|
طه حسين وسبينوزا
هادي اركون
الحوار المتمدن-العدد: 4778 - 2015 / 4 / 15 - 19:50
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يلاحظ المتأمل في المسار الفكري المعقد لطه حسين ،انتهاءه إلى موقع فكري محافظ بعد بداية واعدة ،في " في الشعر الجاهلي ". فبعد تلك البداية الواعدة ،عاد إلى التقليد الفكري الإسلامي ،وإلى تبرير يقينياته التداولية . مما لا شك فيه أن قيمة كتاب " في الشعر الجاهلي" ،تكمن في وعوده أكثر مما تكمن في انجازاته أو كشوفاته الفكرية أو تحليلاته النظرية . لقد جوبه هذا الكتاب بردود قاسية وعنيفة من قبل رواد الفكر التقليدي ومن قبل المؤسسات الإسلامية التقليدية وعلى رأسها الجامع الأزهر .وبدلا من الاستمرار في الاشتغال على القضايا المثارة في الكتاب وفي الردود المؤلفة ضده ،اختار طه حسين ،تكييفه مع الحساسية الجماعية في في الأدب الجاهلي " و إرضاء المتخيل الجماعي بسيل من الكتابات التبريرية ، المنافحة عن الأطر الفكرية التقليدية ، ولا سيما في " مرآة الإسلام " و"علي وبنوه " و"الشيخان" و" على هامش السيرة". كان لكتاب " في الشعر الجاهلي " فضل الريادة في موضوع صعب وشائك ومتشعب ؛إلا أنه لم يتعمق في استقصاء الإشكالات اللغوية والتاريخية واللاهوتية المثارة فيه،وفي معالجتها معالجة وافية ،بمقتضيات المعرفة المنهجية القادرة على تعديل بل تغيير المنظور وتجاوز النظريات الأسطورية-التاريخية الموروثة عن الفكر السامي . كان في الحقيقة ،أقرب إلى فاتحة وإلى تخطيطات أولية لدراسات موسوعية متخصصة مرتقبة. أثار طه حسين في هذا الكتاب الرائد مجموعة من القضايا المنهجية والنظرية العويصة ؛نذكر منها ما يلي : --تاريخ وثقافة العرب قبل الإسلام ؛ -مناهج التحقيق لدى المحدثين واللغويين ونقاد الشعر القدامى ؛ -تاريخية القصص القرآني والتوراتي ؛ -آليات بناء الذاكرة الثقافية لدى المؤرخين ونقاد الأدب والمتكلمين ؛ -آليات بناء الذاكرات السامية (أسطرة العلاقات بين العرب واليهود)؛ -الميثولوجيا والتسويغ السياسي للشرعية المعرفية والسياسية . إن هذه الاشكاليات من التعقيد ، بحيث يستدعي توضحيها ،كفاءات لسانية وتاريخية ومعرفية و أنثروبولوجية ، وورشات إعدادية ومقارنات مع تواريخ وثقافات مشابهة . و قد امتلك طه حسين شجاعة الفصل بين البحث العلمي في التاريخ الثقافي والسياسي ،والانتماءات التقليدية ،في مفصل تاريخي متميز بالتقاطب السياسي والفكري الحاد بين الفاعلين التاريخيين من الجهة التقليدية ومن الجهة الحداثية . (يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربي وتاريخه أن ننسى قوميتنا وكل مشخصاتها ، و أن ننسى ديننا وكل ما يتصل به ، و أن ننسى ما يضاد هذه القومية وما يضاد هذا الدين ؛ يجب ألا نتقيد بشيء ولا نذعن لشيء إلا مناهج البحث العلمي الصحيح . ) 1- يحتاج استفاء شروط البحث في تاريخية النصوص التأسيسية ،تخصصا دقيقا ،ومعالجات خاصة ،لا ينهض بأعبائها المعرفية ،متأدب مشغول بالتنوير لا بأعداد أسسه الفكرية . لقد انشغل التنويريون ، أساسا ، بالنصوص الثواني ،لا بالنصوص التأسيسية ،وبالتجارب التاريخية لا بالتجارب المعيارية،وبالجماليات الأدبية ( الدراسات المنجزة عن المتنبي وابن الرومي والمعري )لا بالتحقيقات التاريخية والفيلولوجية للمتون (النص القرآني والحديث والسيرة). وعوض التعمق في الموضوع والتخصص في القضايا التاريخية المثارة ،اختار طه حسين ،الاشتغال على الإسلاميات من موقع فكري غير نقدي في العمق ، والاهتمام بالأدب ، كتابة ونقدا وتداولا . فبدل الانكباب على الجوهريات أي المسائل الخلافية ،اختار ،الاشتغال على قضايا تاريخية ،غير معيارية وغير حاسمة في السجال الثقافي. كان تنويع الأجناس الأدبية ،وسيلة للتنوير وبث الأفكار شبه الليبرالية في النطاقات الإسلامية المشمولة أصلا بالمحافظة الفكرية والتقليد المنهجي الفاقد للحيوية وللقدرة الاستكشافية .