|
ملاحظات على هامش ظاهرة إسلام البحيري
سمير الحمادي
الحوار المتمدن-العدد: 4770 - 2015 / 4 / 7 - 23:29
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تعيش مصر ومواقع الواصل الاجتماعي على الانترنت هذه الأيام على وقع جدل عاصف، موضوعه باحث شاب في الإسلاميات يدعى إسلام البحيري. إسلام يقدم برنامجاً على قناة فضائية خاصة (القاهرة والناس) مخصصاً لاستنطاق التراث الإسلامي وبيان تهافته وتناقضاته (له أيضاً بعض الكتابات في هذا الشأن). وبطبيعة الحال، الإسلاميون على اختلاف توجهاتهم ومعهم المؤسسة الدينية والتيار العام من المسلمين المحافظين استنكروا هذا "التطاول" على المقدسات الإسلامية (باعتبار الفكر التراثي من المقدسات في الوعي التاريخي الإسلامي)، ففتحوا النار على الباحث من الجهات كلها، حيث قدم الأزهر بلاغاً ضده للقضاء يتهمه بازدراء الإسلام، والتهجم على ثوابت الدين، وسب الصحابة، والتشكيك في الأئمة الأربعة، والدعوة إلى إلغاء السنة، كما طالب الجهات الرسمية بوقف البرنامج، وهو ما نتوقع أن يحدث قريباً، بالنظر إلى متانة التحالف التاريخي القائم بين النظام السياسي والمؤسسة الدينية، ليس في مصر وحدها، ولكن في دول العالم العربي جميعاً.
ولأن الموضوع مرشح لمزيد من التصعيد الإعلامي (العنيف) على الطرفين: الطرف المشتكي الذي جرت العادة أن يعتبر هذا النوع من المعارك (والسجالات) مسألة حياة أو موت، والطرف المشتكى به (إسلام والقناة) الذي لا يمكن أن يفوت فرصة كهذه لتحقيق مكاسب شخصية: إعلامية (إعلانية) ومادية وخلافه، فإن علينا، في إطار المتابعة الموضوعية، ولا نقول المحايدة، لأنه لا حياد في هذا النوع من الحرائق، أن نوضح بعض الملاحظات / الحقائق التي يمكن أن تنير ظلام الفهم حول ما يجري اليوم من جدل ونقاشات ومطارحات ومناظرات وشد وجذب واتهامات واتهامات مضادة، بين إسلام الذي وجد نفسه واجهةً إعلامية لحرب قديمة / جديدة، ليست حربه وحده، والذين يهاجمونه ويطلبون رأسه لأسباب / أغراض متعددة، ليست كلها في سبيل الله (وقد يصلون إليه كما حدث مع فرج فودة).
إن ملاحظاتنا تنبني على أن ما يثار اليوم من قضايا التراث الديني الإسلامي وإشكالياته: التاريخية والمعاصرة، ليس فيه من الجدة أو الابتكار أي شيء، على مستوى الشكل والمضمون معاً، وإنما هو تكرار سكولاستيكي (أي اجتراري) ممل لخطابات تنويرية ظلت مطروحة على ساحة الوعي العربي ـ الإسلامي منذ وقت طويل، دون أن تنجح في اختراق الأسوار العالية التي تحيط بهذا الوعي، وتمنع المسلمين جميعاً من الانعتاق من أسر الماضي (الماضي المتخيَّل وليس الحقيقي) والتحرر من حكاياته / خرافاته الطويلة.
الملاحظات هي:
إسلام ليس مجدداً، ولا مبتدعاً أو مبدعاً، وليس له في ما يقول جرة قلم. إنه سلفي أيضاً، لكن في الاتجاه الآخر، أي أن أفكاره هي اجترار حرفي، وعلى النسق نفسه من الطرح والتحليل (وحتى التعبير)، لما سبق أن طرحه تيار من المثقفين المصريين ظهر في سبعينيات القرن الماضي، تحت ضغط الصراع السياسي والاجتماعي العنيف الذي كان دائراً بين النظام والحركات الإسلامية (الجهادية تحديداً)، وأدى في أكتوبر 1981 إلى اغتيال الرئيس أنور السادات في حادث المنصة.
تقوم المنظومة الفكرية لهذا التيار على العناصر التالية: مراجعة الفهم الحرفي للنصوص الدينية (القرآن والسنة) والدعوة إلى تمثُّلها بمنهجية جديدة، مع التسليم بأن القرآن هو في ذاته نص منزه تنزيها كلياً. تجاوز التراث التفسيري في المدونة الفقهية التقليدية. إعادة قراءة وتقييم التجربة التاريخية الإسلامية. نزع القداسة عن الإسلام التاريخي / التراثي. القطع مع شعارات "الحل الإسلامي". إبراز البعد الإنساني للإسلام. تنمية الخطاب الإسلامي في اتجاه العلمنة.
أما أعلامه الذين تأثر بهم إسلام، ويردد كلامهم بالحرف، وينقل اجتهاداتهم بالنص، وغالباً دون أن يُعرِّف بمصادرها، مع أن أصحابها تعبوا فيها سنوات طويلة، ودفعوا ثمنها من وقتهم وجهدهم وأرواحهم أحياناً، فأهمهم:
ــ محمد سعيد العشماوي (توفي في 2013): أول من نحت مصطلح "الإسلام السياسي" (في كتاب يحمل العنوان نفسه، ترجم إلى الإنجليزية والفرنسية)، ومؤلف كتاب "أصول الشريعة" (صدر في 1979)، وهو كتاب مهم جداً، بل إنه خطير وثوري بالفعل في أفكاره عن الشريعة والتشريع في الديانات التوحيدية الثلاث.
ــ فرج فودة: الذي قتله جهاديون في يونيو 1992، بعد ستة أشهر بالضبط من مناظرته الشهيرة مع الداعية محمد الغزالي في معرض الكتاب في موضوع: "مصر بين الدولة الإسلامية والدولة العلمانية" (وهو الشخصية الأشد تأثيراً في إسلام، حيث يقلده، حرفياً، حتى في بعض انزلاقاته / أخطائه).
ــ خليل عبد الكريم (توفي في 2002): وهو أكثرهم علماً بالتراث الإسلامي وثغراته ومطباته لأنه كان أزهرياً، كما كان إخوانياً، وقد سجن لذلك مرتين، قبل أن ينشق، ويصدر 11 كتاباً تنسف كل ادعاءات الإسلاميين حول "العصر الذهبي" للإسلام: أي القرن الأول الهجري، أهمها "شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة (3 أجزاء)، ويشكل هذا الكتاب بالذات (صدر في 1997) كابوساً قاتماً للسلفيين جميعاً لما فيه من معطيات وتفاصيل صادمة لا يستطيعون تحملها، ولا إنكارها، لأنها موثقة على طريقتهم، من نفس المراجع التاريخية المعتمدة لديهم.
ــ نصر حامد أبو زيد (توفي في 2010): أكاديمي بارز في الإسلاميات وفقه اللغة العربية، ذاع صيته بعد صدور حكم قضائي، هو الأول من نوعه في تاريخ مصر الحديث، بالتفريق بينه وبين زوجته أستاذة الأدب الفرنسي ابتهال يونس باعتباره مرتداً عن الإسلام، وذلك بسبب اجتهاداته الفكرية في علوم القرآن، ما اضطره إلى الهجرة مع أسرته إلى هولندا، حيث درَّس في جامعاتها وعاش سنواته الأخيرة.
إن اجتهادات هؤلاء جميعاً (ومعهم آخرون، كلٌّ في مجاله: حسين أحمد أمين، سيد القمني، حسن حنفي، وخارج مصر: المغربي محمد عابد الجابري، الجزائري محمد أركون، العراقي علي الوردي، السوداني محمود محمد طه، التونسي هشام جعيط، السوري محمد شحرور، الليبي الصادق النيهوم... بل حتى في السياق الشيعي مع علي شريعتي، عبد الكريم سروش، علي دشتي)، تهدف، كما قلنا، إلى كسر الطابوهات التراثية بكل أنواعها، وكشف المسكوت عنه، بلا حدود أو تحفظات، في اللاهوت الإسلامي، فهي تسير على خطين رئيسيين: خط التاريخ الإسلامي، من خلال الحفر في وقائعه وأحداثه، ونزع القداسة عن شخوصه / أبطاله، خاصة في القرون الأولى، وخط الشريعة الإسلامية، من خلال اقتراح قراءات / تأويلات حداثية (بالمعنى الألسني) للنص الديني: القرآن والحديث، تتجاوز، جزئياً أو كلياً، القراءات التراثية المعروفة، التي لم تعد تناسب ظروف وتحولات هذا العصر.
