موسى راكان موسى
الحوار المتمدن-العدد: 4722 - 2015 / 2 / 16 - 08:48
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
سجل الفكر الخلدوني أول إنطلاق فعّلي و حقيقي لقراءة التاريخ قراءة علمية , على الرغم من أن بن خلدون نفسه لم يستعمل منهجه الذي حدده إلا مرتين تقريبا , و أضف إلى ذلك أن وصف الفكر الخلدوني بالعلمي لا يعني أن بن خلدون قد قوّض و نقض الدين .. إنما قوّض و نقض الفكر الديني في قراءة التاريخ بالإضافة إلى القراءة السردية للتاريخ .
لقد كان الفكر الخلدوني فكرا ماديا .. لكنه لم يكن ماركسيا , و الخطأ و الغلط الذي يعتري الفكر الخلدوني لا يعني بأي حال من الأحوال خروجه عن القاعدة العلمية , فالخطأ العلمي يبقى علميا إذ يتحدد بحكم موقعه كخطأ علمي .. على عكس الخطأ الغير العلمي (الذي يضاف إلى كونه غير علمي) لا يتحدد الخطأ فيه كخطأ .
هذه المقدمة هي بعض خلاصة كتاب مهدي عامل [ في علمية الفكر الخلدوني ] .
الماركسية مادية .. و بهذا فهي تفرض ذاتها كفلسفة علمية , و لكنها ليست مادية فقط بل و أيضا ديالكتيكية , فإذا كان العلم يقطع كل علاقة مع عالم الغيب و المعجزات لإدراك الشيء هو كما هو دون وساطة : [بهذا شرط العلمي ماديته] .. إلا أن عند هذا الحد يقف وصف الموضوع بالعلمي أو اللا علمي , و لا يُعتقد بأي حال من الأحوال أن كون الموضوع علمي يعني عصمته من الخطأ .. فمن هنا يبدأ دور التفكير النقدي ليتحدد ما هو ((صحيح)) علميا أو ((خطأ)) علميا .
و يبدو أن إلتباسا بالتعبير قد إنقلب ضدي فلم أعنِ بتناولي [أنا] للعولمة أو نقد العولمة لسعاد خيري تقديم [دراسة علمية للعولمة سواء كانت ماركسية أم غير ماركسية] , إنما عنيت حرفيا عبر تناولي أن يكون إسهاما في فهم العولمة كما يجب : [أعتقد أن في فهم العولمة حقا مفاتيح لإشكاليات عديدة معاصرة .. و هي ستفيد التنظير العلمي المعاصر سواء الماركسي أو غير الماركسي] , فللمساهمات العلمية الغير ماركسية دور لا يستهان به إطلاقا .. و لا يعني ذلك أنها تقوّض أو تنقض المادية الديالكتيكية , بل و في أحايين كثيرة تؤكدها و تجسدها إن كانت الثغرات فيها أقل (كالنظرية الداروينية) .. و قد يكون أصحابها في موقع معادي للمادية الديالكتيكية ! , فقد لا يدركون ذلك .. لأن الديالكتيك ليس بسفسطة ذاتية بل هو هو الوجود المادي في حركته بكل موضوعية , لكن إدراك هذه الحركة موضوعيا لا يتحقق للجميع .. إذ تلعب عوامل عديدة دون إدراكها موضوعيا كما يجب .
لكن في المقابل يبدو أن الماركسيين (سواء إتفقنا أو إختلفنا في صحة إنتسابهم للماركسية) بقدر ما إستفادوا من إدراكهم للمادية الديالكتيكية قبل الشروع في تناول المواضيع بالدراسة علميا .. أيضا كان لإدراكهم المسبق بها دور سلبي للغاية تجسد في تحويل الماركسية إلى إيديولوجيا : أي نفي للماركسية , و بالمثل حين تتحوّل العلمية إلى إيديولوجيا تنقلب إلى نفي للعلمية , فإن القول بمادية العلم أو بالمثل أيضا إن القول بمادية الماركسية يفترض بالضرورة أن تكون القراءة قراءة موضوعية قبل أي و كل شيء , لكن هذا النفي للعلم أو للماركسية لا يقصد منه النفي المطلق .. إنما هو ما يمكن أن نسميه بالخطأ العلمي , بسبب القاعدة التي يُنْطلق أو التي إنطلق منها .
