غسان صابور
الحوار المتمدن-العدد: 4780 - 2015 / 4 / 17 - 12:14
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
17 نيسان 1963
وطأت قدماي مرفأ مرسيليا,على متن باخرة ركاب تركية حديثة, قادما من مرفأ بيروت, مرورا بالإسكندرية بمصر.. وبعدها مرفأ نــابــولي الإيطالي... وبعدها مرسيليا بفرنسا... ظهر يوم 17 نيسان 1963......
لم أستطع النزول بمرفأ الاسكندرية, رغم أن كل الركاب زاروها لعدة ساعات, لأنني أيام الوحدة مع هذا البلد كنت مواطنا غير مرغوب.. ولكنني زرت مرفأ نابولي وبقيت فيه أتفرج على مشاجرات (التجار) المصريين مع العديد من المحتالين المشهورين بهذه المدينة الظريفة التي كانت تحمل وما زالت مظاهر فقر رهيبة.. ثم عدت إلى الباخرة, والتي لم يكن لدي على متنها لا غرفة ولا سرير, لأنني كنت مسافرا On Deck مما يعني بلا أي شيء.. ولا حتى وجبة طعام. لأنني آنذاك سافرت بأقل من مائتي ليرة لبنانية, لا أتذكر المبلغ تماما.. وكان كل ما أملك.. نزلت بمرفأ مرسيليا لا أملك سنتيما واحدا عندما وطأت قدماي أول مرفأ فرنسي...
لن أتوسع هنا بأسباب طفري وذكريات خروجي من سوريا الأليمة... لأنني كنت أجبر نفسي على نسيانها, حتى أستطيع بداية حياة حقيقية جديدة... ولكن هذه الذكريات لم تكن بغالبها إنسانية طبيعية, لا مع السلطات آنذاك.. ولا مع عائلتي... ولكنني رغم كل هذا, لم أقطع السرة أبدا عما يجري بهذا البلد الذي ولدت فيه... وكما تلاحظون أنني ما زلت أكتب باللغة الممارسة فيه.. وما زلت أدافع عنه وعن شعبه حتى هذه الساعة... وخـاصة بهذه الأوقات الأليمة, حيث تتفاقم فظائع داعش وحلفاء داعش وشركاء داعش وحاضنات داعش المحلية والمستوردة...
لكن جــل ما أخشى بعد استقراري الطويل بفرنسا, واندماجي الكلي بثقافة هذا البلد وعلمانيته وسياسته, هو العديد من علامات التطرف الإسلامي التي تفاقمت خلال العشرين سنة الأخيرة, مرافقة انتفاضات التطرف في المشرق والمغرب, متوازية معها ومع أحداثها التاريخية, مؤثرة على ما يحدث في الشارع الفرنسي يوما بيوم, مؤديا إلى علامات لبننة في المجتمع الفرنسي, وأحداث عنصرية تنبأت بها منذ السنوات الأولى لوجودي بهذا البلد... لأن المجتمع الفرنسي لا يشبه أي مجتمع مفتوح آخر. لأنه لا يشبه المجتمع الأمريكي أو الكندي أو الأسترالي, الذين تشكلوا من هجرات اضطرارية أو اختيارية مختلفة.. وأصبحت أمما من دون حاجة لتاريخ... ولكن لا يمكن أن ننسى ــ ورغم الثورة الفرنسية التاريخية ــ تبقى فرنسا ذات جذور مسيحية قديمة, رغم تطور علمانيتها... وهي احتضنت الديانات الأخرى وفتحت لها جميع أبواب الممارسات والحريات.. ولكن هذه الديانات الأخرى بدلا من الاستفادة من هذه الحريات التي أمنتها لها العلمانية, أدارت ظهرها للعلمانية.. وبل تحدتها غالبا, معلنة ولاءها لشريعة لا تتطابق ولا تنسجم ولا تتفق إطلاقا مع دساتير البلد المحفورة على جبينها, بعد سنوات طويلة من التطور والنضال للحصول عليها. وأهمها مساواة المرأة بالرجل بجميع الميادين دون استثناء أمام جميع القوانين السارية المفعول.. مما أثار العديد من الجدل عندما أراد الوجه الظاهر المتطرف من مواطنيها أو سكانها الأجانب, ارتداء الحجاب أو النقاب وحتى البوركا الأفغانية.. مما اضطر السلطات إلى ســن قوانين و تشريعات سريعة ــ لم تطبق ــ بمنع هذه الأزياء (المثيرة) في مجتمع أوروبي الجذور والعادات.. وكانت ردات فعل الجاليات الإسلامية الظاهرة, بدلا من الاندماج مع قوانين البلد الذي فتح جميع أبوابه ومؤسساته ومدارسه وجامعاته وضماناته الصحية المفتوحة والمساعدات العائلية والاجتماعية المادية بلا حدود, حتى أثقل وأتعب ميزانياتها.. وكانت ردات الفعل الآنية, شكاوى وعربشات بمبادئ الحرية, وخاصة بحرية الممارسات الدينية.. بينما المسلم المؤمن الحقيقي الواعي يعرف تماما ألا علاقة للدين بكل هذه المظاهر اللباسية الخارجية... إنما مظاهر كرنفالية خارجية لتحدي قوانين السلطة.. وإثارة بلبلات وتحديات بالتجمعات السكنية التي تتكاثر فيها هذه الجاليات... ويتكاثر فيها العديد من مظاهر التعصب الإثني والطائفي.. بالإضافة إلى جميع مظاهر تحدي السلطة بجميع أشكالها... وحيث تتكاثر جيوب كل علامات انتشار المواد الممنوعة.. كالمخدرات وغيرها... ولهذا تبدو جميع الإحصائيات, حتى الخفية منها... بأن النسبة العالية من المحكومين داخل السجون الفرنسية هم من سكان هذه المناطق... ولهذا السبب رأينا أن غالب المقاتلين الذين انضموا إلى داعش أو غيرها من المحاربين الإسلاميين في العراق وسوريا, كانوا من نزلاء هذه السجون.
