|
ثقافات الشعوب القديمة والديانة العبرية
طلعت رضوان
الحوار المتمدن-العدد: 4735 - 2015 / 3 / 1 - 15:02
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يُجمع علماء علم الإنسان ( أنثروبولوجيا) أنّ جدود جدود البشرية ، الذين سطّروا أول فصل فى تاريخ المجتمعات الإنسانية ، على مسرح كوكب الأرض ، خلقوا معتقداتهم ، التى تطوّرت إلى عقائد تـُلخـّص نظرتهم إلى الطبيعة المُحيطة بهم ، ثم الانتقال إلى مرحلة خلق تصور يتجاوز الطبيعى إلى (ما وراء الطبيعة) وهى المرحلة التى شهدتْ ميلاد فكرة ال (توتم) Totem وأنه ((حيوان خرافى لا وجود له يعتقد أفراد العشيرة أنهم انحدروا منه)) وكذلك اخترعتْ الشعوب القديمة معتـــــــــقد ال (تابو) أى الأشياء ((المقدسة الـتى لا يخطر على الناس الاقتراب منها خشية تدنيسها مما يُعرّض الشخص نفسه للخطر)) ويرى العالم الكبير سيجموند فرويد فى كتابه عن (التوتم والتابو) أنّ أقرب ترجمة للكلمة هى ((الخوف المقدس)) وقد أخذتْ هذه المعتقدات فى النمو إلى أنْ وصلتْ (عبر آلاف السنين إلى فكرة خلق الآلهة ، فى المجتمعات الإنسانية القديمة. وأنّ دور هذه الآلهة يرتكز على محوريْن : آلهة لجلب الخير وأخرى لتجنب غضبها . وفى طور آخر من أطوار البشرية ، وكتطوير للجانب الميتافيزيقى الذى شغل البشر منذ فجر التاريخ الإنسانى ، ابتكر جدودنا المصريون القدماء ، فكرة البعث ووجود حياة أخرى بعد الموت . وفكرة الحساب والثواب والعقاب .. إلــــــخ أى أنّ البشرية قطعت آلاف السنين كى تـُدعّم معتقداتها فى الغيبيات التى تدرّجتْ من ال (توتم) إلى ال (تابو) إلى الأساطير إلى الأديان . ويحفل تاريخ الإبداع الأدبى بالعديد من الأعمال التى تجلى فيها دور الدين فى حياة الفرد والمجتمع . بدءًا من الإنتاج الأدبى الذى تركته الشعوب القديمة وحتى لحظتنا الراهنة. ولم تكن مصادفة أنّ ما ورد فى كتب الديانة العبرية (اليهودية/ المسيحية/ الإسلام) عن بعض الأحداث الخارقة للطبيعة (مثل الطوفان) وردتْ فى تراث بعض الشعوب قبل كتب الديانة العبرية، والمثال الأشهر لذلك ما ورد فى ملحمة جلجامش البابلية. وكما ورد ذكر الطوفان فى ملحمة جلجامش ، ورد ذكره أيضًا فى ملحمة (اتراحاسس) بل إنّ الأساطير التى كــُـتبتْ حول جلجامش وصلتْ إلى بلاد اليونان عن طريق الفينيقيين.، فكلا البطليْن من أصل إلهى ، وكلاهما اتخذ صاحبًا وصديقــًا حميمًا : انكيدو بالنسبة لجلجامش ، ويولوس Iolaus بالسبة إلى هرقل ، وأنّ سبب الكوارث بالنسبة لكل منهما المرأة : عشتار بالنسبة لجلجامش ، والإلهة هيرا بالنسبة إلى هرقل. وكل من هرقل وجلجامش تغلبا على قتل الأسود وعلى الثيران السماوية المقدسة. وكما عثر هرقل على العشب السحرى للخلود ، كذلك حدث مع جلجامش. وكما زار هرقل جزيرة الموت ، كذلك أبحر جلجامش عبر (بحر الموت) وكما