أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ايمان يونس - الادب الفلسطيني في اسرائيل وغياب البلاغة الرقمية















المزيد.....


الادب الفلسطيني في اسرائيل وغياب البلاغة الرقمية


ايمان يونس

الحوار المتمدن-العدد: 4747 - 2015 / 3 / 13 - 21:21
المحور: الادب والفن
    


الأدب المحلي وغياب البلاغة الرقمية
تمهيد:
تتناول هذه الدراسة موضوع البلاغة الرقمية وغيابها عن الأدب العربي الفلسطيني في إسرائيل؛ في محاولة للوقوف على أسباب هذا الغياب وتعليله في ضوء المناخ السوسيو أدبي العام، من المنطلق القائل بأن النقد يجب أن يسبق النص أحيانا. فوظيفة الناقد أن يطرح تساؤلات حول أسباب غياب نص معين، أو أن يستشرف ظهور نص ما بحسب التطورات والتغييرات المحاذية. فلو ألقينا نظرة على ما يجري في الساحة الأدبية عامة، نجد أن العالم الغربي يحث الخطى بتسارع نحو الكتابة الابداعية الرقمية في كافة أشكالها وأجناسها؛ بينما يقف أدبنا المحليّ في عزلة تامة عن هذا الموضوع، فهو مغيّب تماما عن الساحة الادبية الرقمية. لذا أرى من واجبي كباحثة في هذا المجال، تسليط الضوء على هذه الثغرة بالذات في أدبنا المحلي.
من البلاغة الكلاسيكية إلى البلاغة الرقمية:
كلمة "البلاغة" مشتقة من الفعل ( بلغَ )، ويعني وصل إلى النهاية (قاموس المجمع، ص 226، 2013)، من هنا فالبلاغة تعني في اللغة: إيصال المعنى كاملا إلى ذهن القارئ والسامع. وجاء في معجم "الوافي" في مصطلحات اللغة العربية وآدابها (2013)، أن البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، مع فصاحة مفرداته، أي سلامتها من تنافر الحروف، وغرابة الاستعمال، وكراهتها في السمع (الوافي، ص 67، 2013).
وقد تطور مفهوم البلاغة وتطورت فروعه بتطور المدارس والاتجاهات النقدية في الحقب التاريخية المختلفة. ويمكننا أن نميز في ضوء هذا التطور بين ثلاثة مفاهيم أساسية للبلاغة: البلاغة الكلاسيكية، البلاغة الجديدة والبلاغة الرقمية.
يعد أرسطو المؤسس الحقيقي للبلاغة الكلاسيكية، وقد ألف ثلاثة كتب في هذا الموضوع، هي: فن الشعر، فن الخطابة، الحجج المشتركة. ويعتبر أرسطو البلاغة فنّا خطابيا بامتياز، إذ يستخدم أدوات حجاجية واستدلالية ومنطقية للتأثير في الآخر وإقناعه ذهنيّا ووجدانيّا. ويتم ذلك الحجاج عبر مجموعة من الوسائل الأدائية: فإما أن يتحقق عبر اللوغس الذي يعني الكلام والحجج والأدلة، وإما يتحقق عبر الإيتوس، الذي يتمثل في مجموعة من القيم الأخلاقية والفضائل العليا، وإما يتجسد في الباتوس الذي يتعلق بالمخاطب ويكون في شكل أهواء وانفعالات أي ما يسمى بالترهيب والترغيب.
وعليه، فالبلاغة الكلاسيكية هي بلاغة بيانية معيارية وتعليمية تساعد الكاتب أو الخطيب على كيفية الكتابة والإنشاء والخطابة، أي هي أداة للإبداع ووسيلة للتفنن في الكتابة بغية الوصول إلى تأليف الكلام السامي، وأداة ناجعة لاكتساب ملكة الفصاحة والبلاغة والبيان.
أما البلاغة الجديدة فقد ظهرت في منتصف القرن العشرين حيث اتسع مفهوم البلاغة بمعناه الكلاسيكي ليستوعب وصف قواعد الخطابات والأجناس الأدبية، وتصنيف الصور البلاغية والمحسنات البديعية وتبيان وظائفها في ضوء مناهج معاصرة لسانية وبنيوية وسيميائية وشعرية. ولم تقتصر البلاغة الجديدة على ما هو لساني في دراسة الصور والخطابات الأدبية، بل كانت تهتم بالحجاج في الخطابات الفلسفية والأخلاقية والاجتماعية والقانونية والسياسية، ودراسة العوالم والأنظمة والأنساق السيميائية سواء أكانت لفظية أم غير لفظية. وقد عرفت البلاغة الجديدة بأسماء أخرى، مثل: "علم النص" أو "لسانيات النص" (حمداوي، ص 1-7).
