أسعد محمد تقي
الحوار المتمدن-العدد: 4735 - 2015 / 3 / 1 - 10:51
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إن اتّخاذَ موقفٍ طائفيٍّ شيءٌ ورؤيةَ بعضِ الحقائقِ شيءٌ آخر .. أقصد بالموقف الطائفي هو أن يتّخِذَ المرءُ موقفا ممالئا لطائفته بكل حال حتى لو كان حالاً مقيتاً وخاطِئاً .. أمّا الحقائق التي أقصدُها فهي تلك التي تقع يوميّاً على الأرض وهي في حقيقتها واحدة من نتائج الفعل الذي تقوده السعودية وقطر بالمال النفطي وتنفذه تركيا بكل الحماس الذي يحمله أردوغان والشديد الأخلاص لعثمانيّتِهِ . ولذلك لايمكن توصيف من يشير الى نتائج الفعل السعودي القطري التركي المدعوم والموجّه أمريكيّا بأنّه موقفٌ طائفيٌّ معادٍ للسنّة وبنفس المعيار لايمكن اعتبار النقد الموجه للسلوك الصادر من بعض قوى الحشد الشعبي بأنّه موقفٌ طائفيٌّ معادٍ للشيعة . إنّ قبول هذه الفكرة سيبعد تهمة الموقف الطائفي ويفتح الطريق أمام توجيه النقد الهادف للأخطاء التي احتشدت في ثنايا الوعي العراقي العام وهو الأمر الذي سيساهم كثيرا في ترميم العلاقة بين جميع الأطراف وجعلها علاقة قائمة على نقد الخطأ أيّاً كان مصدره .
لقد استطاع صدام في العقد الأخير من حكمه أن يزرع بذرة الدمج بين وجوده بالحكم وبين شعور الحماية الذي يقدمه هذا الوجود لأتباع المذهب السنّي , فصار من السهل أن نرى بوضوح ملامحَ التوجّس على وجوه الكثير منهم لأنهم فهموا الأمر على إنه سيكون انتقاما لما واجهه الشيعة في أيّام صدام وبالتالي فإن عليهم أن يحتاطوا للأمر ويضعوا تفسيرا لكل ما يحدث على إنه انتقام يقوم به الحكام الجدد ثأراً لما واجهه الشيعة إبان تلك الأيّام .
يستطيع المرء أن يسرد الكثير مما واجهه الشيعة في العراق على أيدي الحكام الذين التزموا بالتوزيع البريطاني للسلطة وهو توزيعٌ يحصرُ القوّة التنفيذية بيد السُنّة ويعطي الشيعة دور الرعية التي عليها أن ترفع عقيرتها بالأحتجاج لكي يشعر الحكام السنة بالهلع ولن يجدوا مفرّا من الألتجاء الى حماية البريطانيين .. وقد كان شكل السلطة قائما على هذا التوزيع الكريه . ولكن يكفي أن يشير المرء الى العقدين الأخيرين من حكم البعث لكي يرى بوضوح ذلك الحشد المريع من أسباب الموت والهلع التي توفرت للشيعة (بالرغم من إنها كانت تشمل الشعب العراقي برمّتِهِ إلّا أنّها كانت مضاعفة للشيعة) .. فقد قامت الحرب العراقية الأيرانية على التضحية بدماء العراقيين وبشكل خاص الشيعة لأنهم كانوا يشكلون الجزء الأكبر من الجنود وقد كانت التضحية بهم في معارك مثل البسيتين والفاو تعطي الأنطباع أن صدّاماً كان يرمي حجارةً الى أتُّون المعركة وليس بشراً.. وقد كانت هذه هي الخطوة الأولى لتشديد الصراع والأنقسام الطائفي .
وعندما حدث شرخُ الكويت وبدأت النيران الأمريكية التي غدرت بربيبها صدام عندما شجّعتهُ على الدخول الى الكويت ومن ثم اكتشف إن أمريكا أرادت استخدامَهُ ذريعة لاحتلال المنطقة مبتدئة بالعراق فصار يصرخ "لقد غدر الغادرون" , صار همّ صدام تصفية أكبرَ عددٍ من معارضيه الذين انتفضوا ضده وهم بأغلبيتهم من الشيعة والكرد وبما أنّ الكردَ وجدوا الحماية شمال الخط 36 فقد بقي الشيعة لوحدهم تحت طائلة انتقامه فامتلأت بهم المقابر الجماعية .. وكانت هذه هي الخطوة الثانية في مسيرة الأنقسام الطائفي .