إن هذين الخطين هما المحور الذي يشتغل عليه إسلام في برنامجه.
فماذا يقول إسلام بالضبط؟ ما هي طبيعة هذه الأفكار / الاختراقات الخطيرة المخيفة المرعبة التي يطرحها في برنامجه، فتقرع طبول الحرب في عقل الإسلاميين وشيوخ الأزهر إلى هذه الدرجة؟
سنحدد هنا خمسة نماذج منها:
ــ النموذج الأول: حروب الردة التي خاضها أبو بكر الصديق، وهي أول حرب إسلامية بعد وفاة النبي، لم تكن من أجل الدين / الإسلام، بل كانت لغايات أخرى، وعليه، ليس كل ما يفعله صحابي في عهد الرسول أو بعده يكون ديناً.
هذه الفكرة بالذات من الأفكار المستهلكة في أدبيات النقد الإسلامي، ليس فيها أي جديد، خاض فيها المستشرقون (على اختلاف مناهجهم) حتى ملوا، وتبعهم المؤرخون العرب في العصر الحديث حتى لم يتركوا ما يقال، ويمكن أن نجدها مفصلة في مئات الكتب والدراسات، موثقة بأسانيد وروايات وشواهد تاريخية يتعب الواحد في تتبعها والإحاطة بها كلها، أي أن هذه الفكرة هي اليوم من المعلوم من التاريخ الإسلامي بالضرورة، ويمكن العودة، على سبيل المثال، إلى كتاب المؤرخ الفلسطيني الراحل إلياس شوفاني: "حروب الردة: دراسة نقدية في المصادر"، وهو في الأصل أطروحة دكتوراه في التاريخ قُدّمت إلى جامعة برنستن الأمريكية في 1968، ونشرت باللغة الإنجليزية في 1972، وباللغة العربية في 1995، لمعرفة الكثير من المصادر عن هذه الحروب وشعارتها وجدالاتها في التاريخ الإسلامي. كما أن المفكر التونسي هشام جعيط أفرد لها مقاطع رائعة في كتابه المرجعي: "الفتنة: جدلية الديني والسياسي في الإسلام المبكر" (صدر في 1989)، الذي تناول فيه، بمنهجية تاريخية صارمة، صراعات الصحابة بعد وفاة النبي (ص).
أي أن الحفر والبحث والتنقيب في هذا الموضوع قديم.
لقد خاض أبو بكر: الذي تولى المنصب السياسي الأول في الدولة بعد وفاة النبي (ص): القائد الروحي والسياسي للمسلمين، الحرب ضد القبائل "المرتدة" في الجزيرة العربية، ليس من أجل أسلمتها (أو إعادة أسلمتها)، فلا إكراه في الدين (وعلى هذا الأساس كان اعتراض عمر بن الخطاب في البداية)، ونعلم أن هناك من العرب من كان إسلامهم إستراتيجياً، بلا اقتناع، أسلموا فقط تحت ضغط القوة، لحماية مضاربهم وتجارتهم، ومع ذلك لم يتعرض لهم النبي (ص)، ولم يكن يمتحنهم كل أسبوع أو كل شهر ليطمئن إلى أن قلوبهم عامرة بالإيمان.
لقد حارب أبو بكر من أجل إخضاع هؤلاء "المرتدين" لسلطة الدولة الإسلامية (وعاصمتها المدينة). أبو بكر كان ينظر إلى الأمر من منظور سياسي بحت، منظور رجل الدولة. فالردة هنا كانت المعادل لما نسميه في لغة هذا العصر "التمرد" أو "الثورة"، كانت في الواقع مشروع حركة انفصالية خطيرة تهدد الأمن القومي للدولة إذا قدر لها أن تمضي في مسارها، لذلك كان لا بد من كسرها في مهدها، مهما كان الثمن، وعقاب المتمردين / الثوار / الانفصاليين بمنتهى العنف والقسوة، حتى يصيروا عبرة لغيرهم، فلا يجترحون سابقة ناجحة، تقلدهم فيها القبائل الأخرى، فينهار الإرث النبوي: الدين والدولة معاً، لأن الفصل بين الدنيوي والقدسي لم يكن وارداً أبداً في حسابات الجيل الإسلامي الأول.
إن منع الزكاة لم يكن مهماً في ذاته، ولكن في دلالاته. منع الزكاة، باعتبارها مظهراً من مظاهر الانتماء المجالي والسياسي، يعني تحدي سلطة الدولة بشكل سافر، في لحظة دقيقة من تاريخها، بعد وفاة مؤسسها: النبي (ص) مباشرة، وما سببه هذا الغياب المفاجئ من اضطراب شديد في أحوالها.
فأبو بكر، بمنطق رجل الدولة، لم يخطئ، لقد فعل ما يجب فعله لحماية حدود دولته وتماسك كيانها، فالقبائل التي أعلنت تمردها لم تكن واحدة أو اثنتين أو ثلاثة، فلا تشكل خطراً، بل كان التمرد عاماً عند غالبية قبائل الجزيرة، وحتى لو تركها، أو قبل التفاوض معها، هل كانت هي ستتركه، بعد أن وقفت على ضعفه، ولم يبق معه إلا مكة والمدينة وجوارهما؟؟
لقد بدأ الخطأ عندما تم تغليف السيوف التي خرجت لضرب الأعناق في كل الاتجاهات برايات الدين، عندما جرى الإعلان عن أنها حرب دينية، هدفها الإسلام، لا الدولة، وحتى هنا علينا أن نفكر في الأمر، ليس بعقل اليوم، ولكن بعقل ذلك العصر: هل كان أحد وقتها قادراً على التمييز بين الدين والدولة، كمجالين منفصلين. بعبارة أخرى: هل كان بين الصحابة من سمع شيئاً عن مصطلحات من قبيل العلمنة، والمجال الديني، والمجال السياسي، والدولة المدنية؟؟
واستمر الخطأ عندما نُسب ما حدث في تلك الحروب من تجاوزات من بعض الصحابة، في سياق العقاب والتنكيل بالمرتدين / المتمردين، إلى الدين، وليس إلى مرتكبيها شخصياً، باعتبارهم بشراً، يندفعون، يتهورون، فيخطئون.. ويتجاوزون، وهم وحدهم مسئولون عن هذه الأخطاء والتجاوزات، أمام أنفسهم، وأمام التاريخ، وأمام الله يوم الحساب.
فالله ورسوله لم يأمرا أبداً خالد بن الوليد بقتل مالك بن نويرة (متأولاً)، من أجل عيون الحسناء أم تميم.
وتجذر الخطأ عندما تحمس الفقهاء، فدرجوا على اعتبار ما حدث حروباً دينية مقدسة، خرج فيها المسلمون من أجل الإسلام، وليس من أجل تأديب منشقين استغلوا لحظة غير عادية للتمرد على الدولة وتهديد حدودها، وأعادوا صياغة وترتيب الأحداث بما يجعلها حروباً متألقة، متوهجة، مثالية، حافلة بالأمجاد، ولا شيء آخر، فحرفوا الحقائق، وصنعوا من ذلك كله وهماً تاريخياً كبيراً، وضعوه في كتبهم، وختموا عليه بالشمع الأحمر، حتى لا يفكر أحد في البحث عن الحقيقة الأخرى.
