|
بين النظرية والموضة.. عن الموضوعية، الذاتية والنرجسية
نورالدين هميسي
الحوار المتمدن-العدد: 4773 - 2015 / 4 / 10 - 18:25
المحور:
الصحافة والاعلام
إبستيمولوجيا، تبدو الحقيقة وهما أكثر منها حقيقة فعلا. رغم المسار الحافل للعلوم الإنسانية والاجتماعية إلى غاية اليوم، لا تزال هناك ثغرات عديدة. ما يزال السؤال حول الحقيقة في فهم الظاهرة الإنسانية يفتقد لإجابات حاسمة، لذلك لا يتوانى البعض في وصف النظرية في علوم الإنسان والجماعة بأنها لا تعدو أن تكون مجرد آراء وأذواق يمكن أن تتغير بتأثير حوافز معينة. هل يمكن أن نقارن في هذا السياق بين نظام النظرية في العلوم الإنسانية والاجتماعية من جهة وبين نظام الموضة من جانب آخر؟. تتساقط النظريات بالتقادم مثل الموضة نتيجة لإكراهات اجتماعية مدعومة بدوافع نفسية: الفخامة، التقبل الاجتماعي والعطش للجديد. إن هذا السقوط يشبه كثيرا دورة حياة العلامة في عالم الأزياء، فنظام الموضة هو سيرورة سريعة التجدد لا تقبل بالبالي والمتقادم. يجري تقبل النظريات في البداية بوهم امتلاكها للحقيقة، لكن هذا الوهم يتبدد بسرعة أمام ضربات نظريات أخرى تظهر بدورها أكبر قدرة على تملك الحقيقة، وهكذا يبقى مسلسل ابتكار النظريات متواصلا بشكل هو في الأصل منفصل تماما عن الواقع، والعلم عندما يصبح ابتكارا متسارع الوتيرة فإنه يذيب تلك الحدود الفاصلة بينه وبين الفن والذوق. إن ما يتغير ليس الواقع ولكن فهمنا للواقع. فلنأخذ ظاهرة الإرهاب كمثال. رغم كل هذه الهالة التي تثار حول ارتباط الإرهاب بدين معين إلا أن ثمة في الواقع الكثير من مظاهر الإرهاب التي تتخذ تحت مسميات عديدة، لكن الخطأ في التعامل مع هذه المظاهر الأخرى يكمن بالأساس في المعجم. إننا نخطئ التسمية عن عمد أو عن غيره. مشكل التسمية، أو كما يقال في الفلسفة والعلم المعاصرين بناء المفاهيم، يمثل مغامرة إبستيمولوجية غير محمودة العواقب، لأننا نجني على روح العلم من خلال ابتكار الكثير من المغالطات المفاهيمية التي تتسرب إلى الحياة اليومية، وتصبح بفعل التداول الواسع أشبه بالحقائق على الرغم من أنها في الأصل مجرد آراء. تتسرّب هذه الآراء المقنعة تحت مسمى حقائق بنفس الميكانيزمات التي تتحكم في نظام الموضة: الأوهام.. إن أكبر إشكال يواجه فهمنا لنظام الموضة هو هذا بالتحديد: كيف يقتنع الناس مثلا بأن علامة معينة ذات قيمة اجتماعية تفوق قيمة علامة أخرى على الرغم من أن كليهما لا يعدو أن يكون لباسًا؟. ثم ما هي القيمة الموجودة فيها أصلا إذا لم تكن مجرد وهم عشش بفعل الجماعة في أذهاننا؟. إضافة إلى هذا، ثمة إشكال آخر يسحب معه ضرورة للاستعانة بمنظور الاقتصاد السياسي: ما هي المصلحة التي قد يوفرها نظام للموضة سريع التآكل لمن يتولى إنشاء ونشر وهم العلامة ذات القيمة؟. تدريجيا تتوسع هذه الإشكالات باتجاه العلم: كيف ينشأ الاعتقاد بأن نظرية ما ذات قوة تفسير دون أخرى على الرغم من أن كليهما يفسر الظاهرة ذاتها؟ في هكذا سياق، تستنفر الذاتية كل أسلحتها وتصبح التفسيرات مجرد آراء قد تصل في بعض الحالات إلى درجة التناقض، وتستحيل النظريات إلى ألبسة يجري الاختيار بينها بناء على وهم واحد: الحقيقة التي هي علامات فخمة وحصرية تفقد صفة الإثبات في الواقع بسبب الاختلاف حولها. إن الاختلاف لا يوجد في الظاهرة في الواقع، ولكنه يظهر في تمثلاتنا للواقع، بل إن هذا الاختلاف غير موجود وإنما يتم إنتاجه تبعا لمصالح معينة ترتبط بالمكانة والسلطة والمكاسب والخسائر الاجتماعية، ويجري تكريسه من خلال تفسير الوقائع على أشكال متعددة لا صلة لها بالواقع سوى أنها تأويل له. هذا الإشكال يهيمن على العلوم الإنسانية والاجتماعية بشكل يتحدى مقولة الموضوعية التي تبدو مفهوما مفرغا من أي دلالة واضحة.