وعندما دخلت أمريكا بقوّاتِها واحتلت العراق صار شائعا في أوساط كبار البعثيين ,وجرّوا خلفهم عموم الوسط السنّي , فكرة أن قادة الشيعة , وبالتالي الشيعة كلهم , هم من جاء بالأمريكان وبذلك جرى تبرئة صدام وحاشيته الذين تركوا العراق نهبا للقوات الغازية وانتقلوا الى الدول المجاورة مع ما خف وزنه وغلا ثمنه ,وهو كثيرٌ جدّا, وصار لزاماً عليهم القيام بالأنتقام للشرف الوطني الذي لطّخَهُ الشيعة بإمساكهم بصولجان السلطة ولم يلطِّخْهُ صدّام بتسليمِهِ كلَّ شيءٍ للقوّات الأمريكيّة بعد أن هيّأ كل مستلزمات الهزيمة بطريقةِ إدارتِهِ للبلاد .. وقد كان انتقامُهُم قائماً على الأرقام , أرقام الضحايا لعمليات الأنتقام للشرف الوطني الذي أضاعوه بين جزمات اليانكي فصرنا نستيقظُ يوميّاً على القتلى من فقراء العراق في أماكن احتشادهم , في مساطر العمال وفي الأسواق الشعبية وأسواق الجمعة وفي المدارس والكلُّ يعلمُ أنّ هذه العمليات لم تكن تطالُ قائداً سياسيّاً ولا عسكريّاً ولا أيّا من زعماء الأحزاب الأسلامية , إلّا ما ندَرَ , ولا زالَ الأمرُ قائماً حتى هذه اللحظة.. فكانت هذه هي الخطوة الثالثة في مسيرة الآلام , مسيرة الشحن الطائفي في هذا الوادي المليء بالأحزان .. وادي الرافدين .
كانت الخطوات الثلاث السابقة التي أدت إلى ترسيخ الأنقسام الطائفي في البلاد قد تحوّلت بطريقة مكيافللية على أيدي القادة السياسيين الأسلاميين وأولئك الذين لبسوا الثوب الطائفي (وهم في حقيقتهم ليسوا قريبين بأية حال من الدين ومُثُلِهِ), الى كتلة من المنافع لرؤوس المذهبَيْن فيما تحوّلت بنفس القدر إلى كتلة أكبر من الحزن والمآسي والكوارث لعامّةِ العراقيين وليس لأتباع المذهبَيْن فقط . وللتدليل على دقة هذا الأستنتاج يكفي أن نحسِبَ كمَّ التضحيات التي قدّمها القادة وتلك التي قدّمها البسطاء من الناس ونحسب معها المكاسب المادية التي حازها كلُّ فريق . يكفي المرءَ أن يلقيَ نظرةً على حجم الثرواتِ التي حصل عليها قادةُ التشكيلات ذات الطابع المذهبي , ومن المذهبَيْن , خلال مسيرة الأثني عشر عاما الأخيرة .. وسيذهل المرءُ أكثرَ لو تمكن من مقارنتها بما كان في حوزتهم قبل "التحرير" . أما في دائرة التضحيات فإن عامّة العراقيين حصدوا الموت والخوف والفاقة فيما اعتاد القادةُ على السفرِ بين آونة وأخرى الى الخارج للقاءِ أُسَرِهِم ,التي تعيش هناك بترف بالغ, للترويح وإزاحة التوترات التي قد تكون قد أرهقت نفوسَهُم وأعصابَهُم أثناء بقائِهم في العراق .
إنَّ ضباعَ داعش تقومُ ليلَ نهار ,إلى جانب سفكِ الدماء والتهجير ومصادرةِ الحقوق والأعتداءات , بنهب المال العام عبر تهريب النفط وفرض الأتاوات وغيرها من الوسائل الأبتزازية . وفي الجانب الآخر نجد إن ما يقرب من ترليون دولار قد جرى نهبُها أو نهبُ معظمِها خلال مسيرة "الديمقراطية" وبأسلوب ديمقراطي جدّاً ولن يكونَ دقيقا أو نزيها أيَّ امرءٍ يحاول ان ينسب نهب هذه الأموال إلى أتباع هذا المذهب الأسلامي أو ذاك .. إنهم قادة الأسلام السياسي ومن كلا المذهبَيْن .