ما يهمنا في هذا السياق هو العلاقة بين البلاغة والأدب. فللبلاغةِ علاقة وطيدة بالنَّص الأدبي في شتَّى مَظاهرِه وتشكُّلاته الفنيَّة والأدبية والتحليليَّة، فعمليَّة الحَفر في مجال بنيات النصِّ الأدبي للوقوف على المعنى المخبوء تحت النَّسيج اللِساني والصَّوتي، ستظَلُّ في صيرورة ودَيْمومة، ما دام أنّ هناك نصوصًا ترصف، وخطابات تقال. وقد عملت المدارس الأدبيّة والنقديّة المختلفة على تكميل الرُّؤية، وفتح طرق التوسُّع في فهم النصّ وتحليله؛ بإضافة نظريَّات وآليات نقديَّة وتِقنيَّة؛ لخدمة المغزى العامّ من وراء التعامل مع النصّ الأدبيّ.
لكن، من الجدير ذكره هنا هو أن جميع الدراسات والاتجاهات النقدية التي حاولت تحديد وبناء بناء النَّسق البلاغيِّ للخطاب الأدبي قد تعاملت مع نصوص قوامها الكلمات، ذلك لأن النص الرقمي لم يكن موجودا، لكن بعدما ظهر هذا الجانر الأدبي الجديد في آواخر القرن المنصرم، انفتح باب الإبداع الأدبي على نحو غير مسبوق ليصبح الحديث اليوم عن بلاغة ثالثة هي البلاغة الرقمية (Digital Rhetoric).
قبل أن نعرف "البلاغة الرقمية" يجب أن نعرف أولا "الأدب الرقمي" (Digital Literature) فلا وجود للبلاغة الرقمية دون نص رقمي.
الأدب الرقمي- ويعرف أيضا بتسميات أخرى عديدة، مثل بـ: "الأدب التفاعلي" (Interactive Literature)، و"الادب الالكتروني" (Electronic Literature)، و"الأدب الافتراضي" (Virtual Literature)، هو في أبسط تعريف له: ذلك الأدب الذي تستخدم فيه تقنيات تكنولوجية لإنتاج النص. وأبرز هذه التقنيات:
أ‌. الوسائط المتعددة (Multimedia): وتعني إمكانية تمثيل المعلومات باستخدام أكثر من نوع من الوسائط، مثل الرسومات والنصوص والصور الفوتوغرافية والصوت والحركة والألوان (المعجم الشامل، 2001، ص 283). هذه التقنية تسمح للكاتب أن يستخدم المؤثرات الصوتية والبصرية كأدوات للتعبير إلى جانب الكلمة.
ب‌. النص المرتبط (Hypertext)- : وهو عبارة عن سلسلة من نصوص كثيرة متشابكة ومترابطة بعضها ببعض، تعرض للمستخدم مسارات مختلفة للقراءة غير الخطية (Landow, 1990, p. 3). هذه التقنية تسمح للكاتب أن يربط نصه بنصوص أخرى قد تكون لغوية أو غير لغوية مثل ربط النص بنصوص أخرى أو بمشهد سينمائي، أو بفيديو كليب، أو بشريط صوتي...إلخ .
لقد أدى استخدام هذه التقنيات في الكتابة الابداعية إلى قلب الكثير من المصطلحات والمفاهيم المتعارف عليها في النظريات والاتجاهات النقدية الحديثة، ومن بينها مفهوم البلاغة.
