|
سعفةُ نخيل من أجل مصر
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 4768 - 2015 / 4 / 5 - 14:44
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
اليوم الأحد، هو عيد الشعانين أو أحد الزيتونة أو أحد السعف، حيث يبدأ "أسبوعُ الآلام"، حسب الأدبيات المسيحية. وفيه يحتفل المصريون بجدل سعف النخيل تذكارًا لدخول السيد المسيح، عليه السلام، إلى مدينة القدس الشريف، حيث استقبله أهلُها بأغصان الزيتون وجدائل السعف وأغصان الأشجار، وفرشوا ثيابهم تحت قدميه الشريفتين ليسير عليها مُكلّلاً بالمحبة والنصر، كما يليق برسول السلام والمحبة الذي جاء ليعلّم الناسَ كيف يغفرون للمسيء وكيف يُحبّون العدوَّ من بني الإنسان وإن آذاهم، فيتضامنون معه من أجل محاربة عدو البشرية الأوحد، عدو الخير، الشيطان. ولا شكَّ عندي في أن المعرفة عدوُّ الفرح. لهذا يفرح الأطفالُ كثيرًا؛ لأنهم لا يعرفون بعدُ ما سيجلبُ لهم الشقاءَ حين يكبرون ويعرفون. لابد أن يكبرَ الأطفالُ، ولكن منهم من يتمسّك بطفولته، حتى بعدما يعرف، فيظلُّ ينهلُ من الفرح طوال حياته، ومنهم من يتخلّى عن طفولته/ نقاءه، فيتعلم ما قد يدخل به إلى باب العنصرية والفُرقة، فيفقد أكبر منح السماء للأرض: الفرح والبراءة. فلا شكَّ عندي أن أسوأ إرهابي عرفه التاريخ، وأخطر داعشي من زماننا الراهن، وأبشع صليبيّ من زمن محاكم التفتيش، وأفظع صهيونيّ يسفح دماء أطفالنا، كان في يوم من الأيام طفلا نقيًّا يملأ قلبَه الفرحُ حين يراقب عصفورًا يزور شرفتَه. لكنه، للأسف، كبُر وتعلّم كيف يقتلُ ويهرق الدماء، ثم ينظرُ إلى السماء ضارعًا، وهو يظنُّ أنه يقدّم لله قربانًا يضمن به فردوس السماء! لماذا أقول هذا الكلامَ الصعبَ يومَ عيد؟ لأنني أتذكّرُ اليومَ ذكريات طفولتي في هذا العيد، قبل أن تدخلني المعرفةُ التي علّمتني أن هذا عيدٌ إسلامي يخصّني، وذاك عيدٌ مسيحيٌّ لا يخصّني. في زمن الطفولة المصرية البريئة، كنّا نفرحُ بكل عيد، فهو عيدُ مصر لأنه عيدُ المصريين، وكفى. نحتفلُ مع المسيحيين في أعيادهم، ويحتفلون معنا في أعيادنا، فلم يكن وقتئذ ضميرا: (نا- هم)، إنما كل عيد يخصُّ مصرَ هو عيدٌ للجميع. وتلك هي اللحظةُ التي أحاولُ اليوم أن أختلسَها من طفولتي؛ لأستعيد شعوري القديم وأفرح مع أصدقائي الأقباط في عيدهم/ عيدنا. وأنا طفلة، في مثل هذه الأيام الربيعية، كنا نجمع عيدان السَّعف ونتبارى في جدلها لنصنع أشكالا جميلة نعلّقها في غرفنا أو ندسّها تحت "بنورة" مكاتبنا، حتى تجفَّ، مع الفراشات الملونة التي كنّا نصطادها من حديقة المدرسة، ونُصبّرها في ألبومات، وكم كنا قساةً في أمر الفراشات هذا! وحين كبرتُ بات الحصول على السعف صعبًا. فقد غادرتُ مدرستي الجميلة التي كان يقف عند بابها باعةُ السعف، وأصبح عليّ اللجوء إلى أصدقائي المسيحيين لكي يهدوني شيئًا منه. لكنني مازلت أشتري كل عام باقة من سنابل القمح المصري الفاتن، أعلّقها على باب شقتي. ونحن صغار، أيام الزمن الجميل، لم يكن يعنينا إن كان هذا عيدي أم عيدك! لم تدخل معاجمنا كلماتُ الفُرقة: مسلم-مسيحي. كنّا نفرح معًا ونلعب معًا ونحتفل بأعيادنا معًا؛ لأن مصرَ الطيبةَ تجمعنا معًا، وقبل هذا تجمعنا الإنسانيةُ الواسعة. العقائدُ شأنُ الله، وكنّا نتأدبُ مع الله ولا نأخذ مكانه فنُدين لكيلا نُدان. وكنّا ندرك أننا جميعًا نعبد إلهًا واحدًا، لأن لهذا الكون ربًّا واحدًا، كلٌّ يراه عبر منظوره، ففيمَ الخلاف؟! أكتبُ إليكم يوم "أحد السعف" حيث تمتلئ شوارعُ مصر بسنابل القمح وجريد النخيل. ندعو الَله أن نصطفّ جميعًا، نحن المصريين، قلبًا واحدًا وحُلمًا واحدًا ويدًا واحدة تحمل أكاليلَ السَّعف لنستقبل بها مصرَ الحرةّ الكريمة التي توشكُ أن تنهضَ من كبوتها، كما اصطفّ أهالي القدس الشريف، حاملين أغصان الزيتون والسعف لاستقبال السيد المسيح حين دخل أورشليم القديمة منتصرًا مكللاً بأوراق الغار. أصدقاؤنا المسيحيون صائمون منذ خمسة وخمسين يومًا، يرفعون أياديهم إلى السماء ضارعين بالدعاء لكي يحمي اللهُ مصرَ ونيلَ مصرَ وشعبَ مصرَ من كل شرّ، كما ندعو لها في صلواتنا وصيامنا وتهجدنا. يجمعنا حبُّ مصرَ، وتجمعنا طريقُ الآلام القاسية التي تمشي عليها مصرُ الآن في وهنٍ ووجع لكن مرفوعة الرأس، تمامًا كما سار السيد المسيح على تلك الطريق الوعرة من باب الأسباط حتى كنيسة القيامة، في مثل هذا الأسبوع من ألفي عام، حاملاً صليبَه الخشبيَّ الهائل، وحاملاً آلامه وجراحه ودماءه ورجاءه في خلاص البشر من شرور العالم، واضعًا إكليلَ الشوك على جبينه النقيّ من الدنس، يقطرُ منه الدمُ الطاهر. وحين ظمِأ، قدّم له جندُ اليهود والرومان كأسَ الخلّ كي تخفَّ آلامُه قليلا، لكنه رفض أن يحتسيه كي يتجرّع الألمَ حتى منتهاه، لقاء قوله الحقَّ في وجه سلطان جائر. ثم قام بتعزية المريمات وصبايا أورشليم المنتحبات عليه، طالبًا منهن أن يبكين على أنفسهن لا عليه، مثلما أكادُ أسمعُ مصرَ في طريق آلامها تقولُ لبناتها: "يا بنات طِيبة، لا تبكينَ عليّ، بل اِبكين على أنفسكن وأولادكنّ، فانهضن واعملن وارفعوا جميعًا رأسي.” بعد أسبوع الآلام هذا، سيحتفل إخوتي مسيحيو مصر بعيد القيامة، وسوف ندعو الله معهم أن يحتفل المصريون والعالم أجمع، بقيامة مصر العظيمة الخالدة من مواتها. لنقدّم لها سعفة نخيل ريّانة بالعمل والأمل. كل سنة وأقباط مصر مسلمين ومسيحيين بخير وفرح وأمان ومحبة، ومصر في حرية وتحضّر.
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل لحرية التعبير قيود؟
-
سفاحُ الأطفال، صائدُ العصافير
-
الحاجة صيصة وذقن حتشبسوت
-
طلّعى الكمبيالة يا حكومة!
-
أيتها المرأةُ الملعونة، أين عضلاتُ فخذيك؟
-
مصرُ أينما جُلتَ
-
الرئيس.. والأم
-
شكرا ونكتفي بهذا القدر
-
أمي -الملاك-... التي لم تنجبني
-
شارعُنا
-
هل تذكرون لوزة وتختخ؟
-
مفتاحُ الحياة في يدِ مصر
-
لأنها مصرُ، احتشد العالم
-
قطط الشوارع
-
مصرُ على بوابة الأمل
-
لو كان بمصر هندوس!
-
زوجة رجل مهم
-
قُل: داعش، ولا تقل: ISIS
-
ماذا قال السلفُ القديم
-
العالمُ يفقدُ ذاكرتَه
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|