را م الله ـ فلسطين المحتلة
(1)
مرّ عيد الفطر هذا العام حزينا كئيبا على شعبنا في الوطن المحتل. ولم ينتصب رئيسنا متلهفا للصلاة في المسجد الاقصى بل اكتفى باداء صلاة العيد في مقره في رام الله المحتلة. ولم تقم الدنيا أنذك أو بسبب ذلك ولم تقعد. ولم يتصدر الخبر صحف وفضائيات العالم العربي ولا الغربي. وهل هناك من سبب كي يعير الشمال هذا الشأن اهتمامه طالما انه عيد للمسلمين والملونين والفقراء في الجنوب؟
(2)
ولم تمض ايام قليلة ـ وربما اسعفنا حسن الحظ هذه المرة حيث بقي الحدث في نطاق الذاكرة الجمعية مما وفر علينا جهد الشرح وشحذ الذاكرة ـ لم تمضِ ايام قليلة حتى اعادت القوات الصهيونية احتلال بيت لحم وسارعت الى الاعلان بدون مواربة بانها ـ وللعام الثاني على التوالي ـ لن تسمح للرئيس الفلسطيني بالسفر الى بيت لحم المحتلة للمشاركة في اداء الشعائر الدينية في عيد ميلاد المسيح. فما كان من الزعيم، بعد ان حاول استدرار "عطف العالم" ، ان اقام تلك الاحتفالات في مقره في برام الله.
(3)
ولكن لماذا يصر الرئيس عرفات على الاحتفال بعيد ميلاد المسيح؟ ولماذا يصر على الذهاب الى بيت لحم المحتلة؟
لماذا يصرالرجل ذو الخلفية الدينية التي يقول اهل الالمام بسيرته الذاتية انها تعود الى مفاهيم الاخوان المسلمين، على الاحتفال بميلاد المسيح؟
بل لعل السؤال الاكثر اغراء واثارة: لماذا ترفض اسرائيل السماح له بالسفر الى بيت لحم في هذه المناسبة؟
هل لأنه ما زال يعيش الكذبة التي اختلقها يوم 15 نوفمبر 1988 بانه "رئيس دولة" وبالتالي يصبح من ضمن صلاحياته ومسؤولياته تجاه رعيته ان يتفقد اوضاع المسيحيين من ابناء الشعب في الارض المحتلة ويهنئهم بعيدهم؟ ربما.
الاّ أن شعبنا قد ادرك منذ امد انه لا وجود لا لهذه الدولة او لتلك السلطة الاّ في مخيلة اصحابها وان اختلاق الكذبة كان لنية اخرى في الحسبان: اعلان الولاء للسلطان حيث تضمّن "اعلان الدولة" توبة، لا رجعة فيها، عن "العنف" وانصياعا تاما لمشيئة السيد اليانكي.
أما هذا السلطان فما كان منه، وبحكم الذهنيه العلمية التي تحكم افعاله، الاّ ان اخذ هذا العهد بالتخلي عن "العنف" مأخذ الجد متابعا المسيرة الى ان مهر المفاوض الفلسطيني اتفاقية "تلك الدولة" بتوقيعه يوم 13 أيلول 1993. أما ما جرى بعد ذلك وما آلت اليه دولة الرئيس فهو لدى علم الملأ.
لماذ يصر عرفات على الصلاة في بيت لحم يوم عيد الميلاد؟ ربما لانه رئيس انتخب عام 1996 من خلال انتخابات نزيهة تمت تحت "سيف الاحتلال" ومضى على انتهاء مفعولها عام 1999 أكثر من فترة العمل بها؟
هل تكمن الاسباب في الاستمرار في "لعبه" التوازن الديني والطائفي الموروث عن سياسة الاستعمار البريطاني المسمى "نفاقاً" الانتداب، والتي اوقع فيها، منذ ان تولى قيادة م.ت.ف عام 1968، الكثيرين من اصحاب النية الحسنة من أبناء شعبنا، مسيحيين ومسلمين لا فرق، ذلك التوازن والتسامح اللذان لم يحدث أن اختلا في المجمتع العربي الفلسطيني؟
أم ربما لان عيون الرئيس الفلسطيني لا تنظر كما لا تأبه ب"المحلي" بل هي متجهة دوما نحو الغرب ـ الرأسمالي ـ الامبريالي المسيحي؟ ونحو افتعال قصة يحسب انها تروق لآذان الغرب قد يستدر من خلالها ولو القليل من العطف أو التعاطف؟
هل يعقل ان رئيسنا ما زال يراوده الأمل بان هناك في ذلك الغرب، الاّ فيما ندر وشح، من يأبه به وبنا؟ أوبقضيتنا وبآلام شعبنا ومعاناة اهلنا ودموع امهاتنا والبسمة التي غابت منذ سنوات عن وجوه اطالفنا ولم تعد بعد؟ ومع الاحترام الذي لا يشوبه ادنى شك، هل هناك في الغرب من يأبه ببلادنا وبديارها المقدسة المسيحية والاسلامية؟