حدود الموضوعية والذاتية من بين أهم الأساطير الأبستيمولوجية التي تؤسس للعلم المعاصر أسطورة الموضوعية. في كثير من البحوث، يتم رفض نتائج غير مسبوقة فقط لداع واحد: الافتقاد للموضوعية. إننا لا زلنا لغاية الآن نواجه هذه العقبة رغم أن النداءات الرافضة لهذه الأسطورة ليست جديدة، فهذا النقاش التاريخي حول إبداء الاحترام نحو الموضوع وإبعاد النوايا عن عملية البحث قديم جدا وتحفل به الكثير من النقاشات في الفلسفة والفكر والعلم. بالنسبة لعلوم المادة، يقول الجميع بأن الموضوعية تكرّست كقانون أساسي بالمقارنة مع العلوم الإنسانية والاجتماعية، لكن من يدقق الملاحظة يدرك بأن ثمرة الطبّ، الفيزياء، الكيمياء وعلوم الحياة لم تكن سوى طغيانا للنوايا على حساب الموضوعية، بحيث أصبحت نتائج البحوث سرية جدا وتستغل لأغراض عديدة: عسكرية وسياسية بالدرجة الأولى. لماذا مثلا يجري الحديث عن إمكانية تورط بعض مخابر الأدوية في تفشي بعض الأوبئة في أفريقيا من أجل ترويج اللقاحات أو من أجل تقليص عدد سكان العالم مثلما قد يقال هنا وهناك؟. ولماذا تفشل البحوث الطبية في وقف بعض الأمراض في إفريقيا ويجري علاجها في الدول المتقدمة بسهولة؟. ترتفع حدة سؤال الموضوعية في علوم الإنسان والجماعة لدرجاتها القصوى، فنحن لا نعثر على تفسير واحد ومتفق عليه للظواهر لأن التفسيرات تخضع للقراءات الذاتية بالدرجة الأولى، وحتى من يدعون الموضوعية يسقطون أو يتساقطون في وحل المغالطات المعجمية. الواقع واحد ولكن القراءات تتعدد، وفي هذا ما يشبه ما يلي: اللباس في النهاية واحد والعلامات تتعدّد. بهذا الشكل تسقط مقولة الموضوعية تدريجيا ليحل محلها بديل آخر: الذاتية. تكون هذه الأخيرة بمثابة نظام للموضة يجري الاختيار فيه بين مجموعة من الآراء بناء على درجة الرضا الشخصي ومستوى التقبل المتوقع من قبل الجماعة، وليس بناء على القوة التفسيرية للنظرية التي تبقى وهما مشتتا. تسمح لنا الذاتية بفهم لماذا تراجع التصور الكلاسيكي للعلم القائم على وهم امتلاك الحقيقة، ليحل محله النقاش الساعي للبحث عما هو مشترك الذي لن يكون بأي حال من الأحوال حقيقةً وإنما معقولا raisonable كما يقول جورغن هابرماس، وهذا ما يبرر لماذا لم يعد المطلوب من النظرية هو تقديم الحقائق وإنما البحث عن منافذ لبناء واقع جديد يحترم التعايش والاختلاف. في سياق الموضة، إن اللباس واحد والعلامات والأشكال تختلف تبعا للأذواق، وأي نقاش في هذا الشأن لا يعني العراة لأن العري ليس موضة، فمستوى الذاتية والذوق إن نزل إلى هذا الحد أصبح شيئا آخر.