كلُّ هذا الفيضِ من التعسُّفِ كان يقوم به الحكام , وهم في جُلّهم من الطائفة السنّية,قبل "التحرير", ومن الطائفتين كلتيهما بعد التحرير . وإذا عرفنا إنَّ هؤلاء الحكام كانوا على صنفين ,إلا ماندر, الأول من أتباع بريطانيا والصنف الآخر من صنائع المخابرات الأمريكية فإننا سنكتشف الذنب الكبير والخطيئة المميتة في اعتبارهم ممثلين للطائفتين السنّية و الشيعية الكريمتين , وسنكتشف نجاحَ بريطانيا وبعدها أمريكا وأتباعِهِما من القادة السياسيين العراقيين في ترسيخ سياسة الأنقسام في الأوساط السياسية والأجتماعية وحتى الدينية العراقية لصالح هدف الأبقاء على العراق ضعيفا وتسهيل عملية السيطرة على قراره السياسي والوطني .
هذه الوقائع لا تعني بأيِّ حالٍ من الأحوالِ أنّ الأمرَ إنتهى عند هذا الحد . لأن أمريكا ابتدأت ,عندما قررت احتلال العراق, مرحلةً جديدةً من تنفيذِ برامجِها السياسيّةِ في الشأن الدولي والسيطرة العالميّة . فكان برنامجُها القائم على نشر الفوضى (الخلاقة) وأعني به برنامج الشرق الأوسط الكبير والنابع من شعورها بأنها القطبُ الأوحد في هذا العالم بعد تفكّك الأتحاد السوفييتي ووقوع روسيا تحت حكم السكير يلتسين الذي أضعفها إلى أبعدَ حدٍّ ممكن .
وهذه المرحلة والتي بدأت باحتلال العراق (وقبله أفغانستان من أجل البقاء قريبا من الخاصرة الروسية لمنع روسيا من إعاقة برنامج نشر الفوضى في الشرق الأوسط) ارتكزت على وضعِ أسُسٍ للصراع بين العراقيين يؤدي بالنتيجة إلى تقسيم العراق إلى ثلاثة أقسام , كبداية , وصار معروفا للجميع ما هي هذه الأقسام .. الشيعة والسنة والكرد .. وقد أقامت الجسور مع كل القيادات التي وجدت فيها الأستعداد والحماس للصراع , كلٌّ من أجل إقليمِهِ , ومثل هذا التقسيم سيشكلُ صدمةً لكلِّ عراقيٍّ , لأن العراقيين اعتادوا على حقيقة كون العراق بلدا موحّداً كما هي حقيقة كونِ الشمس تشرقُ كلّ يومٍ سواء رضِيَ الأنكلوساكسون أم لم يرضوا . ولذلك اقتضى الأمر إدخال حقيقة الأنقسام الى عقول العراقيين تدريجيا وعبر الكثير من الدماء البريئة المسفوحة .. والجميع يدرك إن القيادات الطائفية للأسلام السياسي مسؤولة الى درجة كبيرة عن استقرار مثل هذا الأنقسام في الحياة اليومية للعراقيين وقد نجحوا الى حدٍّ بعيد .
لقد ترك صدام حسين العراقيين وقد أنجزَ عمليّةَ إفراغ رؤوسِ غالبيّتهم من الوعي وخاصة السياسي وترك العراق خالياً تماماً من أيّةِ حركةٍ سياسيّةٍ تمتلك القدرة على نشر الوعي والثقافة السياسيّة الوطنيّة مما قد يعيق أية محاولة لاختلاق صراع يقوم على اسس طائفية .. ولذلك وجدنا فقط أولئك القادة الذين تربعوا على رأس التنظيمات الطائفية . ومع مرور الوقت يتساقط ويتراجع كل من يفكر بنشاطٍ يقوم على أسس المصلحة الوطنية للعراق ليخليَ مكانَهُ لمن يتحمّس لزعامة طائفتِهِ . فكان جُلُّ الطرحِ السياسيّ يقوم على (المظلومية) في الوسط الشيعي لأنه يتلاءم ومعطيات التاريخ القريب ووقائع ما بعد الأحتلال من عمليات تفجير ذهبت بالكثير من الأرواح, وعلى شعار التخلص من (التهميش والأقصاء) في الوسط السني لأنه يتلاءم مع وقائع فقدان السلطة وضياع الأنفراد بمصادر الثروة بالأضافة الى العسف الذي يلقاه الكثير من السنة على أيدي بعض المتطرفين الشيعة , وفي الوسط الشيعي متطرفون كثرٌ حالُهُم كحالِ باقي المكوّنات .
