|
اللغة والمجتمع، بوريس سربرنيكوف
اللجنة الاعلامية للحزب الشيوعي الاردني
الحوار المتمدن-العدد: 4755 - 2015 / 3 / 22 - 20:26
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
اللغة والنواميس اللغوية، يجب أن تدرس جميعاً في اطار العلاقة الوثيقة القائمة بينها وبين تاريخ المجتمع. ذلك أن اللغة-أية لغة-معتبرة اليوم حصيلة اجتماعية، ونتاجاً للتاريخ الاجتماعي. واللغة، بعد كل تحليل لا تنطوي على شيء لا يمكن رده بصورة مباشرة أو غير مباشرة، الى تاريخ المجتمع الذي تعيش فيه. فاللغة كما يقول ستالين: (هي احدى الوقائع الاجتماعية الفاعلة والمؤثرة في سياق الوجود الاجتماعي وديمومته كلها. فهي تبقى ببقائه وتزول بزواله. وليس ثمة امكان لوجود أية لغة خارج نطاق المجتمع. ومن هنا لا نستطيع فهم اللغة، وقوانين تطورها الا اذا توجهنا لدراستها من حيث صلتها الوثيقة بتاريخ المجتمع، اي بتاريخ الشعب الذي تنتسب اليه اللغة موضوع الدراسة، والتي ابدعها وتحيا على لسان ابنائه). وهذه المقولة هي حجر الزاوية للألسنية السوفييتية المعاصرة. ومسألة العلاقات التي تقوم بين الظاهرات اللغوية وتاريخ المجتمع، هي احدى المسائل النظرية الأساسية لمجمل علم اللغة. على أن حالة التقدم في معالجتها ليست في الوضع الذي يكفي رغبتنا ويروي غليلنا. ولعل النقص الجوهري في تطور دراستها راجع لكون اللغويين ما يزالون يكتفون بايراد الفرضية العامة التي تقول بضرورة دراسة تاريخ لغة ما من ضمن ارتباطه بتاريخ الشعب الذي يتداولها. والمعروف أن قضية الاعتبار التاريخي، اي قضية العلاقات المتبادلة بين تاريخ اللغةـ، وتاريخ الشعب الذي يتداولها، هي على جانب كبير من التعقد والتداخل اللذين يتجسدان في أكثر من مظهر ويتسمان بسمات متعددة. ولسنا نستطيع أن نبلغ الوضوح والدقة اللازمين لحل هذه القضية التفصيلية أو تلك، من مثل القضايا التي نصطدم بها غالباً في دروس الفيلولوجيا مثلاً، وفي تحضير وسائل التعليم وغيرها، الا اذا لجأنا الى تجزئة قضية الاعتبار التاريخي وعناصرها المختلفة بغية دراستها دراسة مستقلة بعضها عن بعض بطريق النقاش وتبادل التجارب ونتائج الاختبارات بين اللغويين في مختلف فروع تخصصهم. ان كاتب هذا البحث، لا يدعي لنفسه القدرة على ايجاد حل للمسألة برمتها. لكنه على يقين تام من انه يمكن الانطلاق الى معالجتها من زوايا مختلفة اشد الاختلاف، والبحث عن حل لها في طرق متشعبة ومتباعدة اعمق التباعد. أما الغاية الأساسية لهذا المقال فهي تفكيك القضية التي نحن بصددها الى سلسلة من المسائل الجزئية التي لا بد من طرحها، في الأقل، من باب كونها اسهاماً في النقاش، وان ادى هذا الطرح الى نفي كل محاولة مجدية لتجسيد القضية بمجملها تجسيداً حسياً ملموساً. ويتضمن المقال ايضاً محاولة لحل بعض القاضايا الجزئية المستندة الى مواد مستعارة من لغات مختلفة. لا مناص، قبل كل شيء، من تحديد مدلول الاعتبار التاريخي في اطار علم اللغة تحديداً واضحاً ودقيقاً. والمعروف، في دراسة ظاهرة لغوية خاصة، ان مفهوم الاعتبار التاريخي لا يفترض المطابقة بين تاريخ الظاهرة اللغوية وتاريخ المجتمع. وهكذا مثلاً عندما نؤكد على ان صيغة المفرد المضاف اليه (Genus) للفظة (Genos)، اليونانية بمعنى الشعب، قد تقلبت في سلسلة من الأشكال خلال تطورها التاريخي من صيغة (Genesos) أولاً، الى صيغة (Gemehos)، ثم الى صيغة (Geneos)، فالى صيغة (Genenos)، وأخيراً فاننا نلاحظ جيداً ان ثمة مساراً تاريخياً، لكننا لا نحاول ان نربط كل ظاهرة بتاريخ اللغة بتاريخ الشعب اليوناني، وعلى العكس عندما نلاحظ أن كلمة (Lumen) بمعنى الضوء أو النور في اللغة الرومانية قد اتخذت في تاريخ تلك اللغة معنى (الكون، العالم) فاننا لا نقرر فقط تاريخية هذه الظاهرة اللغوية، بل أننا نذهب الى ربطها ربطاً محسوواً بتاريخ الشعب الروماني الذي مارست الشعوب السلافية تأثيرها عليه وعلى لغته.
نمطان من العلاقة التاريخية ان طبيعة الصلات التاريخية بين اللغة والمجتمع، تتغير بحسب الأحوال من ظرف الى اخر، وعندي أن ثمة انماطاً ونماذج مختلفة لها، يتحدد كل واحد منها، قبل كل شيء، بالمبدأ ذاته الذي يقوم عليه وينطلق أصلاً منه. وهنا نتوقف عند نمطين فقط نعتبرهما الأكثر دلالةً وتمييزاً: 1- ان الظاهرات اللغوية قد ترتبط بالعوامل التاريخية استناداً الى مبدأ علاقة عامة مؤاده: ان صفة ظاهرة ما، أو حدث (تاريخي)، تحدد حالة مقابلة في الظاهرة الأخرى، أو الحدث الاخر (اللغوي). فليس من شك مثلاً في ان لغات المجتمعات التي تنتمي الى اسرة المجتمع الأبوي، اي البطريركي، كانت اكثر بدائية من اللغات المعاصرة. ان التعقيد المتعاظم لأساليب الانتاج، وظهور بنيات اجتماعية واقتصادية جديدة، لا يمكن الا يؤثر في تطور اللغات. يقول جوزيف ستالين: (ان التطور اللاحق الذي حققه الانتاج، وظهور الطبقات وظهور الكتابة، وولادة الدولة التي فرضت ادارتها قيام شكل من اشكال التراسل المنظم، وظهور الطباعة وتقدم الاداب وازدهارها، كل هذه الأحداث والوقائع قد حملت معها عوامل التغيير الواسع في مجرى تطور اللغة. وخلال تلك المراحل الزمنية كانت القبائل والتجمعات القومية تتجزأ وتتلاشى، وتتمازج وتتقاطع، بحيث ظهرت على الاثر، لغات قومية ودول قومية، وبحيث حدثت حدثت انقلابات ثورية حلت فيها أنظمة جديدة مكان الأنظمة القديمة. ان جميع هذه الوقائع قد اثرت أكثر ما يكون التأثير في اللغة وفي تطورها). ان العلاقة العامة المتبادلة بين تطور اللغة وتطور المجتمع تجد، في هذه الحالة، تعبيراً لها في الطبيعة الأكثر تطوراً للغة من حيث غنى معجمها، وتكامل بنيتها الصرفية، وبنيتها النحوية بشكل أخص. بيد أن التغييرات اللغوية، بحسب هذا المبدأ من العلاقة، لا تذهب لحد المساس بالنظام الصوتي للغة، ولا تصيب التطور العميق لمعجمها الأساسي، وبنيتها العامة. (وقد يكون من الخطأ الخطير الاعتقاد بأن اللغة تتطور بالطريقة نفسها لتطور البنية الفوقية، اي بهدم ما كان موجوداً وباقامة جديد لم يكن. فالحقيقة أن اللغة قد تطورت، لا بمعنى هدم اللغة القائمة وتأسيس لغة جديدة مكانها، بل بمعنى تطور واكتمال العناصر الأساسية للغة الموجودة. ثم ان العبور من نوعية لغوية الى نوعية غيرها لم يتحقق قط بانفجار يقع فيهدم، بضربة واحدة، القديم القائم ليبني جديداً مكانه، وانما بتراكم بطيء، وخلال مرحلة طويلة، لعناصر من النوعية الجديدة، من البنية الجديدة للغة، وبتفتت مطرد ومتزايد لعناصر النوعية القديمة)، كما كتب ستالين. وعليه، فليس ثمة وجود لنظام صوتي خاص بهذا التشكل الاقتصادي الاجتماعي أو ذاك، وليس ثمة ايضاً بنائية صرفية نوذجية للغات العصر الاقطاعي او الرأسمالي، الخ. وكما اشرنا سابقاً فان الصلة بين الظاهرات الغوية والوقائع التاريخية لا تعلن عن ذاتها، بحسب مبدأ العلاقة التبادلية العامة، الا بدرجة تطور اللغة تطوراً كبيراً او صغيراً، وهكذا، فالمجتمع الذي يبني الشيوعية في هذه الفترة، يمتلك لغة اكثر تطوراً بما لا يقاس من لغة عصر العشائر والقبائل. على ان الأشكال المحسوسة التي يتجسد فيها تطور اللغة ذاته متنوعة اشد التنوع والاختلاف. 2- ان علاقة التاريخ باللغة، والتاريخ بالشعب، تتحدد بكون اللغة تعكس الصفة النوعية لتاريخ الشعب. ومن هنا، فان وجود عدد وافر من مفردات عربية في اللغة الايرانية الراهنة، يمكن تفسيره على اساس التأثير العميق الذي مارسه الاسلام والثقافة العربية. كما ان اشتمال معجم اللغة الانجليزية على دخيل من شأن ذي اصل رومانوي (Roman) يعود مباشرةً لاجتياح النورمان لانجلترا. على أن هذين النمطين من العلاقة هما أبعد من ان يكونا الوحيدين من بين الأنماط التي يمكن ان يواجهها الباحث، الا انهما، ولا ريب، من اكثر الأنماط دلالةً وأشدها نموذجية.
