رؤى خليل سعيد
الحوار المتمدن-العدد: 4775 - 2015 / 4 / 12 - 00:22
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تمهيد
تعد السياسة الخارجية احدى اهم فعاليات الدولة التي تعمل من خلالها لتنفيذ اهدافها في المجتمع لدولي, وتهدف السياسة الخارجية لبلد ما إلى تحديد سبل التواصل مع دول العالم الاخرى, من اجل تحقيق امنها وضمان الحدود والحاجات الاساسية للدولة, وتتعدد الاساليب والوسائل للوصول إلى الاهداف بحسب امكانيات الدولة وقدرتها على التأثير.
ويمكن دراسة موضوع السياسة الخارجية العراقية من منطلق البحث عن سبل تحقيق تلك الاهداف, ليكون العمل محصلة توظيف شروط المكان والامكانيات بما يتناسب مع حقيقة الدور المطلوب. ولم يكن العراق في يوم ما عاجزا عن تقديم دواع لعلاقات دولية بناءة عبر استراتيجية ترمي إلى زيادة الفعالية الاساسية وتوسيع حجم التفاعل والتبادل مع جميع دول العالم, ولكن السياسة العراقية ماتزال تعاني الكثير من القيود في الوقت الراهن داخليا وخارجيا, وفي الوقت نفسه امامها الكثير من الفرص ان هي استغلت الامكانيات المتاحة لعمل دبلوماسي فاعل.
وان الدول الإقليمية تخشى أن يستطيع العراق النهوض بنفسه وان يستعيد توازنه الذاتي وهذا يعني امتداد سياسته الداخلية إلى الخارج (على شكل سياسة خارجية عراقية جديدة فاعلة إقليمياً)، لذا فأن من أكثر الأمور التي تربك داعمي الإرهاب الإقليميين داخل العراق هي قضية استعادة العراق توازنه وانضمامه من جديد إلى معادلة التفاعلات الإقليمية العربية وغير العربية، وخوفهم من تسويق أنموذج عراقي ديمقراطي مؤسساتي، وهذا يعني منافسة هذه الدول على مكانتها الإقليمية، بسبب ان العراق يمتلك من المقومات ما يجعله دولة تستطيع أن تفرض قراراتها الخارجية إذا ما وظفت قوتها إلى قدرات وإمكانيات مبنية على أسس التجربة الديمقراطية.
إن تعافي العملية السياسية في العراق هي انعكاس مباشر لتعافي التجربة الديمقراطية في العراق، فمن ينتخب، ينتخب من يراه الأنسب له ولتمثيله في السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، من ثم فأن النجاح بتحقيق انسجام المؤسسات السياسية وتماسكها وعملها المشترك القائم على أساس الثقة والتعاون المشترك والإدراك المشترك الصحيح للمصالح الوطنية العليا سينعكس فيما بعد على المواطن نفسه، لذا فأن الأطراف الإقليمية التي تخشى وجود عراق متماسك داخليا وقوي إقليمياً، تلعب على وتر تأجيج الخلافات بين الكتل السياسية بما يتماها مع ما ترغب تحقيقه من فوضى داخل الشارع العراقي، وهذه الفوضى تأخذ أشكال دعم عدة أهمها وأخطرها هو الشكل المسلح والتخريب لمؤسسات الدولة العراقية ومحاولة تأجيج الفتن عبر تمكين أطراف ضد أطراف أخرى، وهنا يتخذ الدعم اخطر صوره عبر الدعم المذهبي الطائفي والعرقي المقترن بأعمال إرهابية انعكست على وحدة المجتمع والعملية السياسية والأداء الحكومي وصولاً إلى مكانة الدولة برمتها.
وتهدف هذه الدراسة إلى تقديم صورة عن الواقع العراقي للتعرف على ما يكبح فاعلية السياسة الخارجية العراقية ويحدد فاعليتها, عبر النقاط التالية:
اولا: الخارجية العراقية والدبلوماسية
1. محددات السياسة الخارجية في الدستور العراقي
2. توجهات السياسة الخارجية العراقية واهدافها
ثانيا: استراتيجية الحكومة العراقية للبقاء والعلاقات مع اللاعبين الاقليمين (تركيا وايران)
اولا: الخارجية العراقية والدبلوماسية
ان العراق كونه من دول العالم النامية فهو يخضع في تحديد سياسته الخارجية إلى اشتراطات تلك الدول وفي مقدمتها ضعف الاستقرار السياسي عموما وما يعكسه من عدم استقرار في توجهاته نحو العالم, مع بعض الاستثناءات المحدودة, ومن خلال ذلك فيجب دراسة الاتي:
1. محددات السياسة الخارجية في الدستور العراقي:
تعاني الدبلوماسية العراقية عموما من مشكلة تداخل الاختصاصات وعدم تحديد الاولويات, وهنا تدخل طريقة تشكيل السياسة العراقية عبر التوافقات بين الاطراف السياسية وليس على اساس فلسفه واضحة تتبناها الدولة, لذلك كان هناك الكثير من التقاطعات التي قادت إلى مواقف متعارضة, فقد تتبنى الحكومة ممثلة برئيس الوزراء موقفا ما ويختلف معه رئيس الجمهورية او وزير الخارجية. فان هذا الخلل في الاداء السياسي وتضارب المصالح وتعدد مصادر القرار, كان له الاثر الواضح في ضعف الاداء وتواضع التأثير في النشاط السياسي الخارجي. فالخطاب السياسي الواضح والمتماسك لنظام الحكم هو الذي يحدد معالم السياسة الخارجي والداخلية في اطار فلسفة الدولة ورغبة الجميع في نهوض البلد وتطوره(1).
كما ان الخطاب السياسي في العراق محكوم بطبيعة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية, واذا ما ارتبكت هذه الاوضاع او شابها القلق فان ذلك ينعكس ارتباك الخطاب السياسي وضعف تاثيره في المقابل. فالحرص على تعزيز البناء الداخلي اجتماعيا واقتصاديا يعني اداء سياسيا افضل في الداخل والخارج, وتجزئة الخطاب السياسي بحسب الولاءات الحزبية والفئوية والاقليمية قاد إلى تجزئة القرار السياسي الموجه نحو الخارج, مما يستدعي ضبط مسار العملية السياسية في الداخل وصولا إلى فعل متماسك في الخارج(2).
