أولاً : مدخل
الحرية ليست قضية قوانين، بل هي قضية ممارسة. والحرية -كما يشي اسمها- هي حالة فعل، وليست حالة نظرية في المطلق. ويعتبر آلان تورين، السوسيولوجي الفرنسي الكبير، ان "الديمقراطية لا تقتصر على مجموعة من الضمانات الدستورية، أي على حرية سلبية. إنها نضال تخوضه ذوات فاعلة، في ثقافتها وبحريتها، ضد منطق هيمنة السَّسَاتيم (أي الأنظمة -هكذا عربها المترجم)" -(انظر: آلان تورين، ما هي الديمقراطية، بيروت: دار الفارابي، 1995، ص20)، فهي بالتالي عملية ديناميكية تقتضي وجود طرفين متناقضين بالضرورة: فعلى جهة هناك "الذوات الفاعلة"، أي الأفراد وتفاعلاتهم الاجتماعية، وعلى الجهة الأخرى هناك الأنظمة أو "السَّسَاتيم"، أي السلطة بما تمثلها من تشابكات اقتصادية/سياسية/اجتماعية، والحرية الديمقراطية هي ان تمارس الجهة الأولى نضالاً مستمراً ومتواصلاً ضد هيمنة الجهة الثانية، وهو نضال مشروع بل وضروري. "الديمقراطيات" في دول الشمال (وهي في الواقع دكتاتوريات أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة) تعي هذه الضرورة وتسمح بها، بل وتشجعها، ولكنها تنقلب عليها وتصادرها بالمطلق حين يشارف النضال على المساس بصلب وجودها وخلخلة أساسها الطبقي الاستغلالي، فتحسم مسألة الحريات وحقوق الإنسان في دول الشمال عندما تناضل الجماهير ضد العولمة الإمبريالية ومن اجل إلغاء ديون الفقراء وحقوق العمال والبيئة، وعندها تصبح الكلمة الأخيرة للأجهزة القمعية في سياتل وكيبك وجنوا حيث سقط الشهيد كارلو جولياني بأيدي زعماء الدول الثمانية الأكثر تصنيعاً.
والحرية لا تطلب ولا تستجدى من السلطة، أياً كانت، لأن الحرية حق أساسي من حقوق "الذات الفاعلة"، حيث تمارس السلطة التضييق والالتفاف على هذا الحق دائماً لتناقضه معها، فالسلطة نقيض الحرية، وعليه، فلا حوار ولا تنازل في مسألة الحريات، لأنه لا حوار ولا تنازل فيما هو حق .
ثانيا : الحريات عربياً / أردنياً
ان السلطة التي أفرزتها الكولونيالية في الوطن العربي، وبعد مرورها بتداعيات الهزيمة المرحلية امام المشروع الصهيوني وانهيار المشروع القومي والمنظومة الاشتراكية وتكريس الهيمنة الامبريالية على العالم، أصبحت تمثل أطراف خيوط لشبكة مهولة من العلاقات المشبوهة .
مركز هذه الشبكة هو الأدوات الضاربة للعولمة الرأسمالية: البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، وأصبحت هذه السلطة وكيلة تنفذ برامج هذه المؤسسات والمتمثلة أساساً بخصخصة القطاع العام وتعديل التشريعات والقوانين الاقتصادية لفتح الحدود أمام رأس المال المتعدي الحدود، وتعويم سعر صرف العملة المحلية، وتخفيض العمالة في الجهاز الحكومي، وتخفيض الإنفاق على برامج التأمين الاجتماعي للمواطنين (الصحة، الضمان، التعليم … الخ) .
باختصار، تنحصر وظيفة السلطة المعاصرة في دول الأطراف بتصفية دور الدولة الاجتماعي/الاقتصادي، وتحويلها إلى مجرد مساحة جغرافية لدخول وخروج الرأسمال المتعدي الحدود بحسب ما تقتضيه الحاجة ( حاجة رأس المال طبعاً )، وهو ما من شأنه إحداث اختلالات عميقة الأثر في هذه المجتمعات. وإذا أضفنا إلى ذلك خصوصية الوضع في الأردن، حيث تتم تصفية الطبقة الوسطى والقطاع العام بشراسة لصالح أقلية من السماسرة والوكلاء، وحيث يفتت ما تبقى من الكانتون القطري إلى جزيئات إقليمية ومناطقية وعشائرية وعائلية (يعود الفضل في هذا الى قانون الصوت الواحد الأول والثاني)، وحيث تندلع انتفاضة الأقصى إلى الغرب، ويصعد ارييل شارون -صاحب مشروع إقامة الدولة الفلسطينية في الأردن- إلى رأس السلطة السياسية في الكيان الصهيوني، بما يمثله هذان الحدثان من تناقض صارخ ( حتى ضمن أركان السلطة نفسها ) مع مشروع وادي عربة المزري، كل هذا يؤدي بنا الى الاستنتاج المنطقي بأن السلطة السياسية في الأردن تقع على النقيض تماماً من مسألة إطلاق الحريات العامة، بل تقع على النقيض حتى من الالتزام بالدستور الأردني نفسه والذي ينص في مادته الأولى على ان الأردن "دولة عربية مستقلة ذات سيادة" وينص في مادته السابعة على ان "الحرية الشخصية مصونة"، ومادته 9-1 "لا يجوز إبعاد أردني من ديار المملكة"، ومادته 15-1 "تكفل الدولة حرية الرأي" .
ان كل ما ذكر أعلاه، مضافاً إليه ما يوفره كل ذلك من أرضية خصبة للاحتجاج والتململ العام، يجعل من السلطة السياسية تتحول بالضرورة إلى البوليسية والقمع المباشرين، سواء أكان هذا بالهراوات والغاز المسيل للدموع والاعتقال بدون مذكرات كما حصل أثناء فترة المسيرات المؤيدة للانتفاضة شهري 10 و11/2000 ، أم من خلال الاعتداء على الدستور بإصدار قوانين مفصلة على المقاس القمعي في ظل غياب برلمان كان يمثل عائقاً "إدارياً" لا أكثر في غياب معارضة منظمة عنه، من طراز قانون الانتخابات، وقانون محكمة أمن الدولة، وقانون الاجتماعات العامة، وهي كلها قوانين تضرب عرض الحائط بحقوق الناس في الحرية والكرامة .
ثالثاً : ذكاء السلطة السياسية - نسف الحريات بإطلاق الحريات
بعد 34 عاماً من الأحكام العرفية المعلنة، فرضت هبة نيسان في الجنوب عام 1989 عودة الحياة البرلمانية إلى الأردن، وإلغاء الأحكام العرفية، وبدأت مرحلة سماها أشد المتفائلين تفاؤلا: "الانفراج الديمقراطي" .
ولكن "المياه تكذب الغطاس" دائماً، و"الانتقال من التحرر إلى تنظيم الحريات هو الأمر العسير … فهناك وحش توتاليتاري يعسّ بين التحرر والحريات" كما يقول آلان تورين ( مرجع مذكور سابقاً, ص 28 )، والسلطة السياسية كانت أذكى من الجميع، وضربت "ضربة معلم" : فجمعت الأحزاب والشخصيات على صيغة "الميثاق الوطني" في محاولة ناجحة لإزاحة النظر عن الدستور الأردني و"اختراع" مرجعية أدنى، ثم صاغت قانون أحزاب مر من مجلس النواب، جعل العمل الحزبي بقوة القانون أقل تأثيراً من صراخ طفل على قطيع من الثيران الهائجة، هذا إضافة إلى خروج كوادر الأحزاب إلى العلن، حيث اصبحوا أولا تحت الرقابة المباشرة للأجهزة الأمنية، وثانياً تحت الرقابة المباشرة للجماهير التي لم تجد فيهم قيادات سياسية وطنية راديكالية تلبي طموحهم. كانت هذه هي المرحلة الأولى من مراحل نسف الحريات بإطلاق الحريات، ولنسمها "مرحلة الإيجابيات الجزئية" .
المرحلة الثانية جاءت بعد ذلك بفترة بالالتفاف على "الإيجابيات الجزئية" التي تحققت، فخرجت السلطة السياسية بقانون الصوت الواحد في ظل دوائر متعددة المقاعد، فكرست بذلك مشروع تفتيت الكانتون الى مناطق نفوذ عشائرية وجهوية وإقليمية، ووجهت ضربة قاصمة الى التنمية السياسية البرلمانية، ثم خرجت بقانون مؤقت للمطبوعات والنشر أودى بالحريات الصحفية الى الهاوية، وهو القانون الذي حكمت لاحقاً محكمة العدل العليا في سابقة تاريخية بلادستورية إقراره. هذه هي "المرحلة التمهيدية للتراجع" .