إلا أن التأويل شبه الليبرالي للسيرة المحمدية ولتاريخ الصحابة وللفتنة الكبرى ، اصطدم بغياب قاعدة معرفية صلبة كان بإمكان الاشتغال العميق بالشعر الجاهلي وأصول النص القرآني وعلائق العرب باليهود والأسطورية العربية والسامية ، توفيرها . كانت ليبرالية طه حسين ،مجرد طموح ،بلا أساس معرفي متين ودراسات قطاعية متخصصة ؛وهذا ما حمله على التراجع عن مطمحه وإلى الاقتراب ،أكثر فأكثر ،من نظام الفكر الأزهري. فقد انبرى نقاده لرفض اطروحته عن نحل الشعر الجاهلي ، لا حبا في الشعر والآداب وتاريخها ، بل دفعا لمستتبعات تلك الأطروحة و لا سيما إنكار تاريخية إبراهيم وإسماعيل والقصص القرآني إجمالا ،على المستوى العقدي بالأساس . من المحقق أن كتاب " في الشعر الجاهلي " ، طرح مجموعة من الاشكاليات المعرفية والمنهجية والتاريخية واللاهوتية ما كان بالإمكان ،إنارتها بالوضوح الفكري اللازم ، في تلمس أولي .فبدون معالجة ناجزة لتلك الإشكاليات ،يصعب ،في الحقيقة ،القبض على مفاصل الاشكاليات الثانوية المرتبطة بالتاريخ الفكري والسياسي والاجتماعي للمجتمعات الإسلامية . ترى كيف سيكون حال الفكر العربي الإسلامي لو تعمق الرائد التنويري في تناول الفترة الجاهلية والإسلام الأولي،واستوفى مقتضيات البحث في تلك الفترات ،بالاستفادة من منجزات النقدية الغربية ومنجزات الاستشراق المعرفي ؟ ألم يكن حريا بمفكر من طرازه ،بعد معايشته لقضايا عاصفة (أحوال المرأة في الإسلام لمنصور فهمي والإسلام و أصول الحكم لعلي عبد الرازق) ،أن يتخصص في النصوص والمتون والفترات التأسيسية للوعي والمتخيل الإسلاميين؟ ألا يفرض التنوير الفكري ، تحديد الأولويات والبدء بنقد الثوابت قبل الانكباب على النصوص والمتون والمعالجات الفرعية ؟ حين نقارن منجز طه حسين بمنجز سبينوزا ،نلاحظ اختلافا في المقاربة والاختيارات . تميزت جهود سبينوزا بالتركيز ،وبالانكباب الكلي على القضايا المعرفية والمنهجية واللاهوتية المركزية في نظام الفكر الأوروبي في القرن السابع عشر،وبتعميق الجوانب النقدية في الديكارطية ؛ مما مكنه من تحقيق منجزات نقدية لا يستهان بها خصوصا في نقد الكتاب المقدس والرؤية اللاهوتية والأخلاقية السائدة في غرب أوروبا .وقد تمكن من بناء نسق معرفي متماسك ،يتضمن رؤى أنطولوجية وابستمولوجية وأخلاقية متميزة بالمقارنة حتى مع فكر النهضة ،ويتجاوز تصورات الابستمولوجيا الكتابية. (لذلك عقدت العزم على أن أعيد من جديد فحص الكتاب المقدس بلا ادعاء وبحرية ذهنية كاملة ،و ألا أثبت شيئا من تعاليمه أو أقبله ما لم أتمكن من استخلاصه بوضوح تام منه .وعلى أساس هذه القاعدة الحذرة وضعت لنفسي منهجا لتفسير الكتب المقدسة . ) 2- ففيما تميز سبينوزا بالتركيز في أبحاثه وفي مجالات اشتغاله ،تميزت طه حسين بتعدد اهتماماته إلى حدود التشتت(الجامعة و الصحافة والسياسة ) ،مما انعكس سلبا على قيمة وتماسك أفكاره وأرائه . لا يمكن بث القيم التنويرية دون اشتغال جدي على الأصول المؤسسة ودون الكشف عن تاريخيتها وحدودها المعرفية والتاريخية .والحال أن جيل طه حسين ،تجاهل هذا المعطى ،بحكم الافتقار الى مؤسسات معرفية مهيكلة ومنفتحة على المناهج والنظريات الجديدة ،وبحكم التباس العلاقات بالغرب وبالحداثة ،ولا سيما بالاستشراق. كان انفتاح الجيل النهضوي على الحداثة إشكاليا وذرائعيا ،مما لا يمكن من استيعاب تعقد الحقل الابستمولوجي الغربي ،والتفكير في استثمار منجزاته وأدواته و آلياته التحليلية في الاشتغال على النصوص والممارسات المعيارية في العالم الإسلامي .