مرور عامين على حكومة الوحدة بين الليكود والعمل شكل الارضية المتينة لبناء مكانة شارون الداخلية والدولية، ولسحق حزب العمل؛ الساحة السياسية بعد الانتخابات ستثبت انقلاب جميع الاحزاب الصهيونية نحو اليمين؛ فوز الليكود المتوقع بفارق كبير على حزب العمل في الانتخابات القادمة، يعني ان حزب العمل الذي كان الحزب الرئيسي في الساحة الاسرائيلية خلال سنوات طويلة، اصبح عنصرا ثانويا، الامر الذي سيفقد اسرائيل استقرارها الداخلي.
اساف اديب
تحديد الاحزاب لمرشحيها في القوائم الانتخابية، بيّن بوضوح ميل الساحة الاسرائيلية الى اليمين. الليكود الذي كان له 19 مقعدا فقط في الكنيست الخامسة عشرة، من المتوقع ان يحظى ب 35-38 مقعدا في الانتخابات الوشيكة، وذلك مقابل هبوط محتمل لحزب العمل من 26 مقعدا الى ما بين ال 20وال 24. ومن المتوقع ان يحظى حزب "شينوي" (تغيير) العلماني اليميني بمقاعد اضافية على حساب حزب ميرتس العلماني اليساري.
الانقلاب نحو اليمين يبدو بشكل اوضح في تركيبة قائمتي الليكود والعمل، حيث رجحت كفة الجناحين اليمينيين في كلا الحزبين: في الليكود حصلت بعض العناصر الموالية لنتانياهو، والمعروفة بمواقفها اليمينية المتطرفة، على مواقع هامة. في حزب العمل خسرت عناصر الجناح اليساري، مثل بيلين ويعيل ديان وتسالي ريشف، مكانتهم لصالح مؤيدي بن اليعزر، الامر الذي ادى لانشقاقهم عن حزب العمل.
حكومة الوحدة سحقت برنامج العمل
المحللون الاسرائيليون يتعجبون من استعداد شارون تبني خط سياسي مركزي، واصراره على حكومة الوحدة. حتى في اوساط اليسار الاسرائيلي، الذي كان يعتبر شارون رمزا للشر المطلق، يوجد من يرى في شارون اليوم عنصرا معتدلا يجب التعاون معه. في الحقيقة يتصرف شارون منذ لحظة تسلمه منصب رئيس الحكومة بشكل سياسي حذر، وقد تعلم من اخطاء من سبقوه في منصب رئاسة الحكومة. لكنه في نفس الوقت ظل ملتزما بمواقفه الاستعمارية والعنصرية، كما قام باستغلال الوضع الدولي لصالحه.
وقد تبنى شارون منذ البداية سياسة الوحدة مع العمل، الامر الذي منحه الدعم الشعبي والسياسي الواسع في اسرائيل. كما اصر على بناء علاقة متينة مع الرئيس الامريكي، جورج بوش، واعلن مؤخرا في خطاب سياسي رسمي له امام مؤتمر هرتسليا للامن القومي الاسرائيلي (4 كانون اول)، انه يتبني مخطط بوش حول "خريطة الطرق". ان تزامن انتخاب شارون (في شباط 2001) مع انتخاب بوش الذي اشار الى تغيير في توجه الادارة الامريكية في العالم نحو اليمين، عزز مكانة شارون في واشنطن. وقد توطدت العلاقة بعد هجمات 11 ايلول.
شارون هو رئيس الحكومة الاسرائيلي الوحيد في العقد الاخير الذي اخذ على عاتقه مشروع حكومة الوحدة ونيل رضا الامريكان. بالمقابل كان زعيمي الليكود خلال العقد الاخير، شامير ونتانياهو، ملزمين بالدعم العلني للاستيطان. الامر الذي ادى بالادارة الامريكية الى التدخل المباشر في الانتخابات الاسرائيلية لصالح مرشح حزب العمل (في عام 92 ادى الامر الى انتخاب رابين، وفي عام 99 الى انتخاب براك).