مستوى ما دون الذاتية.. النرجسية وشذوذ الموضة والنظرية هذا التشابه بين الموضة والنظرية قد يقود إلى الدخول في متاهة تحديد المستوى الذي يجب ألا تتعداه الذاتية، إذ نواجه هنا خطرا عميقا يهدد العلوم الإنسانية والاجتماعية. إننا نفتقد لاتفاق شامل حول نظرية بعينها ونساند بالمقابل نظريات قد تكون متناقضة على نفس النحو الذي نختار فيها الموضة التي نرتديها، ولكن هل يمكن أن تظهر على النظرية بعض أعراض الشذوذ التي نجدها في بعض الموضات. مهما كان تفتحنا على ما يقدمه عالم الأزياء من موضات وعلامات، فإن نصدم أحيانا من الشذوذ الحاد لبعض الأزياء لدرجة أن قلة قليلة فقط يمكن أن تتقبلها وترتديها، ليس لأسباب ذاتية فقط، ولكنها نرجسية مرتبطة بعلاقة عميقة جدا مع التمحور حول الهوية والذات وأمراضها. ينسحب هذا التصور كذلك على النظرية محلية الإنتاج خصوصا. بغض النظر عن قيمتها التفسيرية المنفصلة عن وهم الحقيقة، تؤدي النظرية هنا دورا نفسيا بالأساس: الاستجابة لبعض العقد الناجمة عن توهّم دونية الذات ومحاولة ترقيع التمحور حولها. على خلاف الذاتية، ترتكز النرجسية على تصور الضغط الاجتماعي كحالة عداء يقزّم الذات، وهنا تتولد عقدة يمكن تسميتها "توهّم الاضطهاد". تماما مثل الموضة الشاذة، تعمل النظرية على الرد على هذه العقدة بعيدا عن وهم الحقيقة وقريبا من وهم الاحتقار والنبذ، فتكون عبارة عن آراء ليس لها أساس إبستيمولوجي يمكن مناقشته ضمن جماعة غير جماعة المصابين بالعقدة. تفقد النظرية هكذا صفتها كنظرية وتتحوّل إلى عقار علاجي للعقد النرجسية، إنها لا تصبح رأيا حيال الواقع، وإنما عقيدة متعالية وثابتة يلتف حولها المصابون بالعقد لتحدي الجماعات الأخرى، بحيث تختفي فيها البراهين الذاتية ويجري استبدالها بالكثير من الأوهام غير المفهومة والمتمركزة حول عزاء الانتماء إلى جماعة لمصابين، تماما مثلما يجهر المقتنعون بالموضات الشاذة بانتماءاتهم التي تتحدى الجماعة وتؤسس لأخويات des confréries تخاطب ذاتها وفقط وترفض الانفتاح على الجماعات الأخرى التي تتوهّمها كعدو. تشكل الأخويات ملجأ لمن يعانون من أزمات الانتماء، وبغض النظر عن دورها في العمل السري le travail de sape، فإنها تضمن لمنتسبيها إشباعات نفسية متولدة عن فقدان الهوية وإحساس الذات بالنبذ، ويكون مقابل الانتماء هو الإخلاص التام والتشبع العميق بالعقيدة الراسخة le dogma، ورفض أي محاولة للانتقاص من هذه العقيدة لأنه انتقاص من الذات. تختلط هذه العقيدة بالنظرية وتبعا لذلك تصبح النظرية تأشيرة انتماء أولا وتحديا للواقع والمجتمع ثانيا. إن تأسيس النظرية يكون بغاية فهم الواقع وتطويعه، وحتى وإن كانت هيكلا من الآراء سريعة التلف فإنها لا يجب أن تكون تأشيرة انتماء إلى جماعات وأخويات لأن هذه التأشيرة يمكن أن تضمنها طقوس خاصة بذلك. إن وجود النظرية ضرورة لقيام العلم بدوره في مساعدتنا على فهم تحوّلات الواقع وتعرجاته، ومهما تدخلت ذاتيتنا في ذلك فإننا نبقى نستوفي الحد الأدنى من متطلبات النقاش ومنازلة الأفكار والرضا بالفكرة الأقوى والأملك للحقيقة وإن كنا لم نعثر عليها بعدُ. أما النرجسية، فهي ميكانيزم نفسي متولد عن الإفراط في أوهام الذات المضطهدة والآخر العدوّ.
#نورالدين_هميسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حول التنظير في حقل الإعلام ومجازفاته
المزيد.....
-
-حزب الله ما زال موجودا-.. محلل سياسي يعلق لـCNN عن وقف إطلا
...
-
روسيا تجهّز صاروخ -سويوز- لإطلاق قمر Condor-FKA
-
عائدون إلى جنوب لبنان: -نريد أن نشمّ رائحة الأرض-
-
كشف المزيد من -الأثر الأوكراني- في المقابر الأمريكية (صور)
-
زوكربيرغ يتقرب من ترامب
-
ثعبان ضخم يبتلع رجلا بالكامل في إندونيسيا (صور)
-
الجيش الروسي يعبر نهر أوسكول ويخترق الدفاعات الأوكرانية قرب
...
-
-هآرتس-: شركات الطيران الأجنبية لن تعود إلى إسرائيل حتى عام
...
-
Xiaomi تطلق أجهزة تلفاز مدعومة بالذكاء الاصطناعي
-
مخبأة بطريقة احترافية.. الجهات الأمنية في اليمن تضبط شحنة مخ
...
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|