فان على صعيد العلاقات مع دول الجوار الاقليمي فمن القيود التي تعيق عمل الدبلوماسية العراقية, الميراث الطويل من الخلافات والاشكالات الامنية التي تحد من التعاون مع بعض الدول خاصة مع اتهام العراق للبعض منها بايواء الاطراف المعارضة, ومن بين القيود في التعامل مع تركيا مشكلة الاكراد ومشكلة التركمان والحدود والمياه, اما مع ايران فهناك مشكلة التدخلات المستمرة في الشأن الداخلي ومشكلات الحدود والمياه وحقول النفط(3).
ان العمل على تجاوز مكامن الخلل في علاقات العراق مع جيرانه لا تبدو يسيره, لأنه محكوم بقيود داخلية تجعل عملية صنع القرار السياسي الخارجي معقدة بفعل تعامل بعض الاطراف السياسية ضمن الحكومة ومجلس النواب مع تلك الدول ودفاعها عن مصالحها مما يجعل التحرك العراقي في هذا المجال يمتاز بعدم التوازن بل إلى التناقض في احيان كثيرة(4).
2. توجهات السياسة الخارجية العراقية واهدافها
ان سقوط النظام ونهوض النظام الديمقراطي الدستوري في العراق، اتاح له أن يبدأ من جديد في تأسيس علاقات دولية تقوم على التفاعل الايجابي وحسن الجوار واحترام الاخر وعدم التدخل في شؤونه الداخلية وتلك سياسة مغايرة تماما لما عرفت به دوائر الخارجية العراقية لأكثر من ثلاثين سنة وكان التحويل الجديد في نمط وروح المنهج الجديد الذي اختطه العراق الديمقراطي على صعيد العلاقات الدولية يحتاج إلى مدد زمنية يستطيع فيها كسب ثقة الدول التي بقيت والى وقت قريب تتعامل بريبة وحذر(5).
وحسب المحللين فقد كانت السياسة الخارجية ورجالاتها تعيد ترميم ما تهدم وترسي قواعد جديدة في البناء ونجحت وفي زمن قياسي وصعب ومعاد في زرع الثقة واعادة التوازن وقد تحقق ذلك من خلال اعادة العلاقات مع العشرات من الدول وفتح السفارات والمثليات في اكثر من سبعين دولة لغاية نهاية عام 2008 كما استطاعت ان تمهد الطريق لإعادة فتح السفارات للدول العربية والعالمية وممثلياتها سواء في بغداد او بقية المدن العراقية وكما اصبح العراق دولة حاضرة في اجتماعات ونشاطات اقليمية ودولية بصفته دولة لها اثر ووزن اقليمي وأفق استراتيجي(6).
ويرى البعض الآخر من الباحثين في شن العلاقات الخارجية ان مشاركة العراق في المحافل الدولية قد دشنت توجها دبلوماسيا عراقيا جديدا يهدف إلى حشد الدعم الدولي لجهود الحكومة على الصعيدين الامني والاقتصادي ومكافحة الارهاب كما شهدت اروقة الامم المتحدة تحركا دبلوماسيا عراقيا مكثفا على هامش انعقاد دورتها الخريفية أسهمت في اعطاء صورة واضحة عن التحولات التي يشهدها العراق واقامة افضل العلاقات مع دول العالم ومنها الولايات المتحدة الامريكية على اساس المصالح المشتركة واحترام الوطنية كما توجه العراق في تلك المحافل الخارجية.
ومن الانجازات المهمة مؤتمر اسطنبول الذي كان شاهدا تاريخيا على نجاح الدبلوماسية العراقية الذي عقد في أوائل تشرين الثاني من عام 2007 لدول الجوار الإقليمي للعراق وبمشاركة أطراف دولية عديدة كمجموعة الثماني الصناعية والأعضاء الدائمين الخمسة في مجلس الامن والامناء العاملين للأمم المتحدة ومنظمة المؤتمر الاسلامي والجامعة العربية والاتحاد الاوربي وقد اصدر المؤتمر بيانا ختاميا يعد نصرا كبيرا للسياسة الخارجية العراقية التي نجحت في كسب تأييد هذا الحشد الدولي والأطراف المشاركة في تعزيز الامن والاستقرار في البلاد ومنع جميع أشكال المساعدات للهجمات التي تدعوا إلى العنف وتعزيز الاجراءات الامنية على الحدود مع العراق لمنع تسلل الارهابيين ووافق المؤتمر على توطيد العلاقات مع العراق وحث الدول المشاركة على شطب ديون العراق السابقة وايقاف التعويضات ورفع التمثيل الدبلوماسي واعادة فتح السفارات وتشكيل وحدة دعم واسناد لدول الجوار في بغداد(7).
فان التحرك الدبلوماسي الذي قام به العراق قد حصد ثماره واستطاع تحشيد الدعم للعراق بما يسهم في تعزيز الامن والارتقاء بالاقتصاد العراقي ... وان هذه التحركات مهمة طالما تطرح رؤية عراقية تتعلق بمستقبل العراق وتؤكد ضرورة الحفاظ على هويته العربية والاسلامية.
وقد ركزت السياسة الخارجية العراقية على تحقيق الأهداف التالية:
- الاعتماد على الدبلوماسية الاقتصادية.
- تطوير أجندة قوية لتحقيق الأمن القومي.
- الاستفادة من وفرة مواردها الطبيعية واستخدامها كأداة دبلوماسية لممارسة النفوذ على جيرانها، والذين كانوا معادين للإقليم
ثانيا: استراتيجية الحكومة العراقية للبقاء والعلاقات مع اللاعبين الاقليمين (تركيا وايران)
اولا: العراق والجارة الشمالية تركيا
(لا أعداء دائمين، لا أصدقاء دائمين، ولكن مصالح دائمة)، لطالما اختبرت تلك المقولة من خلال تاريخ العلاقات التركية –العراقية، إذ أن تلك العلاقات قد كانت ذات طابع صراعي تارة، وطابع سلمي تارة أخرى، وتبقى المصلحة هي المحرك الأساسي لعملية تحول الأولويات.
وان لتركيا مطالب أساسية وإستراتيجية قبل ان تشكل موقفها من الحرب الأمريكية على العراق (2003) -تمثلت بـ: غطاء سياسي فعال، وحساسية أمريكية كافية حيال الشروط السياسية المحلية، وضمانة قوية بوحدة الأراضي العراقية وضمان بأن أكراد العراق لن ينالوا الاستقلال ولا ارجحية على تركمانه، وتعويضات اقتصادية. وعلى هذا الأساس تلخص الموقف التركي من الحرب ضد العراق على لسان وزير خارجيتها "التعاون مع الولايات المتحدة في حربها ضد العراق بما يحفظ المصالح التركية، لأنها لا تستطيع منعها من خوض هذه الحرب"(8).
