|
لذة ممنوعة
احمد الباسوسي
الحوار المتمدن-العدد: 4782 - 2015 / 4 / 19 - 00:27
المحور:
الطب , والعلوم
همس هذه المرة من النوع الفريد والمدهش. التقيت صاحبه مرتين، الأولى لا أذكرها حيث ذٌكَرٌنِي بها، والثانية تلك التي سوف أسرد تفاصيلها. فوجئت بصوت من خلف ظهري يحييني بينما كنت أسير في الطرقة الطويلة بمبنى العيادات الخارجية متوجها نحو الغرفة 8 في ذلك الصباح، التفتُ خلفي، قام من مقعده أمام غرفة 4 يصافحني وكان منتظرا دوره في الدخول، وقال " هل تتذكرني يا دكتور"؟ قلت " وجهك مألوف، لكن تذكر الاسم صعب متأسف"، قال حُوْلت لك من فترة وقلت لي ابق مر عليا. قلت " ولكن مضى وقت طويل، يمكنني أن التقيك في غرفة ثمانية بعد أن تتسلم دواءك". دخل غرفتي تسبقه ابتسامة محيرة!، بدا في حالة هوسيه صريحة، يسعى للتحدث أطول فترة ممكنة من دون توقف، أفكاره متلاحقة، مكررة، وتتقافز في كثير من الأحيان، شغوف بالأحاديث الجنسية، والغير نمطية. تلقائي وطليق الى أبعد مدى. كانت ملابسه رثة، ولا فتة، مظهره العام يوحي بقوة أنه يقيم في الشارع منذ أمد طويل حيث لا نظافة، أو اهتمام. تركته يثرثر رغبة في سبر أغواره، استلفت نظري أثناء ثرثرته المتواصلة أنه يحمل وجدانا تواصليا لا تخطئه عين، يمزج خيالاته بواقعه بصورة مدهشة. تهيمن على خيالاته وواقعه تلك الرغبة الجنسية الملحة في معاشرة الصبية من الذكور بصورة مسيطرة. يقول " لما كان عمري اربعتاشر سنة تعرفت على شلة، مشيت في طريق أني أحب الولاد، أول واحد اعتديت عليه كان أخويا الصغير، ظليت أعمل معاه لمدة ثلاثة سنوات لحد ما صادتني أختي الكبيرة، بعدها هربت من البيت، وروحت عند صديق". لم تكن هذه البداية كما يحسبها المريض، بل هناك بداية اخرى يذكرها في السياق حينما تابعت تاريخه يقول " كان عمري سبع سنين لما ضحك عليا راجل كبير ومارس معايا الجنس، أمي عرفت وقالت لأبي ويعايروني لغاية دلوقتي!، أمي وابويا على طول يطردوني من البيت وأروح أقعد في الشارع". نحن اذا بصدد بداية مبكرة للمروق أو الانحراف الجنسي. يجدر بالذكر أن المريض الثلاثيني تزوج ابنة عمه لمدة عام واحد فقط قبل ان تُطٌلق منه بسبب ضربه المبرح لها من دون سبب حسبما يذكر. يقول "تزوجت مراتي شعرت أنها موش عذراء، قالت لي أخويا كان ينام معي، وكمان أمي كانت تطلع لي حد ينام معي!!، البنات عمري ما كلمت واحدة، ما الاقي متعة مع المرأة. أنا شهواني بطبعي، أحب الأطفال الصغار من سن حداشر الى أربعة عشر سنة، أعمل العادة السرية كثير، ثلاثة مرات في اليوم على الأقل، دائما أعمل شاتنج على النت وأجيب أطفال وشباب وأعمل فيهم، أشوف ابن الجيران يقول لي ليش ما أخذ رقم تليفونه، ابن الجيران ده شخص حقيقي عمره 13 سنة، اللي يتهيألي أنه يقول لي خذ رقم تليفوني". المريض لا يعمل في الوقت الحالي، على الرغم من انخراطه في العديد من الأعمال في السابق، في الحرس الوطني مدة خمس سنوات، وفي الجيش مدة سنتان، وفي الشركة العربية للنقل والملاحة مدة ثمانية أشهر، وأخيرا وزارة العدل لمدة عام واحد فقط، وكان ذلك منذ أقل من اربعة سنوات. الأمر الذي يشير الى مدى عمق اضطراب