أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد طه حسين - ذاتنا المغتربة من منطلقات فكر اريك فروم















المزيد.....



ذاتنا المغتربة من منطلقات فكر اريك فروم


محمد طه حسين
أكاديمي وكاتب

(Mohammad Taha Hussein)


الحوار المتمدن-العدد: 4760 - 2015 / 3 / 27 - 23:00
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


ذاتنا المغتربة من منطلقات فكر اريك فروم
محمد طه حسين*
يساريته تجاه ماركس و فرويد
يعتبر فروم يسارا ماركسيا من جهة انتمائه الفلسفي و السياسي و يسارا فرويديا من جهة تبنيه منهجية التحليل النفسي في التعاطي مع سايكولوجية الفرد و المجتمع .
لا يخرج فروم ابدا عن السياق الفلسفي لماركس في تحليله لبنية المجتمع و الانظمة المجتمعية و لا يتعدى الاصول و المباني الاساسية لتطور العلاقات الاجتماعية و ثورية نظريته في تحرير الفرد من الاستلاب و الاغتراب الذي ساير معهما على امتداد التاريخ . رأى بأن ملهمه ماركس وقع في هيجانات ثورية و مطبات فكرية لم تخدم سلاسة التحولات الاجتماعية و الاقتصادية بقدر ما ابطأت خطواتها و تخبطت وجهاتها التقدمية و التي انتقدها فروم بانه من المفروض ان يعط ماركس اهمية كافية لضرورة خلق اتجاه اخلاقي جديد لدى الانسان و الذي بدونه يكون الاصلاح الاقتصادي و السياسي باطلا، و كذلك يسترسل فروم في انتقاده لماركس في كتابه المجتمع السليم بانه لم يتنبه الى احتمال قيام بربرية جديدة في شكل نظام تسلطي ينشأ عن الثورة الدموية التي يقودها العمال، و الرؤية الاخرى الناقدة لفروم عن ماركس هي عدم ضرورية اشتراكية وسائل الانتاج كشرط بل ليس شرطا كافيا لتحويل النظام الرأسمالي الى النظام الاشتراكي، و هذا ان دل على شيئ فانما يدل في رأي فروم على مغالات ماركس في التبسيط و التفائل ، هذا بالاضافة الى سوء فهم نظريته و الانتقائية في التعامل معها عند الآخرين و الأخذ فقط بما يطفو على السطح و ما تسيس لاغراض سلطوية لا غير.
المبالغة في اشتراكية وسائل الانتاج و اثرها في التحولات الاجتماعية و النفسية للطبقة العاملة و تركيزه على العامل كلاعب اساسي ضمن الحراك الاجتماعي و الاقتصادي و السياسي و حتى الثقافي أدت الى مراجعة فروم لآراءه حول كل هذه التحولات و الوقوف على العوامل الذاتية النفسية و الاجتماعية و الدور الكبير و الفاعل لهما الذي لا يقل اهميتهما عن العامل الاقتصادي و الطبقي.
و كذلك راى بان تركيز ماركس في كتاباته على الحل الاقتصادي لظاهرة الاغتراب التي تلزم العامل و تتبعه منذ الأزل و عدم اهتمامه بالحل السايكولوجي لهذه الظاهرة و عدم وضع آرائه السيكولوجية بشكل منظم و ابقائها متناثرة هنا و هناك في اعماله المختلفة هو سبب آخر في ظهور المرونة الفائقة لفكر اريك فروم و النهج الاصلاحي ذو الوجهين ( محاولات اصلاح في بنية الرؤية الماركسية للمجتمع و انقاذ ماركس من التفسيرات الساقطة عليه و التي تتهمه على انه لا يعير ايما اهتمام بالحالة الفردية للعامل او الفرد بشكل خاص، و محاولات اخرى بغرض اقتراب ماركس من التكوين النفسي للافراد و الذي يكون له دور فاعل في حركية الانتاج بشقيه الكمي و النوعي).
في كتابه (مفهوم الانسان عند ماركس) تطرق اريك فروم الى تاكيدات ماركس على اهمية الجانب النفسي للفرد في عمليات الانتاج و النظام الاقتصادي لاي مجتمع كان، و يقف على
محاولات التزييف التي تعرضت لها الماركسية منذ تجسيدها في الاطر الابستيمولوجية للفكر الانساني من خلال الأحالات و الاسقاطات المستمرة على النهج المذكور عن طريق الصحافة و القول لاريك فروم و كذلك خطب رجال السياسة و مؤلفات فلاسفة و علماء اجتماع محترفين، الا ان هؤلاء كما يشير اليهم فروم لم يكلفوا انفسهم القاء نظرة خاطفة على سطر من كتابات ماركس، بل انهم مكتفون بمعرفة النزر اليسير عنه.
يقول فروم في كتابه مفهوم الانسان عند ماركس ان تصور ماركس ل(المادية) تعرض لعملية اساءة فهم جسيمة اكثر من اي مفهوم ماركسي اخر. فمن المعتقد بشكل كبير ان ماركس يؤمن بان الدافع السايكولوجي الاعظم في الانسان هو ميله للراحة و الكسب المادي. يسترسل فروم في عرض تبريراته لانسانية الفكر الماركسي و يقول بان الناقدين لماركس اعتبروا نقد ماركس للدين مطابقا لانكاره كل القيم الروحية و قد بدا هذا الاكثر وضوحا و بروزا لاولئك الذين يدعون ان الايمان بالله هو شرط التوجه الروحاني. كل هذه التصورات التي بنيت ضد ماركس يعتبرها فروم زائفة كليا، و ان هدف ماركس في الاساس هو الانعتاق الروحي للانسان ، و تحريره من قيود الحتمية الاقتصادية لاعادة بنائه في كليته الانسانية و تمكينه من ايجاد الوحدة و التوافق مع اقرانه البشر و مع الطبيعة .
و لو ان النظرة العميقة لاول وهلة للتحليلات الماركسية للمجتمع و التكوين الطبقي و اثر هذا الاخير في التصنيفات الفئوية و التوزيعات الانتاجية من حيث اللاعدالة الاجتماعية تعطينا الانطباع بان الماركسية في كليتها الفكرية تعتمد على البعد الاقتصادي و تاخذه بجدية و ضرورة قصوى في تسيير و توجيه عجلة النمو و التطور المجتمعي ، الى ان تبريرات و ترقيعات و تجميلات فروم للتوجه الماركسي هي اكثر مراوغة و عمقا حتى من ماركس حيث يعتبر ان الاستراتيجية الفكرية له هي بناء الانسان من جديد بعد ما خربه و هدمه الانظمة الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية السائدة طوال المراحل التاريخية التي مر بها الانسان منذ ظهوره. و هذا أعتبره انا ككاتب لهذه الاسطر محاولات لسد الثغرات التي لم يكن باستطاعة ماركس ان يسدها حينها و التي يتنفس من خلالها النقاد و الخصوم كي ينتقصوا من شأن الباع الفلسفي له، و كذلك محاولات قد تدخل في دائرة الرأسمالية العالمية و التي تكن لها اريك فروم عداء شرسا حيث يعتبرها بانها هي القدرة الشهوانية اللاعاقلة التي تحاول ان تغترب البشرية او بالاحرى تبقيها في حالة الغيبوبة الكاملة عن ذاتها بحيث لن تكون سوى آلات لتسيير امور الراسمال المتأله على حياة الافراد في مجتمعاتهم.
و الانحراف الفرومي عن الخط الفرويدي لم يكن سوى رؤيته بان معلمه و ملهمه الثاني(فرويد) راى الامور بالعيون الحتمية و هذا هو ما جعل منه بأن يلجأ ثانية الى العوامل الذاتية و الاجتماعية في تكوين الذات و الشخصية الانسانية، على الرغم من اعتباره لفرويد بانه لا يقل اهمية من اي فيلسوف من فلاسفة الانوار ولكن لم يكن مرنا تجاهه مثل ما كان التزم به تجاه كارل ماركس من المرونة و التلمذة. اعتقد فروم بان الحتمية الجنسية و الغريزية التي تبناها فرويد في تحليل الشخصية و الوصول عن طريقها الى المنطلقات البدئية شوش عقول العصر(اصحاب الرؤى الاخرى) و فتح عنه ثغرات كثيرة هبت منها عواصف لم تهدأ لحد يومنا هذا.
لم يحاول اريك فروم تجميل و ترقيع الفكر الفرويدي مثل ما عهد ان يفي به ازاء ماركس، و هذا على الرغم من العمق و الدقة الفائقة التي يمتاز بها عقل فرويد حيث كان فرويد اعمق من ماركس في رؤيته لدقائق البنية الانسانية و كليتها عندما يراها فردا امامه يتصرف و يسلك و يفكر و ينحو مناحي مختلفة في المحيط.
العمق الفرويدي ايضا كان على فروم ان يغور فيه و يحلله مثلما صاغ اطرا سايكولوجيا معقولا للمفاهيم النفسية التي التجأ اليها ماركس و استخدمها في تحليله للحالات المغتربة التي تبتلي بها شخصية الفرد العامل، على الرغم من عدم ذكر ماركس نهائيا منهجا نفسيا للتصدي من خلاله للحالات البائسة للافراد.
تركيز فرويد على الجنس لم يكن سطحيا الى هذا الحد نرى من خلاله فقط حالة التقارب الجسدي بين الجنسين و ممارستهما لفعل بايولوجي مدفوع بميول آنية قوية و تحولات هرمونية داخلية صوب اعادة التوازن لحالة توتر وقع فيها الفرد، بقدر ما هو الجنس محركا اساسيا للبناء و النمو المستمر سواء على الصعيد الفردي و الذي نلتمسه في الذات الفردية او على الصعيد المجتمعي و الذي نشعر به في الذات الجمعية.