وكما ذكرت بمقالي السابق, كيف أنذرت بملاحظاتي بالسنوات الأولى من وجودي هنا أصدقائي من المسؤولين السياسيين عن تنبؤاتي من إهمال هذه التظاهرات الإثنية التي تتفرخ في قلب المجتمع الفرنسي وحواليه, وكيف أنني اتهمت بالعنصرية أو بأنني لا أفهم إمكانية المجتمع الفرنسي وبأن الجمهورية والديمقراطية والعلمانية, تستطيع هضم كل هذه الهجرات بمختلف اختلافاتها... وكيف أصيبت بعد عشرات السنين "بــعــســر هــضــم مــزمــن"... وأن جميع تنبؤاتي كانت صائبة محقة... واعترف العديد منهم بأخطائهم لأنهم لم يستمعوا لي ولنظرتي للأخطار المحدقة... وخــاصــة بعد أحداث شارلي هيبدو وما سبقها وما تلاها من علامات وإشارات وأخطار "داعشية" على الأراضي الفرنسية وفي العديد من الدول الأوروبية... ومتابعة أخطاء السياسة الفرنسية والسياسات الأوروبية إجمالا وتفصيلا, ودعمها للمحاربين الإسلاميين الداعشيين وغيرهم, والمعارضات السورية الصالونية الهيتروكليتية داخل ســوريـا وخارجها........ ومتابعة هذه السياسة ــ بلا بوصلة واضحة ــ التي رسمها السيد لوران فابيوس, وزير خارجيتها الحالي.. وقبله ساركوزي وحكومته.. رغم تزايد وضوح تراكم أخطائها حتى هذه الساعة.. والتي أدت كما رأينا إلى الفظائع والمذابح التي ارتكبها مقاتلوا داعش في سوريا ضد المسيحيين, وغيرهم من الطوائف, والتي تتراكض الإعلانات الإعلامية والتصريحات الطنانة لنفس الوزير فــابــيــوس أنه سيتحرك لإنقاذ المسيحيين وغيرهم على الأرض السورية, من فظائع داعش... تصريحات تدوم من شهرين.. وخاصة إثر أحداث شارلي هيبدو... ولم نــر حتى هذه الساعة أية آثار على الأرض... تصريحات دونكيشوتية للاستهلاك.. فقط لا غير.. عودنا عليها السيد فابيوس من سنوات طويلة...
أحــب هذا البلد... ولا أريد أن تتفسخ مبادئه العلمانية.. وأن تتسلل إليها إصبع إثر أصبع.. شرائع دينية تغلفها بغيمة إثر غيمة.. وعتمة إثر عتمة... وغير مبادئها الأولية التي حملتها الثورة الفرنسية " حـريـة.. مسـاواة.. تــآخــي " Liberté Egalité Fraternité ... وخــاصــة بعدما رأينا ما فعلته الشرائع الدينية وما فجره التعصب الديني من تمزق بين شعوب هذا المشرق التاريخي الذي يحترق بأيامنا هذه...
*********
عـلـى الــهــامــش
ــ أمنيات ومقارنات :
تعرفت على هذا الموقع عن طريق صديقي الكاتب الناقد والإعلامي المعروف نضال نعيسة, قائلا لي لماذا لا تكتب بالعربية عن مشاعرك وتحليلاتك السياسية من فرنسا. وهو موقع ديمقراطي علماني, مفتوح لجميع الآراء ( الديمقراطية الحرة )... فبدات بالكتابة باسمي المستعار الذي كنت أوقع بـه أيام فتوتي وشبابي في سوريا... ولما تأكد ارتباطي به بعد سنتين.. بدأت الكتابة باسمي الحقيقي حتى هذه الساعة... وهذا يدوم من عدة سنين لم أعد أتذكر عددها وقدمها...
ولكن هل تــغــيــر خــط الــحــوار من ذلك الوقت حتى اليوم؟؟؟... هل تغير كتابه الديمقراطيون العلمانيون الأحرار؟؟؟... هل تغيرت تقنياته وأساليبه بالرقابة والنشر؟؟؟... تـــســاؤلات عديدة يجب أن نطرحها ــ بــجــد ودراسة عميقة ــ بين جميع مسؤوليها وعائلة الكتاب الذين يحيطون بها من قديم ومن جديد... لأن الحياة إن لم تتجدد ولا تتطور نحو الأفضل.. دوما نحو الأفضل... تــمــوت. وأنا أريد دوما ديمومة الحياة لهذا الموقع.. كما أتمنى ديمومة الحرية والديمقراطية والعلمانية لفرنسا التي حضنتني منذ أكثر من نصف قرن.. كما أتمنى ديمومة الحياة للبلد الذي ولدت فيه, وغادرته بلا ذكريات.. وهو يموت ألف ألف مرة... كل يــوم!!!............
بــــالانــــتــــظــــار.......
للقارئات والقراء الأكارم الأحبة.. هـنـاك وهـنـا.. وبكل مكان في العالم.. كل مودتي وصداقتي ومحبتي واحترامي ووفائي وولائي.. وأطيب تحية عاطرة مهذبة.
غـسـان صــابــور ـــ لـيـون فــرنــســا
#غسان_صابور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