|
الأزهر ومحاكم التفتيش
محمد السعدنى
الحوار المتمدن-العدد: 4771 - 2015 / 4 / 8 - 02:48
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لسنا هنا بإزاء مبحث تاريخي عن محاكم التفتيش، إنما مقصدنا ماتمثله من دلالة يمكن إسقاطها علي واقع فكري وثقافي في بلادنا ينضح بالتخلف والجهل والتعصب. ولقد عالج مفكرنا الدكتوررمسيس عوض هذا الموضوع في خمسة من كتبه، لعل أبرزها كتابه «أبرز ضحايا محاكم التفتيش» الصادر عن الهيئة العامة للكتاب في 2004. حيث تناول حياة العالم الفلكي الكبير جاليليو الذي حاكمته محاكم التفتيش؛ لأنه نادي بأن الأرض كروية وأنها تدور حول الشمس، كما تناول حياة سافونا رولا رجل الدين المعروف بالتقوي الذي اضطهدته محاكم التفتيش وأحرقت جثته؛ لأنه كان يفضح عيوبها ويهاجم فساد البابوات. في هذا الكتاب ناقش أيضاً حياة الفيلسوف الإيطالي جيوردانو برونوالذي ناصب الكنيسة الكاثوليكية العداء واتهمها بالجهل والفساد؛ فكان مصيره الحرق حياً. محاكم التفتيش «سلطة قضائية كنسية استثنائية»وضعها البابا غريغوري التاسع لقمع جرائم البدع والردة، وأعمال السحر والهرطقة، في جميع أنحاء العالم المسيحيوضد اليهود والمسلمين المتحولين، من القرن الثالث عشر إلي السادس عشر. وقد استخدمت في كثير من الأحيان كأداة سياسية لقمع المخالفين في الرأي ليس الديني فقط وإنما السياسي بالأساس. وعلي مر التاريخ، كانت هناك العديد من المحاكم المتخصصة من هذا القبيل. وكان قطع أوصال الناس وحرقهم أحياء أمر مألوف كأسلوب بشع للعقاب حتي وصلت أعداد من تم تعذيبهم ثلاثمئة ألف من البروتستانت ومئة ألف بلغاري وفرنسي وأرثوذكسي، كما تم تعذيب المسلمين المقيمين في بلاد الأندلس بعد سقوطها في قبضة الأوروبيين.لم يقتصر أمر التفتيش في ضمائر الناس وأفكارهم علي هذه القرون، فلعله تجاوزهم إلي ماقبل ذلك للقرن الرابع الميلادي حيث عذبت وقتلت عالمة الرياضيات والفلسفة»هيباتيا» السكندرية في مصر الرومانية، علي يد حشد من الغوغاء بعد اتهامها بممارسة السحر والإلحاد والتسبب في اضطرابات دينية، مما أثر بشدة في انحدار الحياة الفكرية السكندرية، رغم أن الكنيسة قد برأتها بعد ذلك، تماماً مثلما حدث مع القديسة جان دارك بعد ذلك. ولقد استغلت محاكم التفتيش سياسياً في كل خلاف نشأ بين السلطتين الزمنية والروحية في معظم عصور الظلام والتخلف. ولعلي لا أتجاوز واقع الحال إذا أضفت أنه حتي في القرن العشرين كانت الماكارثية في الولايات المتحدة الأمريكية نوعاً من محاكم التفتيش التي تم توظيفها لخدمة الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، وحتي في ماليزيا استخدم مهاتير محمد رئيس الوزراء مثل هذه الذرائع وعزل وسجن نائبه أنور إبراهيم بتهم الفساد واللواط حيث وظف المحرمات الدينية والإخلاقية في السياسة للتخلص من منافسه الطموح بالإغتيال المعنوي، ومن أسف أن هذا السلاح استخدم كثيراً وبإفراط في عالمنا العربي وفي بلادنا المحروسة