الجنس عند فرويد هو الحياة بحد ذاتها و الحياة التي نحياها نحن البشر موزعة على فضاءات و مجالات عدة كالحياة الاجتماعية و النفسية و السياسية و الاقتصادية و الثقافية و البيئية و......الخ، بمعنى ان الحياة في كل من هذه الفضاءات بحاجة الى دافعية حيوية كي نبني و نستمر في الوجود و نخلد من خلال الميراث الحضاري الذي تراكم بفعل تضحيات البشر مثلما يؤكده لنا ليونيك تريلينك و هربرت ماركوز كفرويديين جدد و يساريين بأن اعظم انجاز حققه فرويد هو انه ذكرنا بالثمن الباهظ الذي دفعناه مقابل حضارتنا. الثمن المضحى و المقدم هو الطاقة الهائلة المنتجة جنسيا و التي هي لا تضاهيها ميل او رغبة او غريزة اخرى قد يستثمرها الانسان في بناء نفسه و محيطه كي يتكامل من خلال التوظيفات تلك ثنائية الذات و الموضوع و التي تتجلى من اثرها الوجود الفاعل الهيغلي و من ثم التوجه بالمتعاليات و التسامي الليبيدي الى العلو لغرض تحقيق ذاته و الابداع الحضاري. هذا هو الجنس بالمعنى الفرويدي والذي كان على فروم ان يفي به لمعلمه كون سيكموند فرويد لاجل بناء فكره الثاقب غار في اعماق الميثولوجيا و الاديان و التاريخ و كذلك الفلسفة و الادب و هذا هو ما اعطاه روح التباهي بنفسه و رؤيته بانه لم يأتيه هكذا بسهولة و بمجرد سفرات و نزهات فكرية في ثنايا بعض الكتب و المراجع.
دعى فرويد الى التعقل و الاخذ بمبدأ العقلانية من خلال التوازن بين التجاذبات الغريزية و الاجتماعية و نجح في ايجاد الخريطة الادراكية لكل من هذه القوى عند الفرد حال احساسه بالاثارة و وقوعه تحت تنبيهاتها. عقلنة الغرائز اوجدت التنظيم و العلائقية في تسيير الامور في شتى المجالات و فرويد هو الذي نادى الى الالتزام بالاسس التي بنيت عليها المدنية و الحيات المؤسساتية كون التطرف في الملذات قد يغرينا و يغيبنا عن الانشطة الابداعية. هذا هو فرويد العقلاني ولكن اريك فروم وجه له انتقادات أنا اعتبرها غير دقيقة على الرغم من اعجابى الشديد بعبقرية فروم و معالجاته المتعددة الاوجه لمشاكل الفرد و المجتمع، احدى هذه الانتقادات اعتبار فرويد (الفرد) الانساني بأنه شرير بالفطرة و لكن المجتمع ينظمه على الطريقة الروسوية (و التشبيه لي) ، الجذر الغريزي و الجنسي للسلوك عند فرويد فسره الكثير من النفسانيين على انه يتجه بالفرد نحو العبثية و التخبط الاجتماعي و لكن التحليل الفرويدي اكثر دقة من ان توصف بهذه السهولة كون النظرة الفرويدية للطبيعة البشرية اقرب الى النظرة الداريونية للتطور النوعي و النزعتين الخير و الشر عنده قد تظهران وفق المواقف التي يصادفها الفرد لا حسب التحديدات المسبقة، فالغور الى الاعماق النفسية كلف فرويد جهدا ما فوق طبيعية حيث قلب طبقات الفكر الميثولوجي و التأريخي و الفلسفي و الديني كي يصل الى المراحل البدائية للبنيان العقلي للبشر بغية الكشف عن الاسرار اللاشعورية سواء في كل التاريخ البشري او التأريخ الفرداني كحالات خاصة للمرضى التي يشرف على معالجاتهم.
فروم بقى الى آخر ايامه ماركسيا اجتماعيا و اضاف الى الماركسية الكثير و تعمق فيها ليجد في ثناياها الروح و الروحانية الانسانية من خلال ابراز الداخل الانساني و ما يحركه من شعور و ادراكات صوب العالم الفاضل و الحياة الاكثر مستقرة. و لكن راى بان الماركسية تأزمت بفعل الجوانب التي اشار اليها فروم في انتقاداته لها و الازمة طالت الى ان فقدت الماركسية كثيرا من الحظوظ للاستمرارية ، انضمامه الى جانب زملائه الفلاسفة في مدرسة فرانكفورت للفلسفة الاجتماعية خطوة استراتيجية بغرض بذل الجهود اللازمة صوب تصحيح المسار التي حرفه و اعوجه بعض المفسرين الذي اشار الى محاولاتهم في كتابه مفهوم الانسان عند ماركس.
تركيز فروم على الاغتراب
التمس فروم من ماركس خلال مراجعته لمخطوطاته الاقتصادية و الفلسفية بان المساحة الاكبر منها خصصه لاغتراب العامل عن عمله و هذا ما يؤدي به الى سلب حريته في الاختيار و جعله كائنا آليا لا يسير وفق هواه قدر ما تحركه الآلة الاقتصادية المنتجة لراس المال الطاغي على المشاعر و النزعات الانسانية .
من المؤكد ان ماركس هو الذي دفع فروم الى الغور في اعماق النفس كون الحالة الحياتية التي يعيشها الفرد تحت الظروف القاسية للعمل في الميتروبولات الجديدة و المكائن التي تتحرك فقط للفوائض اللاروحية و لا تعير ايما اهتمام بالداخل الانساني سواء هذا الانسان ان كان عاملا او فردا مستهلكا للناتج الاقتصادي في تلك الفابريقات. و بهذا اتخذ لنفسه منهجا و نظرية نفسية سايكواجتماعية اقرب الى الواقع المعاش و مستلهما تفاصيلها في المنظومة القيمية التي انتجها الظروف الاقتصادية الجديدة كأي منتجات مادية اخرى.
رأى فروم بأن الحالة اللاواعية التي يعيشها الفرد و المجتمع على وجه العموم نمت بفعل الغياب الازلي للنوع الانساني عن ذاته و عدم احساسه و كذلك شعوره بأنه عليه ان يعيش حرا و يمارس طاقاته و يترجمها الى الواقع العيني كون الاستعدادات و القدرات و الامكانيات التي بحوزة الفرد الانساني عندما يولد لا يمكن ان نتغاضى عنها و نجهلها ، بل اننا جئنا الى العالم لكي نعيش وفقا لطاقاتنا و مدركاتنا و حاجاتنا و نعطي الحق الفيزيوحياتي لكل البشر الآخرين ان يكونوا انفسهم و يبنوا ذواتهم.
بناء الذات من وجهة النظر الفرومية تعرض للتشوهات التأريخية الاجتماعية و لهذا على الانسان الجديد ان يراجع ذاته و الذات الجمعية كي يثبت خطواته من جديد على المعمورة و يحتل الصدارة من بين الاشياء كفرد حر و هو الذي يتصرف بالأشياء كمواضيع خارجة عنه و ذلك لاستكمال معادلة الذات و الموضوع التي تأثر بها من خلال اعجابه بكل من كارل ماركس و كذلك هيغل.
الذات التي دفعت بفروم كي ينقذها ليست ملك نفسها و ليست داخل البنية الوجودية لها، هي بقت و لحد التنوير حائرة لا تعرف من هي و لا تجرأ النطق بفاعليتها و حقها بأن تكون موجودا بالفعل مثل ما يؤكد عليها هيغل، تلك الذات غادرت نفسها و قررت ان تسلم كينونتها للقوى القابعة في الخارج، هي تعتقد بأن القوى هذه هي المحورية في تحريكها و تحريك ما حولها. و لهذه الاسباب بحثت الذات الاسيرة الازلية تلك عن اسهل طريقة للحصول على الامان الا و هي الاستسلام كي تحصل على الراحة و تخلص نفسها من عبأ البحث عن وجودها الفاعل. لا يربط اريك فروم مفهوم الاغتراب فقط بالدائرة الضيقة التي ربطه بها ماركس و هي دائرة الاغتراب الصناعي التي تتولد منها الحالات الاغترابية الاخرى ، بل يرى فروم بأن الاغتراب البشري بدأ عندما انفصل الذات المثالية عن رحم الطبيعة الميتافيزيقية و ذلك بسبب الأثم الذي ارتكبه الوالد البدئي (آدم) و هو تجاوزه للحدود الذي وضع له الخالق و اكله من ثمرة شجرة المعرفة. هذه المقاربة الميثولوجية التي بدأ بها فروم هي فقط اشارة و توظيف رمزي و استعاري لأزلية و قدم حالة الغربة و الحيرة لا غير . و انه يعتقد بأن بقاءه (الفرد) منذ ذلك الزمان و لحد الآن هو تأملات و تخيلات يوتوبية لأجل دفع الاثم عليه كي يحصل مرة اخرى على النعمة الآدنية(اشارة الى جنة عدن) التي كان الوالد ضربها عرض الحائط و حاول و لمرة واحدة في التاريخ بان يقول لمصدر الخلق (لا) الذي يعتبره فروم اول لفظة تعبر عن الالتجاء للعقل و رفض الوصاية على وجوده. هذا التوظيف للرموز الميثولوجية يعطينا القناعة بان العامل الذاتي المنبعث في العمق الداخلي للفرد له الدور المماثل بل الاقوى في التغييرات التي تحصل على الشخصية بصورة عامة.
ما هو تعريف الاغتراب لدى فروم
في كتابه القيم (المجتمع السوي) يعرف فروم الاغتراب بأنه نمط الخبرة الذي خبر به الشخص انه غريب . و يمكن للمرء ان يقول انه صار متغربا عن نفسه، انه لا يخبر نفسه على انه مركز عالمه و خالق افعاله، بل ان اعماله و نتاجاته تعود الى المراكز التي يخضع لها خارجه.
الغريب هو الذي ينفصل عن نفسه و ذاته الانسانية و يخضع للمجهول، ينقطع عن مسؤلياته الحقيقية، يستسلم للقوى الخارجة عنه. انعكس حالة الغربة تلك في كثير من الآثار الانسانية المتجسدة ضمن النصوص الميثولوجية و الدينية و التراثية و كذلك تجسدت بصورة اوضح في البعد الحضاري و المادي للتأريخ الانساني و المتمثلة في التراث و الارث الحضاري للبشرية. الواقع النفسي و الاجتماعي الممتد من تلك الفتوحات الغيبية لعقول البشر على اختلاف تصنيفاتهم من حيث الثقافات المتنوعة جعل من الفرد يستمر في الصنمية و الاطاعة المازوخية للايقونات التي ظلت و الى الآن لا يفهمها و السر الكامن للاستسلام و الخضوع الظاهر من الذوات الانسانية على اختلاف مجتمعاتهم هو مشكلة (الفهم) للقوة الكامنة من ورائها و عدم اطلاق العنان للقليل من العقل كي يغور في التفاصيل بحثا عن اجوبة الاسئلة التي لا تدعوها ساكن البال و الروح.
هذه هي الغربة التي فهمها فروم و هذا هو الاغتراب الذي وجد فيه فيلسوفنا الاسباب المرضية لبقاء الانسان طيلة عشرات الآلاف من السنين غائبا عن ذاته و يبقى الى ما يقارب القرنين السابقين على وتيرة و نهج مشابه في التفكير. اختزل الانسان تفكيره طيلة تاريخه في تبديل الايقونات و الرموز التي تسد ظمأه و عطشه حيث لم يكن يطلب ابدا اكثر من ما يهدأ توتره من كثرة حيرته حيال التحولات و الظواهر التي تصادفه من الرموز التي اسقط عليهم ما يتخيلها من الآمال و السيناريوهات المتأملة فيها.