ارتدى هرقل جلود الأسود كذلك فعل جلجامش. ومن رأى الباحث (روبرت كريفز) أنّ هوميروس استقى الكثير من أحداث ملحمة جلجامش بالنسبة إلى أحد أبطال الالياذة (أخيل) حيث أنّ صديق أخيل (بتروكلوس) هو المقابل لصديق جلجامش (أنكيدو) وأم أخيل (الإلهة ثيتس) تـُقابل أم جلجامش (الإلهة البابلية ننسون) يرى بعض علماء الآثار أنّ أحدث نسخة من ملحمة جلجامش ترجع إلى القرن السابع قبل الميلاد وهو الزمن الذى يرجع إليه القسم الأكبر من نصوصها ، فى الألواح الطينية التى تمّ العثور عليها فى دار كتب الملك الآشورى (آشور بانيبال- 668- 626 ق.م) قصة الطوفان فى ملحمة جلجامش وتشابها مع الديانة العبرية : فى السطر الأول ذكر كاتب الأسطورة البابلية ((ركب جلجامش وأور- شتابى فى السفينة. أنزلا السفينة فى الأمواج . وبلغ أور- شنابى (مياه الموت) وقال لجلجامش : حذار أنْ تمسّ يدك مياه الموت. وكان (أوتو- نبتشم) قد أبصر السفينة من بعيد.. فأخذ يخاطب قلبه ويقول : علام دمرت (صور الحجر) الخاصة بالسفينة؟ (باقى النص تالف) ثم ورد فى النص الواضح ، قال أوتو- نبشتم لجلجامش : إنّ الموت قاس لا يرحم . متى بنينا بيتــًا يقوم إلى الأبد ؟ متى ختمنا (= حرّرنا) عقدًا يدوم إلى الأبد؟ وهل يقتسم الأخوة ميراثهم ليبقى إلى آخر الدهر؟ وهل تبقى البغضاء فى الأرض إلى الأبد؟ (وهذا البيت يقابله ما ورد فى سفر الجامعة 9: 5- 6) وهل يرتفع النهر ويأتى بالفيضان على الدوام؟ ولم يكن دوام وخلود منذ القدم (وهذا البيت فى ملحمة جلجامش يقابله ما ورد فى سفر الجامعة 1: 4- 11) إنّ الأنوناكى (= مجمع الآلهة) الآلهة العظام تجتمع مسبقــًا ومعهم (ماميتم) صانعة الأقدار، تــُـقـدّر معهم المصائر. قسّموا الحياة والموت (قارن سفر التثنية 30: 19) إنّ الآلهة العظام قد حملتهم قلوبهم على إحداث الطوفان . اجتمعوا وكان معهم أبوهم (آنو) وبعد عدة أبيات ذكر كاتب الأسطورة : اسمع يا كوخ القصب وافهم يا حائط . يا رجل (شروباك) يا ابن (أوبار- توتو) قوّض البيت وابن لك فلكــًا (= سفينة) (قارن سفر التكوين 6: 14) تخلّ عن مالك وانشد النجاة . انبذ المُـلك وخلــّص حياتك. واحمل فى السفينة بذرة كل ذى حياة (قارن سفر التكوين 6: 19- 20) وسينزل عليكم وابلا من المطر غزيرًا. ومن مجاميع الطير وعجائب الأسماك.. وفى المساء سيُمطركم الموكل بالزوابع بمطر من قمح . واحضروا إلىّ أضاحى من ماشية مراعى البرارى.. وتمّ بناء السفينة فى اليوم السابع.. فكان عليهم أنْ يُبدلوا ألواح القاع فى الأعلى وفى الأسفل.. إلى أنْ غطس فى الماء ثلثاها.. وحملتُ فيها كل ما أملك.. وكل ما عندى من فضة ومن ذهب.. وحملتُ فيها كل ما كان عندى من المخلوقات الحية (سفر التكوين 6: 21- وفى القرآن- سورة هود- من 37- 45) ثم يواصل كاتب أسطورة جلجامش قائلا على لسان بطله ((وأركبتُ فى السفينة جميع أهلى وذوى قرباى.. وأركبتُ فيها حيوان الحقل وحيوان البر (انظر سفر التكوين 7 : 7- 8) وضرب لى الإله شمش موعدًا وقال لى : حينما ينزل الموكل بالعواصف فى المساء مطر الهلاك.. ادخل فى السفينة واغلق بابك.. وبلغتْ رعود الإله (أدد) عنان السماء فأحالتْ كل نور إلى ظلمة.. وحطمتْ الأرض الفسيحة كما يتحطم الكوز. وظلتْ زوابع الريح تهب يومًا كاملا.. وازدادتْ شدة فى مهبها حتى غطتْ الجبال.. وفتكتْ بالناس كأنها الحرب.. وصار الأخ لا يُبصر أخاه.. وحتى الآلهة ذعروا من عباب الطوفان.. فهربوا وعرجوا إلى سماء (آنو) واستكان الآلهة وربضوا كالكلاب خارج الجدار.. وصرختْ عشتار كما تصرخ المرأة فى الولادة.. انتحبتْ سيدة الآلهة وناحتْ بصوتها الشجى : وا حسرتاه.. لقد عادتْ الأيام الأولى إلى الطين..لأننى أنا نطقتُ بالشر فى مجمع الآلهة.. لقد سلطتُ الدمار على شعبى.. سجدتُ وجلستُ أبكى.. وتطلعتُ إلى حدود سواحل اليم (= المياه) فرأيتُ جزيرة واستقرُ الفــُـلك على جبل (نصير) ولما حلّ اليوم السابع أخرجتْ حمامة وأطلقتها.. طارتْ الحمامة ثم عادتْ (أنظر سفر التكوين 8 : 8-10) رجعتْ لأنها لم تجد موضعًا تحط فيه.. وأخرجتُ السنونو وأطلقته.. وعاد لأنه لم يجد موضعًا يحط فيه.. ثم أخرجتُ غرابًا وأطلقته (انظر سفر التكوين 8 : 7) فذهب الغراب ولما رأى المياه قد انحسرتْ.. أكل وحام وحط ولم يعد.. وعند ذاك أخرجتُ كل ما فى السفينة إلى الرياح الأربع.. وقرّبتُ قربانـًا.. وسكبتُ الماء المقدس على قمة الجبل (انظر سفر التكوين 8 : 19- 20) وعند ذاك فتح الإله (ننورتا) فمه وقال للبطل (أنليل) من الذى يستطيع أنْ يُدير مثل هذا الأمر غير (إيا) أجل إنّ الإله (إيا) هو الذى يعرف خفايا الأمور.. وقال الإله (إيا) للبطل (إنليل) أيها البطل أنت أحكم الآلهة.. فكيف لم تـُبصر عباب الطوفان؟ حمّـل صاحب الخطيئة وزر خطيئته.. ولكن ارحم.. ولو أنكَ بدلا من إحداثك الطوفان سلطتَ السباع.. فقلــّـلتَ من عدد الناس وبدلا من الطوفان لو أنك أحلــّـلتَ القحط فى البلاد.. وبدلا من الطوفان لو أنّ إيرا (إله الوباء والطاعون) فتك بالناس)) (اعتمدتُ على ترجمة الباحث العراقى طه باقر- مديرية الثقافة العامة بالعراق- عام 1971- أما بالنسبة للتشابهات العديدة بين ملحمة جلجامش والعهد القديم فيمكن الرجوع إلى سفر التكوين من الإصحاح 6- الإصحاح 9- وكذلك بعض إصحاحات سفر الحامعة وسفر التثنية. أما فى القرآن فيمكن الرجوع إلى السور الآتية : هود ، المؤمنون ، الشعراء ، العنكبوت ، الفرقان ، الذاريات ، النجم ، القمر) ولكن أهم ما فى هذه التشابهات تلك القسوة التى حلــّـتْ بالبشر، بسبب خطيئة البعض – كما جاء فى الأسطورة وكما جاء فى كتب الديانة العبرية- فإذا كان البعض قد أخطأ وارتكب (الخطيئة) فلماذا يكون العقاب الجماعى؟ خاصة وقد جاء فى الأسطورة أنّ الإله (إيا) قال لبطل (لإنليل) ((حمّـل صاحب الخطيئة وزر خطيئته)) وهو ذات المعنى الوارد فى القرآن ((ألا تزر وازرة وزر أخرى)) (النجم/ 38) ورغم هذا الكلام الصريح عن (المسئولية الشخصية) فإنّ القرآن وردتْ به عدة آيات أنّ (الله) هو الذى بيده الهداية أو الضلال ((فيضل الله من يشاء ويهدى من يشاء)) (إبراهيم/4، وسورة النحل/93) أما كاتب أسطورة جلجامش فقد وقع فى التناقض الشديد عندما كتب على لسان الإله (إيا) لبطله : لو أنك بدلا من الطوفان كنتً سلطتَ السباع فقلــّـلتَ من عدد الناس ، أو أرسلت القحط والطاعون إلخ ، والسؤال البديهى هو: ما الفرق بين قتل الناس بالطاعون أو السباع أو القحط ، وبين الطوفان ؟ وهكذا كان الإبداع البابلى (خاصة فى أسطورة جلجامش) شديد التناقض وشديد القسوة بالإنسان ، ثم جاءتْ كتب الديانة العبرية وكرّرتْ أسطورة الطوفان ، وهو ما يؤكد على وجود علاقة بين تراث الشعوب القديمة والديانة العبرية. ***
#طلعت_رضوان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إعدام فرعون سينمايًا
-
نماذج من عجائب التراث العبرى
-
الإخوان والاستعمار: تاريخ الخزى والعار
-
أول سيدة تُمنح وسامًا عسكرًا
-
الإرهاب الدينى والمغالطات السائدة
-
أوهام الوحدة العربية ووقائع التاريخ
-
حرق الكتب وحرق البشر
-
مثقفو الأربعينات والجامعة العربية
-
غياب التعريف العلمى لمعنى الدولة
-
المؤسسات الكهنوتية وتهمة ازدراء الأديان
-
انعكاس الثقافة القومية على الاحتفالات الشعبية
-
الاعتزاز القومى وأسماء الأشخاص
-
رواية (ما باحت به ساره) والوحدة العربية
-
تاريخ الجزية : وصمة عار على كل الغزاة
-
التماثل الطوباوى بين البشر
-
الفلسفة المثالية والفلسفة المادية
-
الإمام محمد عبده : ما له وما عليه
-
مصطفى كامل ولطفى السيد
-
انتفاضات شعبية بلا نتائج ايجابية
-
رفاعة الطهطاوى : ما له وما عليه
المزيد.....
-
مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال الإسرائي
...
-
أجراس كاتدرائية نوتردام بباريس ستقرع من جديد بحضور نحو 60 زع
...
-
الأوقاف الفلسطينية: الاحتلال الإسرائيلي اقتحم المسجد الأقصى
...
-
الاحتلال اقتحم الأقصى 20 مرة ومنع رفع الأذان في -الإبراهيمي-
...
-
استطلاع رأي إسرائيلي: 32% من الشباب اليهود في الخارج متعاطفو
...
-
في أولى رحلاته الدولية.. ترامب في باريس السبت للمشاركة في حف
...
-
ترامب يعلن حضوره حفل افتتاح كاتدرائية نوتردام -الرائعة والتا
...
-
فرح اولادك مع طيور الجنة.. استقبل تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
استطلاع: ثلث شباب اليهود بالخارج يتعاطفون مع حماس
-
ضبط تردد قناة طيور الجنة بيبي على النايل سات لمتابعة الأغاني
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|