وعندما يدور الكلام عن صلة تاريخ اللغة بتاريخ الشعب، يجب أن لا يغرب عن البال انه لا يمكن رد كل ظاهرة لغوية الى مرحلة محددة من حياة الشعب. ولا بد للغوي الذي يحاول أن يفعل ذلك من أن يجد نفسه امام احدى الحالتين التاليتين: 1- امكان رد كل ظارهة لغوية بسهولة وبيسر الى واقعة محسوسة في حياة الشعب، وشرحها استناداً الى تلك الواقعة. 2- استحالة رد الظاهرة الى اية واقعة حسية في حياة الشعب، واستحالة تحديد تاريخ بروز الظاهرة. فضلاً عن انها غالباً ما تكون غير محددة بأية واقعة تاريخية دقيقة. وسنحاول توضيح ذلك بالأمثلة والشواهد. ان ظهور طائفة هامة من الألفاظ الجديدة في قاموس اللغة الروسية في العصر السوفييتي، يمكن ارجاعه الى مرحلة محددة بصورة تامة ومحسوسة من تاريخ الشعب الروسي. كذلك على سبيل المثال، فان مصطلحات ذات اصل هولندي، يعود بلا شك الى عصر بطرس الأكبر. وعلى النقيض من ذلك، يستحيل ان نرد الى اية مرحلة تاريخية محددة، وبصورة حسية، صيغة كلمات روسية، مثل (pit)، أو (nesti)، ان سلف فعل (pit)، (شرب) لربما كان موجوداً في خزانة اللغات الهندواوروبية، انظر (pi)، في الألبانية، و(pino)، في اليونانية، و(bibo)، والمتحدرة من (pibo)، في اللاتينية. غير ان المرجح أو انه قد وجد قبل تكون المعجم المتداول للغات الهندواوروبية. ولسنا نعرف ايضاً ما اذا كان الفعل (Nesti)، (حمل، قد ولد اثناء سيادة الطائفة اللغوية المعروفة بالبالتو- سلافية "انظر Nechti بالغة اليتوانية، Nest بالليتونية" ام في عهد الطائفة اللغوية المعروفة بالهندوأوروبية (انظر Enegkon- حملت- في اللغة اليونانية). وبصورة عامة، ان محاولة الكشف عن تكوين الكلمات والصيغ بالنسبة للغات القديمة أمر يفتقر في اغلب الأحيان الى معرفة تاريخ ذلك التكوين بشكل دقيق، أو حتى بشكل تقريبي. فقد نستطيع التأكيد مثلاً على أن المصوتات القديمة (O, E, A)، في اللغات الهندوايرانية قد امتزجت وانصهرت في حرف مصوت واحد الحرف A، غير ان احداً لا يعرف على وجه الدقة متى وفي اي عصر جرى ذلك؟ وهكذا، كما لاحظنا سابقاً، فان ظهور هذا الحدث اللغوي او ذاك، يمكن بسهولة ان لا يرتبط بأي حدث تاريخي محسوس. من هنا، مثلاً، ان الجميع المرفوع للفظة (Khora)، اليونانية، بمعنى بلد، كان في اللغة اليونانية الكلاسيكية بصيغة (Khorai)، ثم انها ما بين القرن العاشر والرابع عشر قبل عصرنا، ولربما قبل ذلك التاريخ، ظهرت في اللغة المحكية صيغة جديدة لهذا الجمع المرفوع، هي صيغة (Khores)، وقد استحدثت مجاراة لصيغة الاسماء المطابقة لها في النمط الثالث والتصريف الاعرابي (راجع صيغاً مثل: (pateres)-اباء- و(paides)،-أولاد- الخ. وكذلك في اللغة الايطالية مصدر فعل (Esse)-كان- اللاتيني، لحقته اضافة (Re)، اخره مجاراة للصيغ المصدرية مثل (parlare)- الكلام- و(laudare)- الايجار- الخ.) فالواقع المؤكد، هو ان محاولة الربط بين مرحلة معينة من تاريخ المجتمع، وبين هذه او تلك من الظاهرات الصوتية اللغوية الخاصة او هذه او تلك من التحولات على اساس المجاراة والمقارنة او التغييرات التي تطرأ على المصادر والجذور، لا يمكن ان تقدم لنا بحد ذاتها شيئاً جوهرياً لدراسة العلاقات بين تاريخ اللغة وتاريخ الشعب. وفي الحقيقة، ماذا نستطيع ان نعرف أكثر عندما نكتشف في اي مرحلة معينة من تاريخ الشعب قد حدثت ظواهر لغوية مثلا التشابه الاعلامي Assimilationاو الترخيم الفظي Syncope أو مثل التلفظ ببعض الحروف الساكنة والحروف المصوتة، واختصار النطق ببعض مجموعات الحروف الساكنة وغيرها؟ اننا لن نكون في الواقع اكثر استنارة بمجرد اننا استطعنا رد الأنماط النموذجية المختلفة التي تحدث في الغة الى مراحل محسوسة من تاريخ الشعب. وما هي تلك الأساباب التاريخية الملموسة التي تتيح لنا مثلاً امكان تفسير زوال كلمة vesper، اللاتينية من اللغتين الفرنسية والايطالية ، وحلول لفظتي (Sera)، بالايطالية و(soir)، في الفرنسية محلها، وهما مشتقتن من الصفة (serus)، في اللاتينية ومعناها (متأخر)، وأية اسباب وجيهة في التاريخ ادت الى ابدال كلمة (hippos)، حصان، المستعملة بكثرة في اللغة اليونانية القديمة، بكلمة (logo)، أو الى ابدال كلمة (hudor)، ماء، بكلمة (nero)، وما هي هي الدوافع الى استبعاد كلمة (Augustus)، ضيق، اللاتينية واستعمال صفة جديدة مكانها، هي (Stretto)، في الايطالية. بعض اللغويين يأخذ هذه المعطيات المنطقية على انها دعاية ضد المؤثرات التاريخية في الغة، ويؤكد على ان جميع الاظاهرات المذكورة انفاً ترتبط مباشرة بتاريخ الشعب، والحال، ان تلك الأمثلة قد يكون من الأصوب معها، ليس ربط الظاهرة اللغوية بتاريخ الشعب، وانما رد العنصر المحسوس الذي يبرز فيه التاريخ، ومعنى ذلك، قابلية اللغة وقدرتها على السير في طريق المجاراة والتماثل أو في اي نمط اخر من انماط التداخل والتجامع، تلك القدرة التي تكون، هي ذاتها نتاج تطور تاريخي طويل للبشرية في كمجموعها. ان القدرة على السير في طريق المجاراة في طريق التماثل اللغوي، وفي طريق التعميم والاستيعاب، الخ، هي ثمرة تجربة تاريخية واسعة للجنس البشري، ومنذ ان نشأت تلك القدرة، اصبحت عاملاً يعمل باستمرار بحيث أن مجموع اجهزة اللغة وموادها، تضع امام عامل القدرة ذلك، عدداً ضخماً من الامكانات. يكفي مثلاً ان تتهياً في بعض نماذج التصريف صيغة او صيغتان مترابطتان في المعنى، او اشكالاً من المعاني المتوازية والمتعادلة فقط، لكي تحدث سياقاً من التوحيد عن طريق التشابه والتماثل. ان معجم اية لغة من اللغات لأن يتيح امكانات لامتناهية في تكوين مختلف التغيرات المتصلة بدلالة الألفاظ ومعلانيها، ولهذا السبب، فان مختلف التغيرات الصرفية للغات، وانتقال لفظة من مكان الى مكان، أو حلول كلمة محل كلمة، ليس من الامور ذات الصلة المباشرة والانية في الغالب بالوقائع والأحداث التاريخية الخارجية، من هنا نرانا مدفوعين الى الموافقة على ان تاريخ المجتمع البشري الذي يتسبب في تطور الوعي والفكر قد اوجد هو نفسه في الميدان اللغوي، شيئاً مستقلاً بذاته الى حد بعيد، وجعل بالامكان ظهور بعض الأنماط التي يتعذر علينا شرحها وتعليلها، استناداً الى هذا العامل الخارجي او ذاك، وهذه العمليات والأنماط، هي ظاهرات ذات طبيعة خاصة، لا يستطيع مؤرخ اللغات ان يسمح لنفسه بتجاهلها، وهكذا تتأكد لنا دقة النموذجين الأكثر سيرورة في العلاقات: 1- علاقة الظاهرة اللغوية بمرحلة جديدة من تاريخ الشعب 2- علاقة الظاهرة اللغوية بمجمل التجربة التاريخية للبشرية بصورة اجمالية وكلية.