الذات الاصيلة و الذات المزيفة عند فروم
يشير الدكتور حسن محمد حسن حماد(1995) في كتاب له حول الاغتراب عند فروم الى التصنيف التي تبناه فروم للذات الاصيلة و الزائفة بهذا الشكل و الذي نحن نسترسل في توضيحه:
أ‌- الذات الاصيلة :- ذات غير قابلة للتكرار و يتسم صاحبها بأنه شخص مفكر ، قادر على الحب و الاحساس، و مبدع لما يقوم به من افعال.
الذات الاصيلة على هذا النحو يتضمن عدة مفاهيم بل عناصر و هي:- التفرد و العقل و الحب و الابداع
• التفرد:- هو ابرز ما يميز الكائن البشري حيث يستطيع الفرد بواسطته ان يقول (أنا) و الذي يكون مدركا لنفسه كوحدة مستقلة و متميزة عن الآخرين ، الانسان هو الكائن الوحيد القادر على الانفصال و على الاحساس بمعنى الهوية لأنه ينفرد بالعقل و الخيال ، و يقتضي هذا التفرد التحرر الكامل كونه هو مركز الحياة.
ادراك الأنا عند الفرد عملية عقلية راقية يجعل الفرد متفحصا مكنوناته الداخلية و محركاته التي تدفعه صوب الاهداف التي يرسمه. و كذلك يغور في الاعماق لكي يجد نفسه و يتعرف على ذاته و من هنا يحس و يشعر باستقلاليته و حريته في التفكير الذي يتفرد به هو فقط و لا احد غيره يعرف ما يدور في الخارطة الادراكية له عندما يتجرد في العملية العقلية المعقدة هذه.
• العقل:- يقول اريك فروم في كتابه المجتمع السوي بأن (العقل) هو قدرة الانسان على ادراك العالم بالفكر. بمعنى الفرد لا يكتمل عقلانيته الا اذا تجاوز مبدأ ادراك الذات و تحول الى ادراك العالم المحيط و لكن بواسطة عملية التفكير التي هي بالاساس عملية عقلية عليا لا تأتي هكذا دون ان يكون هناك ذاتا فاعلة و واعية و نشطة تجد من منطلقاتها اشياء و موجوداتا خارجها لتحولها الى مواضيع و معطيات للنشاط العقلي و بعد ذلك للهموم الحياتية التي تأتيها نتيجة بحثها الدوؤب عن الجديد و النافع.
العقل كما يؤكد عليه فروم يهدف الى القيم و لهذا يفترض التفرد و وجوده على نحو اصيل ( فلا يمكن ان أفكر الا اذا كنت موجودا و لم افقد فرديتي في المجهول اي في الحشد). هناك تقارب بين فروم و بين الكوجيتو الديكارتي الذي يشرط الوجود بالتفكير كون الفكر هو الذي يقرر ما اذا كان الفرد موجودا داخل ذاته و نفسه أم خارجا عنهما في المجهول و الغياهب و هو يبحث عن كل شيئ الا ذاته. التفكير الاصيل كما يراه فروم هو الذي ينبع داخل الانسان و يكون نتاجا لنشاطه الخاص به. هذا النشاط للذات الاصيلة له جذور هيغلية و ماركسية حيث الاثنين يؤكدان على الفعالية الذاتية و العمل كون العمل يملأ وجود الفرد و يجعله ان يشعر بفعاليته و تأثيره في ماحوله و الآخرين من الافراد.
• الحب :- لا ينفصل الحب عند فروم عن الحب، فان كليهما وجهان مختلفان فهم العالم ، يتسائل فروم في السطر الاول من كتابه (فن الحب) ما يلي:- هل الحب فن؟ اذا يقتضي معرفة و بذل جهد. أم هل الحب احساس باعث على اللذة و ان ممارسة هذا الاحساس مسألة ترجع الى الصدفة و انه شيئ يقع الانسان فيه ان كان محظوظا؟ فروم يأخذ الفرضية الاولى على الرغم من تصوره و قناعته بان غالبية الناس دون شك يؤمنون اليوم بالفرضية الثانية.
مادام فروم يختار فرضية الحب فن اذن يقر بان الحالة هذه هي انسانية بامتياز و يراد لها بذل الجهود المتنوعة لأجل الحصول عليها و تبنيها كآلية بين البشر تنشط الحيوية العقلية لديهم و تظهر لهم حريتهم في الاختيار لموضوع الحب. فنية الحب لا تخرج عن اطار العقل و التفكير كون مادام الحب يجد مكانته الراقية الحرة و الاستقلالية في الاتحاد مع المحبوب اذن نحن في ممارستها لا نقع في هاوية اللامعنى التي نضيع فيها كرامتنا و كينونتنا اثر الذوبان الذهاني في الآخر انطلاقا من سايكولوجية المازوخية و الصنمية التي يلجأ اليها الفرد آملا في ان يحصل على الأمان السلبي الذي يحفظه من زحمة التفكير و التنبؤ و التأمل.
يرى فروم في كتابه عن الحب بان اية نظرية عن الحب يجب ان تبدأ بنظرية عن الانسان، او عن وجوده. فأية تجربة انسانية لا تكتمل الا عن طريق الحب ، و لكن اي حب يا ترى ؟ الحب الذي يختاره اريك فروم و يتبناه هو الحب الذي نشعر من خلاله بالاستقلالية حيال الآخر و الاتحاد معه ككيانين مستقلين ينقصهما اكسير الحياة اي الحب كي تستمر الانسانية دون الانحدار صوب المجهول و العدوانية و الموت.
• الابداع :- الابداع هو القدرة على الخلق و تجاوز المألوف و الدور السلبي للانسان باتجاه ممارسة دوره الايجابي ، بمعنى اوضح ان الانسان عن طريق التفكير الابداعي يتحول من موقعه السلبي كمخلوق الى موقع اعلى و هو الخالق . و النشاط الخلاق هو النشاط الذي يعبر عن ارادة و حرية الانسان . في الحالة الابداعية يمارس الفرد انواع و مظاهر متعددة تعبر كل منها على العقلية الابداعية كالطلاقة في التفكير و التي يستطيع الفرد بواسطتها ان يجد بدائل كثيرة لاختياراته و اسئلته التي تواجهها و المرونة كمظهر آخر للابداع تساعد الفرد على تلائم تفكيره مع المواقف المختلفة التي تصادفه و ايجاد اكثر من جواب لسؤال أو مشكلة واحدة و المظهر الثالث الاصالة التي هي المظهر الاقوى للابداع حيث الناتج الابداعي لا تجده في السابق عند اي شخص آخر و بهذا يكون الفرد باستخدامه واحدة من هذه القدرات يعتبر مبدعا و لكن قد لا تجد الناتج الابداعي و لا الفرد المبدع الا اذا توافرت الفضاء الحر للحركة العقلانية و العلاقات الحميمة في الوسط و التفرد الذي يجب ان يمتاز به الافراد على اختلاف ميولهم و رغباتهم و كذلك اصولهم.
هذه هي العناصر الاربعة التي يجب ان تتميز بها الفرد الحر أو الذات الاصيلة، فالعناصر هذه تتناغم مع بعضها ضمن دايناميكية عقلية تنتج من خلالها الفرد فكرا او عملا هو بالدرجة الاساسية يكون صاحبها و خالقها.
ب – الذات الزائفة : - هي التي تنفصل عن نفسها و تتجه نحو خارجها على اختلاف مسمياتها، و بذلك تخسر الاستقلالية و الحرية في العمليات العقلية و السلوكات الفردانية. يرى فروم بأن الزيف في الذات متأصل في البنية الوجودية لها و ان الاستلاب الذي صار من السماة الاساسية للفرد الغائب عن نفسه تأطر في اطر ميتولوجية و دينية و اقتصادية و سياسية و في الاخير تقولب ضمن اطار الثقافة و هي بدورها تجد واجبا اخلاقيا لها ان تنقلها بواسطة عملية التنشئة الاجتماعية من جيل الى جيل. الفرد المستلب او الذات الزائفة تجد نفسها امتدادا للآخرين من خلال اذلالهم و استعبادهم لها و هذا عكس الفرد المتسلط السادي الذي يرى فروم بان الآخرين هم امتداد له.

الأسس الميثولوجية للأغتراب في فكر اريك فروم
ينطلق اريك فروم في كتابه التحليل النفسي و الدين من الانسان او بالاحرى من الذات الانسانية الى الاعلى و الاخفى منها ، بمعنى انه يحاول ان يستكشف الماورائيات التي أسرت و طوقت الذات البشرية بدل ان يقوم بمحاولات استكشاف و تحقيق حول وجود او عدم وجود القوى المحركة للكون و الطبيعة. ان فروم معتقد تمام الاعتقاد بان الذات الانسانية خسرت نفسها من اول مواجهة مع هذه القوى و لم تستطع حتى ايام التنوير ان تستعيد حريتها و انفاسها كي يفهم وجودها و مكنوناتها من القوة في التفكير و التعقل.
المواجهة التي يرى فروم الذات فيها خاسرة هي مع الخالق (الله) عندما سمح لآدم في جنات عدن (آدن) ان يتصرف كما يحلو له و يأكل و يشرب من مياهها و ثمراتها و......الخ، الا التقرب من شجرة المعرفة. بمعنى حدد له المسموحات التي لا تنتهي و الممنوع و هو فقط شيئ واحد، في المساحة اللامتناهية للمسموحات رأى الأب آدم نفسه داخل رحم الطبيعة البالغة المثالية حيث يأتيه عن طريق حبل السرة لهذه الطبيعة كل ما يهوى و يرغب و بذلك لم يسكن خاطره بوجود شيئ ممنوع و هو لا يستطيع التقرب منه و لا يعتبر نفسه انسانا متكاملا كونه لا يأتيه الاشياء من خلال تحرياته و جهوده و حيث راى وجوده متكلا تمام الاتكال على الغير و لهذا السبب اشتاق للممنوع و دخل دائرة القدر الالهي و ارتكب المعصية الكبرى و هي (العصيان عن وصية الخالق الاولى).