الحالة في السنوات الأخيرة. توقف به قطار التعليم حتى رابعة ابتدائي (عشر سنوات) يقول" كنت متفوق حتى السنة الرابعة، ثم توالى الرسوب أولى متوسطة، وثانية، ونجحت جوازا في رابعة متوسطة، يعني أن الوزارة ادركت أني كبرت وتجاوزوا ونجحوني". ويعيش حاليا مع والديه وأخوه وأخته، يقول عنهم " فكرتهم عني أني مجنون، أمي تهتم بأخي أكثر من أي حد تاني، تاركيني زي الكنبة المهملة، أعيش في غرفتي، حياتي لوحدي، أحيانا يرسلون لي الطعام في غرفتي، لا آكل أو اتعامل معاهم، أصدقائي كلهم هجرتهم". وعن الشكوى يقول المريض" أشتكي من الوحدة والناس والأصوات. لما اروح المسجد أشعر أن الناس يطالعوني. ما يحبوني. أشعر انهم كارهيني. أخاف حد يكلمني ما اعرف اتكلم. لما آجي أنسدح، عايز انام ييجي صوت يضحك عليا يقول هههههه. أنا اقول شيطان. التفت ما القى حد في الغرفة. أخاف من الضرب أو حد يعتدي عليا، ليش لما يضربوني (يقصد أهله) وما أقدر أدافع عن نفسي؟، لما أخاف أبول على نفسي وأشعر أن رأسي مفصول عن جسمي، أهلي يضربوني، أخويا شق راسي، يقول لي عايز أنيكك، أمي اشتكت أني تحرشت بأختي وأنا ندمان على كده، أبويا طردني كذا مرة وفضحني". ولمريض بهذه الدرجة من تفكك الشخصية بالطبع تاريخ مع الادمان والتعاطي. يقول " أخذت حبوب كثير، فاليوم، اريتان، ريها بنول، كابتي، حتى الحباية التايلاندية اللي نشبهها بالنار وأطلع دخان، وكمان أخذت حشيش، وشربت الخمر، لكن لما أشرب الخمر أنصرع، وللحين مبطلتش، لما أشرب حشيش أشعر براحة، آخر مرة كانت من ثلاثة أيام. بدأت التعاطي بحبوب الكبتي، كنت في السعودية أيامها وكان عندي18 سنة، وبعد كده أخذت أول سيجارة حشيش من ابن خالتي، نمت بعدها وقمت أدور عليه، حبيته، لما آخذه كنت أشوف البيوت تنزل في الأرض، ويطلع عالم تاني أعيشه وأشوف ناس غريبة، أخاف منهم ويخوفوني، وأشعر أنهم يعتدون عليا جنسيا". وهكذا انتهت الشكوى، وانتهت الثرثرة، لم يترك لي بعد أن غادرني من دون أن يهتم بالحصول على موعد آخر سوى الدهشة والوجوم. أنها حالة فريدة على مختلف الأصعدة، من حيث تاريخ بداية المرض أو الانحراف، ومن حيث المعطيات من الأعراض وتشابكها وزخمها، وأخيرا من حيث متانة الاستبصار بالحالة رغم كل هذا الزخم من التفكك في الشخصية، غير أن هذا التكامل الظاهري المطروح يلقي بظلال من الحيرة على المشهد التشخيصي للحالة فيزيده تعقيدا وغموضا. وبالتالي يتعرقل بقوة مسار العلاج والتأهيل. واذا تتبعنا مسار الشكوى، أو ما أراد المريض ابلاغنا به خلال هذه المقابلة نجده يصدر لنا في البداية ثلاثة معضلات أساسية في حياته الآن وهي: الوحدة، والناس، والأصوات. اذا هو يشكو بداية من مشاعر الوحدة باعتبارها المصدر الأساسي للشكوى وفق الترتيب الذي أعلنه، وكأن محاولاته طول الوقت لتجنب ألم الوحدة القاسي وغير المحتمل تدفعه دفعا للدخول في تلك العلاقات الجنسية التي يستلزم الأمر فيها وجود طرف آخر. واذا افترضنا أن مغامرته الجنسية الاولى في عمر السبع سنوات مع الرجل الذي راوده عن نفسه قد حققت له مستوى من الرضى والاستمتاع، فلا نستبعد حدوث رابطة شرطية بين تلك الخبرة