لقد وجدت أمريكا إن أفضلَ ما يجعلُ العراقَ وكلَّ بلدانِ الشرقِ الأوسط طيّعة وسهلة الأنقياد هو التقسيم إلى أقاليم لاتمتلك شيئا سوى الثروات الطبيعية ويأمل قادتُها بالحصولِ على الحمايَةِ الأمريكيّةِ وكلنا نعرفُ الثمنَ .. وبدأ العمل لأنجاز هدف التقسيم بإبعاد الكرد وإقليمهم عن دائرة الشعور بالأنتماء للعراق , وقد ابتدأ الأمرُ بتقطيع الروابط الأقتصادية مع المركز وإدخال فكرة الفارق في التنظيم الأداري والأنتعاش الأقتصادي وتحويله الى شعور يتربع في رَوْعِ الكرد جميعا وبالتالي يجد الكردي صعوبة في التواصل مع المركز ويفضّلُ إجراءات قيادتِهِ في التواصل ,بدلا عن ذلك, مع إيران وتركيا وغيرها من البلدان القريبة ..وبضعف الروابط الأقتصادية والتجارية تضعف الروابط الوطنية والأجتماعية وقد استمر هذا الأمر حتى سمعنا رئيس الأقليم وهو ينادي بالكونفدرالية ويعلن أنّ العراق لن يعود كما كان في السابق . ويدعمه الكثير من مثقفيه وإعلامييه بفكرة كون العراق بلدا ملفّقاً وبالتالي يتوحّد الجميع , قيادةً ومثقفين وإعلاميّين بأنشودة "وفاة اتفاقية سايكس بيكو" على اعتبار إن بلاد الرافدين خلقها هذان الدبلوماسيان, الأنكليزي مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو.
وفي المنطقة الغربية ارتفعت أصوات الشيوخ والسياسيين المتحمسين للتقسيم على أسس طائفية هذه المرة وليست عرقية وبقيت الأمور مقتصرة على الأعتصام وترديد الشعارات الطائفية حتى وصل الحال إلى التهديد باجتياح بغداد وعدم التوقّف قبل الوصول إلى طهران . ولما اكتشف الأمريكان أن الأمر لن يُجديَ نفعاً استيقظنا في حزيران العام المنصرم على الأعلان عن أنّ دولةً إسلاميّة قد نبعت في المحافظات التي يتطلع الأمريكان الى تحويلها إلى إقليم سنّي يتمتّع بالكثير من النفط والغاز وباقي الثروات , فكانت هذه هي الخطوة الأولى العملية في تشكيل هذا الأقليم . وقد صاحب هذا الأعلان عمليات تبدو انتقامية مرّةً وتطبيقا لشرائع اسلامية مرة اخرى ولكنها بالدرجة الأولى كانت عملا دؤوبا لتهيئة الأجواء على الأرض لأقامة الأقليم السني . فجرى للأيزيديين ما جرى من انتهاك وقتل سيبقى يبرقع الحركات الأسلامية بالعار الى مدى زمني طويل , وللتركمان الشيعة من قتل وتهجير ولغير المسلمين من السريان وباقي المسيحيين من عسف وتهجير وقتل .. كل هذا عندما يضعه المرء أمامه يكتشف أنّ العمل على التقسيم والأقلمة قد أخذ منحى جديدا تماما .
وعندما صدرت فتوى الجهاد الكفائي صار البعض يعتبر تحرير بعض المناطق من داعش فرصة للأنتقام من السنة منطلقا من كون داعش ترفع شعاراً سنيّاً متشدّداً , فوجدنا أنّ الوطنية اختبأت خلف خرقة مهلهلة إسمها الطائفة .. وقد ازدادت مثل هذه الممارسات بشكل خاص في محافظة ديالى وهذا له سببه الخاص . إذ أن الأقليم السني المزمع تشكيله يجب أن لا يضم ديالى لأن هذا الأمر سيخلق جارا مزعجا لأيران وبالتالي فإن الحل الأمثل ,حسب ما يعتقد بعض المتشددين من الشيعة, هو تشديد الضغط على سنة هذه المحافظة لأجبارهم على الهجرة منها وتغليب الطائفة الشيعية على السنية وبالتالي لن يكون من السهل انضمام هذه المحافظة الى الأقليم السني خاصة وإن العم سام لا يقبل بالحلول ما لم تكن قائمة على (الأسس الديمقراطية) وهو ما يعني إن الأغلبية في المحافظة هي التي ستقرر باستفتاء عام إن كانت ستدخل ضمن هذا الأقليم أو ذاك .
