|
استفزاز التلفاز
السيد شبل
الحوار المتمدن-العدد: 4738 - 2015 / 3 / 4 - 15:22
المحور:
الصحافة والاعلام
استفزاز التلفاز.. بقلم: السيد شبل
لا يُتصور بأي حال أن يكون الأمر أكثر استفزازًا مما هو عليه الآن، فيما يخص المواد الفنية، التي تؤصل وتحفّز وتبارك السلوكيات الاستهلاكية الشرهة والاستعراضية، والتي يتم بثها بصورة صريحة ومقنعة صباح مساء عبر شاشات الفضائيات. وليس أقبح من أن تتحول أوسع وسائل الاتصال الجماهيري انتشارًا "التليفزيون" إلى عامل قهر معنوي مضاف عوضًا عن أن تكون مصدرًا للإعلام والتثقيف والتوجيه والترفيه. وليس مقبولًا من أي وجه تلك القيم الاستهلاكية التي يتم غرزها عن عمد وقصد في ملايين المتابعين، فيُحالون –في ظل أجوء عامة يغيب عنها التحصين- إلى وحوش بغرائز حيوانية في صور آدمية، يتصارعون داخل نفوسهم وخارجها طمعًا في نيل هذه الأصناف المتعددة من السلع، والتي تخرج موادها الدعائية غالبًا في صور مبهرة وجذابة.
أذكر أن حملات صحفية شتى أنطلقت في أوائل التسعينات تهاجم الأعمال الدرامية التي يظهر بها الممثلون، وهم يلتهمون ولائم الطعام، ويقودون أثمن السيارات. وطالبت الصحافة حينها باحترام نفسية المشاهد، وأن يكون الإعلام المرئي مساعدًا للفرد على الموازنة بين متطلباته الدنيوية وحاجاته المعنوية والروحية الأصلية، وأن يكون له دور إيجابي يعين الفرد على التحلّي بالأخلاق المحمودة كالزهد والإيثار، والتخلي عن الأخلاق المذمومة كالحرص والطمع والشح، وأن يتحاشى جرح كبرياء الآباء، وهم يراقبون تطلّع أبنائهم لحياة مماثلة لتلك التي يرونها عبر الشاشات، بعدما هوستهم مظاهرها، بينما أيديهم أقصر من أن تحقق لهم ذلك. وقد استجاب حينها عدد من الكتاب لتلك الدعاوي، وانعقد ما يشبه الميثاق -غير المكتوب- على احترام حق المشاهد في متابعة التليفزيون دون أن تُنغّص عليه حياته، ويُفسد عليه رضاه. لكن هذا الميثاق انخرم مع الزمن، شأنه شأن أمور شتى تراجعت مع بدايات القرن الحادي والعشرين، واستفحال سياسات الخصخصة وحصول رجال الأعمال على سلطة أكبر وحضور مجتمعي أوسع، وما صاحب ذلك من سلوكيات استعراضية. وهنا لعب الإعلام دورًا شديد الخطورة حين بروز النمط الاستهلاكي المفرِط لهذه الطبقة، عبر مواده الدعائية المكثفة وعبر الأعمال الدرامية غير المسؤولة، بحيث يصبح هو النمط الأمثل الذي يطمح إليه كل فرد. إذن فقد لبّست المواد المبثوثة الأمر، بسعيها إلى تجميل صفات مذمومة كـ(الطمع والجشع)، ووصف المتحلّي بها بأوصاف تجد لها في النفوس صدى، كالطموح والرغبة في الترقي والوجاهة الاجتماعية. وهنا تكمن المشكلة فمن جهة صارت "المظاهر المادية" قبلة للناس، وأفرطوا في طلبها، ومن جهة أخرى تحمّل من لم ينلها بأحقاد نفسية كان غنيًا عنها، ففسدت الأحوال. وصاروا أسرى، ولو ظاهريًا دون قيود وأغلال من الحديد، لملاك المؤسسات الصناعية والتجارية ذوي الجنسيات المتعددة، مكبّلين كالمواشي في سواقيهم!.