فإذا كانت بلاغة النص (قبل ظهور النص الرقمي) تقاس بمقدرة الكاتب على توظيف الكلمة لتوليد المعاني والافكار والصور الفنية، والمحسنات اللفظية كالاستعارة والمجاز والكناية والجناس والطباق، وقدرته على الإقناع والحجاج، أصبحت اليوم تقاس وفق معايير أخرى وآليات مستجدة. إذ لم يعد الكاتب يكتب بالكلمة فقط، بل أصبح بإمكانه أن يتوسل بوسائل أخرى للتعبير. فيوظف اللون كرمز، والحركة كمعنى والموسيقى كإيحاء، والصورة ككناية. ونفس الشيء بالنسبة للروابط، اذ أصبح بمقدور الكاتب أن يضمن نصه بعض الروابط فيجعل منه لوحة فسيفسائية تتداخل وتتشابك فيها نصوص كثيرة، وهو ما بات يعرف اليوم بـ "الهايبريد تكست" (Hybrid text) أي النص "الجامع للأجناس"، وذهب البعض إلى أبعد من ذلك فأطلقوا عليه اسم ((Archiart أي النص الجامع للفنون بحيث تتضافر فيه كافة انواع الفنون: فن الموسيقى الى جانب فن الاخراج السينمائي الى جانب فن الرسم الى جانب فن المسرح، وهذا أيضا غير مفهوم التناص كأحد الأساليب البلاغية، فبدأنا نسمع الحديث عن "التناص التقني" (ملحم، 2013، ص 26، ص 65).
الكتابة بهذا الشكل يقول روبرتو سيمانوفشكي أحد نقاد الادب التفاعلي، نقلت النص من دائرة الادب إلى دائرة أشمل وأعمّ وأكبر هي دائرة الفن، فأصبح الأدب الرقمي أحد فروع الفن الرقمي (Simanowski, 2010, p. 17). هذا يعني أن البلاغة الرقمية (Digital Rhetoric) فتحت النص على آفاق جديدة، فلم يعد النص ينتج ليقرأ فقط، بل ليُرى ويُشاهد ويُسمع أيضًا.
هذه التغييرات صحبت معها تغييرات كثيرة تتعلق بالمتلقي، ما أدى إلى قلب موازين نظرية التلقي عامة (Reception theory) أيضا. فالقارئ لا يتلقى الكلمة فحسب فهناك الصور والألوان والموسيقى، وعليه الربط بين مختلف النوافذ التي تُفتح أمامه كلما ضغط على كلمة من الكلمات، أو برزت أيقونة ما في الإطارات والأشكال المصاحبة للنصوص، ثم الولوج إلى العلاقة بين هذه النوافذ جميعا، والكشف عن روابطها وأبعادها الدلالية والرمزية، وقراءة النص الإبداعي الشعري استنادا إلى كل ذلك، إضافة إلى قراءة دلالة الألوان والأشكال ذاتها التي تفترض معرفة جيدة بسيمياء الألوان والأشكال في تعالقاتها الرمزية والفلسفية. كل هذا يستوجب إعادة النظر في الكثير من المصطلحات التي وضعها أصحاب نظرية جماليات التلقي مثل بارت وإيزر وإيكو وغيرهم، وهذا موضوع شائك سبق وتطرقت له في أبحاث سابقة.

غياب البلاغة الرقمية عن الأدب المحلي
أشرت سابقا إلى أن العالم الغربيّ قد قطع مسافات طويلة في مجال الكتابة الرقمية والتنظير لها، فمن أبرز المنظرين للأدب الرقمي جورج لاندو وكاثرين هيلز وروبرتو سيمانوفشكي ورنيه كوسكيما. (في الغرب ظهر اكثر من 600 نوع من النصوص الرقمية). كذلك فإن بعض الجامعات في الولايات المتحدة وإسبانيا وإيطاليا بدأت تعمل على تدريس هذا الادب وعلى كيفية وانتاجه وتلقيه، وأدخلته كموضوع رئيس في قسم الآداب، والتجربة العربية الوحيدة في هذا المجال هي تجربة جامعة الامارات بإشراف فاطمة البريكي.
يجمع منظرو الأدب الرقمي على أن الأدب الرقمي هو الأدب المعبّر عن هذا العصر في كافة تحولاته وتطوراته، فكل أدب يتناسب مع الفترة الزمنية التي يترعرع فيها كما أنه يتطور بتطور أدواتها. فكما كانت القصيدة العمودية هي الخطاب الأنسب للتلقي الشفهي لأنها تقوم على وحدة الوزن والقافية، وكما كانت الرواية هي النتيجة الطبيعية لتطور الوعي البشري فحلت محل الملحمة بحسب تفسير هيجل لنشأة الرواية، فإن الأدب الرقمي هو الأدب المعبرّ عن العصر الذي نعيش.
