عابد الأسود
الحوار المتمدن-العدد: 1325 - 2005 / 9 / 22 - 08:02
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إن المتتبع للأدب العربي لا يمكن أن يساوره الشك في حقيقة أن العرب رومانسيون حالمون إلى حد مبالغ فيه , لكنني وكمتتبع لبعض المفكرين العرب أرى أن تلك الرومانسية المفرطة تمتد إلى الفكر العربي , وربما إلى المشتغلين بالسياسة ( لا أستطيع أن أسميهم سياسيين ) , فهم ثوريون حالمون يعيشون في إيديولوجيات مغلقة لا تمت للواقع المعاش بأدنى صلة .
تندرج هذه الإشكالية عند مختلف أطياف المفكرين العرب ... من أقصى اليسار حتى أقصى اليمين .
وكنتيجة عملية لذلك تظهر العديد من الاشكاليات الجدلية , ولعل جدل العلمانية – الديمقراطية الذي بدأه الأستاذان سلامة كيلة وياسين الحاج صالح هو أحد أهم الظواهر الجدلية المعاصرة :
بدايةً أجد نفسي مضطراً لأن ألقي الضوء على كيفية نشوء مصطلح العلمانية في أوروبا و من ثم كيفية تطور هذا المصطلح إلى مدلولات عديدة لم تكن لتنشأ إلا بعد الاسقاطات على الواقع الأوروبي , لعلنا نستفيد من هذه التجربة ونعلم كيف يتم التزاوج بين الفكرة و الواقع , حتى يمكننا فيما بعد الرد على من يرى في العلمانية ( أو في أي مشروع فكري ) مشروعاً ناجزاً نهائياً لا يقبل الجدل والتفاوض ...
تم استخدام مصطلح العلمانية secularism لأول مرة عام 1648 في معاهدة وستنفاليا , أي مع بداية ظهور الدولة القومية الحديثة , هنا كانت مدلولات هذا المصطلح تتقوقع في نقل ممتلكات الكنيسة إلى سلطة الدولة .
وعلى الرغم من النشأة المبكرة لهذا المصطلح, لكن الغريب هو أن لا أحد من علماء الاجتماع استطاع أن يعرِف المصطلح الذي بدأ ينتشر بسرعة في أرجاء العالم الأوروبي حتى تم ذلك على يد جون هوليوك عام 1890 فعرف العلمانية على أنها : (الإيمان بإمكانية إصلاح حال الانسان بالطرق المادية دون التصدي لقضية الايمان)
ورغم أن هوليوك لم يكن محايداً على الاطلاق إلا أن التعريف الذي وضعه للعلمانية كان محايداً إلى حد كبير , فهو لم يتصدى لقضية الايمان سواء بالقبول أو بالرفض ... ورغم أنه يركز على إصلاح حال الانسان بالطرق المادية , لكن عدم تحديده لتلك الطرق جعل تعريفه قريباً من الحياد بدرجة معقولة .
هكذا كانت العلمانية الفكرة , لا تتضمن على رؤية شاملة للكون , بل لا تبحث عن هذا الشمول في الأصل .
ومع تطور الدولة القومية و ازدياد مركزية هذه الدول بدا فصل ممتلكات الكنيسة عن مرافق الدولة أمراً طبيعياً , بل و حتمياً , هنا تم التفاعل بين العلمانية : الفكرة و الواقع بشكل أولي وجلي , الأمر الذي دعا بعض المفكرين الغربيين لتعريف العلمانية على أنها : فصل الدين عن الدولة , وهكذا كان هذا التعريف هو الأكثر انتشاراً للعلمانية بسبب كونه الأكثر تبسيطية.
ولعله عندما أراد البعض طرح العلمانية على أنها فصلاً للدين عن الدولة , كان يشير إلى حتمية تطبيقها على جميع المستويات , خصوصاً مع تطور الدولة واتساع مركزيتها.
ومع تطور قطاعي الاعلام و اللذة بدأت عمليات تحول بنيوية كامنة و خطيرة في المجتمعات الأوروبية , ورغم كل الظواهر الناتجة عن هذه التحولات بجانبها الايجابي كاتساع مقدرة الانسان , وبجانبها السلبي كالتسلع و التشيؤ و التنميط , فإن علماء الاجتماع لم يستطيعوا أن يسموا كل هذه التحولات , ولا حتى أن يعطوها مقاربات محددة . لا لشيء إلا لأن ناظمها الرئيسي هو المصالح المادية لممتلكي هذه القطاعات, المصالح المادية البعيدة كل البعد عن الأدلجة .