إن حروب الردة مرجعها في الأصل سلطوي، سياسي، استُعمل فيها الدين، أولاً، للحشد الشعبي، باعتباره الأيديولوجيا الرسمية للدولة، وثانياً، للحشد العسكري، باعتباره العقيدة القتالية الجاهزة والفعالة القادرة على رفع معنويات المسلمين وهم في أقصى حالات الصدمة والحزن والضعف، ففي ظل الظروف التي كانت محيطة بتلك اللحظة، كانت الردة كلمة خطيرة جداً، محرضة، مهيجة، وكذلك الجهاد، لهما وقع مدوِّ على النفس، لا يمكن تفهمهما بغير السيف.
أما فكرة أن فعل الصحابي ليس حجة دينية، فهي كذلك فكرة عادية ومألوفة، وليس فيها أي جديد يثير الانتباه، فالصحابة فعلاً ليسوا مقدسين، ولا معصومين، ولا يمكن اعتبار أفعالهم أو أقوالهم أو أي شيء يصدر عنهم كذلك، وهم أنفسهم لم يدّعوا هذا، ولم يَدعُوا إليه، بل إنهم في ما بينهم كانوا مختلفين جداً، في ظروفهم كما في أمزجتهم وميولهم وشخصياتهم، ولو أنهم جميعاً على حق، فكيف يختلف / يتناقض / يتنازع حق مع حق، كما حدث في الفتنة، عندما تفرق الصحابة لأسباب دنيوية (سياسية) خالصة، وقاتل بعضهم بعضاً حتى النهاية؟؟
لقد اختلف الصحابة في ما بينهم كثيراً، في حياة النبي (ص) وبعده، وكانت بينهم منازعات في الآراء والأفكار وفي أمور الحياة المختلفة، كانوا يشكلون مجتمعاً فيه ما في المجتمعات الأخرى من علاقات إنسانية عادية، ولم تكن فكرة تقديسهم واردة أبداً في حياتهم، بل إن مصطلح "الصحابي" نفسه لم يكن معروفاً عندهم، كانوا يسمون فقط أصحاب رسول الله: بالمعنى اللغوي للكلمة، دون أي حمولة دينية.
من جهة أخرى، فإن كثيراً من الصحابة لم يعرفوا النبي (ص) مدة كافية، ولم تطل صحبتهم، وبالتالي كان هناك تفاوت بينهم في الدرجة، وكذلك من حيث الأهلية في تمثُّل قيم الإسلام على أكمل وجه، فكان بعضهم ينفلت في الحديث، أو يأتي سلوكاً لا يرضى عنه النبي (ص)، وكان هذا جارياً، يعلمه النبي (ص)، فيتدخل مصلحاً، أو ناصحاً، أو زاجراً، أو معاتباً، ولم يسبق أن أُقحم الدين في العلاقات بينهم على أي نحو.
والمشكلة التي أوقعنا فيها الفقهاء (سامحهم الله) أنهم توسعوا في تعريف الصحابي (بعد أن اختلفوا عليه.. كالعادة) حتى وصلوا إلى أنه كل مسلم رأى النبي (ص): مجرد رؤية. وبذلك كثرت أعداد الصحابة، حتى حار المؤرخون في عدهم جميعاً، مع أن الحق أن الصحابة الذين كان يتحدث عنهم النبي (ص) في أحاديثه، ويثني عليهم، ويدعو إلى الاقتداء بهم، وتتبع خطاهم، باعتبارهم قدوة في الحق، هم أصحابه الأولون، الأثيرون، الذين آمنوا به في بداية الدعوة وأخلصوا له القلب، وساندوه بكل ما يملكون حتى النهاية، متحملين في سبيل ذلك ما لا يطيق البشر من متاعب وصعوبات.
إن فكرة تقديس الصحابة ظهرت في ما بعد، والصحابة براء منها، ولا يوجد نص واحد يثبت أن صحابياً قال عن رأيه إنه الدين، أو دعا أحداً من المسلمين إلى تقديس فعل فعله. هي فكرة متأخرة يُسأل عنها الفقهاء الذين ظهروا ابتداءً من القرن الثالث الهجري، وتحديداً: يُسأل عنها ابن حنبل وتلاميذه، عندما كانوا يقعّدون للمذهب السلفي في بغداد في العصر العباسي، أي بعد وفاة أكبر الصحابة سناً بثلاثة قرون تقريباً.
ــ النموذج الثاني: حد الردة يتنافى مع العدالة الإلهية، ولا وجود له في الأساس.
هذه الفكرة أيضاً لا تحمل أي جديد، وقد أثبتها المفكرون، بل وعدد من رجال الدين المسلمين، منذ سنوات طويلة، واستدلوا عليها عقلاً ونقلاً: بالنص القرآني ذاته.
فلم يثبت عن النبي (ص) أنه أقام حد الردة على أحد، وإنما جاء في القرآن: (لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي)، (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين). وكما هو واضح، هي آيات تترك للناس الحرية في اختيار دينهم ولا ترى إكراههم على الإسلام. وطبعاً، عدم الإكراه على الإسلام ابتداءً يفيد عدم الإكراه للاستمرار فيه، فمن العبث جداً أن يظل الإنسان مؤمناً بدينه على خوف أو على إكراه: الله سبحانه وتعالى غني عن هذا الإيمان.
بل إننا هنا، ومن باب أن الشيء بالشيء يذكر، نضيف ما لا يقوله إسلام: وهو أن شرب الخمر كذلك لا حد فيه، لأن القرآن لم يعيّن له عقوبة واضحة، كما أن النبي (ص) لم يُحدّث بحد، وإنما أمر بضرب رجل كان قد شرب الخمر. فالعقوبة تحددت في عهد عمر بن الخطاب، استناداً إلى قياس أجراه علي بن أبي طالب على حد القذف الذي ورد فيه نص بالفعل: "إذا سكر هذى وإذا هذى افترى فحدُّوه حد الافتراء"، وهو ثمانون جلدة.
وهذا القياس الذي أجراه علي بن أبي طالب (وهو من كبار الصحابة) فيه كلام كثير، لأن العلة هنا محمولة على التقدير (قد يهذي وقد يفتري) وليس اليقين، والحد يُدرأ بالشبهة كما هو معلوم، ويرى البعض أنه قياس متعسف وغير مبرر، بل إنه دليل على أن الله لم يحدد لشرب الخمر عقوبة صريحة وإلا لما احتاج عمر وعلي إلى القياس الذي لا يكون إلا في غياب النص، فشرب الخمر يدخل في باب جرائم التعزير التي يُترَك تقديرها لولي الأمر: أي الدولة، ولا يجوز فيها الحد إطلاقاً.
ونبقى في الحدود: حد السرقة، وهو قطع اليد، يرى العشماوي في كتابه "أصول الشريعة" أن تطبيقه يتطلب شروطاً من المستحيل أن تتحقق في هذا الزمن، منها أخد المال على وجه الخفية والاستتار، فلا يدخل فيها المختلس (أي خائن الأمانة) والمنتهب (الخاطف)، وأن يكون المسروق مالاً متقوماً، أي تحسب له قيمة محددة بدقة، لا شبهة فيها ولا قصور، وأن لا تكون للسارق شبهة ملك فيه، وأن يكون في حرز يخرجه منه وينقله إلى مكان آخر، وأن يتحقق العود: أي تكرار السرقة، وأن لا تكون بالسارق حاجة لما سرقه.
من هذا الاجتهاد نفهم أنه لا حد على من يسرق أموال الدولة مثلاً، لأنها أموال عامة، لكل فرد حق فيها (أي شبهة الملك في المال)، كما أن المختلس من مال الحكومة أو أي مؤسسة لا يسري عليه الحد لأنه ليس سارقاً بالمعنى الوارد في النص، وإنما هو خائن للأمانة.
إن الاجتهادات في هذا المجال كثيرة ومختلفة، والاستشهاد بها يطول.
ــ النموذج الثالث: آيات القرآن لا تناسب كل العصور.