وإن كانت الإعلانات التجارية، وتحفيز الطاقات الشرائية لدى الناس، سمة عامة للعصر الإعلامي حديثًا، واجبٌ التماهي معها، فليس أقل من أن تقوم الدولة بدورها المطلوب منها في حماية بواطن ونفسيات مواطنيها التي خربت جراء كثاقة المواد المصورة التي تحفز الناس على الاستهلاك الشره. فحتى بزعم ضرورة التزام الدولة بالمفاهيم الليبرالية للإعلام، وهي مفاهيم مشكوك في إنسانيتها من حيث منطلقاتها وتعميمها بدعوى العولمة هو استبداد وهيمنة من نوع ما، فهناك ما يسمى بالمسؤولية الاجتماعية والتي ترى ضرورة أن يكون للهيئات والغرف والتنظيمات دور في كبح جماح الرأسمالية وتهذيبها - من داخلها !-، بحيث تحترم وتتعاون مع الجماعة البشرية التي تستفيد جراء استهلاكها لمنتجاتها، وتعاملها مع خدماتها. وهذه النظرية على ما فيها من قصور لأنها تأمل في أن يحسّن صاحب المال أدائه من تلقاء نفسه وبضغط غير جبري، إلا أنها مطلوبة حتى لو من باب الإجراءات الشكلية التي يمكن أن تتحرك في سياقها الحركات الاجتماعية المناهضة للاستغلال، مدعومة من الدولة بأي صورة من الصور، حتى لو بإفراغ مساحة لظهور قادتها وزعمائها في الإعلام القومي.
أما من جهة الإجراءات الفعلية فعلى الدولة أن تلتزم بتقديم النموذج في المحطات الإعلامية المملوكة لها، فتلتزم ببث الأعمال الدرامية التي تتضمن أقل قدر ممكن من المَشاهد التي تعكس استهلاكًا مبالغ فيها سواء للمأكل أو الملبس أو المسكن.. إلخ، خاصة أن أغلب هذه المَشاهد يمكن الاستغناء عنه بما لا يخل بالقصة أو يعيق فهم المشاهد لرسالة العمل. أما إذا كان تضمين هذه المشاهد مطلوب فنيًا، فيُسمح به، على أن يتحاشى صانعو العمل إخراج الأنماط الاستهلاكية المفرِطة في صورة ترغيبية. والتزام الدولة ببث دراما لها طبيعة معينة تستهدف تنمية أخلاقيات الطبقة الوسطى المعتدلة في الاستهلاك، سيلزمها بالضرورة بالعودة للإنتاج، وهو أمر لم يعد عنه غنى!. أما ثاني ما يفترض بالدولة العمل عليه هو تفعيل قوانين مراقبة المواد الإعلانية التي يتم بثها من خلال نوافذ الفضائيات المصرية الحكومية أو الخاصة، على أن يتم تشكيل لجان المراقبة من أخصائيين، ومن أفراد يتم اختيارهم بشكل عشوائي من الجماهير شرط أن يمثلوا مهنًا وقطاعات مختلفة. أما المطلوب ثالثًا فهو أن يتم الفصل بين ما هو دعائي وبين ما هو درامي أو برامجي، حيث اختلط الأمر إلى حد لم يعد السكوت معه مقبولًا، فلم يعد المُشاهد قادر على استقبال ما يرغب من معلومات دون أن تطارده الإعلانات التجارية. بل في كثير من الأحيان يتم جلب الضيف وانتقاؤه من الأساس بهدف الترويج والدعاية له، بناء على اتفاق مسبق، بغض النظر عن قيمته أو مؤهلاته، وهو تضليل يستهدف إرباك المتلقين واستغلالهم، وهذا واضح في نوعين من البرامج، الأول المختص بالمطبخ وأكلاته (وهو من أبشع الأمثلة الدالة على دور الإعلام السلبي في تحفيز الشره الاستهلاكي لدى الجماهير)، والثاني الذي يتناول المسائل الطبية!.