ادرج اريك فروم اقتباسه الميتولوجي حول قرار العصيان الاول و النطق الاول ل(لا) في التاريخ الانساني في رايه ضمن رسالة له بعنوان – الخرق كمسألة نفسية و اخلاقية- وجهه مع مجموعة من كبار اهل الفكر و العلم الى ذوي السلطة و النفوذ في مراكز القرار العالمي احتجاجا على صناعة و انتشار الاسلحة النووية و المخاطر التي تواجه مستقبل البشرية، الفلاسفة هم (كونتر اندرسن- مارتن بوبر – دانيلو دورسي – برتراند رسل – البرت شوايتزر – فردريك فون وايتزكر) نشر المقال سنة 1963 في دار نشر Jonathan Cape LONDON تحت عنوان Amatter Of Life . يشير فروم في مقاله ان الملوك و اصحاب السلطة و القادة الدينيين و المذهبيين و الاقطاعين و اهل الصناعة و من ثم الوالدين نصحونا و ينصحوننا الآن بأن الانصياع فضيلة و الخرق و العصيان رذيلة ، يبدأ فروم رسالته بعبارة : يبدأ التاريخ البشري بالعصيان و لا يستبعد ان ينتهي هذا التاريخ بنفس الموقف. اذ يوظف اريك فروم هذه الرموز الاسطورية من خلال حكاية توراتية و التي تشير الى حالة العصيان التي ارتكبها الاب الاول للبشرية (آدم).
{ عندما كانو آدم و حواء في جنة عدن اضحوا جزءا من الطبيعة و اتحدوا بها و المعنى الوحيد في حياتهم هو بقائهم متحدين بالطبيعة ، حياتهم في هذه الجنة كانت تشبه حياة الجنين في رحم امه، هم كانوا انسانان مرتبطان بهذا الرحم و لكن لم يصلوا الى الحالة المتكاملة للانسان . بدأت حياتهم كانسان عندما عاصوا امر الخالق و قطعوا حبل السرة بالطبيعة المثالية تلك، و انفصلوا منها و خطو اول خطوة باتجاه الاستقلال و الحرية. هذه المعصية بحق امر الخالق فتح اعين آدم و الحواء على السواء و اطلقت حريتهم ، هم رأوا بانهم الى اللحظة هذه كانوا غرباء عن انفسهم بل كانوا اعداء لها. اعطى المعصية تلك لهم فرديتهم و لم يكن هذا الاثم سببا اساسيا لفساد الانسان بقدر ما ابدعت لهم حريتهم و كذلك البدء بصناعة ذواتهم . ترك الجنة كانت بمثابة البدء بالاعتماد على العقل و النفس كي يصل الى انسانيته}.
توظيف الحكاية الدينية التوراتية و التي جائت في الكتب المقدسة الاخرى ايضا هو لغرض اعطائنا الصورة الاهم للاستقلالية و الحرية الذاتية التي اسست على التفكير و القرار الفرداني و الذي يعتبره فروم بالاصالة في الذات ، و البقاء في الاسر ضمن مخططات شهوية و بايولوجية و سلوكية اغترابا لهذه الذات. يعود اريك فروم الى الاستراتيجيات النبوئية التي ناضلوا من اجلها و يقول في مقاله : ان الانبياء قد دعموا التوجه الانساني و هم الذين اكدوا على انسانية الانسان و التاريخ يبدأ حينما يكون الفرد الانساني انسانيا ، هم يقولون ان الانسان في حركية التاريخ استفادوا من قوتي العقل و العشق الكامنة في داخلهم حيث يستكمل بهما وجوده و يربطون بواسطتهما علاقة جديدة بالطبيعة و بالاناس الآخرين، هذا المشهد الجديد في السيناريو الانساني يسميه الانسان بالحقبة الاخيرة في الزمن الانساني كون يستعيد البشر حرياتهم و امنهم المسلوب طوال تاريخ الذيلية و المسلوبية التي عايشتها من قبل. هو اي الانسان الجديد يبني بدعم العقل جنة جديدة يكون فيها الفرد حرا و معتمدا على نفسه و قرارات عقله الخالص.
نستنتج هنا في الاستعارة الفرومية بان قول (لا) لن يأتي هكذا دون الرجوع الى التفكير و العقلانية و ان الانسان بواسطة القول هذا يكون مركزا لنفسه و لقراراته و وجوده و ان كينونته لن تخرج عنه من الآن فصاعدا و انه يتبع التفكير باللغة الثانية اي النقد كي يصل الى ثنايا و اغوار الاشياء. و في هذا المنوال يستنير فروم بفكر الفلاسفة و المفكرين الذين انتهجوا منهج الشك و قادرون على ان يطبقوا فكرة (حاول الى ان تعرف) المحاولة هي التي تأتيك اليقين و الحقيقة و المدعمة لتشغيل التفكير و العقل.
و في استعارة اخرى لحكاية الارنب لبوذا يعلمنا فروم ان الانقياد الاعمى وراء الآخرين و الركض ورائهم قد يغويك عن عقلك و وعيك و يغيبك عن ذاتك الاصيلة و يتجه بالذات نحو المجهول و في النهاية يسلبك ارادتك لخدمة مراكز اخرى للقوة و القرار. في الحكاية، الارنب ينام تحت شجرة المنكة لا يطول عليه النوم حيث يسقط منكة بجانب الارنب ، يرتبك الارنب و يركض مهرعا يراه الارانب الاخرى و يسئلون عن الهرع هذا ينبئونهم بان العالم قد حان نهايته ، يركضون ورائهم و من ثم يراهم الأيل و يسئلون و بعد ان يقولو لهم بان العالم حان نهايته يهرعون ، المملكة الحيوانية كلها تهرع و تركض الى ان يراهم بوذا و يسأل نفس السؤال و سرعان ما يقفهم عند حدهم و يبدأ بالتقصي في جذور المشكلة ، الى ان يصل الى العلة الاولى و هي النوم تحت شجرة المنكة ، تنبأ بوذا ان الحالة الهرعة جائته عند النوم و من اثر سقوط فاكهة المنكة بجانبه و التي تسبب خوفا شديدا توقع من جراءه خراب و دمار العالم .
الاستعارة هذه يساعد فروم على تقوية تصوراته حول البوذية و التي يرى بانها الاكثر عقلانية من جميع الاديان الاخرى و ذلك بالاعتماد على السببية في الحصول على الحقائق.
الحكايتين الميتولوجيتين الدينيتين و الكثير من الميتولوجييات الاخرى يستنتج من خلالهما فروم مدى مسلوبية الفرد عندما يسلم ذاته للقوى الغيبية و المجهولة و القوى الاجتماعية و الانواع الاخرى من مصادر القوة خارجه و مدى استعادته لمجده الذاتي حين ما ينهض و يمارس حريته في التفكير و يعتمد على عقله في التصرف و الحركة صوب نزعاته و الحصول على ما يريده.
يفهم فروم من جراء كل هذا التاريخ السلبي للذات ان الفرد منذ ان ارتكب والده الاولى معصيته يحاول ان يبعد عن نفسه الغبن الازلي و يستعيد المجد العدني و ذلك بالحصول على كل ما يريد دون ان يطلق العنان للعقل و عبأ التفكير. الانسان المتأنب الضمير طوال وجوده على الارض شعر بانفصاله عن الطبيعة المغرية و الرحم الأموي الذي كان يحصل بواسطته المتع و الملذات التي يريده. حياة العقل الذي اختار له الوالد اول مرة لم تعد تفي الأنسال المتعاقبة تجاهها حيث الجنة الانسانية المكونة بالعقل لا تأتي للفرد هكذا مستسلما لقوى عقله و لهذا يتصور بان الاستسلام للايقونات المقدسة و الاستغفار الطقوسي يجعلانه ان يستعيد عزه الفردوسي و و يتحد ثانية بالأم الاولى اي الطبيعة المثالية.
هناك مفاهيم و رؤى ميثولوجية كثيرة اخرى التجأ اليها فروم للاستقواء به في بحوثه حول الاغتراب، منها التوجه غير العقلاني الذي يلاحظه في الاوساط الاوربية حول كثرة اهتمام الانسان العادي الاوربي بالكتب و الكراسات الدينية و الامواج الهائلة في طبعها و في نفوذها المعرفي داخل النفوس . و كذلك مثلما يرويها فروم في كتابه الدين و التحليل النفسي ان الاخبار تبث مرات عديدة و هي اقامة صلوات في الكنائس نتيجة لنقص المياه في نيويورك على حين يحاول صناع المطر اسقاطه بوسائل كيمياوية ،اخبار عن الاطباق الطائرة و اعتقاد البعض بان سكان الكواكب الاخرى يأتون الى الارض و الآخر يعتقدون بقرب نهاية المجد الامريكي و.......الخ .
على الرغم من قناعة اريك فروم بأن المسيحية كالاديان الاخرى هي جماعية الذهنية في الوقت الذي تدعي الحداثة بان الغرب من الآن فصاعدا يهيئ الافراد لكي يكونوا فردانيين، و لكن الحالات الوجدانية و النفسية تلك تحبطنا الى درجة التشكيك في الخلفية الفكرية للتنوير و الحداثة. لماذا هذا الاحباط و التشائمية في مستقبل الذات البشرية ؟ فروم يثق بالعقل البشري و قدرات الفرد بأنه يقدر على التخلص من الاستلابية التي تبتلي بها منذ الازل كون مبدأ الارادة الحرة و حرية الاختيار بين النماذج العقلية و العلمية لحل الازمة التي فيه في متناول يديه و هو سيد وجوده و الجرأة هي التي تفصله عن التشائمية و اللامعنى الوجودي الذي هو بداخله الى الآن.
من بين كل من هذه الاطر الميثولوجية اختار فروم الطاوية و البوذية كنماذج دينية ترتبط بالعقل و الارادة و اليقظة و الشعور بالآنية و الدهرية الراهنة. وقف فروم كثيرا على البوذية و اعتبرها منهجا تحليليا نفسيا شرقيا قريبا من المنهج التحليلي النفسي لسيكموند فرويد.
الاغتراب الذي هو موضوعنا هنا في هذه الدراسة نجد جذوره ايضا في الفكر الميثولوجي و تعمق فروم بشكل منهجي دقيق في ايجاد بعض من هذه الجذور و ان كانت محدودة، و لكن يرشدنا فيلسوفنا فروم الى الهدف الاساسي الذي هو تحديد مصادر القلق الازلي هذا و امكانية اعادة الكرامة و الكبرياء الانساني لذاته الاصيلة.