إنه الجزء الأصعب والأخطر والأكثر حساسية في الموضوع، هي جملة قد تصدم أي مسلم يسمعها، تروعه، تثير جنونه، تجعله يخرج عن شعوره، كيف يكون القرآن: كتاب الله، غير صالح لكل زمان ومكان؟؟ كيف يجرؤ أحد أن يقول هذا والله سبحانه وتعالى يقول: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)؟؟
لكن الحقيقة أن هذه الفكرة ليست صادمة أبداً، وليس فيها من الكفر شيء، بل هي فكرة مألوفة جداً في أدبيات نقد اللاهوت الإسلامي، وتحديداً في الجانب المتعلق بفهم النص، وهي، أكاديمياً، معروفة بهذا المصطلح: "تاريخية النص الديني".
فلسفياً، تقوم هذه الفكرة، في بنائها المعرفي، على واحد من السجالات الكلاسيكية في الفكر الإنساني عموماً، وهو السجال المتعلق بإشكالية "علاقة الفكر بالواقع". أما إسلامياً، فهي تشبه، إلى حد ما، فكرة "أسباب النزول" في علوم القرآن، التي تربط الآيات القرآنية بوقائع محددة استدعت تنزلها (مع أن هناك من المفكرين من يميز في التنزيل بين "الأسباب" و "المناسبات").
الفكرة، باختصار، أن هناك ارتباطاً جدلياً ما بين النص: أي نص، مقدساً كان أم غير مقدس، والواقع التاريخي الذي انوَجَد فيه، بحيث لا يمكن فهم دلالات / أحكام هذا النص إلا عبر ربطه بجملة الأطر الاجتماعية والمعرفية التي شكلت واقعه. فالمعنى هنا محدد بالزمان والمكان، لذلك فهو نسبي، زمني، وليس مطلقاً، أبدياً، هو معنى محصور في نطاق لحظته التاريخية، لا يتعالى عليها، ولا يمتد أو يتواصل خارجها: إلى فضاءات أخرى.
إن القرآن على هذا الفهم هو نص تاريخي (حتى وهو وحي من عند الله)، يُفهم في سياق علاقته بحركة الواقع / المجتمع / المحيط الذي نشأ فيه، بكل ما ينطوي عليه من ظروف وملابسات وتجاذبات وأطر معرفية. من هذا المنطلق يجب أن يُقرأ، وعلى هذا المعنى يجب أن تؤول آياته / أحكامه.
وعندما نتحدث عن "تاريخية النص القرآني"، لا بد أن نستحضر اثنين من أعلام الفكر العربي المعاصر أوليا هذه الفكرة اهتماماً كبيراً: الأول هو محمد أركون: مؤسس علم "الإسلاميات التطبيقية"، وهو مشروع بحثي متكامل أطلقه في نهاية السبعينيات، واشتغل على تطويره طوال حياته، يقوم على إدماج مختلف مناهج ومفاهيم المعرفة الحداثية (وما بعد الحداثية) الأوربية (في مجال العلوم الإنسانية) في نسق إبستيمولوجي واحد، مهمته قراءة موضوعات التراث الإسلامي برؤية جديدة تماماً، تتجاوز كل ما سبق. والثاني هو نصر حامد أبو زيد، الذي خصص كثيراً من الوقت والجهد لهذا الموضوع في دراساته المنهجية عن القرآن، التي شكلت اختراقاً عنيفاً، مباشراً، للقراءات الكلاسيكية، وبسببها كفرته السلطة الدينية.
لقد اشتغل الاثنان على هذه الجزئية، كلٌّ من منظوره الخاص، على مدار سنوات طويلة، وأفرغا فيها الوسع، وخلصا إلى افتراضات قد نتفق أو نختلف حولها، لكنها تبقى خلاصات حيوية تستحق التأمل، لما فيها من إشراقات معرفية يمكن أن تشكل عناصر بنائية (أولية) لقراءات جديدة مختلفة للنص الديني، تعيد اكتشاف / استنطاق دلالاته.
ومن دون الدخول في تفاصيل لا يتسع لها المقال، نشير إلى أن آيات القرآن لم تتنزل على نسق واحد، وإنما على خمسة: هناك آيات الخطاب فيها موجه إلى المؤمنين جميعاً، وآيات الخطاب فيها موجه إلى النبي (ص)، بحكم عام مشترك بين الجميع، وآيات الخطاب فيها موجه إلى النبي (ص) ليختص بها وحده، وآيات الخطاب فيها موجه إلى غير النبي (ص) لكنها مخصصة به وبحياته، ثم آيات خصصت لحادثة بذاتها كآية الإفك (يمكن الرجوع هنا إلى كتاب "أصول الشريعة").
ماذا يعني هذا؟
يعني أن هناك إشكالية حقيقية (دائمة) في التمييز بين هذه الأنساق الخمسة، بما يسمح بتحديد الآيات / الأحكام التي خاطب فيها الله الناس جميعاً، في كل زمان ومكان، والآيات التي خاطب فيها الله الناس جميعاً، لكن أحكامها مرتبطة بظروف السياق المحدد الذي نزلت فيه (وهنا تبرز أهمية المعرفة العميقة بأسباب النزول: أي السياق الاجتماعي للنص الديني)، ثم الآيات التي خاطب فيها الله النبي (ص) بالذات دون الناس جميعاً، والتي تتعلق أحكامها به وحده، باعتباره نبياً، فلا تسري أحكامها إلا عليه.
إن اللبس يقع هنا، عندما تتشابك هذه الأنساق، فيصبح الحكم الخاص بشخص النبي (ص) عاماً على جميع المؤمنين، أو يصبح الحكم المختص بنازلة محددة حدثت في زمن النبي (ص) ممتداً على العصور كلها، ويزداد اللبس عندما يُترك الأمر للفقهاء وحدهم لتحديد ما يرونه مناسباً، وفرض معاييرهم وآرائهم على الناس باعتبارها فتاوى مطلقة: أي ملاحق نصية لها نفس حجية النص المقدس، فتكثر التأويلات، وتحضر الانحيازات، وتتدخل الأغراض، فيحصل الاختلاف والسجال والصدام، وتتعدد الحقائق الفقهية والأيديولوجية والمذهبية والطائفية، وهو ما نراه اليوم على شاشة الواقع العربي، إن على المستوى السني ـ الشيعي، أو على المستوى السني ـ السني: بين القوى والتيارات والفرق والحركات والجماعات والأحزاب الإسلامية والإسلاموية المختلفة.
لقد أثارت هذه الإشكالية كثيراً من المطارحات الفكرية، وكتب عنها وحولها دراسات بلا عدد، ما يعني أننا لسنا بصدد ابتكار فكري قدمه إسلام في برنامجه لأول مرة، ولكنها في الأصل فكرة معروفة منذ سنوات طويلة، وهي موضوع بحوث ومقالات ومحاضرات وندوات لا تنقطع، يؤمن بها كثير من المثقفين المسلمين حول العالم، ويعارضها كثيرون أيضاً، منهم المفكر المغربي محمد عابد الجابري: صاحب مشروع "نقد العقل العربي"، الذي أبدى تحفظاته عليها في غير موضع من كتاباته (يعتبرها مجرد شعار / وصف مستورد من الفكر الأوربي)، لذلك فلا شيء فيها يفاجئ أو يصدم بعد أن اتضحت دلالاتها (وثغراتها كذلك) تماماً.
والحقيقة أن هذه الفكرة بالذات (بمعناها القريب من أسباب النزول) تخدم الإسلام بشكل كامل، إذا تم تطبيقها في إطارها الصحيح، وفقاً لضوابط منهجية صارمة، دون غلو أو شطط أو تحريف، من حيث أنها تزيل كثيراً من الشكوك والتعارضات (الظاهرة) التي يستغلها الطاعنون في القرآن للزعم بأن في آياته تناقضاً، سواء داخل النص نفسه أو مع الواقع، وهي مطاعن قديمة جداً ظهرت في عصر النبي (ص)، عندما كان البعض يستهزئون من تدرج / تبدل الأحكام الشرعية (بسبب النسخ)، فيقولون إن رب محمد يغير رأيه من وقت لآخر، مع العلم أن الأحكام كانت تتدرج / تتبدل لتلاحق تحولات الواقع المتطور، لأن الإسلام، والأديان كلها، إنما جاءت لخدمة الإنسان ومراعاة حاجاته المتجددة: الإنسان بما هو إنسان، بعيداً عن أي اعتبارات / تصنيفات (فقهية) أخرى.