في 30 تشرين الثاني 2010 استضاف مركز الدراسات التركية حلقة نقاشية حول التعاطي التركي في الشأن العراقي، وخاصة فيما يتعلق التطورات الأخيرة، وتم التأكيد على أهمية استقرار العراق في الحفاظ على الاستقرار والازدهار في المنطقة بأسرها، وأن تركيا، على وجه الخصوص، تتأثر بشدة من الوضع في العراق، وبالتالي، لديها مصلحة ثابتة في وجود حكومة عراقية متعاونة معها للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي على حد سواء(9).
وقد أظهرت البوادر الدبلوماسية الأخيرة، مثل افتتاح قنصلية عامة تركية في كل من البصرة وأربيل في عام 2009، والزيارات الدبلوماسية إلى العراق من قبل قادة تركيا، دليل واضح على هذا الاهتمام، بالإضافة إلى ذلك، فأن موقف تركيا الداعم نحو جهود العراق لتطوير الحكومة واقتسام السلطة بما يمثل جميع مكونات المجتمع العراقي.
فقد كان من دواعي سرور تركيا منذ عملية تشكيل الحكومة حتى الآن، هو الاستعداد لمواصلة تعاونها الاستراتيجي مع الحكومة العراقية بمجرد اكتمال تلك العملية بصورة سليمة، وهذا التعاون الاستراتيجي يشمل الجهود من جانب تركيا للمساعدة في إصلاح المجتمع العراقي وتعزيز العلاقات التجارية مع العراق والتعاون في مجال الطاقة والبناء، والتي سوف تعزز مصالح تركيا السياسية والاقتصادية في العراق(10).
ولتجسيد هذه الفوائد المحتملة، فأن الاندفاع التركي للتعاون الاستراتيجي مع العراق في السنوات الأخيرة قد حقق زيادة ملموسة في الصادرات التركية إلى العراق والتي بلغت 5.1 مليار دولار في عام 2009، والتجارة الثنائية بين البلدين، والتي تجاوزت الآن 6 مليارات دولار، وهذا يعكس رغبة تركيا في تحقيق الاستقرار في العراق بدافع قوي من المخاوف الأمنية، حيث لا تزال تواجه تركيا التهديدات الإرهابية من الفصائل المسلحة لحزب العمال الكردستاني في المنطقة الكردية المتمتعة بالحكم الذاتي في العراق، وبالنسبة للجميع في تركيا فأنه وللأسباب المذكورة ينبغي مواصلة تطوير التعاون الاستراتيجي مع العراق، فضلا عن استقراره تنسيقاً مع الرغبة الأميركية ومصالحها في العراق، والتي تشترك مع العديد من مصالح تركيا في الشأن العراقي والمنطقة ككل(11).
أن العراق لا يزال أمامه طريق طويل ليقطعه في تطوير مؤسساته الديمقراطية والبنية التحتية والاقتصادية، لكن الأمل موجود في أن المساهمات والتعاون من الجهات الفاعلة الدولية، مثل الولايات المتحدة وتركيا، سوف تنقل هذه المشاريع إلى حيز الواقع وتأتي بالمنفعة المتبادلة لجميع الأطراف الفاعلة.
وان الاتراك حاولوا جاهدين ممارسة الوصاية الابوية على العراق، وحاولوا كثيرا ترك بصمتهم السياسية على الوضع العراقي، فتكررت التدخلات في الشأن العراقي بشكل استفزازي ولم تترك منفذا للحوار السليم على الرغم من الرغبة العراقية الواضحة، فكان اسلوب الارشادات هو الاكثر وضوحا في تصريحات المسؤولين الاتراك تجاه القيادات السياسية العراقية مستغلين سوء العلاقات بين الاطراف السياسية العراقية وارتماء البعض في احضان تركيا. وان تلك التدخلات نزعت كل الاقنعة والذي يخالف كل الاعراف الدبلوماسية والسياسية المتعارف عليها بين الدول هو اتفاق اردوغان على انسحاب مقاتلي حزب العمال الكردستاني إلى داخل الاراضي العراقية، حيث يكشف هذا الاتفاق الغريب عن مدى الاستخاف وعدم مراعاة لنمط العلاقات الحقيقية بين الدول، حيث تصرف الاتراك وكأنهم يتحركون داخل اراضيهم حيث وهبوا لبعضهم ما لا يملكون!. هذا السلوك الغريب يوضح ان الاتراك يلقون بمشاكلهم داخل العراق، حيث اسلوب تصدير الازمات الداخلية إلى الجوار، والتدخل الاخير لا يمكن القبول به وفقا لكل المقاييس، ويتطلب من القوى السياسية ترك خلافاتها جانبا والنظر في الموضوع بعناية ومعالجة الامر وفقا لما تتطلبه مصلحة العراق، لأن المتوقع ان اي خلاف بين هؤلاء المقاتلين والحكومة التركية (وهو متوقع) ستكون نتائجه على حساب الاراضي العراقية. الرغبة العراقية بعلاقات جيدة مع الجوار كانت تصطدم دائما بتدخلات واضحة وليس التدخلات التركية او القطرية او السعودية الا نماذج بسيطة لعمق الازمة في هذه العلاقات والتي لم تعط فرصة للعراق لتحسينها تحت وطأة رغبة هذه الدول في التدخل المستمر في العراق وفقا لرغبات ومصالح ضيقة، وما حدث اخيرا كشف بوضوح من هو الذي يسعى لتأزيم تلك العلاقات بشكل دائم(12).
وفي عام 2011، كان هناك نحو 430 شركة مسجلة في إقليم كردستان العراق، بزيادة بلغت 30% عن العام السابق، كما استطاعت أن تجذب 16.2 مليار دولار كاستثمارات على مدار خمس سنوات، كما نشطت التجارة الخارجية، غير أن الميزان التجاري يميل لصالح تركيا وإيران، ومن خلال تطوير العلاقات الاقتصادية مع هذه البلدان، فإن إقليم كردستان يرغب في تطوير القوة الناعمة في المنطقة، ولتحويل أعدائها إلى أصدقاء، وعلى سبيل المثال، فإن 55% من الشركات الأجنبية العاملة في إقليم كردستان العراق هي شركات تركية ويقدر حجم التبادل التجاري مع تركيا بحوالي 4 مليارات دولار(13).
