|
(الله سِتر) !
عماد حياوي المبارك
(Emad Hayawi)
الحوار المتمدن-العدد: 4756 - 2015 / 3 / 23 - 13:12
المحور:
حقوق الانسان
(الله سِتَر) كان زميل الجامعة (عاطف) يقول انه وبالرغم من أن عشيرته (آل عشير) قد ساهمت في ثورة العشرين ضد الانكليز، إلا أن الدولة العراقية لا تزال لا تعترف بأنهم عراقيون 100 % ، لذا فأن شهادة جنسيته تقول أن تبعيته ليست ( أ 4 )، أي ليست عثمانية، وبالتالي فهو (مو) عراقي نقي ! وعاطف تلميذ مجتهد ومتفوق دراسياً، محبوب من الكل، وهو من عائلة غنية تسكن دار حديثة بالمنصور، لديه ثلاث أخوان مهندسين اكبر منه وأخ وأخت أصغر، وهم جميعاً من مملكة الحرف ع، والده رجل أعمال وصاحب معمل لصناعة نرمادات الأبواب والدواليب بالزعفرانية، وأخواله تجار بالشورجة. × × ×
انه ربيع عام أحدى وثمانون، نحن منشغلان بتهيئة وطبع مشروع استيفاء متطلبات شهادة البكالوريوس للتخرج من الجامعة التكنولوجية، وكان عبارة عن تصميم وبناء دائرة الكترونية تتحكم بمصعد كهربائي لبناية ذات أربعة طوابق. ... في عصرية هادئة، وبينما كنت أتهيأ للذهاب لموعدنا في المطبعة، هاتفني عاطف مرتبكاً طالباً أن أسرِع بسيارتي لبيتهم ... في غضون دقائق كنت هناك وسط مشهد تراجيدي لا يُنسَ... فهذه الأثاث الأنيقة الراقية تحولت في بيتهم إلى خراب وركام، فوضى وأصوات نحيب وتململ واستياء، أخته، أمه ... الكل يتخبط بالكل، وثمة جيران وناس فضولية تقلب هنا، وتراقب هناك، كان وأهله لا يزالون تحت تأثير ضغط عنيف لصدمة شديدة. فقد فاجأهم رجال (أمن) الدولة وعبثوا بمحتويات دارهم، وأعلموهم بمصادرة أملاكهم، وقد استولوا فعلاً على سيارتي صالون وعلى بيكب المعمل، وأبلغوهم بتجهيز أنفسهم سريعاً لنقلهم لمكان... (آمن) ! دخلتُ أمشي على أكداس حطام على الأرض، فقد كانت والدته (تهشم) الفرفوري والكرستالات بشكل هستيري على الأرض، طلب مني نقل ما غلا ثمنه وخف وزنه وبسرعة إلى بيت خالته في حي الجامعة، فملأنا سيارتي، وبحق كنت أجازف لان الرجال كانوا على وشك العودة. عند توديعه لي (أهداني) جهاز هاتفهم لأضعه بغرفتي للذكرى، وقال بأن عليّ إرجاعه حين... (يعود) !
مرت الأيام وعاطف قد اختفى، ومكافحة حزب الدعوة وتسفيرات التبعية على أشدها... هاتفني رجلاً: ألـــو... احنه من العامة، أنت عماد صديق عاطف ؟ شككت بأنها مزحة ثقيلة من زميلٍ ما... قلت لأكسر شكّي باليقين: شتريد حضرتك ؟ ـ هذا التلفون اللي بيدك مال عاطف، بعد شنطاك ها كول أحنه كل شيء نعرف ؟ وأضاف: دليني بيتكم بسرعة. هنا ظننت أن عاطف خرج وأن أحد الزملاء قد ألتقاه قبلي وعرفَ بأمر التلفون ويريد (ينصب) عليّ. فأجبته بحدة: مادام أنتم أمن يعني تستطيعون أن تعرفون كل شيء، ليش تسأل ؟ ولما سكت، بادرتُ باستخفاف وكل ظني بأني إنما أمازح صديقٍ ما... ـ أذا تريد تعرف وين بيتنا... اسأل أختك ! طار عقله ولم يجد ما يقوله فصاح: متريد اتكول، هسّة نعرف بطريقتنا ونجيك، اِنتظرْنا أبو الشباب ! قلت له: لحظة... لحظة... بيتنا بالقادسية محلة... قال: أكو مكان عام قرب بيتكم؟ قلت: قريب من إعدادية الصمود العربي للبنات. قال: أحنة ما نعرف وين أعداديات البنات، هذه أنتم تعرفوها لأنكم تتسكعون هناك ! ثم أغلق الخط. قلقت واتصلتُ سريعاً بجميع الزملاء مستفسراً عن عاطف، ثم اتصلت ببيت خالته والجواب طبعاً سلبياً، إذاً هو فعلاً مخابرات كون (شغلة) جهاز الهاتف لا يعلم بها سوانا. فهيئْت نفسي وفهّمتُ أمي بالأمر التي صممت البقاء بجانبي ـ لم يكن سوانا بالبيت ـ ورتبنا الوضع لاستقبال (الزلم اللي راح يهدّون عليّ) عسى أن أصلـّح (الجفصة). ولكي اُظهر مودّة للحزب والثورة بحثت بسرعة عن أية صورة للرئيس كي أعلقها بغرفة الاستقبال... صحت على أمي: يمعودة ماكو وكت دوري أي صورة. لم نجد بالبيت غير (روزنامة) للخطوط الجوية العراقية وعلى صفحتها الأولى إطلالته (البهيّة).