ــ النموذج الرابع: أحرقوا كتب البخاري، فليست من الدين.
وهنا أيضاً، لا يقدم إسلام صرخة جديدة، وإنما يكرر دعوة جهر بها المفكرون ليل نهار، حتى غصت حناجرهم. ولأن موضوع البخاري وكتابه / صحيحه شكلا على الدوام صداعاً في رأس المسلمين، موالاة ومعارضة، فإننا سنتدرج فيه من العام إلى الخاص:
فعلى المستوى العام، سنتحدث عن تدوين السنة، أي كتابة أحاديث رسول الله (ص)، ومعلوم أن السنة هي المصدر الثاني للشريعة الإسلامية (بعد القرآن)، وتعريفها اللغوي أنها "الطريق المعبدة" و "السيرة المتبعة"، واصطلاحاً هي "كل ما صدر عن النبي (ص)، غير القرآن، من قول أو فعل أو تقرير، مما يصلح أن يكون دليلاً لحكم شرعي".
من هذا التعريف، يتضح ابتداءً أن ليس كل ما صدر عن النبي (ص) داخل في باب السنة واجبة الاتباع، وإنما الأمر يقتصر على ما صدر عنه كنبي، أي ما هو متصل بالوحي، هنا فقط يكون التشريع، مع ضرورة التحري عن التشريع المؤبد والتشريع الزمني (المؤقت) الذي جاء لعلة خاصة، أما الجوانب الإنسانية العادية، كطريقة اللبس والمشي والأكل والكلام والصمت والضحك والغضب وغيرها، في بيته أو مع أصحابه ومحيطه، فتلك مسائل بشرية عامة كان النبي (ص) يشترك فيها مع الناس جميعاً، هو القائل: "إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأمشي كما يمشي العبد".
واضح أن هذا الكلام لا يقنع السلفيين الذين يرون وجوب اتباع النبي (ص) في كل حركاته وسكناته، في الليل والنهار، حتى في ما كان يتصرف فيه كرجل صاحب تجارب في الحياة: رجل تأثر كما يتأثر كل الناس بالبيئة الاجتماعية والأخلاقية والسلوكية التي ولد وتربى وعاش فيها.
إن المعلومة التي قد لا يعرفها كثير من المسلمين أن النبي (ص) نهى بشدة عن كتابة / تدوين أحاديثه، وكان واضحاً وصارماً في هذا الصدد: "لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه".
وفي حديث آخر: "بلغ رسول الله أن أناساً كتبوا أحاديثه، فصعد المنبر وقال: ما هذه الكتب التي بلغني أنكم قد كتبتم؟ إنما أنا بشر، فمن كان عنده شيء منها فليأت بها. يقول أبو هريرة: فجمعنا ما كتبناه وأتلفناه. أو قال فأحرقناه".
ويقول زيد بن ثابت (كاتب الوحي وجامع القرآن): "إن النبي (ص) نهانا أن نكتب حديثه".
ويقول أبو سعيد الخدري (من كبار علماء الصحابة): "استأذنت رسول الله أن أكتب حديثه فأبى أن يأذن لي".
وهناك أدلة نقلية كثيرة يشير كلها إلى أن تدوين الحديث كان منهياً عنه من النبي (ص) نفسه، فلم يدوَّن غير القرآن، في حياته وخلال القرن الهجري الأول.
ولئن تعددت التفسيرات حول أسباب نهي النبي (ص) عن تدوين أحاديثه (حتى لا تضاهي كتاب الله، حتى لا تختلط بالقرآن، حتى لا يتمسك بها المسلمون ويهملون كتاب الله)، فإن الثابت أن هذا النهي كان نهائياً، وقد استمر بعد وفاته مع الصحابة والتابعين الذين التزموا وصيته، فأمسكوا عن تدوين الحديث، بل على العكس، كانوا حريصين على متابعة أي أحد من عامة الناس يصلهم أن له صحيفة يدون فيها شيئاً من كلام النبي (ص)، فيأخذونها منه ويتلفونها.
بل إن المعروف عن عمر بن الخطاب أنه كان متشدداً مع الصحابة الذين يكثرون من التحدث عن رسول الله: التحدث فقط: أي رواية الكلام عنه دون تدوين، ووصل به الأمر أن حبس أربعة منهم لهذا السبب.
إذاً، ما دام الأمر هكذا، فما الذي تغير وتبدل حتى صار تدوين الأحاديث حرفة؟ من أين جاء البخاري؟ وكيف تجرأ على عصيان أمر النبي (ص)، وخرج على الإجماع، فجمع الأحاديث في كتاب أثار كثيراً من الجدل عبر التاريخ، وما تزال السجالات القائمة بشأنه مستمرة حتى اليوم؟
الحقيقة أن بداية تدوين الحديث لم تكن مع البخاري، بل سبقه آخرون. الأمر بدأ تحديداً مع مطلع القرن الثاني للهجرة، أي بعد مائتي سنة تقريباً من وفاة النبي (ص)، وقبل أن يبدأ التدوين، لجأ الفقهاء إلى حيلهم المعتادة: اختراع المبررات اللازمة لتجاوز التحريم، وإجازة التدوين، منها أن النبي (ص) نسخ نهيه في آخر حياته وأجاز لبعض أصحابه، ممن يجيدون القراءة والكتابة، تدوين أحاديثه من أجل حفظها، واستدلوا بصحف قالوا إن بعض الصحابة كانوا يكتبون فيها الأحاديث للحفظ، فلا يتداولونها بين الناس، لأنها للاستعمال الشخصي فقط، غير أن هذه الصحف لا أثر لها إلا في الروايات، فلا أحد استطاع أن يأتي بنسخة من واحدة منها.
وهنا علينا أن نشير إلى أن الإمساك عن تدوين الحديث في العصر الإسلامي الأول كان له جانب سلبي. فقد بقيت المرويات منتشرة على ألسنة الناس، يتناقلونها بلا تحفظ، الأمر الذي فتح المجال للكذب على النبي (ص) ووضع الكلام في فمه، خاصة في أحداث الفتنة: الفترة الأخيرة من خلافة عثمان التي شهدت صراعات سياسية حادة بين الصحابة، وما تلاها من منازعات على السلطة وعلى الشرعية بين علي ومعاوية، حيث أخذ كل طرف من أطراف الصراع يحتج بالأحاديث لتأييد موقفه وادعاءاته (أحاديث المناقب)، وإذا لم يجد ما يدعمه يضع حديثاً وينسبه إلى الرسول (ص)، فحدث انفلات خطير كانت مفاعيله سيئة جداً على الفكر الإسلامي في العصور التالية.
في نهاية القرن الأول للهجرة، تولى خلافة الأمويين عمر بن عبد العزيز، فشكل لجنة من العلماء لجمع السنة وتدوينها، بعد أن ازداد الاضطراب في روايتها، وكثرت الأحاديث المختلقة أو الموضوعة التي يتناقلها الناس شفاهاً عن النبي (ص)، ومنها أحاديث منكرة لا يمكن أن يقرها عقل ولا دين، فكان هذا الإجراء محاولة منه لوضع حد للافتراء على النبي (ص)، من خلال تقصي الأحاديث الصحيحة من أهل الصلاح والتقوى، وجمعها وتدوينها في الكتب ليعرف الناس الحق من الباطل.
هكذا، كسر هذا الخليفة، بحسن نية، الطابو، فأباح بشكل رسمي ما كان محرماً، وفتح الطريق أمام جيل من الرواة تفرغوا بالكامل لجمع الأحاديث وتدوينها، فظهر كتاب "الموطأ" لمالك بن أنس، وظهرت المساند، ثم في النصف الأول من القرن الثالث الهجري، ظهرت الصحاح الستة، وهنا نأتي إلى صاحبنا البخاري الذي تقدم على غيره، من خلال "جامعه الصحيح" الذي يعتبره البعض أصح كتاب بعد القرآن، وأعظم أصول الإسلام بعد القرآن وغير ذلك من عبارات المهابة والتقديس التي لا يمكن قبولها على أي حال عن كتاب ألفه باحث في علوم الحديث، فمهما بلغ شأنه في الاجتهاد والكفاية، يبقى مجرد بشر: يصيب ويخطئ، يؤخذ منه ويُرَد.