ومن منظور التنمية الاقتصادية، فإن قطاع النفط والغاز يعد الأهم في العراق، حيث يمتلك العراق احتياطات هائلة، ففي تقرير صادر عن المسح الجيولوجي الأمريكي، فإن إقليم كردستان العراق به احتياطات تقدر بحوالي 45 مليون برميل من النفط، و60 تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي، وهو ما يضع العراق ضمن أكبر عشرة دول من حيث الاحتياطات، وهو ما جعل العراق يدرك القوة الاقتصادية والسياسية التي توفرها هذه الاحتياطات. ومع اكتشاف مزيد من النفط في المنطقة الكردية، فإن الإقليم الآن يتحول ليصبح مصدراً مهماً يمكن الاعتماد عليه للطاقة، وهو أمر لا يغفل على تركيا والولايات المتحدة، وتأمل حكومة إقليم كردستان العراق في أن تستخدم ثرواتها المكتشفة حديثاً لمصلحتها، ولتكوين تحالفات تضغط على السياسيين في الداخل والخارج، فمثلاً يسعى الإقليم لتوظيف النفط لتكوين تحالف مع تركيا، فحكومة الإقليم تواجه معضلة تصدير أو بيع النفط منذ بداية الاكتشافات، فحكومة بغداد ترفض دفع تكاليف الاستخراج، وهو ما دفع حكومة الإقليم لوقف الإنتاج، غير أنها تسعى لإقامة تحالف خاصة مع تركيا، وهو ما يمكنها من بيع النفط، وتبدي تركيا رغبة في ذلك، ليس فقط للنفوذ الذي ستكتسبه على حكومة الإقليم نظراً لكونها الممر الوحيد الممكن للتصدير، ولكن كذلك نظراً لأنها أكبر شريك تجاري، فكلما أزداد ثراء الإقليم، كلما ازدادت مكاسب الشركات التركية، ونظراً لأن تركيا في احتياج متزايد للطاقة، فإن هذا قد يجعل من غير المفر لتركيا أن تقوم بإبرام صفقة أحادية مع الإقليم لبيع النفط والغاز(14).
وقد تم الإعلان فعلاً عن صفقة بين تركيا وإقليم كردستان العراق في مايو 2012 لبناء خط لتصدير النفط والغاز من الإقليم لتركيا (غير أنه لم يتم إبرامه بعد)، وهو ما ينذر بمزيد من تدهور العلاقة المتدهورة أساساً بين الحكومة المركزية والإقليم، وبين الحكومة المركزية وتركيا.
يسعى الإقليم ليكون مفيداً لتركيا سياسياً واقتصادياً، بدلاً من أن يكون عبئاً، كما يأمل الإقليم أن تدرك تركيا أهمية دعم الإقليم حتى لا يستخدم الإقليم من جانب قوى أخرى في المنطقة على نحو يضر بالمصالح التركية، وتسعى أربيل لاستغلال تراثها الثقافي والديني، وعلاقتها الاقتصادية خاصة في القطاع النفطي لممارسة درجة من التأثير على تركيا من خلال إغرائها بالمصالح التجارية، ويساعد على ذلك البعد الديني، فكل من تركيا والأكراد عرب سنة، ونظراً للحرب الباردة الطائفية الأخذة في الاشتعال في المنطقة، فإن هذا العامل زاد تأثيره نظراً لأن بغداد مهيمن عليها من قبل الشيعة، الموالون لطهران، بينما الأكراد محاصرون بين شيعة إيران والقوى الموالية لإيران في سوريا.
وقد استخدم القطاع الخاص لبناء تحالفات ومصالح مشتركة بين رجال الأعمال الأتراك والأكراد، وقد تطورت العلاقات التركية مع إقليم كردستان العراق بصورة تفوق الخيال، وقد وصلت أعلى مستوى لها مع افتتاح رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان مطار أربيل الدولي خلال زيارة لإقليم كردستان العراق، كما تطورت العلاقات بصورة أعمق، مع الإعلان في مايو الماضي أنه سيتم بناء خط لتصدير النفط والغاز يمر من إقليم كردستان العراق لتركيا مباشرة، وعلى الرغم من اعتراض بغداد الشديد.
وتعد تجارة الطاقة أهم عناصر هذه العلاقة، فتركيا تحتل المرتبة السادسة عشر، والنمو الاقتصادي يحتاج إلى طاقة ، وتستورد تركيا أغلب احتياجاتها من الغاز من روسيا وأذربيجان وإيران وبأسعار أعلى من الأسعار الأوروبية، كما أنه من المتوقع أن يتضاعف احتياجاتها من الطاقة بحلول عام 2023، وبالإضافة إلى ذلك، فإن تركيا تحتاج لتنويع الموردين الذين تتعامل معهم، وقد تدخلت إقليم كردستان العراق لتلبية هذه الاحتياجات، وذلك على أمل أن يحصل الإقليم على الاعتراف السياسي من قبل تركيا وتحقيق مزيد من التعاون بين الطرفين، كما أن شركة جينيل للطاقة التركية (Genel Energy) تعد من أكبر المستثمرين في الإقليم(15).
فيعد العراق الان سوقاً رائجة للبضائع التركية من ناحية, كما ان تركيا تتطلع إلى ممارسة دور اقتصادي كبير في العراق, وتحاول اغتنام الفرص الاقتصادية المتاحة خاصة في القطاع النفطي, كونها تعد إلى جانب اسرائيل من البلدان الفقيرة نفطياً في الشرق الاوسط, وهذه اشارة إلى نقطة ضعف في عناصر قوتها, وعليه فإن العراق في المدرك الاستراتيجي التركي له اهمية كبيرة في تزويد تركيا بالنفط, فضلاً عن تخفيف العبء المالي نتيجة استيراده من دول بعيدة(16).
وعلى الرغم من أن إقليم كردستان العراق والأحزاب الموجودة فيه أحزاب علمانية، إلا أنه نشب صراع طائفي إقليمي، وهو الأمر الذي يجعل الاختلافات الطائفية ذات أهمية، وعلى الرغم من أن انقسام الإقليم على أساس طائفي أمر مستحيل، إلا أنه نظراً لقيام إيران بدعم عدد من القوى الإسلامية في الإقليم، فإن ذلك قد يغري قوى إقليمية أخرى بدعم جماعات إسلامية أخرى، وهو ما قد يولد عدم الاستقرار في الإقليم.
اما من الناحية السياسية, فمنذ منتصف عام 2010 وحالما تأسست حكومة الشراكة الوطنية برئاسة نوري المالكي شهدت العلاقات العراقية التركية تراجعا كبيرا بينما حافظت على مستوى علاقاتها الاقتصادية مع العراق واستمرت الاعلام التركية مرتفعة في مواقع الشركات التركية التي غطت معظم مناطق العراق وبشكل خاص مناطق كردستان وجنوب البلاد.