وبينما دق رجلين ببدلات رسمية الجرس، علـّقتُ الرزنامة على عجل بكلبس على الحائط، ثم استقبلتهما وتعذرتُ بشدة منهما وكنت مرتبك جداً، ودعيتهما للدخول لتهدئة أعصابهما، وأول ما دخلا غرفة الاستقبال، دارت عيونهما حول الحيطان بحثاً ـ فيما يبدو ـ عن أي مؤشر ديني أو سياسي، لكن في بيتنا لا يوجد ما يدل على أية ميول مما كانوا يبحثون عنها... وما أن أغلقتُ الباب، وإذا بتيار هواء يُسقط الرزنامة... طااااااق، وراح (ابو عداي) بالرجلين، متمدد (بالكاع)! انطوت الصورة بشكل شوّه (خلفته) وبدا بشع، لحسن حظي أنهما لم يقاوما هذا المشهد وانفجرا من الضحك، وليداري الموقف قال أحدهم... ـ لا تخاف مَ راح نؤذيك. ثم سألني الثاني، وأعتقد أنهم كانا يعرفون الجواب مسبقاً: أنت شيعي لو سني ؟ رديت: والله العظيم آني صُـبّــــــــــــــــــــــــــــــــي. ضحك و(عتَّ) جهاز التلفون من يدي وقال: فلتت ! قلت بقرارة نفسي: (اُف) همزين (الله ستر) وخلقني... صبّي ! × × ×
بعد أشهر كنت قد تخرجت وأدخلوني (عـُـنوة) كلية الضباط الاحتياط، وعلمتُ أن عاطف بسجن (أبو غريب)، ذهبتُ لزيارته مجازفاً لأني عسكري وسأتخرج ضابطاً، فألتقيته وأخبرني كيف ضغطوا عليه بعد أن اكتشفوا اختفاء جهاز الهاتف من بين أثاث البيت، وشكرني لإيصالي الأمانة لخالته*، وهمس بأذني كيف أن أمه قد فرّت بأخوه الصغير وأخته إلى سورية، وحمّلني تحياته لبنت خالته (زوجة المستقبل). وكاد أثر ختم زيارة السجن على معصمي في اليوم التالي يتسبب لي بمشكلة بساحة العرضات، لو لم ينبهني صديق مخلص، (همزين) قلت... (الله ستر) ! × × ×
بعد أن سرحتُ من الجيش بقرار اليونسكو*، تم تعييني مركزياً بوزارة الاتصالات، وبعد فترة تدريب أصبحتُ مهندس بدالة الصالحية، وكانت من بدالات بغداد الهامة جداً، كونها تخدم القصر الجمهوري وكثير من وزارات وفنادق العاصمة و(جهاز) المخابرات. كانت أيام من العام 1986 وسقوط مدينة (الفاو) بأيدي الإيرانيين تمر صعبة على العراقيين، ووكالات الأنباء تـُحلل الموقف وتصف القيادة في العراق بأنها بدأت (تترنح) على الحبال، واصفة صعوبة الموقف. خلال تلك الأيام العصيبة، أتصل على هاتف شكاوى بدالة الصالحية ذو الرقم 5371111 أحد (المواطنين) يسأل... ـ الجهاز... ؟ أجبته: شبيه جهازك ؟ كرر سؤاله: الجهاز... ؟ رديت باستفسار: عاطل ؟ ( ظننت أن جهاز هاتف منزله هو العاطل، ولكنه كان وبطريق الخطأ قد زوّل رقم 1 بالآخر بدل 2) صاح: هذا مو جهاز المخابرات 5371112 ، شنو عاطل، شنو الموقف، أني عميد علي ؟؟ ـ عفواً تاج راسي سيدي العميد، والله العظيم حضرتك تفضّلت وطلبت الرقم غلط، هذا رقم بدالة الصالحية، أحنة نصلح التلفونات العاطلة، مو رقم بدالتكم... ! تكرم السيد العميد وعمل طيب بأن أغلقَ السماعة بوجهي، حمدتُ ربّي أن الأمر توقف عند هذا الحد، لأني خلصت من مخالبهم وقلت... ... همزين (الله ستر) خصوصاً مع واحد مثلي... صاحب سوابق !