الايجابية في طفولته بحسب ما تحقق له خلالها من مشاعر الرضى، وبين سعيه وخبراته اللاحقة مع الرجال من الذكور من نفس جنسه ورغبته في استعادة تلك المشاعر السابقة. ومن ثم لا نندهش من عدم اكتراثه بالارتباط بعلاقات مع الجنس الآخر من النساء، أو اعلانه عن عدم تمتعه بالعلاقة معهم أثناء مجامعتهم بعكس ما يحصل مع الذكور من نفس جنسه. والمريض في سعيه الدائم لكسر مشاعر الوحدة القاسية يتجه بعنف نحو الجنس لعله يحقق من خلاله كسرا لتلك المشاعر القاسية غير المحتملة، فهو يصف نفسه بأنه شهواني بطبعه، وهذا يؤكد ما ذهبنا اليه من استخدامه لقوة الغريزة الجنسية في السعي والبحث عن آخر والاندماج معه في علاقة لكسر طوق الوحدة القاسي. أيضا يبين صاحبنا أن ما يشكو منه هو "الناس"، والناس هنا بمعنى الآخر، أو الآخرين الأعداء، بداية من أبوه وأمه وأخاه وأخته وانتهاء بأولئك الذين يحتقرونه ويقللون من قيمته وقدره. وهو هنا يدرك جسامة مشكلته الشخصية مع الآخرين بوضوح وعجزه عن حلها. ثم ترِد "الاصوات" أخيرا باعتبارها مشكلة أساسية، لكن بالنظر الى مسار الشكوى، ومضمون المقابلة بصفة عامة نكاد نلحظ ضعف وزن الأعراض الفصامية في الشكوى وكذلك في مسار المقابلة طوليا مقارنة بالاضطرابات الأخرى التي سيرد ذكرها لاحقا. يقول عن الاصوات " لما آجي أنام ييجي صوت يضحك عليا، أنا أقول الشيطان، التفت ما القى حد في الغرفة". ورغم ذلك لا نستطيع الجزم باعتبار الصوت نتيجة لهلوسة سمعية، لكن هناك مؤشرات نوعية لأعراض فصامية عكستها الشكوى مثل ضلال الاشارة " لما أروح المسجد الناس يطالعوني"، وضلال الاضطهاد " الناس ما يحبوني، يكرهوني". اضافة الى تلك الحالة الفريدة من الخوف من الآخر " أخاف من الضرب، أو حد يعتدي عليا، ما أقدر أدافع عن نفسي، لما أخاف أبول على نفسي". والقلق الاجتماعي " أخاف حد يكلمني ما أعرف اتكلم"، وعدم الثقة في النفس. وذا أضفنا التاريخ الطويل/العريض لتعاطي المخدرات بكافة صنوفها وأشكالها الى جملة هذه الاضطرابات والأعراض فأننا نجد الصورة متسقة تماما مع ما ذهبنا اليه منذ البداية من أننا بصدد حالة من حالات اضطراب الشخصية عانت من مشكلات جسيمة مع داخل ممزق ومهترئ، تم استغلاله جنسيا في طفولته في غياب الحد الأدنى من الدعم والمساندة العائلية، وفي مراهقته الصعبة تزايدت وتيرة ألم الداخل، لم يعد قابل للسيطرة والتحكم، فخرج يبحث عن التخفف، قمع القلق والخوف والاكتئاب بالمخدرات تارة، وتلك النزوات الجنسية الطائشة المنفلتة التي تربطه بآخرين تارة أخرى. والنتيجة اننا وجدنا انفسنا في خضم بانوراما أو تشكيلة من الأعراض تتأرجح فئويا ما بين الاكتئاب، والاضطراب القطبي، واضطراب الشخصية. وكل عرض من تلك الفئات يمارس دوره بكفاءة في تحقيق اشباعات المريض وتحقيق حالة من التوازن والرضى بالنسبة له. ولا نستطيع اقحام الفصام في هذه المسألة بسبب تكامل الحالة وقت الفحص من جانب، وقوة الاستبصار الواضحة بأعراضه وموقفه من الواقع والاخرين من جانب آخر، اضافة الى نقص المعلومات المتوفرة عن الحالة، فحتى الآن يعتبر المريض المصدر الوحيد للمعلومات، ومن ثم لا يمكن التعويل