اسباب كبيرة كانت تقف وراء التراجع في العلاقة بين البلدين برغم ان هناك قطاعات سياسية مهمة على مستوى البرلمان والحكومة استمرت على ادامة علاقاتها قوية مع انقرة تحديدا قيادات القائمة العراقية وقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني, في المقابل انفراد ائتلاف دولة القانون برئاسة رئيس الوزراء باتخاذ مواقف سياسية متشجنة ازاء انقرة اعتقادا منه ان تركيا تتدخل في الشأن العراقي من خلال علاقاتها الوطيدة مع تلك القوى السياسية وانها ايضا تقدم دعما كبيرا للعرب السنة وتركمان عراقيين وجماعات عراقية معارضة اخرى, وفي مناسبات عدة تم اتهام تركيا بان لديها علاقات مع اشخاص عراقيين معروفين بصلاتهم مع الجماعات المسلحة العراقية, ليس هذا وحسب بل ان الحكومة العراقية لم تخف امتعاضها من العلاقة الوثيقة بين رئاسة اقليم كردستان والقيادات التركية وهي علاقات نجم عنها اتفاقات خصوصا في ميدان النفط, وايضا جاء قبول انقرة استضافتها لنائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي والتعامل معه بصفته هذه برغم اتهام الحكومة له بانه طرف في اعمال ارهابية وهو اتهام نجم عنه الحكم عليه بالإعدام(17).
وان زيارة رئيس البرلمان العراقي اسامة النجيفي إلى تركيا بتاريخ 11 ايلول 2013 ولقائه مع رئيس الجمهورية التركي عبد الله غول ورئيس الوزراء اردوغان ووزير الخارجية احمد اغلو فضلا عن رئيس البرلمان التركي جميل جيجك والتباحث معهم حول تطورات الازمة السورية وتداعياتها في المنطقة والعلاقات الثنائية والملفات المشتركة بين البلدين, نجم عنها ما وصف بترطيب الاجواء وانهاء حالة الفتور في العلاقة بين البلدين(18).
ولقد لخص النجيفي اسباب زيارته إلى تركيا وما نجم عنها بالقول انها اسهمت بحلحلة الكثير من المشاكل, لا سيما مع انقرة, وذكر ان الهدف من الزيارة التي قام بها إلى انقرة هو اعادة العلاقات الطبيعية بين البلدين والتي شابها نوع من التراجع خلال الاشهر الماضية, مشيرا إلى انها فتحت بابا لإعادة العلاقات بين البلدين إلى وضعها السابق. واشار إلى ان زيارته إلى تركيا كانت تهدف إلى اعادة التوازن إلى المنطقة وادامة العلاقات بين العراق وتركيا وايران وبناء حالة من التفاهم الاقليمي مع دول المنطقة في سبيل معالجة الازمة الطائفية التي بدأت تنتشر فيها.
وفي 10نوفمبر 2013 أعلن وزير الخارجية (هوشيار زيباري)، عن اتفاق عقده مع وزير الخارجية التركي (أحمد داود أوغلو) على تفعيل عمل اللجنة الوزارية المشتركة ولجانها الفرعية وصولاً إلى عقد اجتماع رئيسي وزراء البلدين في المستقبل القريب، فيما أشار (أوغلو) إلى أن حكومة بلاده بصدد تفعيل وتحقيق خارطة الطريق التي وضعت قبل شهرين بشكل ناجح خلال الأشهر المقبلة.
وقال (زيباري) خلال مؤتمر صحفي عقده في 10/11/2013 ، مع وزير الخارجية التركي (أحمد داود أوغلو)، إن "زيارة وزير الخارجية التركي فتحت صفحة جديدة لتطبيع العلاقات السياسية والدبلوماسية وفي مختلف المجالات"، مبيناً أننا "اتفقنا على إعادة تفعيل اللجنة الوزارية المشتركة ولجانها الفرعية بغية عقد الاجتماع عالي المستوى برئاسة رئيسي وزراء البلدين في المستقبل القريب(19).
يذكر أن وزير الخارجية التركي (أحمد داود أوغلو) وصل في (10 تشرين الثاني 2013)، العاصمة العراقية بغداد في زيارة رسمية تستغرق يومين بدعوة من نظيره العراقي (هوشيار زيباري)، لبحث العلاقات الثنائية بين البلدين والأزمات التي تمر بها بعض دول المنطقة، فضلاً عن سبل عقد (مؤتمر جنيف2) بحسب الرؤية العراقية.(20)
ثانياً: العراق وايران
ان الكثير من الدول الاقليمية تتخوف من امتداد النفوذ الايراني على شيعة العراق، مما يدرك هؤلاء حقيقة التوجهات الإيرانية، لذا فهم يبتعدون عن ايران، وإن كانوا يشكلون معارضة معتدلة للولايات المتحدة، الا انهم يفضلون الولايات المتحدة على ايران المجاورة(21). ومن الواضح ان الايرانيين اصبحوا اكثر وعياً بهذه الحقيقة، وهم يدركون مشكلة إن الشيعة العراقيين غير تواقين لان يصبحوا بايدي إيران(22). وهذا ما أسهم في تغيير الموقف الايراني فيما يتعلق بدولة المستقبل العراقية. إذ ان التنافس التقليدي حول المرجعية الشيعية العليا دفع ايران الى ان تكون راغبة في دولة اللامركزية لتأمين ان تكون الدولة المجاورة (العراق) ضعيفة جداً، ولا يريد قادة إيران فقدان هذا الامتياز(23).
فان كل هذه الضغوط والتداعيات حتمت على السياسة الايرانية التي طالما امتازت بالواقعية ان تتحول نحو القبول بالتعددية السياسية المرجعية العراقية وإن تفتح قنوات للحوار مع الجانب الامريكي فيما يخص الشأن العراقي والاسهام في المساعدة على خروجه من الفوضى التي تعمه، دون المساس، طبعاً، بأساسيات السياسة الايرانية الرامية الى تحقيق توازن اقليمي تؤدي فيه إيران دوراً حيوياً ومحورياً.
فان العراق باعتباره احد البلدان الخليجية العربية يحظى بأهمية كبيرة في الادراك الايراني، وهذا بالتأكيد سببه المقومات المهمة الضرورية التي يمتلكها، فالقرب الجغرافي والموارد الاقتصادية والبشرية مكنه من ان يصبح احدى القوى الفاعلة في الاقليم وعنصرا اساسيا في تقرير التوازنات الاقليمية القائمة في المنطقة.
