بأنها " النور الأكبر " أي أن وظيفتها ليست إلا مجرد مصابيح تضئ .
ب ) نظرية إهتمام الوحي :
و تقول بأن الكاتب إستخدم معلوماته العلمية لشرح و توضيح مقصوده ، فهذه النظرية تعترف بخطأ المذكور " علمياً " لأن القصد من النَص لا تصحيح المعلومات العلمية ، لكن التعليم فيما يخص الخلاص فقط . و هذا ما أكده على سبيل المثال البابا لاون الثالث عشر ( 1878 - 1903 ) في وثيقة " الله كلي العناية " : الكتبة استخدموا صور عصرهم دون أن يهتموا بتصحيح المعلومات العلمية .... الكتاب المقدس لا يدرس العلم .
و هنا يتم ذكر مقولة شهيرة : الكتاب المقدس يعلمنا كيف نسير نحو السماء ، و ليس كيف تسير السماء .
و الجدير بالذكر أن النقطة الأخيرة شائكة جداً لأنها تتعلق بمفهوم الوحي و نظرياته المختلفة ، و الفرق بين " الوحي و الإلهام " ، و مفهوم العصمة و إمتدادها .
إنتهى ....
http://www.facebook.com/mohab.magdy.youssef
__________________________________________________
* تحدثت في مقالتي السخيفة " عُمر الإنسان بين الإسلام و المسيحية " ( 19 نوفمبر 2013 ) عن عُمر الإنسان في الكتاب المقدس ، و تحدثت أن هذا ما تقوله المسيحية فلابد من التنويه أنه خطأ مني أن أقول هذا ما تقوله " المسيحية " لوجود نظريات عديدة ، و لكن هذا ما تقوله المدارس اللاهوتية المحافظة ( المسيطرة على عقل الكنيسة المصرية بصفة خاصة ) . كما أود أن أقول أن هناك نظرة مختلفة أو رد على كلامي أيضاً لعُمر الإنسان في الإسلام و هي ببساطة أن الأحاديث التي تتحدث عن " قرن " فهي لا تساوي تحديداً مائة عام ، فالقرن قد يكون : عشرة أو عشرون أو ثلاثون أو أربعون أو خمسون أو ستون أو سبعون أو ثمانون أو مائة أو مائة وعشرون عام أو مُطلق من الزمن .
( راجع : القاموس المحيط - باب النون فصل القاف ،، و النهاية في غريب الحديث والأثر - باب القاف مع الراء )
#مهاب_مجدى_يوسف (هاشتاغ)
#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