وهذا يدفعني الى طرح جملة من الأسئلة: إذا كان الأدب الرقمي هو بالفعل حال تطورية لمسار الأدب، وهو التجلي الثقافي للعصر الرقمي، فأين مكانة العقل العربي في هذا العصر؟ وهل الأدباء العرب يعيشون الحداثة تنظيرا فقط؟ واين ادبنا المحلي من كل هذا؟
طبعا لا نستطيع أن ننكر بأنه على مستوى العالم العربي ظهرت بعض المحاولات التنظيرية في هذا لمجال مثل كتابات سعيد يقطين وزهور كرام وفاطمة البريكي وابراهيم ملحم وغيرهم، لكنّ التجارب التطبيقية قليلة جدا على المستوى العربي ومعدومة على المستوى المحلي. فماذا فعل أداؤنا المحليون حين اقتحموا عالم النشر الإلكتروني؟ تجرأ بعضهم وحاولوا أن يدخلوا غمار التجربة، فأسسوا لأنفسهم موقعا على النت لكنهه دخلوا هذا العالم بوسائل عصر الورق؛ فلم تختلف كتابتهم عبر النت عن كتاباتهم خارجها. فأين نحن من التجديد والتحديث؟ يقول بيل جيتس في وصف إنسان هذا العصر في كتابه business @ the speed of thought:
"خلال سنوات قليلة جدا سوف يستعمل جميع الناس الحواسيب الشخصية بانتظام في البيت والعمل وسوف يرتبطون بالإنترنت طيلة النهار ويحملون اجهزة رقمية على اجسادهم تزودهم بالمعلومات والبيانات التي يحتاجونها في زمن قياسي".
وهذا بالفعل ما نراه يحدث اليوم!! لذا أتساءل:
هل الكتاب الورقي بشكله الحالي وبلغته الحالية قادر على التعبير عن نمط هذه الحياة؟ وعن اسلوب حياتنا الرقمي؟ ام بتنا نحتاج الى لغة جديدة وكتاب جديد واساليب جديدة في القراءة والتلقي؟
وعليه، أرى أن تأخر ظهور الأدب الرقمي في أدبنا المحلي بالرغم من القبول الذي يلاقيه في العالم الغربي وبعض الدول العربية، يمكن حصره في الأسباب التالية:
أولا: عدم الانكشاف على الأدب الرقمي. فكثير من الأدباء المحليين لم يسمعوا بظاهرة "الأدب الرقمي"، ولم تتسن لهم الفرصة لقراءة نصوص أدبية رقمية سواء كانت عربية أو أجنبية، وذلك لشحّ الدراسات المحلية حول هذا الموضوع من ناحية وعدم تدريسه في الكليات والجامعات من ناحية ثانية. وفي هذه الحالة يكون عدم الإقبال على كتابة الأدب الرقمي مشروعا ومقبولا، فلا مجال لممارسة موضوع ما دام مجهولا بالنسبة للجمهور.
ثانيا: عدم القدرة على مواكبة التطورات التكنولوجية، وهو ما يعرف بأمية الحاسوب. فبعض الكتّاب لا يتقنون استعمال التكنولوجيا، ولا يجيدون التعامل مع الحاسوب وبرمجياته المختلفة، كما ولا توجد ألفة بينهم وبين التكنولوجيا عامة، فيظلون متمسكين بالقلم والورقة، باعتبارهما الأصل الذي لا يمكن الانفصال عنه. وهذا عذر أقبح من ذنب، ويمكن أن نطبق عليه المثل القائل "من لا يجيد الرقص يزعم أن في الأرض اعوجاجا". لذا فهناك حاجة ملحة لنشر التوعية بموضوع التنور الحاسوبي Computer Literacy)) أي "المعرفة الواسعة عن كيفية استخدام الحاسوب في حل المشكلات وتنمية الوعي بوظائف البرمجيات والمكونات وفهم التضمينات المجتمعية للحاسوب". وهذا لا يعني أن التنور الحاسوبي يتطلب دراسة فنية تفصيلية دقيقة لكل ما يتعلق بتقنية الحاسوب فذلك أمر يتولاه الخبراء والمتخصصون في هذا المجال، لكنه يعني الحد الأدنى من المعرفة والمهارة في التعامل مع تلك التقنية. وعليه، فإن سبل النهوض بموضوع التنور الحاسوبي تندرج ضمن مسؤوليات الدولة ومؤسسات التعليم العالي ووزارة التربية والمناهج التعليمية، التي بات من واجبها أن تأخذ الموضوع على محمل الجد إذا ما أردنا اللحاق بركب الحضارات المتقدمة.