العوامل الخارجية والعوامل الداخلية لتطور اللغات بعد تحديد هذين لنمطين من الصلات، يجب الان ان نتطرق، الى مسألة لعوامل الخارجية والداخلية في تطور اللغات وتغيرها. ان التغييرات اللغوية يمكن أن تتحدد بمؤثرات وعوامل خارجية. في هذا الصدد يقول ستالين: (ان الفلك الذي يدور فيه نشاط اللغة، واللذي يحتضن حقول نشاط الانسان بكاملها، هو اوسع حدوداً بما لا يقاس، وأكثر تنوعاً من الفلك الذي تنشط فيه البنية الفوقية للمجتمع. بل يمكن القول بأنه-اي فلك اللغة- يكاد ان يكون فلكااً لامتناهياً ولامحدوداً. وهذا هو لسبب الأساسي لكون اللغة، أو معجمعا بصورة أدق يظل في حالة من التغير المستمر. ان النمو لمطرد للصناعة، والزراعة والتجارة، ووسائط النقل والتقنية والعلوم، يفرض على اللغة أن تغني قاموسها بمفردات جديدة، وبتعابير جيددة يقتضيها ذلك النمو والازدهار. واللغة التي تعكس مباشرة تلك الحاجات لا بد لها من أن تغني معجمها بألفاظ جديدة ومن أن تعمل على تطوير نظامها الصرفي وتحسينه). الا أن ثمة ايضاً، الى جانب العوام الخارجية هذه، عوامل ومؤثرات داخلية تتجلى في النظام الذي تكونه مواد اللغة التي تفرضها وتحددها طبيعة هذا النظام وخصوصياته. ان العوامل الداخلية هي، في مفهومنا هنا، تلك العوامل والمؤثرات التي تحدد مختلف أنماط التغيير المتصلة بالصيغ الصرفية وبدلالة الألفاظ ومعانيها، كما تحدد كذلك التغييرات الناجمة مباشرةً عن استعمال اللغة ذاتها كأداة اتصال وتخاطب (النزعة الى التمايز والتفاضل، اسقاط الحشو وحذف النوافل...). وسنحاول شرح هذه الفرضية بالأمثلة المحسوسة. من المعروف أن اللغة اليونانية القديمة تخصص صيغتين مختلفتين لنهاية الفعل الماضي المبهم (Aoriste) ونهاية الفعل الماضي الذي يفيد التكرار عند حدوث فعل اخر (Imparfait)، كقولك في الماضي (Epaideusas) (Epaideuse) (علمت، ثقفت) وفي صيغة الجمع: (Epaideusamen) (Epaidesate ) (Epaideusan) وكقولك في الماضي الذي يدل على التكرار والاستمرار: (Epaideuses) (Epaideue) (Epaideuomen)، وجمعه: Epaideuete)) (Epaideuon). أما في اللغة اليونانية الحديثة فان لماضي المبهم، وماضي التكرار والاستمرار، صيغة واحدة في نهايتها. في الماضي المبهم لفعل (Ekrupsa) وهو بمعنى أخفى وخبأ، نقول: Ekrupses, Ekrupse, Ekrumpsame, Ekrupsate, Ekrupsan وفي الماضي الذي يفيد التكرار والاستمرار نقول: Ekrubes, Ekrube, Ekrubame, Ekrubate, Ekruban، من الواضح أن الظاهرة لتي نصفها ليست ناجمة الا عن تأثير العوامل الداخلية. وتفسير ذلك أولاً: وجود نوع من المشاركة في البنية بين الماضي المبهم، وماضي التكرار والاستمرار، ووجود صيغة واحدة (e) في نهاة الغائب المفرد. ثانياً، استعمال صيغة الفعلين الماضيين للدلالة على أحداث مضت، وامكان استعمال الفعل الماضي المبهم في بعض حالات ذات صفة تكرارية أو استمرارية. ثالثاً سقوط الحرف (n) الأخير الذي أفسح المجال لظهور صيغ شاذة من نمط (Epaideuo) (المتكلم المفرد والغائب الجمع) وهي صيغ ينزع فيها التغاير والاختلاف الى الزوال بسبب بعض التوافق والمطابقة مع نهاية صيغة الحاضر للمفرد المتكلم (Paideuo, Epaideuo). ان هذه لمؤثرات والعوامل الداخلية قد فعلت فعلها بحيث أدت الى توحيد كامل لعلامات الاعراب التي تدل على شخصية المتكلم في أواخر صيغة الماضي المبهم والماضي التكراري أو الاستمراري. وفي ميدان علم الأصوات تسود بوضوح التغيرات الناتجة عن لمؤثرات الداخلية، وهكذا لا يمكن تفسير ظاهرة الامالة (Inflexion) في تاريخ اللغة الألمانية الا بتأثير الحرف المصوت لموجود في المقطع اللاحق، بحيث أن وجود أحد الأحرف الصوتية المفتوحة في اخر الكلمة (o,e,a) يؤدي الى وجود مصوتات اكثر انفتاحاً في صلب الكلمة (e, o, eo) اما اذا كان صلب الكلمة متبوعاً بحر صوتي منغلق (i, u) فان الحرف الصوتي الذي يشتمل عليه اخر الكلمة يصبح حرفاً وتياً منغلقاً (I, u, iu) وانظر كذلك في اللغة الألمانية القديمة (gibis) (انت تعطي) و (gibit) (هو يعطي)، في مقابل (gebames) (نحن نعطي) و(gebant) (هو يعطون). والحق، أن المطابقة بين جميع اشكال علاقة اللغة بالمجتمع، وبين مختلف عوامل التغيير في اللغات قد ييسر لنا بعض الشيء حل مشكلة العلاقة بين تاريخ اللغة وتاريخ الشعب، سوى أن ذلك لا يجعل المسألة أقل تعقيداً مما هي. وفي واقع الأمر يبدو أن لأنماط المختلفة للعلاقات، والمؤثرات المختلفة لتغيير اللغوي، غالباً ما تتمازج في شكل مبهم يتعذر كشفه، بحيث يرتبط فعل أحد المؤثرات الداخلية بفعل أحد العوامل الخارجية كما سنرى ذلك بالأمثلة والشواهد. ففي تركيا عندما مست الحاجة، اثناء نمو الملاحة بواسطة السفن البخارية، الى ايجاد لفظة تسمى بها المروحة الدافعة اتعان الأتراك لهذه الغاية بكلمة (pervane) ومعناها الحرفي (فراشة)، وهذا الشهد يؤكد قطعاً تضافر العمالين معاً: العامل الخارجي وهو ضرورة تسميته جزء من جهاز السفينة. والعامل الداخلي وهو وجود كلمة (pervane) في اللغة التركية وامكن اتخدامها لايجاد المصطلح اللفظي الجديد انطلاقاً من مبدأ التداعي والاقتران... وقس على ذلك تسمية البطاطا في اوروبا بلفظة (Tartufolo) في لغة أهالي جنوى العامية، وبلفظة (tartufel) في لنمسا... وهي تسمية تمت تحت تأثير العوامل الخارجية والداخلية معاً. فالعامل الخارجي كان دخول نبتة البطاطا الى اوروبا بعد اكتشاف امريكا، وكان لعمال الداخلي في لغة أهل جنوى وجود كلمة (tartufolo) كأساس لولادة التسمية الجديدة انطلاقاً من مبدأ لتداعي الفكري على صعيد الكلمات ومعانيها. وعليه، يمكن الاستنتاج ان العامل الخارجي مرتبط مباشرةً بتاريخ الشعب، في حين ان امكان وضع العامل الداخلي ووضع الفعل لا يرتبط غالباً بتاريخ المجتمع.