على المعلومات المتاحة من المريض في بناء تشخيص اكلينيكي جيد يقود الى عملية علاجية جيدة بسبب امكانية التشكك في مصداقية هذه المعلومات والحاجة الضرورية الى التأكد منها والاستزادة عن طريق أفراد الأسرة الملاصقين للمريض. وعلى أي حال فان الصورة الهوسية مثلت الجانب الأكثر غلبة وقت الفحص. كما اتضح غياب الدعم الأسري المجتمعي عن المريض بصورة صارخة استجابة لسلوكياته الجنسية الطائشة بداية من تحرشه بأخته في المنزل وعلاقاته المثلية بآخرين في الخارج، وأيضا ادمانه المبكر على المخدرات والمسكرات. كل ذلك تسبب في تعميق شعوره بالوحدة والخوف على الرغم من أن سعيه لهذه النزوات الجنسية الطائشة وللمخدرات كان بغرض التخفف من مشاعر الوحدة والقلق والخوف والاضطراب. لكنها دائما القرارات غير الحكيمة والتي تجعل المرء منا يستسلم لنداءات جسده من رغبات ونزوات من أجل أن يخلق لنفسه عالما يناسبه دون أن يتحسب العواقب والمشكلات اللاحقة. انصرف صاحبنا بعد أن هدأ قليلا بعدما وجد أخيرا شخص ما في هذا العالم يهمس له ويثرثر على طريقته، أعتقد أنه في حاجة فعلية لآخر حقيقي يهمس له ويثرثر له، والأهم يثق فيه، ويمنحه الأمان الذي يفتقده. ربما يتحول الى انسان آخر قد ينجح في معالجة مشاكله بطريقة أفضل مما يفعله الان منذ نحو أربعة وعشرون عاما أو يزيد.
#احمد_الباسوسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طلاق بالأمر (العلاج النفسي)
-
تلاشي (قصة قصيرة)
-
الصعيدي الذي قهر الفصام
المزيد.....
-
تفكيك -غوغل-: محاولة غير مسبوقة لكبح الاحتكار وتقويض عمالقة
...
-
10نصائح لخفض مستويات الكوليسترول المرتفعة وتحسين صحة القلب
-
مركبة -بروغريس- الروسية تنطلق نحو المحطة الفضائية الدولية (ف
...
-
الأسلحة الكهرومغناطيسية.. أسلحة قد تعيد البشرية قرونا إلى ال
...
-
6 نصائح لإنقاص 5 كيلو جرامات من وزنك قبل بداية العام الجديد
...
-
الجرذان والبكتيريا من المسببات.. أمراض جلدية نادرة تظهر في غ
...
-
أضرار المضادات الحيوية دون استشارة الطبيب.. إنفو جراف
-
أسهم شركات التكنولوجيا تهبط بمؤشر -نيكي- الياباني
-
وفاة جون بريسكت نائب رئيس وزراء بريطانيا الأسبق بعد معركة طو
...
-
تغييرات تساعد على الوقاية من الإصابة بمرض السكري
المزيد.....
-
هل سيتفوق الذكاء الاصطناعي على البشر في يوم ما؟
/ جواد بشارة
-
المركبة الفضائية العسكرية الأمريكية السرية X-37B
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في الهند
-
-;-السيطرة على مرض السكري: يمكنك أن تعيش حياة نشطة وط
...
/ هيثم الفقى
-
بعض الحقائق العلمية الحديثة
/ جواد بشارة
-
هل يمكننا إعادة هيكلة أدمغتنا بشكل أفضل؟
/ مصعب قاسم عزاوي
-
المادة البيضاء والمرض
/ عاهد جمعة الخطيب
-
بروتينات الصدمة الحرارية: التاريخ والاكتشافات والآثار المترت
...
/ عاهد جمعة الخطيب
-
المادة البيضاء والمرض: هل للدماغ دور في بدء المرض
/ عاهد جمعة الخطيب
-
الادوار الفزيولوجية والجزيئية لمستقبلات الاستروجين
/ عاهد جمعة الخطيب
-
دور المايكروبات في المناعة الذاتية
/ عاهد جمعة الخطيب
المزيد.....
|