قاسم حنون
الحوار المتمدن-العدد: 4727 - 2015 / 2 / 21 - 20:45
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
تشغل المقاربة الغرامشية في الثقافة والمثقفين حيزا هاما في حقل الدراسات الثقافية , رغم الانكسارات والتراجع الذي منيت به الحركة الثورية العالمية في العقد الأخير من القرن العشرين, والمراجعات النظرية المعمقة التي طالت مقولات أساسية في الفكر الماركسي, والانعطافات والتحولات النوعية في العلوم والمعارف الانسانية وتبلور تيارات ومدارس نقدية وفكرية وفلسفية ..أحسب أن الشيوعيين وهم يخوضون في مسالك التاريخ الوعرة بحاجة أكيدة الى مداومة النظر وتمثل منجزات النصف الثاني من القرن العشرين بمغامراته البحثية ومدارسه الجديدة ومناهجه دون مجافاة القيم والأهداف الكبرى التي يناضلون من أجلها أو الوقوع في شراك التجريب والبريق الخلاب لما بعد الحداثة, فثمة من يرى أن أفكار العدل والتحرر والتنوير لم تعد رائجة في عصر ما بعد الحداثة .. وإذا ما كان خطأ بعض اتجاهات الماركسية أنها تتصور وجود قوة واحدة قادرة على الامساك بزمام المبادرة التاريخية في التحول الاجتماعي هي البروليتاريا فإن الخطأ المقابل الذي تقترفه التيارات الجديدة هو أنها تقترح قوى أخرى :النساء أو الجماعات الأثنية يمكن أن تحل محل العمال في تحدي قوة رأس المال وإقامة عالم خال من الاستغلال ,لذا فإن ال ( مابعد) بتنويعاته المختلفة تمثل ضربا من الاحساس بفقدان الإتجاه أو اضطراب الرؤية للمستقبل على الرغم من انجازاتها الفكرية ..
لقد سعى غرامشي الى تحويل نظام ماركس المنطقي وأفكاره المبثوثة في ( رأس المال) و( اسهام في نقد الاقتصاد السياسي ) ومؤلفات أخرى الى علم للممارسة السياسية الخلاقة عبر القوى الاجتماعية المؤهلة لإحداث التغيير بجعلها تدرك أسباب الخضوع والهيمنة وميكانزماتها تمهيدا لبناء تقاليد وآليات التمرد عليها , وهو ينظر الى العلم والسياسة كوحدتين مترابطتين تؤلفان معمار ماركسية الشعب بعد أن تنفذ الى وعيه عبر معارك النضال الطبقي والوطني لتتحول الى قوة مادية قادرة على التغيير , تبدأ الماركسية عنده في دوائر ومستويات عليا لتصل الى ثقافة الجماهير المحرومة ,وعلى الثوريين أن يقوموا بمهمة مزدوجة هي نقد الفكر البرجوازي المسيطر من جهة ومن الجهة الأخرى نقد ثقافة الجماهير المستلبة التي غالبا ما تكون تحت تأثير الأفكار السائدة .. يطرح غرامشي مبدأ كسر نخبوية المعرفة بالقول ( بامكان المرء القول أن كل الناس مثقفون ولكن ليس لهم كلهم أن يؤدوا وظيفة المثقفين في المجتمع ) ويرى أن لكل طبقة اجتماعية مثقفيها المرتبطين بها عضويا وأن الكتلة التاريخية لاتتميز ولاتصبح مستقلة ومؤثرة من تلقاء نفسها أي من دون تنظيم قدراتها ولا تنظيم من دون مثقفين ويقسم غرامشي المثقفين الى فئتين : المثقفين التقليديين وهم المعلمون والاداريون ورجال الدين والوظائف الأخرى المرتبطة بنمط الانتاج ماقبل الرأسمالي وهم ينقلون المعرفة من جيل الى جيل , والمثقفين العضويين المرتبطين بطبقات أو مؤسسات تستخدم المثقفين لصالحها وهم دائمو التنشكل والانتقال بعكس التقليديين الذين يؤدون العمل نفسه على مر الأزمان , المثقف بنظر ادوارد سعيد الذي يستلهم غرامشي في تأملاته ل( صور المثقف ) لا هو عنصر تهدئة ولا خالق اجماع وإنما هو إنسان يراهن بكينونته كلها على حس نقدي ,على الاحساس بأنه على غير استعداد للقبول بالصيغ السهلة أو الأفكار المبتذلة الجاهزة , ولن يكون ذلك ممكنا إلا بالإفصاح عن رغبته وموقفه علنا , وإذ يقدم غرامشي تصوره فإنه يطمح للاطاحة بالنسق المتعالي للنخبة وازالة التعارضات بين الثقافة العالمة والثقافة الشعبية وضرورة تحرير الثقافة من سطوة التصور التقليدي الذي يقوم على مراتبية المعرفة وامتياز المشتغلين فيها متجاوزا البدء من اللحظة المعرفية بل من لحظة أخلاقية ترمي الى اعادة الإعتبار لجمهور الشعب الذي يبدو في منظور ومعايير الطبقة المسيطرة جماهير لاثقافة لها .