التغيرات الصوتية يصبح من السهل رد الظاهرات اللغوية الى تاريخ الشعب اذا حددنا ماذا يعني مفهوم (عنصار تاريخ المجتمع). وهذا التحديد ضروري بمفقدرا ما أن الظارهات اللغوية لا يمكن ردها الى كل ظاهرة من ظاهرات تاريخ المجتمعات. ان ن. مار و(تلامذته) في مسعاهم لربط الظاهرات اللغوية بتاريخ المجتمع يتحدثون خاصة عن تعاقب اشكال الانتاج، والاسس والبنيات الفوفية والفلسفات المطابقة لها تاركين جانباً كل ما عداها. الا ان كلاسيكيي الماركسية اللينينية عندما قالوا بوجوب البحث عن (ينبوع الحياة الروحية للمجتمع، وعن منشأ الأفكار الاجتماعية، والنظريات الاجتماعية والأفكار السياسية والمؤسسات السياسية ذاتها، بل في شروط الحياة المادية للمجتمع، في الكينونة الاجتماعية لتلك الأفكار والنظريات والاراء الخ...) فانهم لم يسقطوا من حسبانهم جميع العناصر الشديدة الاختلاف لتاريخ المجتمع. ان تاريخ مجتمع ما لهو الطريق الذي اجتازته المجموعة البشرية التي يتشكل منها هذا المجتمع. وهو تاريخ يشتمل على سلسلة طويلة من الأحداث التاريخية المختلفة. وأن تفكك الجماعة، وهجرتها نحو مواطن جديدة، والحروب والثورات التي تخوضها، وتبدل قواعد البنية التحتية، وتطور البنية الفوقية وتوجهها في السياسة، والأدب والفن، والرسم، والاصلاحات ذات النتائج البعيدة المدى، وتلك المراحل المنعزلة من تاريخها، والعهدود التي تتلقى فيها تأثير الشعوب المجاورة، وخصائص تطور الانتاج، وتعاقب اشكال انماط النشاط الانساني المختلفة، والانتصارات والاكتشافات الجغرافية، وأطوار الجمود والتقهقر، والعهود التي يبرز فيها اثر الشخصيات التاريخية من رؤساء الدولة، وكبار الكتاب والشعراء، واشياء عديدة غيرها تؤلف جميعاً ما ندعوه عناصر التاريخ لهذا الشعب أو ذاك. ومن خصائص اللغة وميزاتها ان بعضاً من ظواهرها يرتبط في صوة مباشرة وانية بذلك العنصر من تاريخ المجتمع، في حين ان بعضها الاخر يفتقد وجود تلك الرابطة المباشرة والانية. ان انصار (الألسنية الجديدة) الذين يسزعمون ان في وسعهم ربط الظاهرات اللغوية بتاريخ المجتمع، لم يكلفوا انفسهم قبل ذلك دراسة التطور التاريخي لمختلف عناصر اللغة، ومعرفة طبيعتها الحقيقية والملموسة. ولا ريب في انه من دون القيام بهذه الدراسة يبقى الكلام على العلاقة بين اللغة وتاريخ الشعب مجرد ثرثرة لا جدوى منها. لقد أظهر جوزيف ستالين، في صورة واضحة ومحسوسة الى اقصى حد، الخصائص الحقيقية لتطور اللغات التاريخي. ومنذما برزت هذه الخصائص الى النور بدا واضحاً ان اللغة ليست بنية فوقية كما كان يؤكد مروجو افكار (مار) وأن قوانين تطورها لا يمكن أن تكون مماثلة لقوانين تطور البنية التحتية والبنية الفوقية. ان كل للغة من لغات البشرتتضمن حقولاً ثلاثثة محددة في دقة ووضوح: الأول هو البنية الصوتة، الثني هو التركيب المعجمي، والثالث التركيب الصرفي والنحوي. ان التطور الصوتي لغة ما يعبر عن نفسه في صورة واضحة بتغييرات نوعية تصيب بعض الأصوات، أو مجموعات من الأصوات. وبحلول بعض القوانين الصوتية محل غيرها، وباختفاء بعض الأصوات، أو مجموعات من الأصوات، وظهور اصوات ومجموعات اصوات جديدة. والصلة بين التطور التاريخي للنظام الصوتي وبين تاريخ الشعب تحددها طبيعياً وقبل كل شيء، الخصائص المحسوسة والمميزات التي يتصف بها النظام الصوتي المشار اليه. ولا بد لتلك الخصائص المحسوسة من أن تدل رأساً على عناصر تاريخ المجتمع التي يمكن أن تقوم معها الصلة وعلى تلك التي يستحيل، ومن العبث أن نحاول معها ايجاد صلة بالظاهرات الصوتية. نرانا هنا مضطرين الى الاقرار بأن الصورة العامة للنظام الصوتي، في اية لغة من اللغات، لا يمكن أن يكون مراة لأي عصر من العصور. ان التاريخ لا يعرف نموذجاً من اللغات عاشت في ظل النظام الاقطاعي وكانت صوتياً مختلفة عن تلك التي تداوللتها الألسن في مرحلة الرأسمالية من حيث بعض الصفات النويعة لنظامها الصوتية. فليس ثمة أنظمة صوتية خاصة بلغات القبائل، والعشائر والشعوب أو الأمم. وما نشاهده من ضروب التغيير في لفظ الحروف المعتلة، أو الحروف الساكنة، يمكن أن يحدث في كل العصور والمراحل، مهما تكن حالة المجتمع وطبيعة نظامه.
واذا استعرضنا نماذج محددة من التطورات الصوتية في اللغة الألمانية والروسية والفرنسية والانجلوساكسونية، تبين لنا انها مستقلة في تطورها عن حالة المجتمع وأنظمته السياسية والاقتصادية... وهي لا تزيدنا معرفةً بحالة لمجتمع أكثر مما يزيدنا تركيب احدى الكلمات عن طبيعة مدلولها وصفاته. وعليه نستنتج انه بين سمة عصر من عصور التاريخ وبين طبيعة التبديلات التي تصيب النظام الصزتي للغة من اللغات، لا يمكن التحدث عن اية علاقة بمعنى الصلة المتبادلة على مستوى المجموعات الكلية. الا أن هذا التأكيد لا يستبعد امكان اقامة صلة بين التغيرات الصوتية وبين هذه أو تلك من الوقائع الخاصة في تاريخ المجتمع، كما تبين الشواهد التالية: ان حرف s في اللغة البرتغالية يلفظ s اي بصورة السين، في البارزيل اذا كان واقعاً في اخر مقطع صوتي منغلق في نهاية الكلمة أو اذا كان متقدماً على حرف ساكن مهموس. في حين أن الحرف نفسه يلفظ في اوروبا البرتغالية ch اي بصورة الشين. فكلمة os escravos (العبيد) مثلاً، تلفظ ouz ichkravouch في اوروبا، و ouz iskravous في البرازيل، فكيف يمكن عند دراسة البرتغالية الأوروبية مثلاً، ارجاع هذه الظاهرة الصوتية الى تاريخ الشعب البرتغالي؟ ان النواميس الصوتية لأية لغة تلتقي جميعاً في هذه الخاصة، وهي أن تلك النواميس تكون مقبولة وصالحة في فترة من الزمن معينة، وفي اطار وحدة لغوية نوعية، اي في اطار لغة رسمية، او في اطار لهجة عامية. وهكذا فان اي تقهقر يصيب مجموعة بشرية ما، وكل تجزؤ لمجموعة لغوية ناتج عن ذاك التقهقر، يفتح الباب لقوانين صوتية جديدة في كل جزء من أجزاء المجموعة اللغوية منظوراً اليه بمفرده. ومن هنا فان قانوناً صوتياً جديداً مرتبطاً في جذوره بجزء من مجموعة لغوية لا يسري مفعوله بالضرورة على الأجزاء الأخرى المنفصلة عنه. وعندي ان تحول حرف s الى ch في مثلنا على اللغة البرتغالية في اوروبا والبرازيل، هو تحول ناجم خصوصاً عن عوامل ومؤثرات داخلية صرف. والدور الذي يلعبه التاريخ في هذه الحالة- اي عامل التجزئة الذي خضع له الشعب البرتغالي نتيجة لاستعمار البرازيل-يرجع الى كونه قد حدد بهذه التجزئة حقل نشاط القانون الصوتي الجديد الذي امتد الى المجموعة اللغوية البرتغالية، وهنا يبدو العامل الخارجي هنا دوراً محدداً بكل وضوح. على ان التغييرات الصوتيةقد ترتبط بعناصر اخرى في تاريخ المجتمع، وخصوصاً بانتقال جماعة بشرية ما الى موطن جديد، وهذه نتيجة مباشرة لحركات الهجرة المختلفة.