ولعل استغلال بعض المفكرين الفرصة للتشكيك بالعلمانية كفكرة , مستغلاً الظواهر السلبية التي نتجت عن (الحداثة) الأوروبية فيه ظلم كبير للعلمانية الفكرة (علمانية هوليوك ) ...
في الحقيقة , لقد سردت ما سردته لأجل أن أبين أن كل التحولات الكبيرة التي اعترت المجتمعات الأوروبية بدءاً من تعريف العلمانية وحتى الآن ليست بالضرورة نتيجة حتمية للعلمانية .
بكلام آخر ... المجتمعات الأوروبية ليست مجتمعات علمانية نقطة , لماذا ؟؟
لإن ما يحدث في الواقع ليس بحال من الأحوال نتيجة حتمية لسيادة فكرة على فكرة , أو فكرة على مجتمع أو دولة , ما يحدث في الواقع هو نتيجة حتمية لتلاقح الأفكار وامتزاجها في إطار براغماتي عصري.
إن الايديولوجيا ( العلمانية مثالنا ) التي تريد أن تنزل إلى الواقع عليها أن تقبل من الناحية المبدأية بالتزاوج مع الواقع بكل ما يحتويه من أفكار قد تكون مضادة في بعض أطروحاتها .
إنها ضريبة إسقاط الايديولوجيا على الواقع ... وإلا فلتبقى الايديولوجيا أحلاماً وردية وخيالاً محضاً .
إذا أردنا أن نكون موضوعيين فإن علينا جميعاً علمانيين و ايمانيين أن ندرس العلمانية (الفكرة) بشكل دقيق وعملي ... ومن ثم أن ندرس آليات الواقع الذي نمتلك, وإمكانية إسقاط العلمانية عليه من أجل تحقيق الغاية الأصيلة لها : إصلاح حال الانسان بالطرق المادية .... لا أن نكون ناقلين لـ(التراث) الأوروبي العلماني الذي قد يكون دخيلاً عن واقعنا .
خلاصة القول أن العلمانية كفكرة في الأصل هي بعيدة عن الناجزية , بحيث أنها تحمل في طياتها إمكانية التكيف مع المجتمعات .
هكذا ... فلا ينبغي علينا النظر إلى العلمانية المأخوذة من التراث الأوروبي كعقيدة لا تقبل المساومة , بل يجب أن نراها كما هي, أن نراها تجربة قد توافق في بعض أطروحاتها واقعنا العربي و قد تخالفه في أطروحاتها الأخرى.
لست بلا إيديولوجيا ولا دين ... لكنني لست مغلقاً إلى درجة عدم إبصاري للواقع , للواقع الذي لا أنسى بحال من الأحوال أنه غايتي , وأن إيماني وأفكاري التي أحمل ماهي إلا وسيلتي لصلاحه وتطويره.
وهكذا فإنني لا أستطيع أن أتفهم المتشددين المنغلقين على مختلف الأطياف الفكرية ... لا أستطيع أن أعذر أي شخص يريد أن يعيش في أفلاطونياته الايديولوجية مغمضاً عينيه عن الواقع وعن متطلباته.
لكنني أتفهم أن كل ما لدى المتشددين من أمراض فكرية حقيقية هو ناتج في الأصل عن ابتعادهم القسري عن السياسة في ظل مناخ صراعاتي محموم.
نعم ... فإذا كانت السياسة هي فن الممكن , وبالتالي فن الواقع ... فإن العمل السياسي الديمقراطي المنفتح هو دواء كل علل التشدد والانغلاق.
إن خلق مناخ ديمقراطي حواري يبقى في نظري هو المسؤولية الأهم على عاتق المجتمعات العربية المطالبة بالحرية ... ففي هذا المناخ وحده تتحول الصراعات العسكرية و العشائرية إلى سجالات فكرية و حوارات مفيدة, وبالتالي لتفهم الواقع.
في هذا المناخ تضمحل كل أمراض التشدد و الانغلاق و السادية الفكرية التي باتت اليوم واضحة أكثر من أي وقت مضى عند أطياف المفكرين العرب .
#عابد_الأسود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