اما زعيما حزب العمل رابين وبراك اللذان كانا مقتنعين بإمكانيتهما الحاق هزيمة حاسمة بالليكود بموجب الدعم المطلق من الادارة الامريكية، ورفضوا تشكيل حكومة وحدة مع الليكود، وصلوا الى طريق مسدود: فقد اغتيل رابين عام 95، واضطر براك، الذي بقي عشية مؤتمر كامب ديفيد عام 2000 مع 34 عضو كنيست فقط، للاعلان عن انتخابات مبكرة في شباط 2001، مني فيها بهزيمة نكراء.
شارون قرر منذ البداية ان يلائم نفسه للتوجهات الامريكية، وفي نفس الوقت اعتمد التحالف مع العمل. وجود حزب العمل في اماكن قوية في حكومته، لا سيما بيرس مهندس عملية اوسلو في وزارة الخارجية، منحه شرعية دولية وفتح امامه ابواب العواصم الاوروبية. بموجب هذه السياسية تمكن شارون من خلق وجهة نظر جديدة تجاهه وسحق حزب العمل.
الدعم الامريكي يحتضن شارون
مقابل اصرار شارون على الالتزام المطلق بالخط الامريكي، يقف حزب العمل امام معادلة صعبة. اليسار الاسرائيلي (العمل، ميرتس وحتى الاحزاب العربية التي ايدت هذا الخيار)، اعتمد كليا على امريكا خلال عقد التسعينات. فقدان اليسار استقلاليته، خلق ارتباطا عضويا بينه وبين واشنطن. بعد فوز بوش في الانتخابات الامريكية، وتحديدا في اعقاب اعلان الحرب على الارهاب، فقد حزب العمل الرؤية والقدرة على طرح البديل لشارون، خصوصا انه فقد الشريك الفلسطيني الذي يمكنه فرض اتفاق امريكي اسرائيلي على الشعب الفلسطيني.
رغم انتخاب حزب العمل لزعيمه الجديد، الا انه يبدو عاجزا عن طرح موقف واقعي. فمتسناع الذي يدّعي انه يطرح بديلا سياسيا لشارون، يجد نفسه امام الدعم الامريكي لشارون. معلق هآرتس السياسي الوف بن، لاحظ بعد خطاب شارون ان "حزب العمل سيلاقي صعوبة في رفض مقترحات الرئيس الامريكي بحجة انها غير كافية، او بادعاء ان بوش يميني اكثر من اللازم." (5 كانون اول).
حزب العمل يفقد مكانته
الآمال التي اثارها متسناع في بعض العواصم العربية وفي اوساط اليسار الاسرائيلي كانت في غير مكانها. الحقيقة ان هزيمة بن اليعزر لصالح متسناع كانت المؤشر لهزيمة حزب العمل في الانتخابات القادمة. شعبية حزب العمل بقيادة بن اليعزر جاءت بسبب كونه وزيرا للدفاع في حكومة الوحدة. خروجه من الحكومة خوفا من منافسيه في الحزب، افقد بن اليعزر رئاسة الحزب، وافقد حزب العمل اصوات كثيرة في الساحة الاسرائيلية التي تميل باتجاه ضرورة تشكيل حكومة وحدة لمواجهة الانتفاضة والازمة الاقتصادية.
ان مشاركة حزب العمل خلال العامين الاخيرين في حكومة الوحدة، اعتمدت على قوته في الكنيست كاكبر كتلة برلمانية (26 مقعدا). بموجب هذه المكانة حظي الحزب بمنصبي وزير الامن والخارجية. من هنا فهو يتحمل مسؤولية القرار باعادة الاحتلال المباشر للضفة الغربية، والقضاء على السلطة الفلسطينية فيها.