ويختلف مفهوم المثقف العضوي عن المثقف الثوري في التراث اللينيني الذي اقتضته التجربة الروسية وتكرس في أدبيات الحركة الثورية ردحا طويلا من الزمن وهو ينصرف الى فئة المثقفين المنخرطين في النضال من أجل الاشتراكية بوصفهم وسطاء بين المعرفة والجماهيرفينقلون لها وعيا طبقيا يطابق مصالحها ويدعم مشروعها السياسي,ومن يخون هذه المهمة أو يقف ضدها هو المثقف البرجوازي الصغير المعادي للثورة, بينما ينفتح مفهوم غرامشي على طيف واسع من التمثلات والرؤى والمواقف التي تنتظم في مرحلة تاريخية محددة أو تشكيلة اجتماعية اقتصادية هي الرأسمالية تحديدا ,ولقد تبلور هذا المفهوم في نشوء فكرة الإلتزام وما أحدثته من أثر في وظيفة الثقافة ودور المثقفين وهو ينطوي على اقرار وظيفة اجتماعية للمثقف ومؤدى ذلك فإن وظيفة المثقف ليست فكرية أو معرفية محضة كما يروج كثيرون بل اجتماعية أي أن المثقف يخرج من فرديته الى أفق اجتماعي أرحب . ولقد أفضت فكرة الالتزام الى اخراج المثقفين من أوهام التفرد والذاتية أوالانكفاء في أقفاص أكاديمية أو أبراج عاجية ليؤدوا دورا مشهودا في كفاح الانسانية من أجل الحرية والعدالة والتقدم الاجتماعي وفي مجابهة قوى الحرب والنهب والأطماع الكبرى , النصف الأول من القرن العشرين وما بعده بعقدين او أكثر قدم أمثلة مشرقة لانحياز المثقف للشأن العام ولمصالح وتطلعات شعوبهم سواء كان ذلك في البلدان الاشتراكية أو الرأسمالية أو دول العالم الثالث ,بيد أن الأزمة الحادة التي جابهتها قوى اليسار وتضاؤل قوة المثال الاشتراكي وميله للركود والتراجع وما تعرضت اليه الماركسية من تحول الى مرتبة العقائد الأرثوذكسية فأهدرت طاقتها النقدية الخلاقة وروحها الجدلية واستحالت الى نسق من المفاهيم والقوالب الجاهزة التي تعلو على الواقع , فضلا عن ردات الفعل التي نجمت عن التسييس المفرط والهبوط بالثقافة الى مرتبة الدعاية السياسية وبالمثقفين الى دعاة مبشرين, أدى ذلك الى تراجع فكرة الالتزام وانصراف النخب الثقافية عن الاسهام في الحراك السياسي والاجتماعي والحياة الحزبية لبلدانهم ,حتى صحونا على الموجة الجديدة من الحركات الاجتماعية التي نشأت معادية لفكرة الحزبية وجنحت للعمل المدني وهو ما بات يعرف بمنظمات المجتمع المدني التي كان طابعها يساريا أول الأمر ثم تحولت الى أفق ليبرالي ليجري احتواءها فيما بعد من قبل اليمين ,ولقد سعت أنظمة مختلفة الى تحويل المثقفين الى أدوات في ماكنتها الدعائية ( البعث انموذجا ) والى فصل الثقافة عن السياسة لإنتاج ثقافة مجردة لاتمت بصلة للواقع الملموس بإشكالياته وتناقضاته والى جر الثقافة الى حقل الاعلام لإشاعة الثقافة الجماهيرية التي هي ثقافة الدولة التوتاليتارية واختزالها في معالجات تبسيطية وابتذالها واهدار طاقاتها الابداعية, لأنها تدرك أن الإبداع له بعد سياسي بالضرورة يمكن ان يزعزع الثوابت ويقوض الهيمنة الايدلوجية للطبقة المسيطرة وسلطة الطغمة الحاكمة