ان السنوات الأخيرة عرفت، في مجال الدراسة اللغوية، ابحاثاً متكاثرة حول تأثير الصفات الأساسية المميزة للغة على مختلف الظواهر اللغوية. وهكذا مثلاً نرى أن تحول الحروف الساكنة المجهورة الهندو-اوروبية gh dh bh الى حروف ساكنة مهموسة في اللسان الاغريقي القديم قد يفسر استناداً الى تأثير الصفات الأساسية المميزة للغة الايجية. وهذا دليل مباشر على غزو اسلاف الهيلنيين للقسم الجنوبي لشبه جزيرة البلقان الذي كانت تحتله الشعوب الايجية. كذلك تحول الحروف الساكنة المجهورة الأولى في اللغة الشوفاشية الى حروف صامتة مهموسة يمكن تفسيره على ما يبدو بتأثير بعض الصفات الأساسية المميزة للغة الفنلندية. كما ان ظهور حروف ساكنة حلقية مقفلة في اللغة الأوسيتية يذهب بعض الباحثين في تفسيره الى القول بتأثير النظام الصوتي للغات القوقازية. ثم ان ظاهرة الوصل، في اللغة الفرنسية، بين الحروف الساكنة في اخر الكلمات وتجهيرها، وبين الحروف الصوتية في بداية الكلمات التالية تذكرنا كثيراً بظاهرة الابدال النموذجية في اللغات السلتية حيث توفر الحروف الأخيرةللكلمات في الحروف الأولى للكلمات التي تليها. وتفسير ظاهرة الوصل في الفرنسية ورده الى تأثير لاالنظام الصوتي للغات السلتية المنتشرة قديماً في اراضي فرنسا الحالية هو ايضاً شاهد على الصلات الفعلية بين الظاهرات الصوتية وتاريخ الشعب. وعليه اذاًً، فان الظواهر الصوتية يمكن ردها بسهولة الى تاريخ الشعب، هذا التاريخ الذي يخلق الشروط الملائمة لامكان حدوث هذه المتغيرات. وقد لا يكون من النادر ان التأثير الصوتي للصفات الأساسية المميزةللغة يقترن بصورة معقدة، بالعوامل الداخلية لتطور اللغة. هكذا مثلاً نجد ان انتقال النبر الصوتي المتحرك القديم الى المقطع الأول للكلمة، في اللغة الليتوانية قد يكون نتيجة التأثير الذي مارسه الشعب الفنلندي في ليتوانيا. على ان هذا الانتقال للنبر الصوتي ادى الى اختفاء الحرف المصوت من المقطع الأخير للكلمة، كقولنا Vilkas ومعناها ذئب، التي تصبح Vilks في الليتوانية، وausis وهي بمعنى اذن، وتصبح auss في الليتوانية، الخ... وسقوط المقطع الصوتي الأخير من الليتوانية هة نتيجة تأثير لغة الشعب الفنلندي في ليتوانيا، الا انه تأثير غير مباشر، وذلك بفعل تأثير امتصاص الليتواني للنبر الصوتي الذي يقع بصورة عادية على المقطع الأول للكلمة. وثمة انواع اخرى من العلاقة بين المتغيرات الصوتية للغة ما وتاريخ الشعب الذي يستخدم هذه اللغة. وهناك في تاريخ اللغات، حالة تعرض غالباً، وهي ان احدى اللهجات المحلية التي ترقى الى مرتبة اللغة الأدبية تمارس بأنظمتها، من حيث ضبط اللفظ والأصول الصرفية، تأثيرها على اللهجات الاقليمية الأخرى. وظهور لغة ادبية قد يكون هو نفسه حصيلة وقائع تاريخية من مثل تكون مقومات امة من الأمم، وقيام دولة مركزية وغير ذلك من الأحداث. وفي هذه الحالات فان التغييرات الصوتية الناجمة عن تأثير اللغة الأدبية يمكن ربطها في شكل مبشار بتاريخ الشعب. ومثل ذلك ما نشاهده في بعض اللهجات العامية في روسيا من بروز صلابة حرف التاء في نهاية صيغة الغائب المفرد للأفعال idet و gouliaet بحيث يتولد من حرف التاء اشكال من لفظ التاء الصلبة، وهذه ظاهرة يمكن ردها الى تاريخ الشعب واعتبارها نتيجة تأثير اللغة الأدبية على اللهجات العامية.
وعندما يلاحظ الاختصاصيون في دراسة اللهجات الألمانية أن ظاهرة الابدال التي تصيب الحروف الصامتة هي ظاهرة منتشرة، بصورة غير عادية، في المواطن التي تسود فيها هذه اللهجات، فانهم يستطيعون ربط هذه الظاهرة بتاريخ الشعب واشراكها في عوامل تبديل اقامة الناس الذين يتداولونها واذا كان علم ضبط الألبفاظ الألماني المعاصر يجهعل واقعاً لفظ الحروف الساكنة المجهورة g d b فان معظم اللهجات الجرمانية المحكية تلفظها في الواقع k t p . وهذه الظاهرة الصوتية تبقى غير مفهومة اذا لم نردها الى تاريخ الشعب، الى تاريخ تثبيت قواعد علم ضبط الألفاظ، الذي يستند في الحالة الراهنة الى طريقة اللفظ السائدة في شمالي ألمانيا. هكذا اذاً يمكن القول ان التغييرات الصوتية للغة نستطيع ردها الى عناصر من التاريخ الاجتماعي ذات طبيعة وسمة محددتين تماماً. وكل تعميم حول علاقة الظواهر الصوتية بخصائص طريقة الانتاج، وبسمة العصر او بما لا أدري من حاجات خاصة بالمجتمع، ليس في الواقع سوى عودة الى مذهب (الألسنية الجديدة). ان (مار) وتلامذته قد أخذوا على عاتقهم اثبات ان التغييرات الصوتية مرتبطة بالتغييرات التي تصيب دلالة الألفاظ. غير انهم كانوا واهمين في ذلك، وحسبنا استعراض بعض الشواهد لبيان خطأ مثل هذه التأكيدات. المعروف أن كلمة helios بمعنى الشمس في اللغة اليونانية القديمة اصبحت ilen في احدى اللهجات اليونانية الحديثة. مع ان معنى الكلمة لم يصبه اي تغيير على الاطلاق. كذلك الكلمة اللاتينية betula هي بمعنى شجيرة السندر، قد اصبحت في اللغة الاسبانية abedul من غير ان يطرأ على دلالتها اي تبديل او تغيير. والكلمة اليونانية القديمة stolos ومعناها الحملة الحربية، تولد منها، في اللغة اليونانية الحديثة، كلمة في اللفظ نفسه، بمعنى الاسطول، وذلك من غير ان يحدث في الكلمة اي تغيير صوتي. وقل الشيء ذاته في الكلمة اليونانية القديمة ekklesia وهي بمعنى الاجتماع الشعبي، فانه قد تولد منها، فيما بعد، كلمة مجانسة لها في اللفظ بمعنى الكنيسة من دون ان يلحق بها اي تغيير صوتي كما نرى. وفي سيادة (الألسنية الجديدة) ذهب بعض اعلامها الى التأكيد على ان القوانين الصوتية مبعثها حاجات محددة للمجتمع، حاجات تؤثر خلال مختلف مراحل الحياة الاجتماعية على درجة استعمال هذه الكلمة أو تلك، بحيث ان بعض الكلمات تصبح ضرورية أكثر من سواها فيشتد استعمالها في فترة ما، كما تصبح الضرورة اليها اقل في فترة اخرى فيخف استخدامها. وفي رأي (نظريينا) انه اذا ازدادت وتيرة استعمال بعض المجموعات اللفظية خلال مرحلة معينة-تلك المجموعات المنتهية بحرف صوتي مثلاً-فانه يمكن اتخذا هذه الظاهرة نقطة انطلاق لقانون صتوي يقرر السقوط الطبيعي للحروف الصامتة النهائية. ولسنا في حاجة للكثير من الجهد لاثبات خطأ هذا الرأي. ذلك ان درجة استعمال الكلمات المختلفة في لغة ما، يمكن ان يتغير فعلاً من حقبة الى اخرى. والتعقد المطرد في الحياة العملية للانسان، وتطور التقنيات والثقافة والفن، الخ... كل ذلك من شأنه بصورة طبيعية، ان يولد الحاجة الى مصطلحات للدلالة على المفاهيم الجديدة الطارئة. الا ان السيرورة الانية لمصطلح من المصطلحات ليست مرتبطة قط بصورته الصوتية، او بنموذج صيغته الصرفية والنحوية، بل ترتبط خصوصياً بدلالته ومعناه. وهكذا نجد، في تاريخ اللغة الروسية اثناء العصر السوفييتي، الفاظاً من مثل Soviet (مجلس)، و partia (حزب) وغيرهما، اصبحت كثيرة الشيوع والتداول، مع انها مختلفة في الصوت والصيغة. والان ما الخلاصة التي يمكن استنتاجها من كل ما سبق؟ في الواقع ان التغييرات التي تصيب النظام الصوتي للغة من اللغات هي قبل كل شيء حصيلة عمل المؤثرات الداخلية في اللغة. وليس من شأن تاريخ المجتمع الا أن يؤثر ف6ي طبيعة تلك التغييرات (تأثير لغات اخرى) او أن يحد من توسعها وانتشارها (كما هي الحال في انعزال جماعة اثر نزوحها من موطنها) في هذا الضوء تكون الصلات بين الميدان الصوتي للغة، وتاريخ المجتمع واضحة ومحددة كل التحديد.