ان هدف ايران الرئيسي هو ايجاد تخطيط لاستراتيجيات متعددة وانفاذها جميعا بالتوازي والتزامن وفق نمط من التفاعل والارتباط بينها، من اجل تعزيز قدرات ايران كدولة اقليمية مسيطرة، في النموذج العراقي. فتكمن المصلحة الايرانية منع هذا البلد من التحول مرة اخرى الى دولة قوية تناطح ايران وتحد من قدرتها على مد نفوذها وتحقيق اهدافها في الاقليم العربي، وذلك هو ابرز ما تعلمته ايران واستنبطته من الحرب العراقية الايرانية, الا ان الاستراتيجية الايرانية اتسمت بالغموض فيما يتعلق بطبيعة الموقف الايراني من قوة الاحتلال الامريكية فى العراق ومن القوى العراقية التي تتعاون معها ايران في داخل العراق، اذ لا نجد اية تصريحات سياسية واعلامية ايرانية على نفس درجة الوضوح كنظيرتها التي تتعلق بالقضية الفلسطينية.
ولا تقل الاهمية الاستراتيجية الاقتصادية للعراق عن اهميته الجغرافية, ولعل ابرز ذلك هو الاحتياطي النفطي الضخم الذي يمتلكه العراق, وأن الاهمية التي يمكن أن يخلقها الاقتصاد العراقي ويضيفها للأهمية الاستراتيجية مستقبلاً لا يمكن اعتمادها فقط على النفط على الرغم من أنه الركيزة الاساسية في المرحلة الاولى الا أن الاصلاحات والتغيرات الهيكلية للاقتصاد العراقي التي يمكن أن تساعد في الانتقال للمرحلة الثانية وهي التي يمكن أن تعجل النمو والتنمية المطلوبة في ظل الاستفادة ايضاً في كل مرحلة من النفط على أن لا يكون العنصر الوحيد في بناء الاهمية اذ ان هناك استراتيجيات اقتصادية مثل الخصخصة والاستثمار الاجنبي المباشر تعد من المكونات الاساسية للأهمية الاقتصادية. ويمتلك العراق موارد اقتصادية اهمها(24):-
1. النفط
فالعراق يمتلك ثاني احتياطي نفطي في العالم بعد المملكة العربية السعودية في مساحاته المكتشفة، وطبقا لتقديرات حديثة فان حجم الاحتياطي العراقي من النفط الخام يصل إلى (112.5) مليار برميل، أي ما يعادل (11%) من إجمالي الاحتياطي العالمي(25), كما يتمتع العراق بطاقات نفطية هائلة. فمن أصل حقوله النفطية الأربعة والسبعين المكتشفة والمقيمة، لم يستغل منها سوى 15 حقلا. هذا فضلا عن انه يمتلك مساحات غير مكتشفة وبالأخص في صحراءه الغربية(26)، وهذا يعني انه في ظل غياب بدائل الطاقة الاخرى حتى الان ولزمن غير منظور ،يصبح قادرا ولفترات طويلة على تزويد العالم بالنفط, الأمر الذي مكن متخذي القرار من مواجهة تحديات كبيرة لعل أهمها فرض الضرائب والاقتراض والاستثمار الأجنبي، وحررتهم من القيود والمشكلات التي يفرضها النقص أو الشحة في تلك الموارد.
بما ان العراق يمتلك احتياطيا نفطيا هائلا ويسعى لزيادة إنتاجه النفطي من (5) الى (7) مليون برميل بحلول عام 2020 ، وهذا اقل بالتأكيد من حجم الاحتياطي النفطي الإيراني في العام نفسه(27), لهذا ترى ايران ان إشعال العراق بحروب طويلة سيساهم في تصدير نفطها وبكميات كبيرة وبالأسعار التي تريدها من خلال استغلال ظروف انشغال العراق بالحرب فتقوم عوضا عنه بتزويد العالم بالنفط ،باعتبارها من الدول النفطية الكبرى .
2. الى جانب النفط يمتلك العراق احتياطات كبيرة من الموارد الطبيعية الأخرى كما هو الحال مع الغاز الطبيعي، الذي تشير اخر إحصاءاته الى ان كمية احتياطية وصلت في عام 2003 الى ما يقارب (109.5 ) مليار متر مكعب، هذا الى جانب الزئبق والنحاس ..الخ(28)
3. يمتلك العراق امكانات زراعية يعكسها توافر مساحات شاسعة من الأرض الزراعية, ذلك ان مجموع الأراضي القابلة للاستغلال يزيد عن (48) مليون دونم، لم يستغل منها سوى (12.3) مليون دونم ،وهذا مما جعله يمتلك امكانيات زراعية هائلة.
4. يعتبر العراق سوقا مهما لتصريف المنتوجات الايرانية، وبالأخص المنتوجات الصناعية والمواد الغذائية.(29)
اذن وفق ما تقدم هذا يعني ان العراق في ضوء الادراك الايراني من المقومات الاقتصادية المهمة التي يجب السعي للمحافظة عليها، إلى جانب الانفتاح والتوافق مع مستجدات الاقتصاد العالمي ومعرفة شروط التعامل التي اعتمدت خلال السنوات الاخيرة ضمن مستلزمات عضوية منظمة التجارة العالمية سبيلا لتطوير بنيتها الاقتصادية ،ودفع البلاد نحو التنمية الاقتصادية الممكنة(30).
اما الأهمية السياسية والأمنية, تتضح الفاعلية السياسية لكل وحدة دولية عبر توظيف عناصر القوة ومعالجة مكامن الضعف في مقوماتها المادية والمعنوية والتي تخططه عبر استراتيجيتها وتنفذها عبر سياستها كما ان الفاعلية تتضح عبر السياسة العامة للدولة والتي تجسدها في سياستها الداخلية والخارجية, وبالنسبة للعراق فان الأهمية السياسية التي تضاف للأهمية الاستراتيجية تكمن في معالجة السلبيات والمشاكل وبناء نموذج سياسي خاص بالعراق يحيط بكل مسألة تساند هذا النموذج ويكون النجاح في بناء هذا النموذج هو الركيزة في صناعة الأهمية(31), وتشكل الأهمية السياسية والأمنية للعراق جانبا مهما في الإدراك الإيراني، ومرده بالتأكيد جملة محددات يمكن تبيان أبرزها وكآلاتي(32):
1. يعتبر العراق حجرا ركنيا في الامن القومي العربي أو الامن الخليجي، وهو ليس تعبيرا لغويا بقدر ما هو حقيقة استراتيجية وعسكرية وسياسية.