الاسس الفلسفية الفرومية للأغتراب
انتمى فروم و لمدة ثمان سنوات الى مدرسة فرانكفورت للفلسفة الاجتماعية التي اسسها مجموعة من اصدقائه امثال هوركهايمر و تيودور ادورنو و ذلك بغرض اجراء دراسات سوسيو فلسفية عن المجتمعات الاوربية و لم يكن مصادفة ان يكون الاعضاء في المعهد هذا هم بالاساس ماركسيين نادوا كل منهم بشكل من الاشكال الاصلاح في الفكر الاجتماعي و الفلسفي. لم يكن فروم سايكولوجيا فقط بقدر ما هو عالما اجتماعيا و فيلسوفا جاهد كثيرا في مناقشة الفكر الماركسي و الفلاسفة التي سبقوه و بهذا تراكم لديه الكثير من الخبرة الفلسفية بل بلور لديه توجها فلسفيا خاصا يسير هذا التوجه نحو الديموقراطية الاجتماعية مبنيا على الاشتراكية في المضمون الفكري له.
راجع فروم الفكر التنويري و هو على اتصال بفكر البارزين منهم امثال روسو و ما لاحقه من المفكرين، حول موضوع الاغتراب فتش فروم ثنايا افكار روسو و راى بانه يشير الى نوعين من الاغتراب أو شكلين من الحالة النفسية تلك، الشكل الاول من الاغتراب يعتبره روسو ايجابيا بل ضروريا للعقد الاجتماعي الذي هو بصدده حيث يسلم الفرد ذاته الى المجتمع بغية تأسيس ذات اجتماعية و كيان اجتماعي اكبر يدير الامور ضمن نظام مجتمعي متفق عليه لغرض لم شمل الافراد و تسيير الامور الاجتماعية و السياسية و......الخ. اما الشكل الثاني من الاغتراب يراه روسو سلبيا حيث تسلب الحضارة الذات الفردية و تجعلها تابعا للآخرين. عند التدقيق في الشكلين المغتربين لروسو نلاحظ بأن التناقض في التشخيص عنده واضح للعيان ففي حين يرى بأن الذات الايجابية تاتي من خلال التسليم بوجودها للمجتمع بحثا عن النظام و الامان و حين آخر يتهم الحضارة كنظام مؤسسي و بعد مادي للثقافة بالتسبب في استلاب الذات. ايهما مسؤلة عن الغربة الذاتية يا ترى؟ المجتمع ام الحضارة؟. التسليم الذي يسببه الفرد لنفسه باعطاء ارادته و حريته للمجتمع يبعث عن الضعف و الوهن العقلي و الارادي لديه كونه لا يمكن تحقيقه من خلال قدراته و طاقاته الكامنة داخله، و من ثم يأتي الاجتهاد الروسوي هذا ايمانا منه بان الفردانية و النزعات الغريزية لديه قد تسبب للمجتمع حالة من الفوضى و لهذا يقوم بالتنظي لأجل الذهنية الاجتماعية الموروثة اصلا من العقلية المسيحية التقليدية.
و الاستلاب الذي يخل بالذات من اثر الحضارة يشعرنا بطبيعانية نهج روسو و ازدرائه من الحياة المدينية و من اجل تجنب الاثر الصادم على الذات الانسانية و مكننتها ينصحنا بالعودة الى حضن الطبيعة و العيش عيشة عفوية و اعطباطية. هل يعقل التوجه الروسوي تلك؟ الا نرى روسو هو المغترب الاكثر وضوحا للعيان؟ يمجد الذوبان داخل الجماعة مرة و العودة الى الطبيعة مرة اخرى؟.
اخذ فروم فقط الجانب التصنيفي لروسو حول مفهوم الاغتراب و لم يناقشه حول صحة و خطأ الحالة الذاتية.
لم يكن فكر الفيلسوف و الاديب الألماني شيلر غائبا عن فروم ، اكد فريدريك شيلر على الانسان المغترب و قال عنه بان الانسان وقع تحت تأثير الثورة الصناعية و تشرذمت ذاته بفعلها حيث لم يعد لديه الاهداف و الاسباب مختلفة عن بعضهما البعض يصبح الهدف وسيلة حينا و تصبح الوسيلة حينا آخر هدفا و هذا هو التخبط الواضح في الذات التي نعرفها من خلال ملاحظة شيلر لها بانها مغتربة و منفصلة عن نفسها. جائت هذه الافكار في كتاب شيلر حول التربية الجمالية الصادر سنة 1794 . يشير شيلر الى عظمة الذات الانساني و يقول بانها موجودة تلك العظمة في ذاتيتها و ملكيتها لنفسها. الوقوف عند الفرد من هذا النوع لدى شيلر يعطينا القناعة بان فروم لغرض تشييد بنائه للذات الاصيلة و تشخيص مواطن الضعف و الوهن لدى الذات الزائفة سبر الاغوار في الفلسفة الاوربية و تمكن من ايجاد مكامن الشغل الفلسفي او بالاحرى محاور الاهتمام لدى الفلاسفة.
اما هيكل فانه الملهم و المصدر الاساسي لفكر فروم و خاصة موضوعه حول الاغتراب الانساني، الاغتراب لدى هيكل هو حقيقة انطولوجية تجد نفسها في (وجود الانسان في العالم)، هل الوجود هذا هو نشطا أم سلبيا؟ هل تعي الذات التي هي موضوع هيكل نفسها أم غائبا عنه؟ بالتأكيد يبحث هيكل موضوع الاغتراب بامتياز بين الفلاسفة الاخرى و يقف عند حده كثيرا.
الوجود النشط عند هيكل هو الوجود بالعمل بمعنى تحديد فعالية الذات الانسانية من خلال العمل و النشاط الواعي و الحالة الواعية هذه هي التي يعتبرها هيكل روحا نشطا او وعيا فاعلا. الوجود الفاعل عند هيكل يجد نفسه من الاتحاد بين الوجود و الماهية بمعنى الماهية التي هي العقل النشط لم تكن غائبا عن الوجود الانساني و اية حالة افتراق او انشطار بين المشخصتين الوجوديتين يعتبرها هيكل اغترابا و وجودا غير متوافقا.
الاتحاد بين الماهية و الوجود يتجه بالفرد نحو تحقيق ذاته و الحالة هذه نجده عند فروم عندما يتكامل بعناصره الاساسية ضمن الاصالة الذاتية ، الذات المالكة لنفسها و الحرة كون الحرية تعطي حق الملكية للذات.
تحقيق الذات الذي يقف عنده هيكل كثيرا نجده موضوعا سايكولوجيا بارزا عند الكثير من علماء النفس غير فروم امثال ابراهام ماسلو و كارل روجرز و الوجوديين الآخرين (رولوماى و ايغور كون). يقول هيكل في فينومينولوجيا الروح (الانسان لذاته هو العقل المثقف المصقول الذي شكل نفسه مما كان عليه بالقوة أو في ذاته ، و ها هنا يصبح لاول مرة متحققا بالفعل) الانسان لذاته عند هيكل بمعنى الرجوع الى الذات و الحرية في حركيتها اما في ذاته بمعنى الانطلاق منها الى العالم و الحالة هذه هي الحرية بعينها و هي الفعالية الذاتية التي هي بصدد تحقيق ما تصبوا دائما اليها.
الوعي الذاتي عند هيكل يستمد قوته من يقين الفرد بذاته و اليقين هذا لا يأتي هكذا بسهولة الا عن طريق العمل و النشاط العقلي و هذا هو الذات الاصيلة التي يبحث عنها اريك فروم و وجد بعضا من شتاتها لدى هيكل.
الاغتراب الديني التي وقف عليه فيورباخ بجدية هو ايضا مصدرا مهما لعمل فروم حول مفهوم الاغتراب، هذا النوع من الاغتراب هو وعي الافراد بصورة غير مباشرة عن انفسهم و يعتبره فيورباخ اساسا لكل الانواع الاخرى كالاغتراب السياسي و الاغتراب الفلسفي و الاجتماعي و النفسي، الحالة الاغترابية عند فيورباخ هي فقدان الفرد لجزء من ذاته الاصيلة .
الملهم الرئيسي لفكر اريك فروم السياسية و الفلسفية و حتى الاجتماعية و النفسية هو كارل ماركس الذي جعل من الاغتراب في العمل و ناتج العمل لدى العامل موضوعا اهم في مخطوطاته الاقتصادية و الفلسفية 1844 حيث المخطوطات الثلاث عملت على مفهوم الاغتراب بجدية و اعتبرت الاغتراب في العمل مصدرا لكل الانواع الاخرى للاغتراب و الذي يتسبب العزلة الدائمة للفرد العامل عن اسرته و نفسه و محيطه كون لا يشعر الفرد بامتلاكه لذاته و انما يرى وجوده تخدم آلة اكبر منه تنتج فقط و تدار لغرض ايجاد الفائض في رؤوس الاموال و انه ليس سوى جزءا من الآلة بداخل جسد الماكينة الصناعية الاكبر.
ينقسم انواع الاغتراب لدى ماركس الى الانواع الاربعة التالية:
1- الاغتراب في العمل
2- الاغتراب من ناتج العمل
3- الاغتراب من الذات
4- الاغتراب من الآخرين.
راى فروم بان ماركس اهتم بالحل الاقتصادي للاغتراب بدل الحل النفسي كون الحالة هي نفسية بامتياز و مرتبط مباشرة بالعمق السايكولوجي للفرد. انتفع فروم من ماركس الكثير حيث تطرق كارل ماركس في كتابه رأس المال الى مفهوم التشيئ (الفيتيشية) و الذي تبناه في كثير من كتاباته و مباحثه السايكوفلسفية.
انتماء اريك فروم الى النهج الفلسفي و السياسي لماركس عمق لديه الرؤية الاجتماعية كون التصنيف الايكواجتماعي للافراد الى العامل و البرجوازي الصغير منه و الكبير و من ثم الاهتمام الاساسي التي التمسه من ماركس حول الحرية الفردية للانسان و محوريته للفرد الانسان جعل من فروم محققا في انواع مختلفة من الشخصيات ذات الجذور المفاهيمية لماركس و هي (الشخصية الاستغلالية و التسويقية و الاكتنازية و المنتجة) كل هذه الشخصيات مرتبطة مباشرة بالواقع الاقتصادي التي تنتج من خلالها الحالات النفسية المختلفة التي تؤدي بدورها الى نزعات خاصة تنعكس في شخصية الافراد.
نأتي الى المعلم الغاضب من الكسل و السطحية في التفكير و هو فرويد، بدأ فروم من فرويد على المستوى النفسي المنهجي حيث انتمى الى التحليلنفسانية و بقى وفيا لها على الرغم من انتقاداته لفرويد و الاشارة الى الازمة التي اصابت بها المذهب التحليلي التي أطرتها ضمن كتاب له بعنوان ازمة التحليل النفسي و تضمن الكتاب الاشارة الى بعض القصور لفرويد في معالجاته لعقدة اوديب و الذكورية المتطرفة و اللاابالية و السلبية في الروابط الاجتماعية و الانسانية التي تحتل اقل المساحات في تاريخ الفكر الفرويدي (وفق التصور الفرومي).