وفي ظروف الردة السياسية والثقافية التي تجتاح بلداننا بفعل هيمنة قوى الإسلام السياسي توفرت شروط وامكانات غير مسبوقة للمثقف التقليدي بصورته الأكثر تنظيما واتساقا بوجود مؤسسات ووسائل دعم مختلفة ,لاكتساح المشهد الثقافي وبما يهدد منجز الثقافة الوطنية ومحتواها الديمقراطي التنويري ... تيار نكوصي عارم يخترق الجامعات والمراكز الأكاديمية والمدارس الحديثة والمؤسسات الثقافية ويحيلها الى مستوطنات للخرافة والتجهيل وتكريس الفوات الحضاري والانشغال بإشكاليات القرون الغابرة, مستظلا بالمنحى السائد للثقافة العربية بالاهتمام بالتراث وتقليب صفحاته دون مساءلة نقدية واجراءات علمية في معالجة قضاياه ,وما دامت عملية نقد التراث لم تأخذ مداها الكامل فإن الجميع سيظلون خاضعين لأحكامه وتأثيراته إذ الأرضية الأبيستمولوجية مشتركة يقف عليها السلفيون والحداثيون ,ومن الظواهر الملفتة محاولة بعض المثقفين والأكاديميين اكتشاف جذورهم في الخطاب الطائفي ومحاولتهم ربط أنفسهم بجماعات أثنية مستخدمين أدواتهم البحثية في الدفاع عن مصالح هذه الجماعات ,وفي ظل هذا المناخ ظهر نمط من البحث الأكاديمي أو المعالجات الفكرية وهو ما اصطلح على تسميته بالعلوم الإسلامية في الاقتصاد والطب والهندسة والفلك ...الخ ,وتوظف امكانات الدولة الريعية والمؤسسة الدينية لدعم ومساندة الاتجاه لترسيخ ونشر الثقافة الدينية ومنح جوائز وتنظيم مسابقات ومهرجانات للإستئثار بالمجال الروحي للمجتمع لغايات ايدلوجية وسياسية . إن سطوة الأيدلوجية الدينية عززت النزوع الى رؤية لاهوتية للمجتمع , أ من المعقول أن يهرع أطباء ومهندسون وأكاديميون الى الجوامع عند خسوف القمر او كسوف الشمس !؟ كأن التاريخ في بلادنا يسير القهقرى.. ويسود اليوم سياق جديد يجمع بين الدين والتكنولوجيا بالإفادة من ثورة الاتصالات والمعلوماتية وتأسيس مواقع الانترنيت فضلا عن القنوات الفضائية لإعادة انتاج الثقافة التقليدية و نشرها على نطاق واسع , ويجري تهميش الثقافة الحديثة والمثقفين الحداثيين كهدف من أهداف قوى الردة الى جانب افقار الجماهير ونشر القساد والفوضى وتعطيل بناء مؤسسات الدولة .المثقف التقليدي في العراق اليوم يوظف المتغيرات السياسية والمكاسب التي تحققت لغير صالح الأهداف والغايات السامية التي ناضلت قوى شعبنا من أجلها ضد الدكتاتورية ,متمترسا بخطابات التجييش الطائفي منافحا عن أسوار طائفته وحراسة طقوس التطهير(الكثارسيس) موجها الحشود الرابضة في دور العبادة والميادين العامة بأن الواقع ليس ما هو كائن أو ما سيكون بل هو ماكان , تتبدل الأسماء والوقائع فيما يظل التاريخ هو هو راكزا في لحظة البدء أي في حدود القرن السابع الميلادي! ! ينفخ في جذوة الخلاف بين الفرق الإسلامية حتى استحالت غمامة سوداء تجثم على عقول الناس ووجداناتهم وتسد منافذ الحراك الشعبي لتعديل مسار التحولات السياسية والثقافية بتعطيل الإحساس باليومي والمعيش وصولا الى ادراك ضرورة كسر هيمنة القوى المتنفذة لصالح قوى الحداثة والديمقراطية والتقدم .إن مهمة المثقفين العضويين في الظروف الجديدة شاقة يندمج فيها السياسي بالثقافي ,صحيح أن السياسي له الأولوية ولكن اذا ما نأى عن المستوى الثقافي فسيكون قاصرا عن الوصول الى هدفه , وتقع ضمن أولوياته مهمة بلورة ودعم تيار ديني عقلاني على غرار لاهوت التحرير للإسهام في تفكيك الأزمة المتفاقمة التي تمتد بجذورها في البنية الاجتماعية والثقافية واستلهام ما في التراث العربي والاسلامي من قيم ومعارف ايجابية وطاقات غنية
#قاسم_حنون (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