و يقول الرفيق فؤاد : { رب من يقول .. ليس على الجاهل حرج ، لكن عندما يكون الحرج يتعلق بمصائر البشرية جمعاء فلا بد إذاك من إقامة الحدود على الجاهل كعزله و حرمانه من ممارسة أفعال الحرية } , و ينسى الرفيق أنه هو ذاته و لا أحد ممن يتفق معه (و أنا منهم) حتى اللحظة قد أوجد طريقا حقيقيا لإنقاذ البشرية مما سيطالها .. و بذلك فعلى العكس لا ينبغي حرمان أو عزل أي جاهل أو سفيه حتى الرد عليه تماما (الممارسة النقدية) و إيجاد طريق حقيقي بعد التمكن من الإدراك الكلي لما نحن بصدده كمرحلة معاصرة .. و ماركس ذاته لم يصل لما وصل إليه دون ذلك , فمقولة : [ خذوا الحكمة من أفواه السفهاء ] لا تنفي إيجابية السفهاء و كذلك الجهلة بالمطلق .. أو بتحريف بالمقولة [إعرف الحكمة من وراء قول السفيه و الجاهل] : بتحليل أسباب لغطه و خلطه , و الرفيق النمري يقدم تحليلا لكن بصراحة يبقى يتيما (و إن حمل بغض الصحة) إذ يكتفي بنسب السفيه أو الجاهل للبرجوازية الوضيعة دون تناول إرتباطات قول السفيه أو الجاهل بالأسباب التي تتجاوز مجرد الإنتساب للبرجوازية الوضيعة .. فلو قلنا أن كل من يعادي الإشتراكية هو برجوازي وضيع لم نقدم في المقابل تفسيرا لماذا بعض ممن يحسب كبرجوازي وضيع يقف أو قد يقف بصف الإشتراكية العلمية و يدافع عنها ؟! , نحتاج إلى تجاوز مجرد الإنتساب للطبقة أو للفئة في تناولنا الأسباب في العداء أو الخلط أو الغلط , و كي لا يتم فهم القول خطئا لا أعني ب [[ نحتاج إلى تجاوز مجرد الإنتساب للطبقة أو للفئة ]] نفيا لحقيقة الطبقية أو وجودها .
فقد تناولت الدكتورة سعاد في سلسلة نقد إمتدت 14 جزءا .. لأعْرِف و أُعَرّف مكامن الخطأ و الغلط في ما قدمته في مساهمة لتصحيح ما قدمته و تطويره للأفضل (و هو لا يخلو بالمطلق من بعض الصحة) , و لو إكتفيت بجزء واحد نعت فيه الدكتورة بأنها برجوازية وضيعة .. لما إستفدنا مما حمله مؤلفها من صحة و أيضا لما عرفنا أين مكامن الخطأ و الغلط ! , و بالمثل لو أن الحزب الشيوعي الأردني جادلك حين إختلفت معه مجادلة تتجاوز توصيفه لك بالتحريفي أو بالمعادي للشيوعية إلى تناول ما جادت به قريحتك طيلة هذا العمر الزكي أو أسبابه .. لما وصل بالحزب الشيوعي الأردني لما وصله من تردي و تخبط عام (هذا ما أعتقده) .
و يقول الرفيق النمري حرفيا بعد ذكر أسباب العولمة : { تلك هي العولمة الحقيقية ؛ إنها الظاهرة المرافقة لانهيار الرأسمالية } , و لنركز قليلا : (( العولمة )) ظاهرة مرافقة ل (( إنهيار الرأسمالية )) : إذا (( العولمة )) ليست هي هي (( إنهيار الرأسمالية )) , و كونها مرافق لإنهيار الرأسمالية إذا لها شروطها الخاصة التي تختلف عن أسباب إنهيار الرأسمالية و التي حددها الرفيق النمري ب :
(1) – { أن الدول التي استقلت جرّاء ثورة التحرر الوطني العالمية لم تعد تمتص فائض الإنتاج في المركز فترتب على الشركات الرأسمالية في المركز المختنق بفيض إنتاجه أن تنزح إلى الدول الأطراف من أجل تصريف الإنتاج محلياً في السوق الخاوية في البلد المضيف والحفاظ على العمل والإنتاج بذات الطريقة الرأسمالية } .
(2) – { مع انهيار النظام الرأسمالي انهارت الطبقة الرأسمالية وانهارت الدولة الرأسمالية لتحل محلها دولة البورجوازية الوضيعة التي تستهلك الإنتاج المادي في إنتاج الخدمات، ولذلك تحول الإقتصاد الرأسمالي في المركز إلى الإقتصاد المعاكس وهو الإقتصاد الإستهلاكي (Consumerism) حيث يستهلك المركز كل ما ينتج بل أكثر منه، فكان أن تشكلت دولة الرفاه (Welfare State) بدل الدولة الرأسمالية وهي الدولة التي تنفق أكثر مما تنتج وتتدبر الأمر عن طريق المغالاة في فرض الضرائب على وسائل الإنتاج الرأسمالية من جهة والإستدانة من جهة أخرى . فكان أن هربت الشركات الرأسمالية من المركز إلى الأطراف إتقاء شر الضرائب الباهظة وقد أخذت تأكل معظم فائض القيمة ولم يتبقِ منه شيءٌ يذكر للرأسمالي نفسه } .