الآن، نحن على أعتاب المرحلة الثالثة، وهي مرحلة عرفية بامتياز، حيث حُلّ البرلمان بشكل غير دستوري، وتأجلت الانتخابات لمدة سنة ( هذا إن حصلت! ) بشكل لا دستوري أيضاً، واستفردت الحكومة وتغولت بإصدار حزمة من القوانين المؤقتة بشكل لا دستوري أيضاً وأيضاً، هذه الحزمة التي تمس بشكل جوهري حريات المواطنين، وتتضمن قانون الانتخابات المؤقت، قانون محكمة أمن الدولة المؤقت، وقانون الاجتماعات المؤقت. لقد عدنا مرة أخرى إلى مرحلة الأحكام العرفية .
في المرحلة الأولى، كان الغليان ما يزال مشتعلاً، والعدوان الإمبريالي على العراق زاد من هذا الاشتعال وأججه، ومؤتمر مدريد في الافق، فكان على السلطة السياسية ان تقدم بعضاً من التنازلات التي سحبتها رويداً رويداً وبذكاء، في ظل تخاذل تام من القوى السياسية المعارضة، إلى ان أعادتنا إلى الأحكام العرفية بعد انفجار انتفاضة الأقصى -المشروع النقيض للإلحاق بالكيان الصهيوني وتصفية فلسطين والمنطقة العربية لقاء الاندماج في محيط المركز الإمبريالي/الصهيوني-، هذه الانتفاضة التي كانت من أهم إنجازاتها على الإطلاق تعرية الموقف الرسمي العربي وتوجهاته.
رابعاً : " الذوات الفاعلة" ضد نفسها- تخاذل قوى المعارضة
السادس من أكتوبر 2000 كان يوماً حاسماً فيما يخص الحريات العامة في الأردن، ففي مساء ذلك اليوم اصدر رئيس الوزراء بلاغاً منع بموجبه المسيرات والمظاهرات، وغني عن القول ان هذا القرار مخالف بطبيعته وآلية إصداره للقانون والدستور، وقد سبق هذا القرار عدة مسيرات سلمية اعتدت فيها قوات الأمن على المتظاهرين وهي بالتحديد: مسيرة القوى الطلابية القومية اليسارية يوم 4/10، المسيرة العفوية التي انطلقت من مجمع النقابات مساء يوم 4/10، مسيرة الكالوتي ومسيرتي البقعة والوحدات يوم 6/10 .
لم يقف أي من القوى السياسية موقفاً داعماً لهذه المسيرات العفوية في عمومها، كما لم يسمع صوت هذه القوى حين شنت الأجهزة وعلى مدى الثلاث اشهر التالية لها حملة اعتقالات واسعة طالت المئات من النشطاء والمشاركين في هذه المسيرات، فتولى مجموعة من النشطاء المستقلين القيام بحملة لإطلاق سراح هؤلاء المعتقلين، اضافة إلى مساندة بعض اللجان في الخارج مثل لجنة المعتقلين السياسيين في الأردن- الولايات المتحدة، ولجنة دعم القضايا العربية- إسبانيا وغيرهما .
لقد كان هذا مؤشراً للسلطة السياسية حول طبيعة القوى المعارضة المنظمة، فكان أن زاد تغولها بأن منعت مسيرة العودة التي كانت مقررة يوم 24/10/2000، ثم اشترطت على النقابات المهنية المنظمة للمسيرة بعض الشروط سمحت على أثرها بقيام المسيرة بعد موافقة مجمع النقابات، ثم هاجمت المسيرة بعنف شديد رغم هذا الاتفاق .
وان كانت لنا مآخذ كبيرة على تجاوزات السلطة، فإن لنا مآخذ اكبر على قوى المعارضة التي ارتضت لنفسها الحوار حول حق من حقوق الناس لا جدال فيه ولا تفاوض ولا تنازل، مما فتح الباب واسعاً أمام تجاوزات اكبر للسلطة بمباركة ضمنية من قوى المعارضة الرسمية .
