|
تنظيم الدولة من قتل الإنسان إلى تخريب العمران - قراءة في تكونات المشكل -
وائل مصطفى بورشاشن
الحوار المتمدن-العدد: 4735 - 2015 / 3 / 1 - 19:52
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
وائل مصطفى بورشاشن [email protected] ___________________________________________________________________
شاهدت كما شاهد العالم مقطعا لتنظيم الدولة و هو يدمر آثار حضارات آشور و كلدان و سومر بثقة و لذة . لم يصدمني الفعل في حد ذاته ، فمن استحل دماء الناس فهو لما سواها أكثر استحلالا ، بل ما صدمني كونُ من يقومون به فرٍحين بتدمير ثرواتهم الوطنية و حرمان العالم اللإنساني من تراث إنسي و حضاري . طبعا ، لا يمكن للإنسان ككائن معرفي أن يسكت تُجاه هذه المجزرة الحضارية ، و لا يمكن الإختيار بين مأساة قتل الإنسان و مأساة تخريب العمران ، لكن ما أثار انتباهي أكثر هو الصورة الأشمل التي ظهرت بوضوح أكبر بعد هتك تنظيم الدولة لتاريخية مخطوطات مكتبة الموصل باتلافها بعدما سلمت من التتار و نهب الإستعمار الإنجليزي ، و تدميرها لآثار تعود للحقبتين الآشورية و البارثية وتفجير مساجد بحجة احتوائها قبورا و أنصبة . إذن لم يكتف التنظيم بخروجه من التاريخ الإنساني وإنسانية الإنسان ، بل سعى لتدمير كل إرث حضاري دينيا كان أو فكريا ، ماديا أو روحيا ، ما دام غير منسجم مع تصوره و أفكاره ذات -;- -;- الحقيقة الوحيدة و المطلقة -;- -;- . إن بؤس تنظيم الدولة الفكري و جموده المعرفي ، جعله لا يؤمن بالإختلاف و لا يدَبره إلا بتدميره ، و عداؤه تجاه المدنية و العمران هو عداء تجاه كل ما لا يمثله و ما لا يتمثله ، و كل ذلك بغطاء شرعي زائف يضفي قدسية على لاحضاريته أو بالأحرى على تقديس جهله . و إن كان بيان باطل دعواه يسيرا فالرد عليه من منطق شرعي لا يعني الإشارة إلى خطأ بعض دعواه و إصابته في أخرى ، ففعله كله مردود و حرام في حرام كما ذكر د.أحمد الريسوني ، و ما يهم أكثر هو فهم أصول المشكل للوصول إلى إدراك طبيعة الحل أو ابتكاره . إن مشكل تنظيم الدولة فكري و اجتماعي بالدرجة الأولى و بهذا المعطى يكون القضاء عليه على ساحة المعركة ، في أكثر الفرضيات تفاؤلا ، ضربا من العبث إن لم يُعالج أصل المشكل و يُستأصل ، فتجديد المقاتلين لجهدهم و توحيد صفوفهم سيكون واقعا إذا ما بقي هذا الإرث الفكري و بقيت حاضناته الإجتماعية و أسباب الموضوعية . أولا من حيث ذكر مشرعي التنظيم أن ما وقع كان هدما للكفر بتهديم التماثيل التي تعبد من دون الله ، فلا يمكن التصديق بهذا و لا التسليم به ، فلا أحد يقدس هذه التماثيل الآن و لا تمثل في هذا الزمان رمزا دينيا له تابعوه و عابدوه ، وقصة إبراهيم الخليل إذْ هَدَم الأصنام كانت مثالا على محاربة الدين التوحيدي للضلال العًقَدي .