تلك أسباب إنهيار الرأسمالية .. و لكن السؤال الذي يطرح ذاته : هل إستوفت شروط العولمة ؟! , إن كان ماركس قد سمى إنهيار الرأسمالية بمرافقة ظاهرة العولمة .. إلا أنه من البديهيات المؤكدة أنه لم يكن يعني إنهيارها بهذا الشكل حرفيا , إذا فشكل إنهيار الرأسمالية الذي تنبأ به ماركس بمرافقة ظاهرة العولمة يختلف عما جرى تاريخيا , و بهذا المعنى حرفيا أقوم في تناولي و دراستي للعولمة بما يشبه عملا مزدوجا : [محاكمة التاريخ] كما تنبئ بها ماركس .. و [قراءة للتاريخ] كما جرت خروجا إختلافا عما تنبئ به ماركس , فماركس ذهب و ترك تصوّراته .. لكن لينين أتى و طوّر بالماركسية فجرت الأمور بطريقة إختلفت عما تصوّره ماركس (طبعا ليس بالمعنى المطلق) .. بل إن الرفيق النمري نفسه يؤكد أن ستالين تنبأ بإنهيار الرأسمالية في موعد محصور زمنيا إلا أن الإنهيار جرى بعد الموعد الذي حدده ستالين : هم تنبأوا أو تصوّروا .. و التاريخ لم يجري حرفيا لتنبؤاتهم أو تصوّراتهم , فهل نتجاهل ذلك و أسبابه و نتائجه بحجة أننا نقرأ التاريخ لا نحاكمه ؟ , ليست دعوة لتغيير التاريخ الذي مضى وفقا لتنبؤات و تصوّرات .. و إنما لنبذ قراءة تقترب من السطحية التاريخية و ذلك عن طريق معرفة الأسباب الموضوعية التي حالت دون الحتمية التاريخية كما تم تصوّرها و تنبؤها [موضوعيا أقصد] .
لقد زعمت أن الرأسمالية إنهارت ليس قبل أوانها .. فأوانها حيث تحتم الظروف الموضوعية ذلك , و إنما إنهارت الرأسمالية قبل أوان تحقق الشروط الموضوعية لتحقق مرافقة ظاهرة العولمة لها .
و رغم أن الرفيق النمري أخذ عليّ محاكمتي للتاريخ .. إلا أنه هو نفسه يحاكم التاريخ وفقا لما قاله ماركس و أممية كاوتسكي ! , نعم قال ماركس بعالمية الرأسمالية و بالتالي عالمية الأنظمة التي تليه (( و لكن )) يبدو أن الرفيق هنا إختلطت عليه المفاهيم لغويا .. فلو كانت العولمة بمعنى العالمية فهي أقدم من الرأسمالية , فلو كانت كذلك لكنا وجدنا مصطلحات من قبيل [عولمة الإشتراكية] و [عولمة الشيوعية] فيما كتبه ماركس .. و لكن حينها تفقد [العولمة] كمفهوم إصطلاحي أي خصوصية عن مفهوم [العالمية] و تصبح مجرد عبث لغوي ! , هذا من جهة .. و من جهة أخرى كان قول ماركس بعالمية الرأسمالية : تنبؤ أو تصور , فهل تحقق ؟! .
و لست واثقا كيف يرى الرفيق النمري أن الرأسمالية قد شملت العالم رغم أنها لم تكمل إمبرياليتها إلى النهاية ! .. فالإمبريالية ليست مجرد توسع كما أنها ليست مجرد تقسيم العالم على ورق الإتفاقيات على غرار صكوك الغفران .. و إنما واقع تشمله الرأسمالية حقا و تبلغ فيه تطوّرها إلى الحد الذي تُقصى عنده كل المراكز إلا مركزا رأسماليا واحدا يسود لينهار بدوره و تلك نهاية الرأسمالية بعد إكتمال الإمبريالية , و يسألني الرفيق النمري { ما عساها تكون نهاية الإمبريالية الطبيعية ؟! } .. هي ببساطة [[ العولمة ]] إن كان المقصود بالطبيعية الظروف الموضوعية التي تسمح لها بالإكتمال , و لم أخفي على الرفيق النمري و لا أخفي كذلك على القراء الكرام أني لا أزال في طور الدراسة و البحث حتى ألم تماما بموضوع العولمة عبر نقد مستمر و مراجعة متكررة .. فلا أدعي أني قد سددت كل الثغرات فيما أزعم إلا أنني أسعى لذلك بكل ما أوتيت من قدرة .