2. باعتبار العراق بلد مسلما، ويمثل لإيران ثقلا شيعيا خاصا ومهما لأقصى حد وابعد مدى ممكن ،كما ان وجود الأماكن المقدسة في العراق وبالأخص في محافظتي (النجف و كربلاء) تأسست بينه وبين ايران علاقات تاريخية ودينية ،وقد سعت ايران من وراء هذه العلاقات الى التوجه ببعثة ايرانية الى خارج حدود ايران، وهو امر ثابت وواضح.
3. بما ان العراق يضم في تركيبته الاجتماعية اقليات متعددة ومنها الاقلية الكردية كما هو الحال مع ايران ،فبالتالي تدرك ايران ضرورة السعي الى الحفاظ على تماسك وحدة العراق ،وهذا لا يمكن اعتباره هدفا ايرانيا بقدر ما هو الخوف من ان تنشط المعارضة الكردية في ايران ،وعلى هذا الاساس فهي تعارض اي مشروع يبغي تقسيم العراق.
4. يمتلك العراق قاعدة حضارية وثقافية، باعتباره قامت على أرضه أولى الحضارات ،وهذا ما ترتب عليه أهمية كبيرة له في الإدراك الإيراني الذي سعى ولا يزال يسعى لاستهداف البناء الحضاري والعلمي فيه على اعتبار أن هذا البناء من وجهة نظرها ليس أصيلا ،ومن ثم لابد من تدميره.
5. أدراك إيران بان العراق يشترك معها في اتصاله بمتغير خارجي سلبي وهو الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى هذا الأساس تحاول جذب العراق نحوها من خلال إقناعه بأنهم مشتركون في نفس العدو والمتمثل في الولايات المتحدة الامريكية.
6. تسعى إيران الى الاشراك في أي ترتيبات امنية اقليمية مستقبلية، ففي ضوء ادراكها تنظر للعراق بانه يشكل عنصرا مهما في تقرير توازن القوى في المنطقة، ولذلك تسعى الى التواصل معه سبيلا لأداء دور اقليمي مهم في المنطقة عامة والعراق خاصة.
وبما ان السياسة الايرانية باتت تدرك ان الساحة العراقية لازالت تزخر بالعديد من المفاجئات ،وان الوقت لم يعد لصالح انجاح المشروع الامريكي في الانقضاض على ايران بل العكس تماما ،اذ لابد ان يكون لإيران دور فاعل في ظل ما يجري من احداث ،وعلى هذا الاساس سعت لاتباع جملة سياسات لمجابهة هذا التهديد منها(33):
1. الاعتراف بالحكومة الانتقالية في العراق، رغم انها تعد ان العراق دولة محتلة من قوات اجنبية، وان ما يصدر من المحتل من وجهة نظرها غير مقبول، ان لم يكن غير مشروع، الا انها اعترفت بهذه الحكومة ومن قبله مجلس الحكم الانتقالي، سبيلا لتحقيق التوازنات الاقليمية، وملائمة للمصالح العامة وللمقاصد الايرانية.
2. الحرص على عدم التورط في اي سياسة يمكن ان يفهم منها ان ايران تقف ضد الوحدة الوطنية للعراق.
3. حرصت ايران على توطيد علاقاتها مع المراجع الدينية الشيعية في العراق، سبيلا لتحقيق رغبة تقوم على اساس عدم تأسيس دولة علمانية في العراق تدخر قدرا كافيا من العداء لمنهجها الاسلامي اولا وليست لديها الرغبة في عودة الاقتتال مجددا في ضوء ما توفره الفرص المتاحة لإمكانية نجاح المشروع الامريكي في العراق ثانيا.
4. تنشيط سياسة خارجية فعالة تجاه دول الجوار تحاول تبرير نفسها من الاتهامات التي وجهت حولها في التدخل في الشؤون الداخلية للعراق، وذلك من خلال عقد المؤتمرات والاجتماعات والزيارات التنسيقية مع دول الجوار من اجل تحقيق الاستقرار في العراق، فعلى سبيل المثال بادرت الخارجية الايرانية الى عقد اكبر مؤتمر اقتصادي مشترك مع الوزراء العراقيين والتجار في طهران حيث ضم اكثر من (400) شخص عراقي بين مسؤول وتاجر، وتغلبت لغة السياسة على لغة الاقتصاد، لكن ازدياد الاتهامات العراقية لإيران ترك بصمات على القرار السياسي الايراني، وهكذا صدر اول رد فعل من الناطق باسم الخارجية الايراني حميد رضا اصفي، الذي قال " اذا كانت الحكومة العراقية تمتلك وثائق فلتنشرها"(34), فضلا عن قيام وزير الخارجية الايراني في3 كانون الثاني عام 2004 بزيارة رسمية الى دمشق للتنسيق معها ومع تركيا فيما يخص بما يحدث في العراق، وادراكهما اهمية انهاء الاحتلال ونقل السلطة الى الشعب العراقي، وتم الاتفاق على عدة نقاط من بينها الحفاظ على وحدة العراق (وعدم تأسيس كيان كردي في العراق)(35).
ومن خلال ما تقدم يتضح لنا, إن مستقبل الاستراتيجية الإيرانية في العراق, مرتبط بمتغيرات داخلية ومؤثرات خارجية, وإن الاستراتيجية الإيرانية في العراق تعيش حالة من التفاعل الشديد مع مشروع العالمية الأمريكي, وخصوصا وإن العراق اليوم يمثل نقطة ارتكاز لكل من المشروع الإقليمي لإيران ولهدفها في سيادة المنطقة الإقليمية المحيط بها, ومشروع الولايات المتحدة الذي يتمثل في القيادة العالمية لها والذي يعتبر تأمين مصالحها في ما يعرف "بقوس المصالح الأمريكية" الممتد من منطقة الخليج إلى حوض بحر قزوين أمر حيويا وأساسيا لتحقيق هيمنتها العالمية أو ما يسمى الآن القيادة الأمريكية للعالم.
وعليه فإن الاحتمالات المستقبلية للاستراتيجية الإيرانية تنحصر ضمن بوتقة هذا التفاعل ومن ثم مخرجاته وانعكاساته. وبالتأكيد فإننا اليوم نعيش في مرحلة مفصلية من مفاصل التفاعل الأمريكي الإيراني في المنطقة, وإن صانعي القرار في كلا البلدين يمارسون لعبة غاية في الخطورة والأهمية, خصوصا وإن النتائج التي من الممكن أن تترتب ستكون إما نصرا استراتيجيا قد يغير من طبيعة المنطقة وخصوصا العراق, وأما هزيمة قاسية سيكون انعكاسها على المنطقة التغيير أيضا.