لنأخذ بعضاً من الأمثلة : يوم الجمعة 10/11/2000، دعت النقابات إلى مسيرة تنطلق من مجمع النقابات إلى رئاسة الوزراء تأييداً للانتفاضة، لكن حضور مدير شرطة العاصمة ومدير الأمن الوقائي الى المجمع واجتماعهم مع بعض قيادات النقابات وأحزاب المعارضة أدت إلى ان يُعلن أحد النقباء إلغاء المسيرة والاكتفاء بمهرجان خطابي!! والجدير ذكره هنا ان هذه المسيرة الملغاة كان من المفترض أن تكون الجمعة التي قبلها، لكن اتصالات بين قيادات نقابية وإسلامية مع وزير الداخلية أدت إلى تأجيل موعد المسيرة أسبوعاً كاملاً، ثم الغيت(انظر جريدة الحدث، الاثنين 13/11/2000) .
المثال الثاني : دعت أحزاب المعارضة والنقابات المهنية إلى اعتصام أمام السفارة الأمريكية في عمان ظهر يوم الأحد 18/2/2001 احتجاجاً على عدوانها على العراق. وأمام رفض السلطة وتحذيرها لقوى المعارضة، رضخت هذه الأخيرة ونقلت مكان الاعتصام إلى أمام مكاتب الأمم المتحدة وأصدرت بياناً يقول في نهايته "…فقد قررنا نقل مكان الاعتصام إلى مبنى الأمم المتحدة مع إدانتنا لموقف الحكومة واعتدائها على حقنا في التعبير الدستوري، وتمسكنا بحقنا في ممارسة دورنا في التعبير عـن مواقفنا بكل الوسائل المشروعة"(انظر العرب اليوم، الاثنين 19/2/2001)، فأي تمسك هذا ؟!!
المثال الثالث : اقر الملتقى الوطني للنقابات والأحزاب مسيرة يوم السبت 7/4/2001 في ذكرى مذبحة دير ياسين ودعماً للانتفاضة. يوم الثلاثاء 3/4 التقى محافظ العاصمة وفداً من النقابات والأحزاب وابلغهم "بمنع أية مسيرات أو اعتصامات بدعوى دقة الظروف، وتحسباً من أي خروج عن النظام والانضباط". فماذا كان موقف القوى المعارضة؟ الغت المسيرة!! واكتفت بمهرجان خطابي وإصدار تصريحات بالادانة !
والأمثلة لا تنتهي: منع مسيرة ذكرى اغتصاب فلسطين اثر لقاء بين وزير الداخلية مع رئيس لجنة تنسيق أحزاب المعارضة ورئيس مجلس النقباء يوم 8/5/2001، فألغيت المسيرة في حين أعتبر رئيس لجنة تنسيق أحزاب المعارضة " ان فتح باب الحوار مع الحكومة أمر إيجابي"!! (انظر العرب اليوم، الأربعاء 9/5/2001)… وهكذا حتى نصل إلى يوم 3/8/2001 حين تراجع الملتقى الوطني عن مسيرة تضامنية مع فلسطين كان يفترض ان تنطلق من أمام المسجد الحسيني بعد رفض محافظ العاصمة. وبرر أمين عام حزب جبهة العمل الإسلامي ان السبب في الإلغاء "يعود إلى الخلاف مع الحكومة التي أصرت على قرارها القاضي بعدم السماح بأي مسيرات. وأكد على ان الأمر بحاجة لمراجعة وبحيث تعود الحكومة عن قراراتها غير المبررة"!! ( انظر العرب اليوم 3/8/2001 ) .
هذا الغاء الذي استفز بعض النقباء القوميين واليساريين، وادى الى استنكارهم لهذا التصرف، حيث اعتبر الدكتور احمد القادري نقيب اطباء الاسنان ما حصل "اهانة كبرى للعمل الشعبي والنقابي واضرارا بمصداقيته امام المواطنين" ( العرب اليوم، 4/8/2001 ) .
وبعد، فإن كانت الحكومة تصادر الحريات، والطرف المقابل، أي "الذوات الفاعلة" المناضلة ضد هيمنة الطرف الأول، يرى أن النضال هو الرضوخ لتجاوزات السلطة على القانون وعلى الدستور وعلى الحريات، فهل نستغرب الآن أن يُدق المسمار الأخير في نعش الحريات ؟؟
د.هشام البستاني -ناشط في مجال الحريات العامة ومقاومة التطبيع. .