كنت قد ذكرت للرفيق النمري أن أحد الأسباب التي حالت دون تحقيق شروط [[ العولمة ]] هو : { أبرز أسباب ذلك هو قيام الإتحاد السوفييتي الذي غطى مساحة لم تصلها بعد ترسانة الرأسمالية و علاقاتها (و هو نفسه كان لا يزال متخلفا صناعيا) } , و قد راجعت ما كتبته عليّ أخطأت التعبير و إلا كيف إستنتج الرفيق النمري أني بذلك أتبنى مزاعم كاوتسكية و بليخانوفية ؟! , لم أقل أني عارضت الثورة البلشفية و لم ألمح حتى لذلك , لكن لا أعتقد أن الرفيق النمري يعتقد أن روسيا كانت رأسمالية أو حتى رأسمالية إمبريالية تضاهي الرأسماليتين في فرنسا و بريطانيا .. كذلك لا أعتقد أن الرفيق النمري يرى في الإشتراكية التي شيدها البلاشفة شكل من أشكال الرأسمالية الإمبريالية ! .
إذا يا ترى ما هو اللبس الذي إعترى الرفيق النمري حين قرأني ؟! , لعلني عرفت الجواب الذي قد يكون التالي :
حين زعمت أننا لم نعرف العولمة إلا كتجريد لا كواقع موضوعي معاصر .. و أن هناك فروق من حيث الشروط و الأسباب بين ((إنهيار الرأسمالية)) و ((العولمة)) .. و أن التصوّرات و التنبؤات التي رأت إنهيار الرأسمالية ترافقه ظاهرة العولمة لم تتحقق لعدم تحقق [[ الشروط الموضوعية ]] للعولمة .. فلم تتحقق العولمة لأن الرأسمالية الإمبريالية لم تشمل العالم و تتطوّر كما يجب لتنهار (( طبيعيا – أي وفق الظروف الموضوعية لإنهيار وفقا لذلك)) : و كان من العوارض الرئيسية لوجود العولمة و تحقق شروطها هو قيام الإتحاد السوفييتي و ما نتج عنه .. حيث أهم ما نتج هو إنهيار الرأسمالية دون العولمة .
و لعل الرفيق فؤاد يرى في ذلك إتهاما ضمنيا للإتحاد السوفييتي .. حيث بالإضافة إلى أنه حال دون تحقق شروط العولمة أيضا يعتبر سبب من أسباب ما نعيشه اليوم على طريق الفناء , فلو (و الحديث هنا تجريد تخيّلي) لم يقم الإتحاد السوفييتي و شملت الرأسمالية العالم حقا و إكتملت إمبرياليتها بحيث إستفرد مركز رأسمالي واحد العالم .. تبدأ عندئذٍ الرأسمالية بالإنهيار و تترافق معها ظاهرة العولمة التي هي إنتاجية لا رأسمالية و البروليتاريا بفعل التطور المكتمل هي السائدة حقا و تبدأ بإشتراكية شبه عالمية تقصي بقايا الرأسماليين الهاربين إلى الأطراف و من ثم حلول الشيوعية .. دون أي إنفلاش حاصل لصالح الطبقة الوسطى التي ما كانت لتستطيع أن تصل للسلطة أو أن تسود لولا ظهور الإتحاد السوفييتي ! .
لكن _إن كان هذا بالفعل اللبس الذي إعترى الرفيق النمري حين قرأني_ يتجاوز الرفيق النمري و كل من قد تسوّل له نفسه بأن يتخيل ذلك أن :
لولا قيام الإتحاد السوفييتي و تقديمه ما قدمه من تضحيات و منجزات .. لكان الثمن الذي ستدفعه البشرية إلى حين إنهيار الرأسمالية طبيعيا لترافقها العولمة غاليا جدا , و إن كان إحدى أسباب عدم تحقق العولمة هو ((قيام)) المركز الإشتراكي [الإتحاد السوفييتي] .. فأيضا في المقابل من أسباب الوضع المعاصر هو ((إنهيار)) المركز الإشتركي , و أخيرا .. ما كان لأحد أن يتخيل (لا أن يتوقع) وفقا للظروف الماضية أن تؤول الأمور إلى ما هي عليه اليوم لعوامل معقدة و عديدة قد تناول جملة عظيمة منها الرفيق النمري الذي حسبي هو الأول و الوحيد الذي أدرك إلى أين ستؤول تلك الظروف بالبشرية ! .
و ختاما ليس لي إلا أن آمل كما أسلفت الذكر بسد الثغرات و إكمال البحوث و الدراسات للإلمام تماما بموضوع العولمة .. و ذلك عن طريق النقد المستمر و المراجعة المتكررة , و أشكر الرفيق النمري على مجموعة النقاط التي أثارها و أرجو أني قد إستوفيت حقها كما يجب .
#موسى_راكان_موسى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