فقد استثمر طه حسين شذرات من الديكارطية والوضعانية ،في إضاءة مفصل إشكالي من مفاصل تاريخ الأدب العربي ،في وقت صارت فيه الديكارطية ،محض مدماك تاريخي في الإبستومولوجيا الغربية . كما اختار الجيل الليبرالي( محمد لمحمد حسين هيكل وعبقريات العقاد ) ،وخاصة بعد الثلاثينات ،تقديم مقاربات شبه ليبرالية ،لمفاصل أساسية من تاريخ الإسلام والسيرة للبرهنة على إمكان تأويل شبه عقلاني لوقائع مشمولة بالتقديس والأسطرة واللاعقلانية في المتخيل الإسلامي. وبدلا من أن تكون تلك التأويلات شبه العقلانية ، مساهمة في العقلنة الفكرية للمشهد الفكري في العالم الإسلامي ، سرعان ما استوعبت من قبل المؤسسات التقليدية لتصب،في الواقع ، في تيار اللاعقلانية الجاري ،وتفقد كثيرا من صرامتها المنهجية ومن قدرتها على إضاءة عتمات التاريخ المقدس .بل انبرت ،أحيانا،لاستشكال المقاربات العقلية التراثية ،بدعوى المبالغة في استعمال العقل وعدم مراعاة حدوده. و من الواضح أن للاهتمام بالتنوير على حساب المقاربة النقدية للأصول المؤسسة ،انعكاسات سلبية على دقة الفكر التنويري وتماسكه. (فتأثروا بهذا كله واتخذوه وسيلة إلى الدفاع عن دينهم كما فعل النصارى واليهود ، ثم مضوا إلى ابعد من ذلك فآمنوا بالعقل وحكموه في كل شيء ،وزعموا انه وحده مصدر المعرفة ، وأنه هو الذي يحسن ويقبح من أعمال الناس حسنها وقبيحها .و أنه يستطيع أن يعرف الله ، و أن يعرفه بقوته ،سواء جاءته الأنبياء الهداة إلى الله أو لم يجيئوا . وقد غرهم إيمانهم بالعقل فدفعهم إلى شطط يعيد .) 3-
وفي غياب مرتكزات معرفية صلبة ،انتهى أغلب التنويريين إما الى مواقع تقليدية واضحة(محمد حسين هيكل والعقاد وطه حسين) أو إلى الارتداد إلى ما قبل التنوير(منصور فهمي ). (إن مرآة الإسلام سرد للتاريخ كما يطلب منه ان يكون ،أي مرآة لعبرة .وهي عبرة تحل الواعظ محل المؤرخ ، وتجعل من التاريخ مناسبة للأحكام الأخلاقية ،وليس موضوعا للبحث الموضوعي فيما حدث .) 4- فإذا تميز عمل سبينوزا بالتأسيس المعرفي للانطولوجيا والايطيقا والنقدية الكتابية ،فإن عمل طه حسين ،بدأ واعدا من خلال قضايا اشكالية ومفصلية مثارة بكثير من الجسارة ،وانتهى إلى تقريبات تداولية وإلى تغليب هم التنوير على هم الاستكشاف والتأسيس المعرفيين؛مما قاده إلى التراجع ،عمليا ،عن مشروعه والانشغال بتنوير جمالي بلا أساس معرفي مكين.
الإحالات : -1[طه حسين،في الشعر الجاهلي،دار المعارف للطباعة والنشر ،سوسة،تونس،الطبعة الثانية 1998،ص.24]. -2[سبينوزا ،رسالة اللاهوت والسياسية ،ترجمة : حسن حنفي ،مراجعة :فؤاد زكريا ، مكتبة الأنجلو المصرية ، القاهرة ، الطبعة الثالثة ،ص. 117 ]. -3[طه حسين،مرآة الإسلام،دار المعارف،القاهرة ،القاهرة السابعة ، ص.239] -4[علي أومليل،الإصلاحية العربية والدولة الوطنية ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء،الطبعة الثانية 2005،ص.139].
#هادي_اركون (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تنويريون بلا تنوير
-
نقد استراتجية المثقفين الحداثيين
-
نحو وعي نقدي للعلمانية
-
التأويل العلمي للقرآن والمنظومة التراثية
-
الصفاتية بين الوثوقية واللاادرية
-
بعض مظاهر بيانية النص القرآني
-
في بيانية النص القرآني
-
طه عبد الرحمان التأنيس في زمان التحريق
المزيد.....
-
وجهتكم الأولى للترفيه والتعليم للأطفال.. استقبلوا قناة طيور
...
-
بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق
-
” فرح واغاني طول اليوم ” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 اس
...
-
قائد الثورة الإسلامية: توهم العدو بانتهاء المقاومة خطأ كامل
...
-
نائب امين عام حركة الجهاد الاسلامي محمد الهندي: هناك تفاؤل ب
...
-
اتصالات أوروبية مع -حكام سوريا الإسلاميين- وقسد تحذر من -هجو
...
-
الرئيس التركي ينعى صاحب -روح الروح- (فيديوهات)
-
صدمة بمواقع التواصل بعد استشهاد صاحب مقولة -روح الروح-
-
بابا الفاتيكان يكشف: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق عام 2021
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس: هل تستعيد زخم السياح بعد انتهاء
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|