ساهم فرويد في بناء الفكر الفرومي مساهمة ليست باقل من المساهمة الماركسية في بناء فكره السوسيوسياسي، و لكن التوجه الانساني و الاجتماعي طغى على التوجه البايولوجي و الغريزي و الجنسي و هذا لا يعني اهماله لكل هذه التوجهات بقدر ما ترفع فروم على الاسس تلك و توجه الى الانحراف الذهني و المصادر الاساسية المسببة له، و كذلك اخذ من الذات و الجسم الاكبر و هو المجتمع موضوعا للبحوثه و الحالة هذه من الممكن ان يكون لتوجهه السوسيولوجي دورا اساسيا فيها.
تطرق فرويد الى الاغتراب و الانسان المبالغ في القلق و العصابية في كتاباته حول (مستقبل الوهم و قلق في الحضارة و الطوطم و الحرام و الامراض العصابية و نظرية الاحلام و موسى و التوحيد و كثير من الدراسات حول الهستيريا و .....الخ). البناء الحضاري لدى فرويد لن تكتمل ما لم يقدم الفرد و المجتمع الانساني تضحيات بالغة بالطاقة الحيوية لديه، الحضارة عند فرويد تساوي ارتفاع مستوى و حجم القلق لدى الافراد كونهم لا يعيرون الاهتمام الكافي وراء النزوات و الرغبات و ينهكون طاقاتهم لأجل اظهار ابعاد مادية لجهودهم العقلية و التي تتجسد في الآثار الحضارية.
التعالي فوق أو على الهو الغريزي لدى الافراد ضمن الماكينات الحضارية تنتج الابداع البشري و الانزواء الظاهر لاهل العلم و العقل في اماكن عملهم مؤشر واضح للابتعاد الاختياري و لكن الغرض هو انساني و اجتماعي يخدم في النهاية الأنا العاقل للفرد و من ثم للمجتمع. في كتابه حول مستقبل الوهم اشار فرويد الى العصابية التي تنتج من التدين و و الغيبوبة التي تصيب الذات الفردية حيث تخرجها بعيدا عن مركزية الانا و تجعله اسيرا لحالة تأنيب ضمير و احساس بالاثم الازلية.
تنعكس مشاعر التانيب و الاثم الكبيرين في كتابه عن الطوطم و الحرام حينما يروي لنا فرويد الحكاية الميثولوجية حول ظاهرة قتل الاب، و التي وظف رموزها بصورة مبدعة عندما احسوا الاولاد بان الاب الوحيد في العشيرة يحتكر و يلوي كل شيئ لصالحه و لا يشارك ابنائه في الملذات الدنيوية، هذا التملك المفرط و الاحتكار اللاعادي دفع الابناء الى التفكير في مؤامرة لقتل الوالد و فعلو الفعلة الشنيعة. القتل لم يحل المشكلة بقدر ما عقد الامور حيث لم يتركهم الشعور بالذنب الكبير لحظة الى ان لجأوا الى خلق اسطورة اخرى و هي طقس طوطمي دوري و سنوي يجعلون انفسهم فيه كالمواشي و الحيوانات تجريحا لوجدانهم كي يعيدوا بعضا من الأمان للروح و النفس. هذا هو الاغتراب الحقيقي عن الذات و غيبوبتها عن الوعي الحقيقي، كان الالتجاء الفرويدي الى العمق الاسطوري و ذلك بغرض كشف البدايات ألهم فروم و الآخرين من تلامذته الانطلاق من افكاره و يستقلوا فيما بعد ضمن اطر نظرية خاصة بهم.
معادلة الاغتراب الفرويدي سهلة و واضحة ، فالأنا عندما ينحاز الى الهو ينغرق في الشهوانية و عندما يختار الطرف الآخر نحو الضمير الاجتماعي(الانا الأعلى) ينغمس في الانا الاجتماعية و الحالتين كليهما هي الاغتراب وفق التفسير الفرويدي.
كان نيتشة له حضور فعال في كتابات اريك فروم و معالجته لظاهرة الاغتراب النفسي، نيتشة لم يتساهل و لو مرة تجاه الفرد و المجتمع ،انه اعتبر الوجود التاريخي للانسان كله مغتربا و يعتبر الفرد المؤمن المسيحي فردا متالما و ضعيفا حيث يشير في كتابه ضد المسيح بكل صراحة الى الوهن المسيحي و الديني و دورهم السلبي في بناء الفرد المستقل.
صرخ نيتشة في نقيض المسيح عندما قال: لقد رفعت الستارة عن فساد الانسانية . بمعنى الاعلان و بكل جرأة عن الموقف الفكري له تجاه البشرية و الانسانية ككل كون يعتقد مثلما اشار اليه في نفس الكتاب ان كل القيم التي تضع فيها الانسانية اليوم مجمل امانيها هي قيم الانحطاط. اعتبر نيتشة عقله متحرر بامتياز من قيود المقدس و يشير الى ان التحرر هذا اعطاه الجرأة كي يكشف عن 19 قرنا من الاكذوبة و الخداع. يقول نيتشة : لا ينبغي للانسان ان يرى خارجا بل ان يرى داخل نفسه و لا ينبغي له ان ينظر الى الاشياء كطالب معرفة بذكاء و فطنة و حذر ، بل لا ينبغي له ان يرى اصلا : عليه ان يتأتم ...و عليه ان يظل يتألم على نحو يجعله دائم الحاجة الى القس... ليذهب الاطباء الى الجحيم! انما المرء بحاجة الى مخلص. يسترسل نيتشة في انتقاداته للفرد المسيحي في نقيض المسيح و يضيف : لابد ان يكون الفرد مريضا لكي يشعر الفرد مسيحيا .
الافكار النقدية الغاضبة و الرفضية تلك تنطلق من الحس الفوق الانساني لنيتشة حيث شعر هو بأن البشرية الى الآن ساقت افرادها الى جحيم العبودية و السلبية فلابد ان ينتفض لأجل ايجاد منافذ للخلاص من الغربة الطويلة هذه. لم يغب نيتشة عن فكر فروم كون فريدريك هو المتألم من الغيبوبة البشرية و المشروع الفلسفي لديه هو رفض الانسان كمعنى معنوي للانسان التقليدي و العمل نحو الحصول على انسان جديد لم يسقط ما يشعر و يحس به على خارجه.
اما مارتن هايدكر قد تجده كثيرا في ثنايا مؤلفات فروم ليس اقل من نيتشة حيث الوجود الاصيل و اللاأصيل تملأ كتابه (الوجود و الزمن )، على سبيل المثال يشير هايدكر الى الانا في كل مرة و الانا الضائع في نفس – الهم- و كذلك يؤكد في موقع آخر في كتابه ان الدازاين يبلغ ماهيته في الوجود الأصيل الذي يجد قوامه في الاعتزام. يحاول هيدكر ان يقول لنا ان التحرر من ربقة ذات –الهم- هو العودة الى الاصالة و التحرر من ظلمات الآخرين و الغياب عن النفس. الانا الفاعل الذي هو الموجود لنفسه و كذلك في نفسه ، بمعنى يعمل كفرد مستقل عن الاخرين و ينطلق من نفسه تجاه الاخرين. الاغتراب من وجهة نظر هايدكر يتحول بالفرد الى كائن غائب عن الزمن كونه يقلب وحداته دون الوعي بها.
القراءة الفينومينولوجية للذات عند هايدكر يربطنا بالواقع و الآن اكثر من الوجوديين الآخرين حيث الولوج القوي الى الذات و في الحين نفسه الانطلاق منها يعطي صورة اوضح بأن هايدكر ينحو منحى الوجوديين الأكثر براكماتية.
فضاءات الاغتراب في مجتمعنا الكوردي
أيعقل ان نشخص حالة الاغتراب في الكثير من الثقافات و الأطر المرجعية و الدينية و الايديولوجية لكثير من الامم و الاقوام و نبرئ الفرد و المجتمع الكوردي من الحالة اللاسوية التي اصابت ذاته و اصبح بملازمتها ملكا للغير و اغترب عن نفسه بل طار الفرد الى غير رجعة و لحد الآن؟. حالة الاغتراب بكل مظاهرها موجودة لدينا بقوة و نترسخها باستمرار و بوعي فعال و ذلك قناعة منا بأن وجودنا تتحصن بفعل استمرارية النمطية في انتاج تلك الذات الراضحة لخارجها و المتمردة عن نفسها.
هنا نشير الى الظاهرة في مجموعة من المجالات ضمن الحياة العامة للافراد داخل المجتمع و نحاول ان نشخص ظاهراتيا ما تظهر للعيان و ما لا يلاحظها الناس من القوة التي تجبرهم على ان يغادروا انفسهم و يسكنون المتعاليات و يكررون اصداء تلك الغيبيات في داخلهم كي ينالون الفردوس و الآدن التي طردوا منها و يحصلون على المغفرة التي تخفف من وطأة الضمير المعذب.
الاغتراب الاجتماعي
الى الآن الفرد الكوردي بصورة عامة اسيرا لقدرة و هيمنة الاعراف و التقاليد على حياته العملية بل مصيره، ان الواقع الاجتماعي الذي يعيشه منظمة بدرجة اكبر وفق التعاليم و المعايير الاجتماعية التي هي في الاساس سلطة خفية و يقظة داخل المزاج العام و الضمير الجمعي للعامة من الشعب. نرى الفرد يستقوي دائما بالرجوع الى المؤسسات البدائية القبل مدنية تلك و ذلك هروبا من النظام و الالتزام بالتعاليم التي يفرضه الجهات الدستورية و القانونية بغية تأسيس نوع من التقليد المدني كبديل عن الاساليب الكلاسيكية للضبط الاجتماعي. الالتجاء الى هكذا نوع من الايقونات القديمة هو تعبير غير واعي بالضعف و الوهن النفسي و افتقار الى الثقة الكافية بالنفس و الاعتماد عليها في مواجهة المشاكل و المواضيع التي تظهر على السطح و تطالب محاصرتها و ايجاد الحلول المناسبة لها وفق العقلية الابداعية لكل فرد في اظهار اسلوبه الخاص للحياة.