التغيرات في معجم المفردات انه لمن الأيسر، في حقل المفردات، اقامة الصلة بين الظارهات اللغوية، وذلك العنصر من التاريخ. ففي معجم اللغة تطالعنا، في اشكال متفاوتة من الدقة، اثار باقية من تاريخ الشعب على امتداده، بدءاً من الأزمنة السحيقة في القدم وانهاءاً بالواقع المعاصر. هكذا مثلاً نجد أن اللفظة الألمانية hammer مطرقة، القريبة الصلة في اشتقاقها من اللفظة الروسية Kamen حجر، ومن اللفظة الليتوانية Akmuo هي خير دليل باق الى اليوممن العصر الباليوتي أو الحجري... كذلك الكلمة الموردفية Kodu والفنلدية koti منزل، هي شاهد على غياب مدينة المنازل المبنية بجذوع الأشجار المستديرة عند قدماء الفنلنديين. كما ان الكلمة اليونانية Pharater عضو الأخوية، القريبة في اشتقاقها من الكلمة الروسية brat أخ، وكذلك الكلمة الليتوانية mote امرأة، والألبانية motra اخت، اللتان من حيث الاشتقاق تقتربان من الكلمة الروسية mat ام الخ... تشهد جميعاً على وجود مرحلة، في تاريخ الشعوب الهندو-اوروبية، لم تكن فيها صلات القربى مفهومةً بوضوح وجلاء. ثم ان وجود اسماء اشجار في اللغات الهندو-اوروبية من مثل bereza السندر، وهي في الليتوانية berjas وفي الألمانية Birke وفي السنسكريتية Bhurja، وقس على ذلكبأن وجود كلمات باللغة الفنلندية مثل tammi سنديان، وvaahtera قيقب، وهي من اشجار المناطق المعتدلة المناخ، وهي من الأشجار النادرة جداً فضلاً عن انها ليست من مميزات المناطق الموجودة في شمالي خط العرض 60 درجة، مما يسمح لنا بالقول ان اسلاف الفنلنديين قد جاؤوا الى فنلندا من منطقة هي اقرب الى المناطق الجنوبية منها الى الأقاليم الشمالية. ثم ان البحث في الأصول الاشتقاقية لمعجم المفردات في مختلف اللغات الهندواوروبية يتيح لنا القول بوجود زراعة على جانب مرموق من التقدم عند الشعوب القديمة لتلك اللغات، فضلاً عن معرفتهم بأنواع الحبوب المختلفة، انظر اليونانية Puros قمح، وpyro السلافية، وكذلك الألمانية gersta شعير، و Hordeum اللاتينية. وفي هذا الصدد تطالعنا الوحدة الأصلية لاشتقاقات فعل (فلح، حرث) بدلالة ناصعة. ففي اليونانية نجد aroo وفي اللاتينية نرى arare وفي الليتوانية arti، وفي الروسية القديمة oratiالخ... ودراسة معجم المفردات يعلمنا ايضاً ان اسلاف الشعوب الهندو اوروبية عرفوا تطوير تربية المواشي، ففي اليونانية القديمة bous الثور، وفي السنسكريتية gawch وفي الطاجيكية gav بقرة، وفي الأرمنية kov وفي الروسية goviadina لحم بقر، الخ. ومن جهة ثانية تكشف لنا دراسة معجم المفردات للغات الفنلندية-الأوغرينية عن غياب الزراعة والتربية المتطورة للماشية في المرحلة السابقة السحيقة لتاريخ هذه الشعوب. فاننا نكاد لا نجد كلمة مشتركة بين لغات هذه الجماعة كلها، للدلالة على عملية الحراثة والفلح، او للدلالة على الحيوانات الداجنة. في حين للدلالة على السهم لفظاً واحداً في جميع اللغات الفنلندية، مما يعني ان تطور عملية الصيد والقنص كان حدثاً قديماً عند هذه الشعوب. ومن المعروف أن تطور اشكال وميادين مختلفة للنشاط الانساني يعبر عن نفسه بتطور معنى الكمات ودلالاتها، وبظهور الألفاظ المترادفة والمتجانسة، الخ... ولعل صحة هذه الظاهرة تتجلى لنا عند ملاحظتنا لتزايد عدد الكلمات ذات الاصول الاشتقاقية المتقاربة. وخير شاهد على ذلك الكلمة الألمانية Werk وهي بمعنى عمل أو مهنة. فاذا حملناها على محمل القربى وربطنا بينها وبين اللفظة الأرمنية Gori وهي بالمعنى نفسه، لظهر لنا انه في ازمنة متقدمة جداً كان للكلمة هذا المعنى الوحيد. واذا تفحصنا لفظة Werk في اللغة الألمانية المعاصرة طالعتنا منها سلسلة متشعبة من الألفاظ المتجانسة تعكس تطور مختلف أشكال النشاط الانساني: فهناك أولاً معنى العمل، والشغل. وهناك ثانياً معنى المصنع والمنجم. وهناك ثالثاً معنى الالية (أنظر مثلاً Uhrwerk ومعناها الية الساعة) وثمة رابعاً معنى الأثر أو الاثار الأدبية والفكرية.. كأن يقال مثلاً: Lenins werk اي اثار لينين وأعماله الفكرية، وهلم جرا. والذي يطالع الفرق بين جذر فعل Grapho بمعنى كتب، في اللغة اليونانية القديمة وبين الشتعبات العديدة والمدهشة التي الت اليها اشتقاقاته المختلفة في اللغة اليونانية المعاصرة ، يدرك بلا عناء صحة ما ذهبنا اليه من أن تطور مختلف اشكال وميادين النشاط البشري، يعبر عن نفسه بتطور معنى الألفاظ ودلالاتها، وبتعدد الصياغات المترادفة والمتجانسة تبعاً لتعدد ميادين السعي الانساني وحقوله. ولا ريب في أن لجهود البحاثين اللغويين احياناً اثراً يضاف الى مؤثرات تاريخ الشعب في اغناء معجم المفردات وتزويده بالمصطلحات اللازمة للدلالة على المعاني الطارئة المستجدة، وهي جهود ينبغي اا نهملها في هذا الصدد. والعلاقات بين معجم المفردات وتاريخ الشعب يمكن أن تبدو بجلاء في الأمثلة والشواهد التي يظهر فيها الاقتباس من اللغات الأجنبية. فوجود كلمات في اللغة الفنلندية من مثل vaara بمعنى خطر، و malmi معدن خام انما هو انعكاس للصلات التاريخية بين الشعب الفنلندي والشعب السويدي. كذلك وجود كلمات تركية، في اللغة الهنغارية، مأخوذة من احدى لغات اللسان الشوفاشو-بلغارية ينهض دليلاً على العلاقات التاريخية القديمة التي اقامها الشعب الهنغاري. كما أن وجود كلمات ذات اصل عربي، في اللغتين التركية والايرانية، تسربت اليهما تحت تأثير الدين الاسلامي والثقافة العربية، هو شاهد اخر على الطريقة التي تنعكس فيها بعض عناصر تاريخ الشعب في تأليف معجم المفردات. وليس غريباً ان يستتر تماماً تأثير العوامل الأجنبية على معجم المفردات. ففلوهلة الأولى يستحيل علينا مثلاً القول بتأثير اجنبي في هوية كلمات في الفظة الهنغارية Allam بمعنى دولة، واللفظة التشيكية clanak بمعنى سلعة، واللفظة الألمانية hoflichkeit بمعنى تهذيب، واللفظة الأرمنية patmuthjun ومعناها تاريخ. فالواقع ان الكلمة الهنغارية allam مقتبسة من اللاتينية status، والتشيكية clanek ليست سوى نسخة عن الكلمة الألمانية artikel، والألمانية hoflichkeit منسوخة عن الفرنسية courtoisie. ووراء الكلمة الأرمنية patmuthjun تختبئ الكلمات اليونانية historia (قابل بين اليونانية historia بمعنى حكى أو روى، والأرمنية patmel بالمعنى ذاته.