عماد حياوي المبارك
× تمرّ الآن خمسة وثلاثون عام على ماساة تسفير العراقيين من تبعيات إيرانية، تم بأولى سنيّها ودون (أي) ذنب سجنهم تعذيبهم ثم تشغيلهم طوال اليوم بظروف قاهرة بمعامل الطابوق، ثم لاحقاً وعناداً مع الإيرانيين حين قاموا بشحط وتمثيل جثث أسرى عراقيين، عملَت القيادة بالعراق بالمثل و(زايد) و... أعدمهم ! × بضغط من اليونسكو ـ بعدم الاعتراف بشهادة الهندسة العراقية لو لم يُمارس المهندس الاختصاص خلال ثلاث سنين ـ استجاب النظام ووقع قرار تسريح المهندسين من الجيش. × بسبب اقتران خالة عاطف من شخص من غير التبعية الإيرانية، تم غض النظر عن تسفيرها !
الغاية من المقال : هذه صورة لاستنزاف البلد وأختراق حقوق الإنسان فيه، فكم تعب العراق ببناء طاقات شبابية كفئة، وخسرها بجرة قلم رعناء. فقد كان المرحوم عاطف وكل عائلته ناس وطنيون ميولهم عراقية لا يعرفوا عن إيران أكثر مما نعرفه عن غيرها كبلدان جوار لا أكثر. وكان الرجل ليس بمتدين ولا متحزب ولا متعاطف مع إيران طول فترة علاقتي به التي امتدت لأربعة أعوام. وهل يصح يوماً ان يُرمى أحفادنا نحن من اصل عراقي الذين نعيش بأوربا لمجرد تأتي أنظمة مناوئة للنظام بالعراق؟
السياسة شيء وحقوق الإنسان شيء آخر، والعراقيون هم وطنيون فيما لو أوفوا لتربيه ونخيله ومياهه وأكلوا من ثماره.
#عماد_حياوي_المبارك (هاشتاغ)
Emad_Hayawi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مَن القاتل؟ ج 3
-
من القاتل؟ ج 2
-
مَن القاتل؟ ج 1
-
لعنة الكويت
-
ظاهرة البرازيلي
-
صراصر... بنات عوائل
-
حلال... حلال
-
عيون... (العيون)
-
(حبيبة)... الحبيبة
-
ما في حد... أحسن من حد !
-
عصر الفولاذ
-
السبي في التاريخ
-
جداريات... (تشوّر)!
-
في 13 شباط... استذكار شهداء ملجأ العامرية
-
تهنئة لمواليد 29 فبراير
-
نذر لاند
-
البوسطجي
-
مدارس أو مذاهب
-
لغز بِعثة (فرانكلين)
-
عن الأسماء وعن القصص...
المزيد.....
-
الخارجية الفلسطينية: تسييس المساعدات الإنسانية يعمق المجاعة
...
-
الأمم المتحدة تندد باستخدام أوكرانيا الألغام المضادة للأفراد
...
-
الأمم المتحدة توثق -تقارير مروعة- عن الانتهاكات بولاية الجزي
...
-
الأونروا: 80 بالمئة من غزة مناطق عالية الخطورة
-
هيومن رايتس ووتش تتهم ولي العهد السعودي باستخدام صندوق الاست
...
-
صربيا: اعتقال 11 شخصاً بعد انهيار سقف محطة للقطار خلف 15 قتي
...
-
الأونروا: النظام المدني في غزة دُمر.. ولا ملاذ آمن للسكان
-
-الأونروا- تنشر خارطة مفصلة للكارثة الإنسانية في قطاع غزة
-
ماذا قال منسق الأمم المتحدة للسلام في الشرق الأوسط قبل مغادر
...
-
الأمم المتحدة: 7 مخابز فقط من أصل 19 بقطاع غزة يمكنها إنتاج
...
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|