التمسك بالعرف العشيري و الالتزام بالتقاليد الكلاسيكية بدل التفكير و العمل لأجل ترسيخ اسس النظام و الهيئات الرسمية الحديثة هو بمثابة البقاء ضمن دائرة الحشد كون الحشد هو مصدر القوة و الأمن له في مقابل الاخطار المعرفية الجديدة التي تتولد منها النظم البيروقراطية و الشبه ديموقراطية و المدنية, ظاهرة التمسك و البقاء في الحشد حالة ملحوظة و بامتياز وسط العامة و حتى النخبة الاجتماعية و المثقفة.
ألا توجد وسط الحشد الاجتماعي الكوردي ضياعا للقيم الاصيلة الاجتماعية الكوردية المبنية على الرجولة و الشهامة و الامانة و....الخ ؟ هل بامكاننا ان نواجه التيار غير المنظم من القيم السبرانية و الغريبة عن الحياة الاجتماعية لنا و نصبح مرنين معها كي نلائم معها وفق الحاجات المعرفية و النفسية لمجتمعنا؟ . الجواب لكل من هذين السؤالين ب(كلا)، كون ظاهرة الانحدار نحو هاوية اللاقيم موجودة و بقوة حيث القيم الريفية و الزراعية التي تتسم بها الامة الكوردية تنصهر سريعا و لا نجد من يعتبرها مشكلة بل كارثة قد تهدد التماسك الاجتماعي و الوحدة النفسية لنا.
نأتي بمثال حي حول ذلك:- عندما يقرر الريفي ان يغادر القرية متوجها الى المدينة اختيارا منه نمطا آخر من العيش و هو الحياة المدنية، ينسلخ من القيم القروية او يتجاهلها و لا يسلك ما استمالت عليه تلك القيم يومها، عندما يصبح من اهل المدينة و يسكن احدى المحلات فيها لا ينخرط بالسرعة الممكنة مع الحياة المدنية و لا يأخذ قيمها بسهولة ان كانت القيم المدنية موجودة اصلا فيها كون المدينة عندنا لن تؤسس وفق الشروط الحديثة لبناء المدن ، بهذا يصبح الفرد فاقدا لكل من الانظمة القيمية القبلية و البعدية ، لم يستطع اجبار نفسه على التمسك بالقديم و اصبح صعبا عليه قبول الجديد و بهذا وقع في حالة من الضياع القيمي الذي هو بالاساس اغترابا من العيار الثقيل.
عندما نلاحظ العلاقة بين الجنسين في مجتمعنا على وجه العموم، نرى بأن العقلية التملكية و العمودية طاغية عليها حيث الحب ليس في معظم الاحيان هو العنصر المحدد لهذه العلاقة بقدر ما هي قدرية و ليست لأرادة الفردين الذكر و الانثى اليد الطولى في اختلاقها.
الانثى ليست بمقدورها ان تلعب دورها في تحديد شكل و مضمون البنية الاسرية في المجتمع و لا قدرة لها في ان تمارس انوثتها و نسويتها في المجالات الاجتماعية المتعددة، هي مستلبة عقائديا و نمت لديها حالة من التقدير الضعيف لذاتها و بذلك استسلمت الى النزعة الذكورية و تحاول دوما اظهار الروح الرجولية و تقلد احيانا كثيرة سلوكات الرجال سواء في حركات الجسم و المشي أو الكلام في المواضيع المختلفة.
الانثى الكوردية اخفت انوثتها خشية تعرضها لافتراس الرجال الشهوانيين، هن وقعن اسيرات الزمن الرجولي و لهذا يمارسن الرجولة بمظهر نسائي و الحالة هذه شوهت العلاقات الاجتماعية و اغتصبت روح الانوثة التي هي بالاساس السديم القوي للبناء الانساني العاطفي الاقوى في المجتمع.
زيف الذوات الكوردية الاجتماعية لم تنقذها يومها التيار الشيوعي كونه اعتبرت نفسها بجانب الحركة السياسية حركة اجتماعية قد تنظم العلاقات الاجتماعية وفق حتمية التحول بفعل التحديد الجديد لنمطية الانتاج الاقتصادي، اذا الحل اليساري الشيوعي فشل في انقاذ الذات المغتربة تلك ولم يستطع اعطاء اي شيئ لها ان لم تسبب لها خسارة اكبر.
و الحل القومي كذلك حذى حذو اليسار حيث لم يقدم اي جديد لمشروع بناء ذات حديثة، التزم التيار القومي بالنضال المسلح و طغى النمط الكفاحي هذا على الجناح السياسي و الثقافي و الاجتماعي و الفكري، رأت الحركة القومية الكوردية اعدائها بالمنظار العسكري فقط دون ان تقرأ الابعاد الاخرى كون المشاريع الاحتلالية و الاضطهادية عملوا على صهر الوجود الكوردي و الغاء ثقافته و مسح هويته نهائيا ، و لهذا هل يعقل ان تواجه العدو من هذا النوع فقط بالسلاح الحار و تحاربه على طريقة حرب العصابات (الكر و الفر) و المعيار الوحيد للنضال ضده يكون عدد القتلى و الجرحى و حيازة بعضا من الاعتدة و الاسلحة منها في ساحات المعركة؟.
الثورة الكوردية تنقصها دوما بيداغوكيا السياسة و و التربية الاجتماعية و ذلك بغرض بناء الانسان الذي كان و لا يزال عليه مؤامرة الالغاء و الحط من شخصيته. الى الآن امتدت تلك العقلية و لهذا فشل ايضا الفكر القومي في اعادة الضبط النفسي و الاجتماعي للبنية الفردية و الاجتماعية للامة.
الاغتراب الثقافي
نقسم الاغتراب الثقافي الحاصل على الفرد الكوردي الى :-
المجال الفني الغنائي :- الاغتراب الفني واضح وضوح الشمس وسط الحركة و الجو الفني الكوردي، القاء الاصول التراثية الكوردية جانبا و الاخذ العمياء للانماط الغريبة من النصوص و الالحان و السيناريوهات، طغيان الموسيقى التركية و العربية و الفارسية و الاجنبية الاخرى على الموسيقى الكوردية الا تعتبر وهنا و ضعفا ذاتيا؟ اليس هذا التمجيد للغير على المحلي و الاصيل هو الاغتراب في العمق و شعورا بالدنو مقابل الآخر القوي الذي يحتلك و يفرض عليك منتجاته الفنية ؟.
كيف يمكننا ان ننقذ ذاتنا الواهنة المستسلمة تلك؟ حين استطعنا ان نلقي آذانا فارسية و هي تسمع الموسيقى الكوردية ، حين جعلنا من الاذن العربي و التركي صاغيا لموسيقانا، عندها يمكننا ان نقول على ذواتنا قوية كونها استطاعت ان تنشط وسط اسواق التبادل الثقافي تعطي بقدر ما تأخذ على الاقل، و تسمع بضم التاء و فتح العين بقدر ما تسمع بفتح التاء و العين.
في الفن المعماري ايضا لا نرى اصولا و نماذج فنية تابعة لنا الا القليل ، طغت النماذج الفارسية و العربية الاسلامية و التركية على جدران و واجهات العمارات و الابنية ، علاوة على ذلك لا نميز الالوان البارزة و الاختيار الحضاري الملائم للابنية و الاكواخ في القرى و حتى المدن ، عندما نلاحظ من بعيد و على قمم الجبال و التلال القرى المحيطة ، لا تدرك بسهولة القرى كونها توحدت مع الوان الارض و الجبال الملتصقة بها و ذلك تطبيقا فطريا لستراتيجية الاحتماء وفق نظرية الانتخاب الطبيعي لداروين.
الالتصاق بالوان و الانساق الطبيعية يعطينا الانطباع بان الذات الكوردية ما زالت تحبذ البقاء في احضان الطبيعة و لا تريد الانفصال عنها و تتحول الى منازع لها. البقاء هكذا هو الاغتراب و الاستسلام للقوى الخارجة عن الذات، اذا الاغتراب يلازمنا الى الآن و لا يفارقنا بسهولة.
في المضامين الادبية ايضا هناك تعبيرات صريحة للاغتراب النفسي للفرد و الذي يرسمه الشاعر او الروائي او القاص في ثنايا نصوصه. المازوخية هي العنصر المكون للشعر الكلاسيكي الكوردي و حتى الحديث منه بجانب العناصر و المكونات الفنية و الجوهرية الاخرى، الاستصغار و الاحتقار و التدني بالروح و الجسد هي الصورة الامثل في اغلبية انماط الشعر الكوردي عدى الشعر الملحمي و السياسي الذي يمجد الوجود القومي كند للوجود المحتل.
في الرواية لم يستطع الروائيون الخروج عن التاثير الغربي و الاقليمي حيث لم يوظفوا التكنيك و اللغة و الفلسفة التي وراء عقلية الكاتب بقدر ما اقتدوا بخطوات الكتاب و المؤلفين الآخرين ، خلاصة القول لم يتمكن المثقف الكوردي ان يفكر عالميا و يتصرف محليا و الصفة الاساسية هذه هي للمثقفين الذين يستطيعون تجاوز المحلي و الولوج الى العالمية التي نحن الآن بأمس الحاجة اليها و ذلك دعما لقضيتنا القومية الانسانية .
الاغتراب الديني
نفتقر نحن الكورد الى قرائتنا الخاصة للنصوص الدينية و هذا قصور في الرؤية الثقافية الدينية و دليل على العقلية النقلية بدل التعمق العقلاني في النصوص و التصرف معها وفق الشروط الحياتية من الجغرافية و الطوبوغرافية و المناخية و التراثية و التي تلعب كل هذه الشروط ادوارا مهمة و قوية في تحديد الاسس القانونية و الدستورية و حتى الفقهية للمجتمع.
كان الاجداد قادرين على تكيف و تلائم الدين مع الاطار التراثي لنا كنا منسجمين مع التعاليم الدينية و جعل الاجداد الدين جزءا من التراث و الطقوس الدينية جزءا من الطقوس الاجتماعية الاخرى ، و لكن الابناء في نهاية القرن العشرين اقتدوا بالنماذج العربية و الفارسية للاسلام السياسي و عكروا صفو الحياة الدينية بيننا حين توجهوا الى تشكيل احزاب و منظمات دينية هدفها الوحيد هو الوصول الى السلطة كباقي الاحزاب القومية و اليسارية الاخرى.
تطاولوا حدود المطالب القومية و عملو على غرس روح الشمولية الدينية حتى ان تبلغ البنيان النفسي و الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي، التمادي بهذا الاتجاه جعل من روح الانتماء الطبيعي القومي و الوطني مخالفا للنصوص و حتى عارا على المؤمنين، و لهذا ساهموا في اضعاف التماسك الاجتماعي بدل ان يعتصموا بحبل الله بغية انقاذ المجتمع من الآفات التي اصابت بها. مسخ العقلية المجتمعية التي كانت تتجه صوب اعادة صياغة نفسها في النماذج الحديثة هي من وظيفة الاحزاب الدينية حيث سمحوا لانفسهم الانتقال من الحلقة الاقوى للانتماء و هي الانتماء القومي الى الحلقة الاوسع و الاضعف و هي الانتماء الديني ، و الحالة هذه ترجم الى الواقع السياسي و انعكس في النظام الداخلي لهم و حتى الاستراتيجيات التي يصبون اليها.