أي هل هناك في ذاك الغرب من يأبه ـ الاّ بقدر ومقياس المصلحة ـ أو من يتلوى ألما لقرون من الدموع التي ذرفتها شعوب المحيط في العالم الثالت والرابع؟
هل يعقل ان تنطلي مثل هذه الخزعبلات على شعبنا وزعيمه؟ هل فات الرئيس ان انظمة الغرب الراسمالي تلك هي التي ادارت ظهرها لشعوب الجنوب وولت تاركة بلادنا فريسة للفقر والبؤس والجوع وحبيسة التخلف والمديونية؟ ثم ما فتأت أن عادت من الباب الخلفي، هذه المرة من خلال وكلائها الطبقيين وشركاتها متعددة الجنسيات، لتنهب ما تبقى واعدة ابناء جلدتها "بالحفاظ على رفاهيتهم ومستوى عيشهم الكريم" الذي تنعّموا به حتى الثمالة في عهدي الاستعمار والامبريالية حين لم تدر ثروات بلادهم ما يفي بتوفير هذا المستوى من "العيش الكريم"؟
هل آن لنا ان نفهم ان الغرب الرأسمالي ـ الامبريالي، رغم تفاوت الامر بين انظمته ومؤسساته الحاكمة تبعا للحاجة والمصلحة لا لمواقف الاخلاق ولا لاعتبارات الدين والانسانية، ورغم توزيع المهام والتنوع في ادائها، أن هذا الغرب لا يرى فينا الاّ سوقا لسلعه ومرتعا لترفه وجيشا من السواعد السمراء العاملة بالأجر الرخيص؟ والاّ فلم "تحالفت" كنائسة مع مؤسساته الحاكمة منذ ما ينوف على قرنين من الزمن ثم تكالبت معها لاحقة بالركب "مؤسسات المجتمع المدني" و"اساتذة الديمقراطية الغربية" في اغتصاب بلادنا وتدمير اوطاننا ومحوهويتنا وثقافتنا...؟
هل فات الرئيس ان الصهيونية واسيادها يدركون ان شعبنا، مسيحييه قبل مسلميه، سيتسائلون لماذا هذه الخصوصية لبيت لحم دون الاقصى؟ ألم يكن حريا به ان "يناضل" من اجل اداء صلاة الفطر في المسجد الاقصى؟ هل اضحت فلسطين وقفا دينيا، سيان كان مسيحيا أو اسلاميا، نشحذ الهمم يوم العيد في حين ينزف الوطن ذبيحا وتدمي الكرامة المهدورة؟ وان كان الرئيس قد طالت عزلته في "مقاطعته" وحالت الاشهر بينه وبين الشارع، أفليس من "مستشار" يسدي له النصح بان هذه المسلكية، على ما فيها من تملق ونفاق مفضوحين، كفيلة باثارة الحفيظة الطائفية ونعرتها المقيتة لولا مدّخر الوعي الشعبي بخبث العدو وغدره مهما تعددت محاولات التموية للولوج الى البيت الفلسطيني؟
(4)
يحزننا ان تقضي بيت لحم عيد الميلاد دون "اضاءة الشجرة" التي تألقت دوما في فضائها، وتدمي قلوب امهاتنا الواتي قضين عيد الفطر بين القبور في زيارة ابنائهم الشهداء والبيوت الخاوية من فلذات اكبادهن القابيعن في سجون الاحتلال. وبين استجداء الدين وعواطفه وامتطاء الرئيس لكليهما، يظل شعبنا، بمسيحييه ومسلميه، مترفعا عن الحزن الغاضب بعدم الاحتفال بعيدي الميلاد والفطر، حيث يكون الحزن الاكبر في احتلال الوطن.
فكفانا تشويها لوعي الناس!
وكفانا تزييفا لواقع الاحتلال الجاثم على اعناقنا!
وكفانا تملقا للغرب الرأسمالي الامبريالي الذي يظل ـ شاء أم ابى وسواء ادركت شعوبه وكنائسه وكل " قوى الخير والسلام" فيه أم لم تدرك ـ ضليعا في المؤامرة أو في الصمت أو في تثبيت الاحتلال وحمايته وتمويله!
ليست هذه تراكمات لحقد دفين أو بقايا ومخلفات القرن العشرين بل هي تشخيص لواقع المؤسسة الحاكمة في الغرب وخاصة اليمين المسيحي ـ الصهيوني المتطرف في البيت الابيض الاميركي والمحتقن بالعداء والكراهية للعربي والعروبي والمسلم و"الاغيار" غيرالاوروبين البيض.
وماذا عن رئيسنا؟ هل هي الدونية للغرب في محاولة تملقه؟ أم تسخير للاحاسيس الدينية وامتطاءها؟ لعل الاجابة أو الجزء الاكبر منها تكمن في السؤال.
***********
كنعان