إن إخضاعَ الأنسانِ وحياتَهُ وانتهاكَها بشكلٍ فظّ من قبل المتشددين الطائفيين أو الفاشيين من أيِّ نوعٍ , يبدو لا يزال يجد مكانه في عالمِنا وإلى وقتٍ طويلٍ بعدَ الآن .
إن أمريكا وحلفاءَها يدركون أنّ التقسيمَ لن يُنجَزَ بشكلٍ راسخٍ ما لم تجرِ حربٌ بين الكيانات المزمع ولادتها من رحم الدولة الأم .. وهذه الحرب يجبُ أنْ تكونَ على أسُسٍ طائفيّةٍ وقوميّةٍ طالما إن هذه الأقاليم تعتمد القومية مرة والطائفة مرة أخرى . والحدود التي تُرسم بهذه الحرب تكون حدودا مرسومة بالدم ,كما يقول السيد مسعود بارزاني, ولن يكونَ من السهل تغييرُها
لقد صُدِمَ العراقيون في واحدٍ من أيّامِ الجُمَع بخبرِ إطلاق النار على مرتادي جامع مصعب بن عمير الذين يؤدون فيه صلاة الجماعة وقد سقط عراقيون كثرٌ قتلى في هذا الهجوم .. ورأى الجميع كيف تصاعدت التهديدات بالأنتقام وضرورة التحشيد لمواجهة هذه التصفية الطائفية الخ وقد توترت الأوضاع واشتدّ قلقُ الناس من إمكانية تحوّلِ الأمرِ الى حربٍ طائفيّةٍ ولكن العراقيين أعطوا الدرس للمرة الألف لمن يهمه الأمر فاكتشف هذا إن الظرف غير مؤاتٍ لافتتاح مسرحية الحرب الطائفية فأوعز الى داعش لتعلن عن تبنّيها هذا العمل الأرهابي وبذلك مر الأمر بسلام .
وعندما شعر رعاة التقسيم والمتطلعين له بأن الأمور ربما اقتربت من إمكانية فتح الحرب الأهلية الطائفية مرة أخرى .. جرى الأعتداء على موكب عضو مجلس النواب زيد الجنابي ومرافقيه وبينهم عمه وابن عمه فقتل الجميع واطلق سراح النائب . وكما في المرة السابقة ارتفعت التهديدات والأنسحاب من البرلمان ومن العملية السياسية الخ وتقدمت وسائل الأعلام الخادمة والمتطلعة للفوضى بمشاركتها في توتير الأوضاع وقد اصطدم كل هذا بمعارضة واضحة من بعض السياسيين ومن القاعدة الشعبية التي تدرك الكارثة المحدقة فكان أن أدرك المتطلعون الى الحرب الطائفية إن الأعتقاد بتهيّؤ ظروف تلك الحرب غير معقول وفيه بعض التعجّل فأعلنت داعش مرة اخرى مسؤوليتها عن هذا العمل . ولا بد إن الأمريكان يفكرون الآن بعمل ليس بمقدورِ العراقيين الوقوف بوجهه ومنع اندلاع الحرب الطائفية التي ستتحدد بنتيجتها الحدود النهائية لكل اقليم وخلالها تجري تنقية الأقاليم من ملوثاتها من الطوائف الأخرى لنرى في نهايتها أقاليمَ صافية لا يشوب السنّي منها شائبة شيعيّة ولا الشيعي منها شائبة سنيّة ناهيك عن إن الأقليم الكردي سوف يجمع الى حضنه كل الكرد الذين قد تشملهم حمّى التطهير العرقي . ويرى المتشائمون وأنا منهم أن صراعا بين محافظات الأقليم الشيعي سينشب في المستقبل القريب على من سيكون له احتكار القيادة وربما يتفتق هذا الأقليم عن أقاليمَ أخرى تقوم على أساس هذا فراتي وذاك من سواحل دجلة والعشيرة ستأخذ دورها أيضا في هذا التشرذم .. وفي الأقليم السني سيجري الأمر نفسه وسيكون لمشايخ العشائر دورٌ عظيم في إسالة الدماء في حمى السعي للسيطرة على السلطة والثروة في هذه المحافظة او تلك من محافظات الأقليم .. وليس بعيدا أن يتصاعد الصراع في كردستان فيضيف للأنقسام بين السليمانية وأربيل انقساما جديدا وهذه المرة بين الكرد الفيلية الشيعة وأولئك السنة وربما بين العشائر ايضا فتكون بذلك الصورة العامة لبلاد الرافدين ذات التأريخ الموحد أقرب إلى لوحة منفرة رسمها مجنون يعاني من هوسٍ ظلامي ولا يعتقد إن الأنسان بحاجة الى لون بهيج .