ثم أن احد عناصر تاريخ الشعب، وهو العنصر الناجم عن اقامة هذا الشعب في موطن معين، لهو على صلة مباشرة بدراسة اصول اسماء المواقع الجغرافية من الوجهتين اللغوية أو التاريخية. فالى الشمال من موسكو، على الطريق المؤدي الى سافيلوفو، محلتان احداهما باسم (ايكشا) والثانية باسم (ياخروما). وهاتان التسميتان، وهما من اصل غير سلافي، تلفتان انتباهنا لأن مكانيهما لأن مكانيهما يقعان بعيداً عن حدود منطقة موسكو. ثم اننا على سبيل المثال نعثر ايضاً على اسم (ايكشا) في جنوبي-غربي جمهورية الماريين، كما ان أحد روافد نهر (فيتشغدا) يدعى (ايكسا) عند مجراه السفلي. و(ايكسا) ايضاً هو اسم نهر صغير في منطقة (ارخانجلسك) قرب (نياندومي). كذلك فان مقطع (يخر)، الموجود في اسم يخروما، نجده في اسم قرية (يخروبول) وهي احدى قرى منطقة (ياروسلاف). نستطيع الافتراض اذاً أن الأراضي الواقعة شمال موسكو كانت في الزمن القديم موطناً لشعب تكلم لغة قريبة من اللغة المارية السائدة في منطقة (ياروسلاف) و(كوستروما). وكانت اللغة المارية، على ما يبدو قريبة جداً من لغات ولهجات جماعات (تشود) النازلين الى الجهة الأخرى من نهر الفولغا، ان هذا الافتراض المبني على معطيات محض لغوية، يؤكده عالم الاثار السوفييتي (بروسوف) الذي أقام وجه الشبه بين أطلال المدنيات القديمة في المنطقة الواقعة بين الفولغا والأوكا من ناحية، وفي منطقة كاريليا من ناحية ثانية. هذا وأن جزءاً من معجم المفردات في لغة ما، يمكن ربطة في صروة مباشرة، بالوقائع المتصلة بالبنية التحتية، أو بالبنية الفوقية للمجتمع، فالتغيرات التي تصيب احدى هاتين البنيتين لا تمر دون أن تترك بصماتها على اللغة، وهي تترك دائماً بعضاً من تأثيرها على قاموس المفردات. على ان صعوبات جمة تعترضنا عندما نحاول اقامة الصلة بين الوقائع الخارجية للتاريخ وبين المتن الأساسي لمعجم المفردات، فهذا الأخير من شأنه أن يحافظ على ذاته لمدة طويلة جداً، اذ (ليس ثمة ما يدعو الى القضاء على المتن الأساسي للمعجم. فهو يظل قادراً على البقاء في التداول وبنجاح لمراحل عديدة من التاريخ، فضاً عن أن تقويض متن المعجم المتكون على مر القرون، ونظراً لاستحالة تأسيس متن معجمي جديد في فترة وجيزة، من شأنه ان يصيب اللغة بالشلل، ويؤدي الى الفوضى التامة في علاقات الناس بعضها ببعض) كما يقول جوزيف ستالين. فلهذا السبب بالضبط يصعب جداً اقامة صلة مباشرة بين الوقائع الخارجية للتاريخ وبين كلمات مثل (أكل، شرب، نام، غابة، نهر، ضفة، جبل، الخ) على ان هذا لا يعني انه من المستحيل اطلاقاً الربط بين تاريخ المتن المعجمي وتاريخ الشعب. اننا نستطيع ان نرد الى تاريخ الشعب الصفة العامة، أو الطابع العام، للمتن المعجمي. والمقارنة التي نجريها بين المتون المعجمية للغات المتقاربة تتيح لنا في صورة لا تقبل النقاش أن نسجل الاختلافات النوعية للمضمون المعجمي لكل لغة، أو لكل مجموعة لغوية، من اللغات والمجموعات المتقاربة. ولا شك في أن احد اسباب هذا التمايز النوعي مرتبط بسكنى تلك الشعوب منعزلةً في مواطن متفرقة، على ان الظروف التاريخية لتطور اللغات قد تختلف من موطن الى اخر، وهذا التغاير في الظروف من شأنه ان يولد تغايراً في الحياة الاقتصادية، وفي العادات والثقافة، الخ، يؤدي الى توع واختلاف في تكوين معجم المفردات، اضف الى ذلك أن المصطلحات اللفظية الجديدة المتكونة انطلاقاً من معطيات سابقة في اللغة ليست تنتقل الى اللغات المتداولة في مواطن أخرى، وعليه نستنتج من ذلك كله أن المتون المعجمية للغات، حتى المتقاربة منها، ليست تتصف بطابع نوعي واحد.
وعندما تقوم بين شعبين علاقات متطورة بشكل خصوصي فان المضمون الأساسي لمعجم المفردات قد يغتني عن طريق الاقتباس المتبادل بين اللغتين. هكذا مثلاً نجد في الأساس المعجمي للغتي (تشوفاش) و(ماري) بعضاً من المفردات المشتركة بينهما. ففي اللغة التشوفاشية Per ضرب، يقابلها perach في اللغة المارية، وفي التشوفاشية sis احس، يقابلها Chijach في المارية. وفي التشوفاشية tchair مرض يقابلها tcher في المارية، وهذه المطابقات ناتجة حماً عن العلاقات التاريخية بين هذين الشعبين. وقد يستطيع المتن الأساسي لمعجم المفردات ان يعبر عن تطور مختلف اشكال النشاط الانساني، وعن تاريخ الثقافة المادية والروحية للشعب. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، نذكر هنا أن فعل Torgovat تاجر، ناتج عن ظهور احد النشاطات الجديدة، وهو التجارة. كذلك يمكن أن نقول الشيء نفسه عن أفعال مثل (كتب) و(حسب)، و(حدد)، وعن اسماء مثل (منزل) و(باخرة) و(شراع) الخ.. على ان ثمة حالات كثيرة يستحيل فيها رد المتغيرات المعجمية الى أي عامل في تاريخ الشعب. ففي اللغة المارية السائدة في مناطق الرعي نجد كلمة Choptyr ثمرة الكشمش التي يقابلها في لغة كومي كلمة Setor وهي بالمعنى نفسه، وتفسير ذلك أن القسم الأول في الكلمة المستعملة في اللغة المارية، تحت تأثير نمط (الاشتقاق الشعبي)، واستناداً الى جزء في دلالة اللفظة، رأيناه يلتصق بالصفة Chopo ومعناها الحامض، مما ولد كلمة Choptyr. ولسنا نستطيع عن طريق العوامل التاريخية تفسير ظاهرة الاختصار بالحذف أو بالاضمار التي تصيب بعض المجموعات اللفظية وتؤدي الى ظهور كلمات جديدة مستقلة. فالكلمة الايطالية Fontana مثلاً، وهي بمعنى الينبوع، والاسبانية Fuente، وهي بالمعنى ذاته، هما موجز للمجموعة اللفظية اللاتينية Aqua Fontana ومعناها ماء النبع. ثم ان مسألة العلاقة بين تاريخ الشعب من جهة، وبين حلول مرادف من الألفاظ محل مرادف اخر من الجهة الثانية، ما تزال مسألة غامضة كل الغموض. اذ يكاد يستحيل على الباحث ان يبين السبب في أن مترادفين للدلالة على معنى غصن، هما في اليونانية القديمة Klados وOzos لم يبق حياً منهما في اليونانية الحديثة الا المرادف الأول في حين زال الثاني من التداول تماماً. كما يستحيل على لباحث أن يشرح لماذا لم تحتفظ اليونانية الحديثة الا بلفظة Akolautheo للدلالة على الفعل تبع، في حين سقط اللفظ المرادف hempomai كلياً من الاستعمال. ولماذا لم يبق من اللغات المتحدرة من اللاتينية سوى اللفظة المشتقة من الصفة dulcis فأصبحت dolce في الايطالية، و doux في الفرنسية، و dulce في الاسبانية. اما الصفة المرادفة suavis فلم يكن لها خط دريفتها في السيرورة والسيادة؟ هكذا يمكن القول اننا في حقل المترادفات، كما في حقل الصوتيات، نواجه القاعدة نفسها، وهي ان بعض الحالات قد تكشف لنا عن علاقة لا شك فيها بالوقائع والأحداث الخارجية للتاريخ، غير انه في حالات اخرى تبدو المتغيرات في معجم المفردات رهينة العوامل والمؤثرات الداخلية وحدها.