لقد أمضى البخاري في تصنيف كتابه 16عاماً كاملة، متجولاً بين البلدان، جمع خلالها نحو 600 ألف رواية من الحديث، وكان يقول إنه يحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث ضعيف، وهي أرقام كبيرة جداً، وتطرح تساؤلات كثيرة، لكن ما أثبته في كتابه هو 7275 حديثاً (الخالص منها 2602)، وطرح الباقي، وهنا ملاحظة: ماذا عن الأحاديث التي طرحها: أين ذهبت، هو لم يضمِّنها صحيحه، وقد يكون شطبها من دفاتره، ولكن لم يشطبها من عقول وألسنة الناس.
ملاحظة ثانية تثير الإشكال، هي ما تجمع عليه الروايات من أن البخاري توفي قبل أن يُبَيِّض كتابه، أي قبل أن يحرره بصيغته النهائية، وأن من تولى ذلك بعض طلابه (لم تُذكر أسماؤهم)، الذين أكملوه بعد وفاته، وقد اعترف بذلك ابن حجر العسقلاني في مقدمة "فتح الباري"، الأمر الذي يطرح أسئلة مشروعة حول طبيعة وحدود هذه الإضافات التي فرضها هؤلاء الطلبة المجهولون على مسودة النص الأصلي (مع الأخذ في الاعتبار أن هناك من يقول أيضاً إن البخاري لم يترك ولا نسخة مكتوبة بخط يده)، وهل من حقهم أن يضيفوا شيئاً إلى مخطوط توفي صاحبه دون أن يأذن لهم؟ وإذا كان الرواة يقولون إن البخاري كان أعلم أهل زمانه بالحديث وفنونه، فهل طلبته كانوا مثله أو في مستوى مقارب له في العلم والفضل، ماذا نعرف عن انتماءاتهم الفكرية وقد عاشوا في عصر يعج بالفتن والسجالات بين المدارس والمذاهب، حتى يقرروا أحاديث معينة باعتبارها من كلام النبي (ص) الصحيح؟ إنها أسئلة كثيرة محيرة لا نعثر لها على أجوبة مقنعة، عدا مرافعات انفعالية هنا وهناك من بعض الشيوخ لا تستند إلى أي حجج أو قرائن دامغة.
وعلى أي حال، لم يكن صحيح البخاري، في أي يوم من الأيام، مرجعاً صحيحاً مائة بالمائة، ولم يحصل أبداً إجماع عليه، كما يدعي السلفيون والأزهر، فقد استدرك العلماء عليه في وقت مبكر، وشككوا، بل وطعنوا في صحة بعض الأحاديث التي أوردها، منهم الحافظ الدارقطني في كتابه "الإلزامات والتتبع"، كما أن أبا حنيفة رد أحد الأحاديث واعتبره "هذيان" (حديث الجارية واليهودي)، والشافعي أيضاً، وأحمد بن حنبل استنكر أحد الأحاديث (حديث صيام الولي عن الميت)، وتاج الدين السبكي الشافعي خصص فصلاً في كتابه "طبقات الشافعية الكبرى" لنقده بدأه بعنوان "ومن أوهام البخاري".
وفي العصر الحديث، نذكر محمد زاهد الكوثري: وكيل المشيخة الإسلامية في دار الخلافة العثمانية، الذي رد بعض أحاديث البخاري في كتابه "الإشفاق على أحكام الطلاق"، فناله من التجريح الكثير(ما يزال يُشتم حتى اليوم مع أنه مات في 1952)، والمحدث المغربي أحمد بن الصديق الغماري (توفي في 1960) الذي ننقل من كتابه "المغير على الأحكام الموضوعة في الجامع الصغير" هذه الفقرة الصريحة الواضحة المعبرة: "ومنها أحاديث الصحيحين فإن فيهما ما هو مقطوع ببطلانه فلا تغتر بذلك، ولا تتهيب الحكم عليه بالوضع لما يذكرونه من الإجماع على صحة ما فيهما، فإنها دعوة فارغة لا تثبت عند الفحص والتمحيص، فإن الإجماع على صحة جميع أحاديث الصحيحين غير معقول ولا واقع".
انتقد البخاري أيضاً محمد عبده، ورشيد رضا، والاثنان من كبار العلماء، ومحمود أبو رية، الذي أصدر في 1958 كتاباً بعنوان "أضواء على السنة المحمدية" (كتب مقدمته طه حسين)، ومن الإنصاف أن نشير إلى أن هذا الكتاب بالتحديد هو المرجع الأساسي الذي بُنِي عليه معظم الاجتهادات التي صدرت بعده في الموضوع، والمؤسف أن لا أحد يشير إليه، مع أن مؤلفه، وهو غير معروف على نطاق واسع، بذل فيه جهداً غير عادي، وبسببه اتُّهِم بالتشيع.
أما المعاصرون، فنشير إلى المرجع السلفي البارز ناصر الدين الألباني، الذي انتقد البخاري في عدة مواضع، ما جر عليه عتاباً رقيقاً من بعض مريديه (نظراً لنفوذه الديني الواسع)، لكنه أفحمهم بالحجة، فسكتوا.. مكرهين.
كذلك الداعية محمد الغزالي الذي راجع البخاري في كتابه "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث" (صدر في 1989)، فاتُّهم بإنكار السنة. وجمال البنا: المفكر الإسلامي المعروف، والشقيق الأصغر لمؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا، وله في ذلك كتاب مهم بعنوان "تجريد البخاري ومسلم من الأحاديث التي لا تُلزِم" (صدر في 2008)، ضمّنه جملة من الأحاديث تتناقض مع القرآن بشكل صريح، موثقاً كل حديث بالشرح.
ومن الباحثين نذكر زكريا أوزون في كتابه "جناية البخاري: إنقاذ الدين من إمام المحدثين" (صدر في 2004)، والحقيقة أنه كتاب لا جديد في موضوعاته عدا العنوان الجنائي المثير (لزوم التسويق)، وعدنان إبراهيم، وله محاضرة مرئية مشهورة بعنوان: "مشكلتي مع االبخاري" (2012)، وقد تعرض بسببها للهجوم، مع أنه، هو أيضاً، لم يأت بشيء جديد، يكرر الانتقادات نفسها بالحرف.. حد الملل. وعليه، فإن نقد البخاري (ومعه مسلم: صاحب الصحيح الآخر)، بمقتضى العقل وقواعد الرواية، لم يبدأ اليوم، ولا أمس، بل إن الموضوع قديم جداً، وهو شائع في الكتابات الإسلامية، التراثية والحديثة، على عكس ما يتصور كثيرون، بسبب الجهل (لأننا أمة لا تقرأ)، أو الكسل الفكري (لأننا أمة تربت على الجاهز)، أو الحصار الذي تفرضه المؤسسة الدينية على هذه النوعية من الأعمال النقدية، حتى لا تنتشر بين الناس، فينكشف المستور (الذي لم يعد مستوراً)، ويتهاوى البناء النفسي (الدُّغمَائي) الذي شيده الفقهاء على مدار قرون طويلة، جيلاً بعد جيل، وسجنوا فيه ملايين المسلمين: نساءً ورجالاً.. من الولادة إلى الموت.
إن ما يذكره إسلام في برنامجه من غرائبية بعض الأحاديث الواردة في صحيح البخاري، وتعارض البعض الآخر مع القرآن صراحة، هو منشور بالنص في المراجع المذكورة أعلاه وغيرها. إنها المراجع التي يأخذ منها معلومته كما يمكن لأي أحد أن يفعل، فهي متوفرة في المكتبات، الحصول عليها سهل، في أي وقت، وبالتالي فلا جديد في مسألة نزع القداسة عن البخاري الذي مات ودُفن في أوزبكستان منذ قرون طويلة، وتجريد كتابه / صحيحه (الذي ليس فيه من الصحة أكثر مما في كل جهد بشري) من العصمة التي أسبغها عليه التراث والمحدِّثُون والإسلاميون وشيوخ الأزهر وغير الأزهر بلا مبرر من الدين.. أو المنطق.