ومن جانب استشهادهم بهدم الرسول عليه الصلاة و السلام لأصنام مكة و ما جاء فيها من أحاديث ، فالقولُ أن ما واجهه الإسلام كان شركا تواتر عليه الناس و اعتادوه فلم يكن الشفاء إلا باجتثاث جذور الداء ، و ما جاء بعده من منع كان لقُرب عهد الناس بعبادة الأصنام و الخوف من رجوعهم إليها . و في هذا السياق جاء قول الدكتور أحمد الريسوني نائب رئيس الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين ، بأن الفنون تأخذ حكم المقاصد ، فلا تُحرم لذاتها بل لمَقْصٍدٍ القيام بها و رسالتها ، فتستمد حكمها من حُكم ما يُقصد بها . و أضاف أن معظم الفنون من التحسينيات ، أي ما يعطي حسنا و بهاء و كمالا ، و بعضها داخل في الضروريات إذا تجنب المحاذير الشرعية ، مع الإشارة إلى أنه ليس هناك من محاذير خاصة بالفن وحده . و المشكل بالنسبة للمنحوتات لا يُطرح إلا في البيوت و أماكن العبادة و عند نحت الإنسان ، أما مادون ذلك من نحت الحيوان و الجماد و النبات ووضعها دون أماكن العبادة و العيش فلا إشكال فيه حسب د.الريسوني ، و ما يُتحفظ عليه هو نحت الإنسان كاملا ، و هناك من العلماء من لا يرى في نحته نصفيا مشكلا شرعيا . و بهذا لا تكون لهدم هذه التماثيل أي شرعية دينية . لكن ، هل يعني استنكار جهالات تنظيم الدولة تناسي ما قام به النظام السوري من تدمير للإنسان و العمران ؟ و هل يُغنينا انتقاد تنظيم الدولة عن مجابهة ما يقوم به الكيان الصهيوني من حفريات لتدمير إرث فكري و حضاري لأمة بأسرها بل للعالم أجمع ؟ و هل يعني هذا الإستنكار تناسي ما قامت به أمريكا من غزو و تهريب لتاريخ العراق ؟ أما ذكر التنظيم أن ما قام به من قتل و تدمير للبشر و الحجر و الشجر جهاد دائم و نصرة لشرع الله فلا يمكن التصديق به بأي وجه من الوجوه ، فالجهاد في الإسلام اضطرار لا اختيار ، و تشريع يبين أن الجهاد موقف أخلاقي من الظلم و الظالمين و ليس اعتقاديا و لا عدوانيا . أما القول بالقتال الدائم فهو ناتج عن غياب رؤية سياسية و استراتيجية منضبطة للضوابط الشرعية و الأخلاقية و مقاصد الإسلام الكبرى و منها مقصد تحقيق السلم العالمي الذي أشار إليه العلامة علال الفاسي . أضف إلى ذلك عدم فهم سياق مجموعة من المواقف الفقهية الموروثة نشأت في إطار تاريخي اتسم بحرب الكل على الكل . إن مقصد الجهاد في الإسلام كان دحر الإستبداد و المستبدين ، لا إبدال استبداد سياسي باستبداد ديني و سياسي ، -;-فهل يمكن إعطاء الشرعية لمن ادعى حكم أمة تعدادها مليار و نصف دون شورى و لا تداول ؟-;- ثانيا ، إن تنظيم الدولة ليس حصيلة سبب واحد -;--;--;- فتنظيم الدولة ظاهرة إجتماعية ظهرنتيجة لتفاعل مجموعة من العوامل يمكن إجمالها في أربعة ، و إن كان لكل عامل سياقُه و فروعُه : 1-;--الفكر الذي استند عليه تنظيم الدولة و الإجتهادات المقتطعة من سياقها التاريخي و الجغرافي 2-;--الفساد و الإستبداد الذي يخلق الطائفية و يُؤَجج الإحساس بالدونية 3-;-- التدخل الخارجي و ما يولده من إحساس بالضعف ، و الرغبة في الإنتقام بعد التنكيل و التقتيل و التعذيب 4-;-- تنمية الإحساس بالمؤامرة تجاه الدين الإسلامي و الغيرة عليه ، و الإنقياد لكل من يدعي نصرته و هنا يُمكن إضافة عامل الضعف المعرفي و الإنغلاق الفكري إن كل هذه العوامل و السياقات الإقليمية و الدولية الأخرى أدت و تؤدي لما نراه اليوم ، حتى أصبح تنظيم الدولة نارا تأكل كل من وقف في طريقها . و ماهذا إلا حصيلة تجاهلنا لدعوات تجديد فهمنا للدين و تنقيح تراثنا بما تقتضيه ضرورات العصر و سياقاته ، و حصيلة تركيبة الأنظمة الإستبدادية و جورها الذي لم يراع قاعدة ابن خلدون التي حذرت من -;- -;- أن الظلم منذر بخراب العمران -;- -;- مما أدى ، عن قصد ، إلى تأجيج الطائفية و ترسيخ الفوارق الإجتماعية و الفكرية بين أفراد المجتمع الواحد و ضبطها بالإستبداد لترسيخ فكرة -;- -;- النظام او الفوضى -;- -;- . و كانت نتيجةُ الطائفيةٍ الإجتماعية طائفية سياسية ، كما ظهر جليا في العراق ، فهذه الدولة التي لم تظهر فيها الطائفية من قبل وصلت لما وصلت إليه اليوم من تناحر متبادل بعد التدخل الأمريكي ، و هدم كيان الدولة العراقية ، و صعود نظام نوري المالكي الذي عمٍل على تقوية طائفته و إذلال و إضعاف الطوائف الأخرى . إضافة إلى أن تنظيم الدولة كان حصيلة للتدخل الخارجي ، بسبب قابليتنا للغزو و هشاشة بنائنا السياسي ، الذي أدى بفعل التصفيات الجسدية الفردية و الجماعية و التعذيب و التنكيل و التهجير إلى تحويل الإنسان إلى آلة كُرْه و انتقام بعد تأجيج إحساسه بالظلم و الإحتقار . كما أن استغلال الضعف المعرفي و الضائقة الإقتصادية و طبيعة النسيج المجتمعي ، على العموم ، للشباب المتحمس و الغيور و تَمْنٍيَتَهُ بجزاءات دنيوية و اُخروية مع تجاهل أن الجهاد ليس مقتصرا على حمل السلاح بل يتعداه إلى كل مناحي الحياة من تعلم و تعليم و تغيير ، و فهم العلوم الحديثة و العمل على تطوير الأمة و توحيدها و الرقي بها و بمعارفها ، و تناسي أن نصرة الدين لا تكون بالسلاح إلا في مواطن الإستثناء ، فالدين يُنصر بالعلم و العمل والدعوة بالحكمة و الموعظة الحسنة و الدخول في كل مناحي الحياة و خلق البدائل و البحث عن الحلول لمشاكل العصر، لا الهروب إلى ما يسمى حلولا أسهل بينما هي فظائع و جرائم لا تمت للدين بصلة لا من قريب و لا من بعيد ، فتصير بذلك التضحيات غير المنقادة للضوابط الشرعية و مقاصد الإسلام إساءة للدين و انتحارا باسمه . وقد أتقنت القوى ، إقليمية كانت أو دولية ، استغلال فورة تنظيم الدولة أخذا بمثال -;- -;- إذا صب عدوك البنزين على نفسه فناوله عود ثقاب -;- -;- ، حتى شكك الكثيرون في أن هذا التنظيم إنتاج مشترك بين الغرب و الأنظمة فكان بذلك ، من حيث علم أو لم يعلم ، موئلا للنظام السوري الذي عزز أطروحة أن ما يحاربه ليس ثورة شعبية بل جماعات إرهابية ، و فرصة للقوى الدولية و الإقليمية للتدخل في مجموعة من الدول تحت غطاء المنقذ ، و هدية للأنظمة الإستبدادية لتخويف شعوبها من النماذج المخيفة للثورات الشعبية و مآلاتها . إن الحرب المعلنة ضد تنظيم الدولة دون إصلاح أصل المشكل و الحفر في تكوناته عبث ، و سيكون وراءه إذا استمر ما وراءه ، فلا يمكن إنقاذ الشباب المتحمس من براثن الإرهاب الفكري إلا بتظافر بين الفقيه العالم بضرورات العصر و مقاصد الشريعة ، و بين المثقف العضوي الذي يدخل بين مكونات المجتمع و يلبي حاجاته المعرفية ، حتى لو وقعت مشاكل و اختلالات يبقى -;- -;- الخطأ المنهجي خيرا من الصواب الفوضوي -;- -;- كما قال مالك بن نبي ، و إلا فإن التعامل مع تنظيم الدولة على أساس أنه ميليشيات عشوائية و سهلة الإختراق و الإجتثات لن يكون إلا إهدارا للجهد و الوقت ، و فرصة للتنظيم في التفشي داخل المجتمعات و ترسيخ أفكاره و تقوية أركانه و نشر الخراب .
#وائل_مصطفى_بورشاشن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ماذا بعد أربع سنوات من انطلاق حراك 20 فبراير ؟
-
فيلم سعيد الناصري الأخير استلهام أم استيلاء ؟
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|