ان دراسة الصلات بين البنية الصرفية للغة، وتاريخ المجتمع، هي في صورة خاصة دراسة محفوفة بالصعوبات. ولا شك في أن هذه المسألة المعقدة تستحق منا دراسة خاصة، غير أننا في هذا المقال الذي نقتصر فيه على تقصي جانب واحد من المسألة، سنحاول ببعض الأمثلة الحسية، أن نبين كيف أن التغيرات التي تصيب البنية الصرفية يمكن أن تنشأ عن العوامل والمؤثرات الداخلية والخارجية على حد سواء، وكيف أن هذه التغيرات في البنية الصرفية والنحوية هي في معظم الأحوال نتيجة العوامل الداخلية ليس الا. المعروف أن اللغة اللاتينية الكلاسيكية تمتلك خمس أنماط من الصيغ التصريفية، غير ان الصيغة الرابعة، من نموذج fructus ثمرة، والصيغة الخامسة، من نمط species هيئة، لم تلبثا ان اقتربا سريعاً من الصيغ الأخرى، وأخذت الصيغة الرابعة تمتزج بالثانية، الأمر الذي نتج عنه، في مرحلة لاحقة من تطور اللغة اللاتينية، أن كلمتي impus ذئب، هي من الصيغة الثانية، وfructus من الصيغة الرابعة، اصبح لهما ف التصريف صيغة واحدة. لا شك في أنه يتعذر علينا شرح هذا التغير الصرفي في ضوء الوقائع والأحداث التاريخية، بل يجب البحث عنه في داخل اللغة ذاتها. ويكفي لذلك ان نقابل بين الصيغة التصريفية الثانية والرابعة، ولو في المفرد، لنلاحظ الشبه بين معظم اشكال التصريف في الصيغتين، مما دفع الى توحيد النموذجين في نموذج تصريفي واحد. وقس على ذلك كثيراً من التغيرات الصرفية والنحوية في اللغات النرويجية والروسية واليونانية وغيرها. لكن قد يكون من الخطأ الجزم بأن ليس ثمة اي علاقة بين البنية الصرفية للغة وتاريخ الشعب الذي يتداولها، غير أن من المهم جداً هنا تحديد العناصر الكامنة في تاريخ الشعب والتي يمكن اقامة الصلة بينهما وبين المتغيرات الصرفية والنحوية. ان الخاصة المميزة لبنية الصرفية في لغة ما، شأنها شأن الخاصة المميزة للمتن الأساسي لمعجم المفردات، تتكون تبعاً لطول سكنى الشعب المعني في موطن منعزل عما عداه، وهكذا فان الصفات النوعية المميزة للبنية الصرفية في لغة الماريين هي نتيجة مباشرة للعزلة التي عاش فيها هذا الشعب بالنسبة الى سائر شعوب تلك اللغة، وعندما ينعزل شعب ما ولغته، وتتغير القوانين التي تتحكم بتطور البنية الصرفية للغته، فان تلك القوانين الجديدة لا تسري الى اللغات الشقيقة المتقاربة. وثمة ألوان متعددة أخرى من العلاقات بين الظاهرة الصرفيةو الخاصة وتاريخ الشعب، نجدها بكثرة في الشواهد والأمثال التي تثبت أن تلك الظاهرات هي نتيجة للعلاقات التاريخية بين الشعوب، ودراسة اللغات الأدبية تفتح الافاق واسعةً امام تتبع العلاقات بين الظاهرات اللغوية وتاريخ المجتمع، على اعتبار أن الصلات تكون في هذه الحالة أكثر ملموسيةً وأقل مداورةً منها في سائر المجالات، ودراسة تطور البنية النحوية لمختلف اللغات يمكن أن توفر لنا شواهد عدة على أن الوقائع التاريخة قد حددت مسار تطور اللغة ونموها اللاحق. وهكذا يتضح لنا أن التغيرات التي تصيب البنية الصرفية انما تجري أصلاً تحت تأثير عوامل داخلية متنوعة، اما الدور الذي يمثله تاريخ المجتمع فيعبر عن نفسه بالتأثير الذي تمارسه لغات أخرى، أو بحصر هذا التغيير أو ذاك جغرافياً بفعل انعزال المجموعات البشرية، أو بفعل الهجرة أو الانتقال من موطن الى موطن. ثم ان التطور العام للبنية الصرفية، وتكاملها، في لغة من اللغات، يتصلان بمجمل التجربة التاريخية للشعب بكليتها، وهما حصيلة تعاقب عصور تاريخية تغوص في أعماق الماضي. واذا كنا لم نتطرق في هذا البحث الى مسألة على جانب كبير من التعقيد، ولم تدرس بعد، عنيت بها مسألة التغييرات التي تلحق بالبنية الصرفية من جراء تطور الفكر. كما انه اذا لم يتح لنا أن نبين الدور الذي يمثله كحصيلة من ثمرات تقدم الفكر، باعتبار أن هذه المسائل تستلزم مبحثاً مستقلاً على حدة، فان الخلاصة العامة التي نستطيع استنتاجها من كل ما سبق هي أن أية ظاهرة لغوية مرتبطة بتاريخ الشعب، غير أن الصلة في بعض الأحوال هي صلة انية، مباشرة، وصحيحة. في حين أنها في حالات أخرى صلة على جانب كبير جداً من التعقيد لأنها تنسحب على مجمل لتجربة التاريخية للبشرية.
بوريس سربرنيكوف 1915-1989، عضور مراسل في أكاديمية العلوم السوفييتية، وأمين السر المساعد لمعهد اللغات التابع لتلك الأكاديمية، وعضو هيئة تحرير مجلة (قضايا لغوية).
#اللجنة_الاعلامية_للحزب_الشيوعي_الاردني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أحبولات الفكر التحليلي، نصوص من كتاب -جدل الوعي العلمي- هشام
...
-
اصل اضطهاد النساء، نص من كتاب اصل المجتمع البشري، كريس هارما
...
-
نصوص من كتاب مقدمات لدراسة المجتمع العربي، للدكتور هشام شراب
...
-
علم الجمال (aesthetics)، اسسه العلمية ومراحله التاريخية
-
المبادئ المعرفية للفلسفة الوجودية
-
المادة والوعي
-
البنيوية الفرنسية
-
فلسفة كارل بوبر
-
نظرية الانعكاس والفنون
-
بيان صادر عن الحزب الشيوعي الاردني حول هجوم -داعش- الارهابي
...
-
نصوص من كتاب المنطق الشكلي والمنطق الدياليكتيكي
-
مقاطع من كتاب، الدين والجنس والصراع الطبقي، بوعلي ياسين
-
صداقة هنريتش هاينه بكارل ماركس وزوجته, الصداقة الأبدية
-
ظهور الحياة على وجه الأرض
-
بعض الأسباب التاريخية لانبثاق ما يسمى (الاشتراكية العربية, ا
...
-
سلسلة تاريخ نشوء الماركسية
-
سلسلة مادية فويرباخ الانثروبولوجية.
-
الأخلاق عند ماركوس اوراليوس
-
(البراغماتية) في الأخلاق
-
الأخلاق عند جان بول سارتر
المزيد.....
-
حزب النهج الديمقراطي العمالي يثمن قرار الجنائية الدولية ويدع
...
-
صدامات بين الشرطة والمتظاهرين في عاصمة جورجيا
-
بلاغ قطاع التعليم العالي لحزب التقدم والاشتراكية
-
فيولا ديفيس.. -ممثلة الفقراء- التي يكرّمها مهرجان البحر الأح
...
-
الرئيس الفنزويلي يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
-
على طريق الشعب: دفاعاً عن الحقوق والحريات الدستورية
-
الشرطة الألمانية تعتقل متظاهرين خلال مسيرة داعمة لغزة ولبنان
...
-
مئات المتظاهرين بهولندا يطالبون باعتقال نتنياهو وغالانت
-
مادورو يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
-
الجزء الثاني: « تلفزيون للبيع»
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|