ــ النموذج الخامس: ابن تيمية هو رب السفاحين والقتلة والإرهاب في العالم.
هنا أيضاَ لا يخبرنا إسلام معلومة جديدة. فالواقع أن ابن تيمية مشكلة كبيرة جداً في الفكر الإسلامي، مشكلة تاريخية، ليس هو لذاته، ولكن للدور الذي ألبسه الفقهاء والمريدون على مر الأزمنة، وهو دور اختص به وحده، فلم يبلغ مثله أو يشاركه فيه أحد.
عندما أصدر الكاتب الكبير عبد الرحمن الشرقاوي سيرة ابن تيمية، كان لافتاً أن يختار لها هذا العنوان التراجيدي: "الفقيه المعذب"، والحقيقة أن ابن تيمية عاش معذباً بالفعل، لكنه لم يكن وحده في العذاب، فقد عذبنا معه دون أن يدري، عذب أجيالاً من بعده، لا يعرفهم ولا يعرفونه، فحتى وهو في قبره، ما يزال اسمه منقوشاً بالدم على كل جثة تسقط في "حروب الجهاد الحديثة".
في أكتوبر 1981، عندما قتل خالد الإسلامبولي ورفاقه من تنظيم الجهاد المصري الرئيس أنور السادات، علق أحدهم، وكان محقاً: ليس هؤلاء من قتل السادات، السادات قتله ابن تيمية. وكانت الإشارة واضحة، إنها كراسة "الفريضة الغائبة" التي كتبها منظر التنظيم محمد عبد السلام فرج، سنةً قبل الحادث / الجريمة، ووزعها على "المؤمنين" في القاهرة والمحافظات، بعد أن ملأها بكلام شيخ الإسلام عن الطاغوت، والطائفة الممتنعة، والجهاد.
لقد عاش ابن تيمية حياة صعبة جداً، أوقعه القدر في عصر مشحون بالدمار والموت، فكان في مواجهة مستمرة مع الجميع، ومع نفسه، كان على مدار الوقت خائفاً، قلقاً، متوتراً، عصبياً، تتوالى أمامه الانهيارات من كل جانب، فلا يملك أن يرد عليها إلا بصراخ طويل ما يزال وقعه مدوياً حتى اليوم.
في نهاية 2006، أصدر مركز مكافحة الإرهاب في أكاديمية "ويست بوينت" العسكرية في نيويورك النسخة الأولى من "أطلس الأيديولوجية المتشددة"، وهو مشروع بحثي يهدف إلى تحديد خرائط الفكر الجهادي، من خلال تقنيات بحثية متطورة (منها تقنية "تحليل الاستشهاد")، للوصول إلى أكثر المفكرين / المراجع تأثيراً في الحركة الجهادية الحديثة.
كان مثيراً يومها أن نجد اسم ابن تيمية مقتحماً الصفوف، جنباً إلى جنب، مع أسماء لا تخفى دلالاتها: أسامة بن لادن، أيمن الظواهري، أبو محمد المقدسي، عمر عبد الرحمن، أبو قتادة الفلسطيني، عبد القادر عبد العزيز، أبو مصعب السوري، أبو بصير الطرطوسي، أبو مصعب الزرقاوي وغيرهم ممن لا يحتاجون إلى تعريف.. أو تعليق.
وإذا كان هؤلاء جميعاً قد اختاروا، بمحض إرادتهم، الموقع (والدور) الذي أوصلهم إلى هذه القائمة، فهل اختار ابن تيمية مثلهم موقعه ودوره؟ هل استشاره أحد في اتخاذه مرجعاً في فنون الحرب والقتال؟
إن المشكلة في ابن تيمية أنه متعدد الوجوه، فهو أكثر الفقهاء تأثيراً في الجهاديين، وفي الوقت نفسه، هو أكثر الفقهاء تأثيراً في خصومهم من السلفيات الأخرى. فالسلفيون جميعاً يدَّعون وصلاً به، يستشهدون به في الحالات كلها، في الفكرة وضدها: في السلم والحرب، في المحبة والكراهية، في الجهل والمعرفة، في كل شيء، يبدو ابن تيمية حاضراً بآرائه وتنظيراته القائمة على كتاب الله وسنة رسوله.
إن ما يقوله إسلام عن ابن تيمية هو، في جانب منه، صحيح، إنه حرفياً ما نقرأه منذ سنوات في كتب ودراسات ومقالات جمهور المختصين، عرباً وأجانب، في شئون الأصولية الإسلامية والعنف الجهادي، وتحديداً منذ أحداث سبتمبر 2001، إذ من النادر أن تفتح كتاباً عن القاعدة أو أي من أخواتها، بكل لغات العالم، ولا تجد ابن تيمية نائماً في واحد أو أكثر من فصول الكتاب.
غير أن قواعد العدل والإنصاف تقتضي أن نعطي للشيخ بعض البراءة التي يستحقها، علينا أن نعترف بأنه ليس وحده المسئول عن هذا الوضع الإشكالي الذي وصلنا إليه، لقد عاش الرجل، وكتب ما كتب، ومات، في عصره، وبالتالي فهو لم يجبر أحداً من اللاحقين على تنصيبه وثناً يُعبد من دون الله، فيُقتل الناس بمجرد فتوى منه صادف أن تشابهت (ولو من بعيد) مع مقتضى الحال في لحظة راهنة. لقد أحسن في ما أحسن، وأساء في ما أساء، وليس ذنبه أن هناك من لا يريد أن يرى هذه الحقيقة: أنه مجرد فرد عابر في التاريخ، له ما له، وعليه ما عليه، وعلينا أن نكف عنه ونتركه في حاله، ليكف عنا هو أيضاً ويتركنا في حالنا، نتدبر أمورنا ونواجه مشاكلنا على طريقتنا، بما أوتينا من إيمان وعقل.
فلسنا أقل إيماناً ولسنا أخف عقلاً.
ختاماً: إن القصد من ملاحظاتنا في هذا المقال أن نلفت النظر إلى أن ظاهرة إسلام البحيري ليست ظاهرة بالمعنى الحقيقي للكلمة، لأنها تفتقر إلى أهم عناصرها: وهو الإبداع والابتكار، في حين أن كل ما يرد على لسان إسلام هو تكرار للمشهور في كتب التنوير العربي، وتحديداً منذ سبعينيات القرن الماضي، فهو لا يحمل أي جديد، لا على مستوى المتن، ولا على مستوى التحليل، ولا يقدم أطروحات معمقة، أو إضافات جوهرية، على العكس، في مواضع متعددة يبدو كلامه غير كامل ودقيق لأنه مجزوء / منزوع من سياقاته الأصلية، بغرض العرض الفضائي الذي تحكمه اعتبارات محددة: في الوقت (السرعة) وفي اللغة (التبسيط).
إن الاقتباس لا يغني عن التفكير، وهو وحده لا يكفي لصناعة مفكر. كما أن القراءات الإسقاطية، والنفعية منها بالخصوص، المعدة خصيصاً للجدل والسجال والمناظرة، سلاح ذو حدين، لأنها يمكن أن تتحول بسهولة إلى نقطة ضعف في الخطاب، لا سيما وهي غير مسنودة بنسق نظري متطور في آلياته ومناهجه وأطروحاته. فإسلام حتى الآن لا يحتكم إلى بناء فكري متماسك. إن مادته الأساسية هي الشذرة التي يستلها من هنا وهناك ليعيد غرسها، طعنةً، في قلب هذا الوهم أو ذاك.