ثالثا: الخوف من هذا الوافد الجديد، فكل تجديد في الأدب عادة ما يلاقى بتحفظ من قبل الأدباء والنقاد إلى أن يترسخ ويثبت نفسه على الساحة الأدبية. فلو راجعنا حركات التجديد التي طرأت على الأدب بشكل عام نرى أن هذه الحركات كانت تواجه بالرفض والتصدي في بداية مشوارها كما حصل مع رواد حركة الشعر الحديث في منتصف القرن الماضي على سبيل المثال، وقد أشارت نازك الملائكة في كتابها قضايا الشعر العربي المعاصر إلى هذا الموضوع متطرقة ذكر إلى الصعوبات التي واجهت الشعراء الذين تمردوا على القوالب الكلاسيكية ونفروا من القيود العروضية، وعرضوا عن تقليد النماذج الجاهزة وبحثوا عن التفرد والاستقلال فبحثوا لأنفسهم عن خطوط شعرية جديدة أمثال بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وآخرين، إلا أن حركة التجديد التي نادوا بها واجهت الكثير من الصعوبات قبل أن يستتب لها الحال وتفرض نفسها بقوة (الملائكة، 1976، ص 38).
ليس غريبا إذا أن يواجه الأدب الرقمي في بداياته نفس الهجوم ونفس التصدي ونفس الرفض، لدرجة جعلت بعض المتعصبين للقلم والورقة يشونون هجوما حادا على الأدب الرقمي مدعين بأن الكتابة الرقمية تؤدي إلى تراجع القيمة الفنية للنص. وهذا برأيي حكم متسرع وسابق لأوانه. فصحيح أن الكلمة تبقى هي الأساس في كل عمل أدبي وهذا ما يميز النص الأدبي عن العمل الفني، لكن المؤثرات الأخرى إذا ما أحسن الكتاب توظيفها بحيث تخدم النص معنى ودلالة، أي ألا تكون مجرد ديكور خارجي للنص أو تأثيث مصطنع، بل أن تكون عنصرا عضويا فيه، يمكنها في هذه الحالة أن تثري النص وتحمله المزيد من الشحنات الدلالية وتجعله أكثر كثافة وخصوبة وحيوية.
من جهة أخرى، فإن إحباط المجددين العرب يكمن في وتيرة وبطئ عملية التجديد هاته لمواكبة العصر، فما أن يستووا ويصعدوا نحو حركة العالم درجة، حتى يكون العالم قد ابتعد عنهم درجات، والسبب في ذلك يعود لكون حركة التجديد العربي تنطلق من واقع اجتماعي اتكالي واستهلاكي، زيادة على ذلك لا تواكبه حرية الإبداع في خلق الأشياء لأنه فقط بخلق الأشياء يتحرر الإنسان. بالإضافة إلى ذلك، فإن مفهوم التجديد في نظري لا يمكن أن يكون هدما للتراث والبناء على أنقضه شيء جديد لا علاقة له بالقديم. فالجديد لا يلغي القديم بل يحتفظ كل بأصالته ويمكن أن يسيرا جنبًا إلى جنب دون أن يلغي أحدهما الآخر، فولادة قصيدة التفعيلة مثلا لم تلغ القصيدة العمودية وما زال الشعر العمودي يحظى باهتمام القراء والنقاد والمبدعين حتى يومنا هذا، والقصة تسير مع الرواية دون أن تطغى إحداهما على الأخرى.
وهكذا، يمكن للخائفين على تراثهم والغيورين على عصر الورق أن يطمئنوا إلى أن الأدب الرقمي لن يلغي الأدب الورقي وسيظل الكتاب الورقي موجودا طالما يظل أناس يكتبون وقراء يقرأون، لكن لا ضير أن نجرب أساليب جديدة وطرائق مبتكرة لا يمكن أن يوفرها لنا القلم بقدراته المتواضعة مقارنة بإمكانيات الحاسوب الهائلة.