وآخر الرقصات الأمريكية على مسرح التقسيم جاءت على أنغام تدريب عشرين ألفا من العراقيين لتطهير الموصل من داعش . ولكن يحق للعراقيين , بناءً على معرفتهم بطبيعة السياسة الأمريكية أن يتوقعوا إنّ ما سيحدث هو التالي :
ستنتقي القوات الأمريكية عناصر من الأقليم السني المفترض تحت ذريعة إن من واجبهم تطهير مناطقهم من داعش , خاصة وإن مفاوضاتٍ قد جرت بين (وجهاء) من المناطق الغربية والأدارة الأمريكية حول طلب تقديم الدعم العسكري لهم وذلك بعد أن وجدت أمريكا إن موضوع تشكيل الحرس الوطني والذي سيزوّد كل منطقة من مناطق العراق بالقوة العسكرية التي ستواجه باقي المناطق وربما المركز ايضا , قد دخل دهاليز التشريع في مجلس النواب وهو ما سيجعل إقراره وتنفيذه بعيدان جدا عن الوقت الملائم . وسوف تبدأ العمليات ضد داعش ولكننا سنفاجأ ببطولات القوات التي دربتها الولايات المتحدة الى الدرجة التي ستتم هزيمة داعش بوقت قياسي , ولن نرى أسرى منهم ولا قتلى يتلاءم عددهم مع حجم المواجهة ونتائجها . وسيكتشف الجميع إن القوة التي سحقت داعش سوف تكون هي عماد ادارة الأقليم السني الذي تتطلع له أمريكا وبعد وقت قد يطول ستنكشف النكتة الأمريكية عندما يعلم الجميع إن الكثير جدا من قوات داعش قد تم دمجها مع القوات التي دربها الخبراء العسكريون الأمريكان , بعد أن يكونوا قد حلقوا لحاهم وأطالوا ثيابهم أو استبدلوا ثيابهم الأفغانية ببناطيل الجينز . وبالنتيجة سيخدم الجميع من أجل (بناء) هذا الأقليم وبذلك سنرى في بلادنا ثلاثة جيوش هي البيشمركَة والجيش الأتحادي محاطا بالمليشيات والجيش الذي (طرد داعش وحرر الموصل) وهو جيش الأقليم السني . ثلاثة جيوش ستجعل من العراق مسرحا للدمى يقوم اللاعب الأمريكي بالأمساك بكل خيوط اللعبة ويحرك الدمى وفق الرقصة التي يفضلها وتتفق مع تطلعاته ومصالحه .
إن الحصيلة النهائية لكل ما نراه ستكون لعنة حقيقية لو تحققت الهواجس التي تملأ جوانح العراقيين .. وهي النتيجة المنطقية للخلط بين المصالح السياسية والأقتصادية والمالية وبين القيم الدينية وهي النتيجة الحتمية لأصرار البعض ,إما بسبب الغباء أو بسبب الرغبة بالخديعة, على إقناعنا بأن الرب الى جانبه ويجب أن يعبده الجميع من خلاله وينسى إن الناس قد عرفت منذ دهور واجباتها تجاه ربِّها وعرفت ما قالته الأديان منذ آلاف السنين ولم يعد من المنطقي الجدالُ في هذا الأمر.
ولو تحققت خطيئة التقسيم فإن عارها سيلحق بالقوميات وبالمذاهب وبالأديان ولن يتمكن أي سياسي عراقي من التخلص من صفة الحمق التي ستلحق به لأنه فرّط بجنّتِهِ التي لا مثيل لها من أجل إرضاءِ حفنةٍ من رؤوس المجمّع الصناعي والمصرفي الأمريكي والرأسمالي عموما .
#أسعد_محمد_تقي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