وهنا نختم بسؤال: إذا كان إسلام لا يقول شيئاً جديداً، وكلامه مكرر وشائع وتقليدي، فلماذا كل هذا الغبار الذي يثيره من حوله الإسلاميون والأزهر، إلى درجة المطالبة برأسه؟
أولاً، من المعروف أن بين الإسلاميين: إخواناً وسلفيين، والأزهر خلافات / تناقضات عميقة، في الدين والسياسة، وأنهم لا يحبون بعضهم في الله كما يقولون، ولا يجمعهم أكثر مما يجمع بين الغرباء عموماً، لكن الواقع أنهم عندما يتعلق الأمر بالبخاري مثلاً، أو ابن تيمية، أو أي أحد من الأوثان التراثية التي يعبدونها ويريدون من الجميع السجود لها، يتناسون خلافاتهم بسرعة، وينحون الضغائن جانباً، ويشبكون أيديهم ببعضها، ثم.. يقومون قومة رجل واحد.
أما الجواب فألخصه في نقطتين:
ــ النقطة الأولى: إن قوة إسلام ليست في ما يقول، لأن المشايخ يتابعون جيداً ما يُكتب على الجانب الآخر من عالمهم، وقد اعتادوا على هذه الاقتحامات الفكرية المتلاحقة، وتكيفوا معها، بل ونجحوا على مدار السنوات الماضية في الحد من تأثيرها، وضبط مساراتها / تراكماتها بمختلف الطرق، ترهيباً (من خلال التكفير والاغتيال) وترغيباً (من خلال الدعوة وشبكات الاستقطاب الفعالة)، وإنما قوته في أنه يعبر عن نوعية معينة من الأفكار الحداثية / التحررية / التنويرية / الإنسانية في برنامج فضائي يشاهده الملايين، وتُحمَّل حلقاته على "يوتوب"، ومنه إلى مواقع التواصل الاجتماعي التي يستخدمها ملايين آخرون. مكمن الخطورة هنا، وليس في الأفكار ذاتها، في هذه العروض غير المسبوقة: المباشرة، المفتوحة، المتتالية، المشهدية، الجذابة، التي يقدمها الرجل على الهواء، خارج أي رقابة أو ضوابط تقليدية، لذلك لا بد من إسكاته قبل أن يستفحل الضرر ويتعاظم الشر ويتحول إلى رمز يتبعه خلق كثير.
إن سلف إسلام من مفكري السبعينيات وما بعدها فشلوا في الوصول إلى الناس لأنهم ظلوا نخبويين في تكوينهم وفي خطابهم وفي تحركاتهم، الوحيد الذي استطاع أن يتجاوز محيطه الضيق، ويفتح سوقاً واسعة لأفكاره، دون موانع لغوية أو معرفية، ما جعله يشكل خطراً فعلياً، هو فرج فودة، لذلك كان مقتله، رمياً بالرصاص، ضرورة إستراتيجية حتى لا يندفع أكثر في طريق الحقيقة التي ليس وراءها إلا الأوهام.
ــ النقطة الثانية: إن اللحظة التاريخية التي لمع فها نجم إسلام ليست عادية على المستويات كلها. إنها لحظة ثورية خاصة، فارقة، استثنائية، حاسمة، مفعمة بالأحداث، والمسارات، والاحتمالات، يعاد فيها، ليس بناء النظام السياسي والاجتماعي العربي فقط، ولكن الأهم: بناء العقل / الوعي العربي. إن الرهان الأساسي في الأزمنة الثورية هو دائماً العقل العام / الجمعي: عقل الناس العاديين، باعتباره الحلقة الأضعف التي يسهل اختراقها والتحكم فيها، لا سيما وهو محطم، منهك، مفكك، مشتت بين أكثر من نموذج وطريق. لذلك فإن من يصل إلى هذا العقل أولاً، فيصادره لحسابه، ويزرع فيه بذوره، يكون قد وضع الحصاد: كل الحصاد (من الآن) في جيبه أو في جُبَّته (ما دمنا نتحدث عن إسلاميين.. ومشايخ).
غير أن إشارات الواقع العربي الراهن تخبرنا أشياء أخرى. لقد أحدثت ثورات 2011 تحولات جذرية في بنية العقل العربي. كل شيء انكسر دفعة واحدة، لكن أكثر شيء تناثر زجاجه على الأرض هو الماضي بكل مروياته السياسية والثقافية والأيديولوجية والأرثوذكسية. لقد تجاوز الإنسان العربي، نفسياً، تاريخه، وعوالمه التراثية، وكل التطرفات التي مزقته من الداخل وسجنته عصوراً كاملة في أوهام لامتناهية، متعالية، مقدسة، تختلف في واجهاتها / ادعاءاتها، لكن أساسها واحد. تجاوز كل شيء بالكامل، نهائياً، وصار أكثر وعياً بقدراته الذاتية، المشكلة فقط أنه ما يزال متردداً، يراوح مكانه، تحت وقع الخوف من مخاطر الاندفاع بلا حساب، واجتراح أخطاء أخرى تؤخر الوصول، أو تنتهي بالرحلة إلى محطة غير محطة الحلم.
إن العقل الثوري العربي يوجد اليوم تحت ضغط الأضواء: أضواء التاريخ، وهذا يربكه بشدة، ويعطل مفاعيل الخطوة الأولى.
لذلك فإن الكهنوت الديني لا يملك كثيراً من الوقت، فالفكرة، في زمن السماوات المفتوحة، نهر متفجر لا يمكن ملاحقة أو وقف جريانه، فما كان يحتاج إلى شهور، وربما سنوات، ليصل إلى جماعة من الناس، أطيافه اليوم تجوب أصقاع الأرض في ثوان معدودة، بلا استئذان، ودون تكلفة.
من هنا تأتي خطورة إسلام (والتيار الذي يمثله): إنه مثال بالصوت والصورة لإنسان عربي جديد يتحرك بحرية، وعلى قاعدة الانتماء الإنساني وحده، خارج أروقة اللاهوت والمذهب والطائفة، يقوده دليل العقل مفرداً، بعيداً عن وصاية / أحكام الموقعين عن رب العالمين، كلهم: الموتى منهم والأحياء.
#سمير_الحمادي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كفوا عن داعش.. فإنهم متّبعون
-
المتطرفون في الفيس بوك
-
الفراغ الأيديولوجي: أزمة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وا
...
-
في مفهوم الشرعية السياسية
-
خلفاء خارج الصندوق
-
موقف الإسلاميين المغاربة من تنظيم -الدولة الإسلامية-
-
-وعاظ السلاطين- لعلي الوردي: قراءة وإضاءات
-
قراءة في كتاب -حديث الشيطان: مقابلات مع سبعة طغاة- لريكاردو
...
-
جماعة بوكو حرام
-
مقدمة في تاريخ الحركة الجهادية في سورية
-
قراءة في مصطلح -السلفية الجهادية-
-
في بؤس الإعلام المصري
-
عن الكواكبي.. ومعضلة الثورات العربية
-
عبد الله القصيمي: الأصولي المنشق
-
الإسلامولوجيا وسؤال الكفاية: نموذج مغربي
-
برقية.. إلى ثوار -الربيع العربي-
-
السياسة تفرّق شمل السلفيين في المغرب
-
في أزمة الربيع العربي
-
الوهابية والسلفية الجهادية: أسئلة العلاقة
المزيد.....
-
“هالصيصان شو حلوين” استقبل احدث تردد لقناة طيور الجنة بيبى 2
...
-
بايدن: لا يجب أن تكون يهوديا لتصبح صهيونيا
-
الرئيس الإماراتي يلتقي شيخ الأزهر في باكو (صور)
-
المقاومة الاسلامية في العراق تعلن استهداف قاعدة -تل نوف- الج
...
-
الإعلام الحربي للمقاومة الإسلامية في لبنان يوجه رسالة الى عا
...
-
المقاومة الإسلامية في لبنان تعلن استهداف مجاهديها تجمعا لقوا
...
-
المقاومة الإسلامية في لبنان تعلن استهداف تجمع لقوات الإحتلال
...
-
المقاومة الإسلامية في لبنان تعلن استهداف مربض مدفعية العدو ا
...
-
المقاومة الإسلامية في لبنان تعلن استهداف مربض مدفعية العدو ا
...
-
” لوليات صغار” استقبل حالًا تردد قناة طيور الجنة بيبي 2024 ع
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|