رابعا: محدودية الانفتاح الذهني (Open-mindedness) لدى بعض المبدعين العرب، وأقول "بعض" كي أحفظ لنفسي خط الرجعة، فلا أظلم البعض الآخر إن وجد. فإذا كان الانفتاح الذهني كما عرفه المفكر الإنجليزي بيرتراند راسل Bertrand Russell))، هو الفضيلة التي تمنع العادات والرغبات من جعلنا غير قادرين على تفهم أن المعتقدات السابقة ربما كانت بحاجة إلى مراجعة أو هجر، وتكمن قيمتها الرئيسية في تحدي التعصب الناتج من قناعاتنا بأن آراءنا أكيدة بشكل مطلق ؛ فإن الذهنية العربية هي أبعد ما يكون عن هذا الانفتاح.
إن تقبل الأدب الرقمي يعني تقبل تغيير الكثير من المفاهيم المتعلقة بالعملية الإبداعية، وهذا ليس بالأمر البسيط، لأنه يتطلب منا أن نتخلى عن أفكار كثيرة ترسخت لدينا منذ زمن، أهمها: ارتباط النص بمنتجه حصرا، فالكاتب الرقمي ليس المالك الوحيد للنص بل يعمل إلى جانبه كوكبة من المبرمجين والخبراء وربما الفنانين. كذلك فالأدب الرقمي يعني أيضا التخلي عن ارتباط الاعتزاز بالتراث بالأوراق الصفراء، وارتباط الموهبة بالكلمة المطبوعة بصورة ديوان شعر أو بصورة رواية. والأدب الرقمي يعني بالإضافة إلى ذلك تقبل فكرة أن يشارك القارئ في إنتاج النص والتفاعل معه بأشكال مختلفة.
من هنا، ليس غريبا أن يواجه هذا الأدب بالتحفظ الذي قد يصل حد الرفض أيضا من قبل أدبائنا ومفكرينا الذين لا يوجد لديهم الاستعداد الذهني للتفكير بطرائق أخرى تنفتح على التعددية والمشاركة والانفتاح.
وهنا أعود فاذكر بأن البلاغة الرقمية بمفهومها الشمولي تعني الخروج عن التقاليد المتعارف عليها في الكتابة الابداعية شكلا ومضمونا وسيرورة، فإننا نعيش ليس فقط مرحلة ما بعد الحداثة، بل مرحلة ما بعد الانسانية، لأن الإنسان لم يعد وحده مالك السيطرة، لقد أصبح الحاسوب شريكه في كل شيء، وعلينا أن ننظر إلى الحاسوب ليس كمجرد أداة لإنتاج النص بل كشريك في ذلك، وهذا يدفعني إلى ذكر تجربة الـ OuLiPo وهي مدرسة فرنسية قام بها مجموعة من الشعراء وعلماء الرياضيات تهدف الى استغلال المعادلات الرياضية لكتابة قصائد أدبية عن طريق تزويد الحاسوب بالمعطيات اللازمة (Rosario, 2011, p. 68).
كذلك أريد أن اشير إلى أنه بالاستناد إلى الاحصائيات التي قامت بها شركة IPSOS في العام الماضي(2013) فان نصف مستخدمي الإنترنت في العالم يستخدمون الشبكة للبحث عن وسائل للتسلية كمشاهدة الافلام أو تنزيل الأغاني أو الألعاب ، وأعتقد أن الاحصائية تشير بصورة ما إلى أن الفرصة سانحة لتقديم الأدب بطريقة مختلفة بحيث ندمج فيه الوسائط المتعددة إلى جانب الكلمة من منطلق أن المتعة يمكن أن تتمازج مع المعرفة، ولكن هذا يفرض على جامعاتنا أن تؤسس لهذا الادب، لكي نستطيع بناء جيل جديد من المتذوقين والمبدعين والنقاد.
باختصار، شئنا أم أبينا فنحن سنسير باتجاه التقنية، ونحن مطالبون أن نكتب بأدوات العصر وأن نعبر عن إنسان هذا العصر في كينونته التكنولوجية وفي عالمه الافتراضي، وأظن أن تناول هذا الموضوع بالتحليل والمساءلة والنقد هو مطلب حضاري، وأن التفكير في الإبداع الرقمي هو تفكير في مستوى من مستويات الحداثة، ويبقى السؤال: كم من الوقت سيلزمنا حتى يصبح الأدب الرقمي جزءا من ثقافتنا؟ هل نحن جاهزون لذلك؟!!






#ايمان_يونس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر ...
- سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
- -المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية ...
- أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد ...
- الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين ...
- -لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
- انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
- مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب ...
- فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو ...
- الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ايمان يونس - الادب الفلسطيني في اسرائيل وغياب البلاغة الرقمية