الخاتمة
من خلال كل ما سلف من قول ندعو المخلصين ومنهم المتخصصون أن يساهموا في استشارة متخذي القرار بالسبل الناجحة لنقل العراق واقتصاده إلى مرحلة أفضل كي يستطيع غد السير قدماً إلى الأمام وتعويض الفرص التي خسرها العراق في التقدم. حيث تبرز الحاجة إلى إعادة تأهيل ووضع أهداف معقولة وممكنة التحقق وانتهاج إستراتيجية اقتصادية مناسبة كفوءة بناءة حتى يجري التحول والإصلاح وفق رؤية عراقية وطنية خالصة دونما ان تعرض بلدنا واقتصادنا إلى مزاد علني يباع فيه رأسمال العراق بابخس الإثمان يتضرر فيه شعبنا وينتفع فيه الآخرون. فما نريد فعلاً "إصلاح-تغير- تحول-تحديث". فهذه غدت حاجة ملحة لكن دون أن يلصق فيها (صنع فيU.S.A) والشروع في إعادة الاستثمار الحكومي في الاقتصاد العراقي ودعم مشاريع القطاع العام وإعادة تأهيل المشاريع المدمرة وتطوير الحقول النفطية واستغلال الحقول التي لم تستغل . ومن دون تبني رؤية عراقية حقيقة خالصة فان الإرهاب والاحتلال عنفاً جسدياً وللسوق واليات النظام الاقتصادي عنفاً اجتماعياً.
المصادر
1. د. كوثر عباس الربيعي, سياسة العراق الخارجية بين القيود والفرص, مجلة الدراسات الدولية, العدد 44, نيسان 2010, ص 8.
2. المصدر نفسه, ص 8-9.
3. Iraq:regional perpectives and u.s. policy congressional research service, http://www.crs.gov
4. خضر عباس عطوان, رؤية مستقبلية للعلاقات العراقية العربيه, بحث من كتاب: احتلال العراق الاهداف والنتائج والمستقبل, بيروت, مركز دراسات الوحدة العربية, 2004, ص 312.
5. احمد نبهان, مكونات العلاقة الخارجية الفاعلة للعراق, مركز الرافدين للبحوث والدراسات الاستراتيجية, 2011, http://www.alrafedein.com/news.php?action=view&id=307
6. تقرير لمكتب العلاقات الخارجية الامريكية, ترجمة مها محمد, دمشق, مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر, 2007.
7. د. ظاهرة محمد صكر, سياسة العراق الخارجية انجازات متواصلة وثقة في المستقبل, دراسة منشور اكترونيا في مركز دراسات النهرين.
8. انطوني كوردسمان، الإبعاد الإقليمية للإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، ترجمة، ياسين الحاج، مأخوذ عن شبكة إخبار الشرق،(الانترنت)، 2 /8/2003.
9. تشارلز دان وكان اوغوز, تركيا والتعاطي في الشأن العراقي: التحديات والفرص للسياسة الخارجية الامريكية, معهد الشرق الاوسط, 2013.
10. المصدر نفسه.
11. المصدر نفسه.
12. غياب الدبلوماسية التركية, http://www.imn.iq/articles/---print---.387y
13. حسين الاسدي في حوار مع البينة: الدبلوماسية العراقية ضعيفة ولا تؤدي دورها, جريدة البينة, 2014.
14. لشوان زولال, استراتيجيات البقاء: الأدوات الدبلوماسية للسياسة الخارجية لإقليم كردستان العراق, عرض: شادي عبد الوهاب, مركز بغداد للدراسات والاستشارات والاعلام, مجلة Insight Turke, العدد3, 2012.
15. المصدر نفسه.
16. معمر خولي, الاصلاح الداخلي في تركيا, دراسات وأوراق بحثية, الدوحة, مركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات, 2011,ص3.
17. العلاقات العراقية التركية: امكانية التقارب في اقليم متحول, صحيفة العراق الاكترونية, 2013.
18. المصدر نفسه.
19. المصدر نفسه.
20. جريدة المراقب العربي, العدد4-9, 14 كانون الثاني 2014.
21. انظر: رأي هليل فريش المحاضر الأقدم في قسم العلوم السياسية بجامعة بار إيلان الإسرائيلية، في حلقة نقاشية (بعد حرب العراق)، المستقبل العربي، بيروت، العدد(294)،2003، ص123
22. جورج فريدمان، مستقبل العراق، البحث عن توازن تجاه ايران، المستقبل العربي، العدد (314)، بيروت، 2005، ص87
23. انظر: رأي هليل فريش المحاضر الأقدم في قسم العلوم السياسية بجامعة بار إيلان الإسرائيلية، في حلقة نقاشية (بعد حرب العراق)، المستقبل العربي، بيروت، العدد(294)،2003،ص123
24. شيماء عادل القره غولي, أثر المتغير الايراني في العلاقات العراقية –التركية مرحلة ما بعد الحرب الباردة, رسالة دكتوراه غير منشورة, كلية العلوم السياسية , جامعة النهرين ,بغداد 2006, ص64
25. عبد الخالق عبد الله، الولايات المتحدة ومعضلة الامن في الخليج العربي، مجلة المستقبل العربي، العدد (299)،بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية ،1/2004، ص19
26. شيماء عادل القره غولي ,أثر المتغير الايراني في العلاقات العراقية –التركية مرحلة ما بعد الحرب الباردة, المصدر السابق, ص67
27. المصدر نفسه, ص68
28. المصدر نفسه,ص68
29. المصدر نفسه, ص69
30. بهاء عدنان يحيى الحسني, الاهمية الاستراتيجية للعراق في المدرك الاستراتيجي الأمريكي (دراسة مستقبلية ), رسالة ماجستير غير منشورة, قسم الاستراتيجية, كلية العلوم السياسية, جامعة النهرين,2005 ,ص65
31. شيماء عادل القره غولي , أثر المتغير الايراني في العلاقات العراقية –التركية مرحلة ما بعد الحرب الباردة, المصدر السابق, ص70
32. نادية فاضل ، مستقبل ايران ...بعد الاحتلال الامريكي للعراق، اوراق دولية ،العدد (139)، بغداد :مركز الدراسات الدولية ،ت1-2004، ص 24
33. حميدي ،تنسيق سوري – ايراني ،صحيفة الحياة ،العدد (14892)،4-1-2004،ص2.
34. حسين حافظ وهيب ،السياسة الخارجية الايرانية بين البرغماتية والمبدئية في الموقف من العراق ،اوراق دولية ،العدد (134), بغداد:مركز الدراسات الدولية ،جامعة بغداد ،ايار 2004،ص16
35. المصدر نفسه.
#رؤى_خليل_سعيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