خصوصاً للتخلص من المعارضين واغتيالهم معنوياً سواء بالإتهام بالفساد المالي أو الأخلاقي. إن محاكم التفتيش لاتزال تطل برأسها مقصلة مسلطة علي رؤوس المعارضين والمخالفين، ولعل في تاريخنا الحديث نماذج يندي لها الجبين بالانحراف بمبدأ الحسبة الدينية وتوظيفها المغرض ظلماً وبهتاناً ضد المجتهدين والمجددين، ولعل مافعله عبدالصبور شاهين ضد نصر حامد أبوزيد واتهامه بالكفر والزندقة والردة، وحسبة الشيخ يوسف البدري ضده وكثيرين غيره، حتي وصل بالأمر إلي الحكم القضائي بالتفريق بينه وزوجه د. ابتهال يونس، مما اضطره للهجرة إلي جامعة ليدنبهولاندا لائذا بفكره واجتهاده. مثل هذا حدث مع الكاتب فرج فودة الذي أهدروا دمه بحجة إنكار المعلوم من الدين بالضرورة، وتلقفها أحد المخبولين ليقتله، كما حدث مع نجيب محفوظ واتهامه بالكفر والزدنقة في «أولاد حارتنا» وكادت تتسبب في قتله علي يد واحد من الرعاع الجهلاء الذي لم يقرأ حرفاً من إبداعات الكاتب الكبير، وتعرض مكرم محمد احمد لمحاولة اغتيال لمثل هذه الأسباب المطاطة المغرضة لإسكات أي صوت يقترب من كهنوت المؤسسة الدينية الذي امتد ليحكم الشارع والمشرع والمجتمع والناس، ويخلق سلطة دينية لم يعرفها الإسلام. لم نكن نحب أبداً للأزهر أن يعيدنا إلي صفحة من تاريخه حاولنا تناسيها والتجاوز عنها، حين أصدر الشيخ علي عبدالرازق كتابه «الإسلام وأصول الحكم» في 1925 ناقش فيه فكرة الخلافة والحكومة المدنية في الإسلام، وكان أولَ دراسة شرعية تؤسِّس للفكرة العَلمانية في الوسط الإسلامي،فأحدث دوياً مادت به الأرض تحت أقدام من حاولوا لتأسيس سلطة دينية، وهاج الأزهر وهيئة كبار العلماء فيه، وجرده من درجة العالمية الأزهرية، وعزلوه من القضاء، تماماً مثلما حدث من الأزهر مع الدكتور طه حسين حين أصدر كتابه «في الشعر الجاهلي» عام 1932 مؤسساً لمدرسة نقدية جديدة في اللغة العربية وآدابها، تتجاوز التقليد والموروث والمحافظ إلي رحابة الحداثة والوعي والتجديد والتفتح، وهاج الأزهر واتهم طه حسين في دينه وإيمانه وسحب الكتاب من السوق، وقاد رجال الأزهر ضده حملة شعواء لم تهدأ إلا بقرارحكومةإسماعيل صدقيباشا عام 1932 بفصله من الجامعة كعميد لكلية الآداب، واحتج علي ذلك رئيس الجامعة أحمد لطفي السيد، وقدم استقالته. ولم يعد طه حسين إلي منصبه إلا عندما تقلد الوفدالحكم عام 1936 ماذا يعني هذا؟ يعني في حده الأول أن السلطة الدينية أو من يحاولون صناعتها قسراً وفرضها إفتئاتاً علي أصول الإسلام الذي لايعرف مؤسسة دينية ولا سلطة دينية، لاتزال وستظل دائماً في صراع مع السلطة الزمنية، وأن التقليد والمحافظة ستظل دائماً ضد التجديد والتحديث، وان الأزهر يصر برجعية متشددة علي أن يعيد عقارب الساعة للوراء، وأن رجاله جبلوا علي اعتبار كل محاولة للفكر والاجتهاد خطيئة،مع أن العقل في الإسلام فريضة واجبة، ولقد حثنا القرآن بل أمرنا أن نتفكر ونتدبر. يؤسفني أن اكتب هذا عن مؤسسة الأزهر، وقد