ولا أتصور أن ما خطر لي في الفقرة السابقة عن دور الدولة في مواجهة هذه المشكلة، كاف بأي شكل من الأشكال، فوق أنه يحتاج إلى تفصيل ودراسة. ولكن المراد فقط هو إيضاح أن المشكلة التي رُصدت لها حلول، وليس كما يتوهم البعض من أنها صارت مرضًا خبيثًا من أمراض العصر، لا شفاء منه ولا براء.
بقيت إشارة إلى أمر ثانوي آخر يمكن الوقوف عنده فيما يتعلق بهذه القضية، وهو انحجاب الصحافة بمتابعة ومناقشة تفاصيل الحياة السياسية، وتخليها عن دورها في "الرقابة المجتمعية"، وهو دور شديد الأهمية مارسته لعقود طويلة مضت، حاولت من خلاله الدفاع عن حقوق الإنسان الطبيعية، ومساعدته في إشهار صوته الرافض لما يتعرض له من مؤثرات سلبية تستهدف سلامته الجسدية والنفسية، وليس ثمة شيء يتعرض له الفرد يوميًا، ويؤثر في سلوكه أكثر من "التليفزيون"، لذا وجب الاعتناء بالمواد التي تُبث من خلاله، بشكل شامل وليس من جهة فنية فقط، لأن تأثير تلك المواد خطير من الناحية النفسية والاجتماعية، خاصة وأنها تعمل بالتكامل مع مناخ عام مشوّه يعضدها ولا يقاومها، بل هي في حقيقتها انعكاس له بشكل أو بآخر. ومن هذا المنطلق كان حريًا بالصحافة أن تتناول مثل تلك القضايا، بأسلوب جذاب ومؤثر بعيدًا عن التنميط، عوضًا عن التناول السطحي الديماجوجي للتفاعلات الواقعة على الساحة السياسية، والذي أصبح كالملهاة التي ينشغل بها المجتمع بشتى فئاته وطبقاته، بينما تمر قيمًا سلبية ذات تأثير ملحوظ على الأجيال الحالية، ومتوقع أن يزداد التأثير مستقبلًا، طالما بقي الحال على ما هو عليه. انتهى.
#السيد_شبل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إعلام خاص غير مؤهل، وحكومي بلا رؤية أو تخطيط (دراسة).. بقلم
...
-
عن الحوثيين وديماجوجية خصومهم !
-
تسقط الحرية!.. بقلم: السيد شبل
-
فخ مدة الرئاسة في دساتير (الربيع العربي) ! ..
-
إعلام خبري بلا توجه يساوي صفر في المحصلة .. بقلم: السيد شبل
-
السينما بين الابتذال والتغريب
-
بيزنس الساحات الشعبية وإهدار الطاقات الشبابية
-
هل يمكن بشكل واقعي الانتصار على الإخوان.. وكيف؟ (دراسة)
-
أسماء القرى والمدن، ورُخص الباحثين!
-
وعود السيسي، وأحلام البسطاء
-
-السقا- الذي ارتدى ملابس رئيس الوزراء
-
فؤادة أكثر -فرعنة- من عتريس!
-
القضية الفلسطينية.. الحل في تبنيها لا الفرار منها
-
بعيدًا عن فوضى الشعارات.. ماذا نريد من النظام القادم ؟
-
-فلسطنة- الطابور الخامس !
-
الانتخابات والإخوان ورجال الأعمال
-
الإخوان وأمريكا (الشياطين الصغار في خدمة شيطانهم الأكبر)
-
-صربيا- كلمة السر المنسية في أحداث العالم العربي
-
قراءة في فرية دعم الفلول للسيسي..
-
أربع سنوات مضت.. وأربع قادمة
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|