لا شك ان مشاركة بيرس في حكومة شارون التي قضت على اوسلو، شطبت البرنامج السياسي لحزب العمل. المحللون الاسرائيليون موحدون وراء موقفهم بان مشاركة حزب العمل في الوحدة عبرت عن فقدان الحزب لهويته، وانها كانت عبارة عن ضربة قاضية لمكانة الحزب، ومساهمة ملموسة في بناء مكانة شارون الجديدة.
ان انسحاب بن اليعزر عشية الانتخابات الداخلية من حكومة الوحدة وفوز متسناع، لم يخلق برنامجا سياسيا لحزب العمل. لقد خلق انتخاب متسناع لرئاسة الحزب الانطباع المضلل بان ناخبي العمل يريدون حزبا اكثر يساريا، غير ان الانتخابات الداخلية التي اجريت مطلع كانون اول لتحديد القائمة الانتخابية للحزب، جاءت لتثبت ان الامر ليس كذلك.
قائمة العمل الجديدة منحت العناصر الموالية سياسيا لبن اليعزر (الجناح اليميني في العمل) السيطرة المطلقة على الاماكن الاولى. هزيمة يوسي بيلين، وزير سابق واحد رموز نهج اوسلو والمعارضة لحكومة الوحدة، هي دون شك نقطة مفصلية في حياة حزب العمل. وقد تجسد ذلك في قرار بيلين ويعيل ديان الانشقاق عن حزب العمل والانضمام الى قائمة ميرتس، الامر الذي من شأنه ضرب مكانة العمل ومصداقيته.
نلاحظ ان الازمة السياسية والاقتصادية العميقة التي تمر بها اسرائيل، تؤدي باستمرار الى ضعضعة مصداقية القيادة السياسية بكل احزابها ومؤسساتها. انتصار شارون المرتقب لا يعبر عن يقين بان هذا الزعيم سيقود البلاد الى شاطئ الامان، بل يعبر عن محاولة للاعتماد على قوة تستطيع الصمود بوجه العالم باقل ضرر ممكن.
قوة حزب العمل الانتخابية هي التي ستقرر في نهاية المطاف اوراقه التفاوضية حين يجلس على الطاولة مع ممثلي شارون. لكننا نستطيع القول اليوم ان دخول حزب العمل لحكومة وحدة من موقع ضعيف سيعني الانتحار السياسي. من جهة اخرى، فان عدم دخوله في الوحدة مع شارون، سيعني تلقائيا عودة اسرائيل الى حالة الصراع الداخلي الحاد وفقدانها استقرارها وقوتها الخارجية.
الحقيقة السياسية التاريخية تتجسد في تحويل حزب العمل الى اقلية مقابل الجناح اليميني المتطرف الذي يدفع اسرائيل الى مواجهة مع العالم كله. تراجع مكانة حزب العمل في كلا الحالتين، سيعني ان العنصر الذي كان خلال تاريخ اسرائيل يمثل الخط المركزي المرن سياسيا، والقادر على المناورة مع الانظمة العربية والسلطة الفلسطينية وخلق علاقات واسعة في العالم، اصبح عديم التأثير، الامر الذي يضرب بمصداقية وقوة المؤسسة الاسرائيلية على المدى البعيد.
مقابل انجراف الشارع الاسرائيلي نحو اليمين، وحالة الافلاس الاخلاقي وفقدان مصداقية المؤسسة الحاكمة في اسرائيل برمتها، ينمو في السنوات الاخيرة تيار معارض يقف في مركزه مئات رافضي الخدمة العسكرية المؤيدين للحقوق الفلسطينية. هذه الظاهرة الجديدة تعبر عن ازمة المؤسسة السياسية الاسرائيلية، وهي مؤشر هام للمستقبل. تحول هذه الاصوات الضعيفة حاليا الى قوة سياسية مقررة، مرهون بظهور قوة تقدمية جديدة قادرة على الوقوف في وجه امريكا على الساحة العالمية، الامر الذي يفتح المجال لحدوث تطورات اجتماعية وسياسية جذرية على الساحة العربية والفلسطينية.
الصبار
كانون اول 2002 ، العدد 159 |