توسمنا فيها خيراً مع تولي الإمام الشيخ أحمد الطيب مشيخته، وحسبنا بل وكتبنا عن استنارة الإمام والأمل في استعادة دور الأزهر الغائب والذي اغتصبته منه جماعات الاتجار بالدين نتيجة قعوده وتقاعسه عن أداء دوره وموجبات وجوده، وإذا بنا امام واقع محبط حيث تحلق حول الإمام غلاة المتشددين من أمثال محمد عمارة، وعباس شومان، وحسن الشافعي، ومحمد مهنا وغيرهم، وإذا بهم يزجون بالأزهر وشيخه إلي أتون مظان الجمود والتسلف والإخوانية والتشدد، ولم تكن واقعة إسلام بحيري وطلب وقف برنامجه هي الأولي، بل سبقها معركة خاسرة مع الكاتب المفكر إبراهيم عيسي، ورموا كل من قدم نقداً موضوعياً لأداء الأزهر بأنه يحاول هدمه والنيل من الإسلام، إنها فرية محاكم التفتيش وسلطتها الظالمة الرجعية. وانا هنا لا أدافع عن إسلام بحيري أوغيره، فالأمر تجاوز الأفراد، إنها قضية وطن، لايمكنه النهضة دون استنارة ودون إعادة نظر في حشايا التراث الذي تصطدم كثير من معطياته مع صحيح الدين. وأخشي أن الأزهر بتشدده هذا يقدم البحيري ضحية للغوغاء قتيلاً للتطرف بسبب الاجتهاد، حتي لو اختلفنا مع أسلوبه الهجومي وكلماته الخارجة.
#محمد_السعدنى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الثورة ليست وجهة نظر
-
المرايا والنوافذ بين الثقافة والسياسة
-
ثوبها الأخضر رَفّت الشمس ثقوبه
-
الأعدقاء الأمريكان وسياسات الأقل كفاءة
-
بريسترويكا جديدة من برج القاهرة
-
إكشفوا الذئاب قبل محاربة الإرهاب
-
ست شخصيات تبحث عن مؤلف
-
أن تكتب عن جمال عبد الناصر
-
لا مانع لدى الملا أوباما أن يضرب فرنسا فى طريقه إلينا
-
مصر بين سياسات الاحتواء وتجسيد الفكرة
-
هل تعيين خالد فوزى عنواناً لمرحلة جديدة؟
-
إتجاه مصر نحو الشرق ضرورة استراتيجية
-
رؤية المفكر وحيرة النخبة: لويس عوض دراسة حالة
-
لئلا يرقص البيض مع الحجارة
-
حكومة محلب والعقل المؤسسى المفقود
-
المسئولية الوطنية للجامعة من محمد عبداللاه إلى خالد الطوخى
-
بيت الأسماك فى التراث والإرهاب والسياسة
-
الأزهر ينعى ويشجب ويغط فى سبات عميق
-
سياسات الجرى فى الشوارع والأفق البليد
-
هانى سرى الدين ومصطفى الفقى وجيل الوسط
المزيد.....
-
لثاني مرة خلال 4 سنوات.. مصر تغلظ العقوبات على سرقة الكهرباء
...
-
خلافات تعصف بمحادثات -كوب 29-.. مسودة غامضة وفجوات تمويلية ت
...
-
# اسأل - اطرحوا أسئلتكم على -المستقبل الان-
-
بيستوريوس يمهد الطريق أمام شولتس للترشح لفترة ثانية
-
لندن.. صمت إزاء صواريخ ستورم شادو
-
واشنطن تعرب عن قلقها إزاء إطلاق روسيا صاروخا فرط صوتي ضد أوك
...
-
البنتاغون: واشنطن لم تغير نهجها إزاء نشر الأسلحة النووية بعد
...
-
ماذا نعرف عن الصاروخ الروسي الجديد -أوريشنيك-؟
-
الجزائر: توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال
-
المغرب: الحكومة تعلن تفعيل قانون العقوبات البديلة في غضون 5
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|