الاغتراب السياسي و الحزبي
اذا اردنا ان نلحظ و بوضوح حالة الاغتراب السياسي داخل المؤسسات السياسية و منها الحزبية على سبيل المثال، نرى بأن الحزب على الرغم من استعارة هيكليته التنظيمية و النظرية من التراث الغربي و بالتحديد من الانماط الحزبية التي ترعرت من رحم الانظمة المدنية الحداثوية ، الا ان شكل و مضمون العلاقة التي تربط الحزبيين مع بعضهم البعض داخل التنظيم و بين الارضية الجماهيرية له و كذلك مع المؤسسات الاخرى المختلفة في المجتمع لا تمت الى العلاقات الموزونة و لا تنسجم مع الوظائف الاساسية للحزب و التنظيم السياسي، حيث الوظائف التي بنيت لأجلها الحزب هي دمقرطة الحرية اولا داخل الاطار الحزبي و من ثم العمل على توسعة مساحة العملية تلك لتشمل الجماهير المنتمية اليه و بعد ذلك برمجة التوجهات المدنية و الرؤى السياسية و الاقتصادية و التربوية و الثقافية في السلطة التي يخوض المنافسة من اجل الوصول اليها ثم تطبيق الخارطة و الاجندة خلال فترة ممارسته للحكم و السلطة التنفيذية او القانونية.
هناك وظيفة اخرى للحزب الحديث و هي تربية الديموقراطية و العمل على ترسيخ تقاليدها و من ثم بناء الشخصية الفردية ضمن مشاريع التنمية البشرية كون الديمقراطية مثلما يراها جون ديوي منظومة سلوكية و اخلاقية قبل ان تكون مشاهد سياسية تختزل في السيناريوهات التي تحسم في يوم الانتخابات.
هل ان الحزب و المنظمة السياسية الكوردية بيننا هضمت وظيفتها و حاولت حتى القليل لاجل الوفاء لمبادئها و العمل صوب توفير الشروط اللازمة لممارسة الحرية داخل الاحزاب؟، هل ان الحرية كعامل اساسي و قوي للانتاج الابداعي و التفكير السليم و النقدي البناء محظوظ منها الكل الحزبي ام وزعت بشكل لاعادل و ان الشخصية رقم (1) داخل الحزب و التنظيم اقوى حظا من الكل للنطق بما يريد و اوسع حرية من ممارسة الافعال التي تعبر عن حرية الافراد داخل كيانهم السياسي؟ . الحزب الكوردي لا يعير ايما اهتمام بالمصدر الاساسي لتأمين القوة و هو (الشعب) و يتجه دائما نحو خارجه للاستقواء به امام الانداد التي يراها غريما سياسيا لها. الخروج من الجلدة و التوجه نحو الآخرين هو من استراتيجية المغتربين كونهم مرعوبين من داخلهم و لا يستطيعون ان يراوغوا البدائل المتنوعة للحلول و لهذا يلجأون الى الحل الاسهل الا و هو الاستنجاد بالآخرين و اظهار القوة لما يهددونهم في الداخل . ان لم يكن الابتعاد عن الآخرين و التوجه نحو الخارج اغترابا، فما الاغتراب يا ترى؟. ان الحالة الاغترابية السياسية و الحزبية بيننا هي امتداد للاغتراب الفرداني و تكبير الصورة الاغترابية لتكون واجهة الامة التي لا تجد امامها بصائص الامل الا من خلال العلاقات و الاتفاقات التي تبرمها المنظمات و الاحزاب مع القوى الخارجية ، فالحالة المعاشة الآن في كوردستان هي خير ثمار للسلوكات السياسية التي تعبر عن الهروب من التفكير و العقل او بالاحرى من الذات الاصيلة و الاعلان عن الزيف الذاتي من خلال التشبث بالخارج لاستمرارية الحالة الاسترقاقية المنمطة اصلا بها شخصياتنا منذ الازل.
الحزب السياسي الكوردي اصبح البديل الاقوى لمؤسسات الدولة و المساحة الاضيق للانتماء، الانتماء الى المؤسسات الفاقدة للذات الاصيلة تلك تخبرنا بوجود جيش من الافراد المنتمين داخلها لا خير فيهم من حيث العمل الواعي و النشط لأجل البناء المدني و الحضاري بقدر ما هم اصلا ملتجأين الى الحزب و المنظمات المماثلة للحصول على الامن الذين يحسون بفقدانها و كذلك شعورا منهم بالاستقواء بين احضانها و علاوة على ذلك الحصول على الحاجات الاولية للعيش ( الراتب الشهري و الامتيازات الاخرى).
اذا الاحزاب الكوردية كمثيلاتها في المنطقة مليئة بالاعضاء التي انتمت لاجل الكسب المادي لا لاجل العمل من خلاله لترسيخ الديمقراطية و تحصين البنيان المدني على الارض، هذا ينبؤنا بالذوات المزيفة الهاربة من مسؤلية التفكير و العقلانية و غير القادرة على الحركة باتجاه تحقيق مستوى متواضع من تحقيق الذات التي اعتبرها المفكرون امثال هيكل و ماركس و فروم من يصل الى تحقيقها اذا هو الاصيل و هو الذي يفكر من خلال ذاته لا استمالة من الآخرين.
الاغتراب الاقتصادي
هذا النوع من الاغتراب هو الامثل للعيان بيننا و هو المثال الاقوى تجسيدا لاكتساح الاغتراب مجتمعنا، لا نصادف فردا راضيا في عمله و حتى ناتجه ، الاسواق لا تتحرك وفق الحركية الدايناميكية للاسواق المستقرة و الموزونة، الاسقرار لا تجده لا في القوة الشرائية للعملة و لا في التعادل بينها و بين العملات الاساسية الاجنبية في الاسواق، المستوردات متنوعة المصادر و لا تقدر المؤسسة التنفيذية التحكم بها او لا تلتفت الى القوى الفعالة في السوق، مساحة الاقتصاد الداعم للبناء التحتي في البلد غير متوفرة و الاوفر حظا في التلاعب بالاقتصاد هم الطفيليون الذين لا يجدون في البناء الطويل الامد فائدة لهم بقدر ما يجدون في الثراء الاسرع و هو حركية القوى التي تدعم العقلية الاستهلاكية نفعا كبيرا.
كل هذه المشاهد الاساسية في الحياة الاقتصادية لمجتمعنا الكوردي تعطينا انطباعا اوليا بان المؤسسات السلطوية بيننا لا تريد ان تتمسك بالمكان كي تبني عليها النظام و الاسس الدولتية و تحاول ان تقلب حقبات و وحدات الزمن اليومي اللحظوي بشكل اسرع و توفر فقط نسبة متواضعة من الحاجات الاولية للمواطن كي يبقى على قيد الحياة فقط و لا يطالب بالترفع على المطاليب الحيوانية تلك و يصل بذاته الى القمم الارفع صوب تحقيق مآرب الذات سواء الفردية منها او الجمعية.
الاقتصاد الفوضوي الطفيلي الاوليغارشي ليس الا عرضا لحياة الحشد اللاعاقل الطائر فوق الشعور الذاتي و الغارق في الهو الاضعف و الانا الاعلى الرديئ ، التذبذب بين الغولين (الهو) و (الانا الاعلى) ينتج منه ذاتا غائبا عن عقلها لا تمارس حريتها في الرجوع اليها، اي تساور الذات هذه غيبوبة بسبب ضعف النشاط للانا العاقل لديها و استغلاله للطاقات الشهوانية و المثالية المسلوبة.
ذواتنا التي نميزهم بيننا في اسواقنا هم متلهفات وراء لقمة العيش و تجدد حساباتهم كل رأس شهر لكي تبقوا متنفسة على الاقل و الحال اننا نتجه باتجاه المجهول و الاستمرارية في المسالك تلك ينبؤنا بالانحطاط و الانهيار القيمي و هذا ما نخافه نحن المثقفين الجديين في البلد.
الواقع المشار اليه اشبه بالرهاب التي لاحق الارنب البوذي و هو التصور بان العالم يتجه منحى الهلاك و لا مفر للنجاة و الهروب من المصير الحتمي، الفموية و اللذوية التي نراها بين افراد شعبنا مبعث التشاؤم حيث الانقلاب في الصورة الزمنية الحديثة من المساير للطبيعة الى المنازع لها نراه هنا بصورة معكوسة فالاستسلام للقوى التي بيدها لقمة العيش و الحياة فقط لاجل سد حاجات البطن املأ علينا دينه (دين الفموية) و اطلقنا يدنا و عقلنا عن المنازعة مع الطبيعة و ماحولنا لنبقى الى الابد مسلوبين ارادويا.
• كاتب و اكاديمي _ اربيل _كردستان العراق



#محمد_طه_حسين (هاشتاغ)       Mohammad_Taha_Hussein#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الهروب من العقل .... الأدمان بالجهل!!!
- الذات السياسية و العودة الاسطورية
- أردوغان..... التقمص الفاشل لشخصية السلطان
- الهشاشة الوجودية... قراءة لخلفيات الآيدز النفسي و السوسيوثقا ...
- اللازمان و اللامكان الداعشي
- ما زلنا في حدود الذات.... ثالوث الذات ..القارئة و الكاتبة و ...
- ذات تتقنع........ذات تحن الى طفولتها!!
- مالك الدم الحزين!!
- الاصل الميتافيزيكي و السيبرنيتيكي للذات
- الذات المثقفة و الذات الاكاديمية
- اننا محكومون بأن نتلقى أكثر مما يعطي!
- أنانا لا يساوي ذاتنا
- ذاتنا و القلق الاخلاقي
- نحن كائنات المآزق
- مجتمع من الجماجم...مقبرة للتماثيل....حديث عن الديموقراطية و ...
- اطلاق التسميات في العراق ...هلاوس ام جهل معرفي؟.
- لماذا فشلت الديموقراطية كسابقتها الشيوعية في الشرق؟!!
- قلق الجغرافية....جغرافية القلق


المزيد.....




- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
- نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله ...
- الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
- إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
- “ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في ...


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد طه حسين - ذاتنا المغتربة من منطلقات فكر اريك فروم