عامر الدلوي
الحوار المتمدن-العدد: 4713 - 2015 / 2 / 7 - 23:30
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
خمسة عقود ثقيلة مرت والآلام تتعاظم في قلوب الشرفاء من أبناء العراق , الذين عاشوا أحداث نهار الجمعة الأسود الذي صادف الثامن من شباط 1963 , ورأوا بأم أعينهم قطار أمريكا القذر يدخل وطنهم حاملا ً أوسخ الأحزاب القومية وأكثر قادتها خسة وعمالة ليأدوا فرحة الطبقات المسحوقة والشرائح الكادحة بجمهوريتهم الفتية التي تكالبت عليها كل قوى الشر و الظلام في العالم .
في ذلك اليوم , وأدت تجربة رائعة من بناء وطن كان ممكنا ً له في ظل منجزات ثورة الرابع عشر من تموز 1958 المجيدة أن يكون اليوم في مصاف الدول المتقدمة في آسيا و أوربا لا بل في طليعة تلك الدول .
لقد دأب قادة الثورة على تقديم الدروس الرائعة لشعوب المنطقة من خلال التخطيط السليم لبناء إقتصاد متطور إعتمادا ً على كفاءات عراقية لها وزنها العالمي ( كانت قوى الشر تحسب لها ألف حساب ) عبر وضعها في مكانها المناسب في خطوات رصينة أثارت حقد البغاة من عملاء ربطوا مصيرهم ومصير عوائلهم بالنظام الملكي البائد و قوميين عرب ربطوا مصيرهم و مصير أحزابهم بالإنقياد الأعمى و التبعية المطلقة للنظام الرأسمالي العالمي , الذي أرتعدت فرائصه للمنجزات السريعة المردود إقتصاديا ً و سياسيا ً لجمهورية فتية لم يتجاوز عمرها الأربع سنوات ونصف .
ولعل واحدا ً من هذه المنجزات التي تركت أثرا ً كبيرا ً في تاريخ الوطن هي إتفاقية التعاون الإقتصادي مع الإتحاد السوفيتي السابق عام 1959 و مهندسها العقل الجبار للمرحوم د. إبراهيم كبة الكفاءة العراقية التي لم يبرز لها مثيل ليس في مجال المنطقة والبلاد العربية لا بل على مستوى أوربا و العالم الذي أستمرت مؤلفاته الإقتصادية تدرس في جامعات بعض تلك الدول لفترات طويلة .
لقد كان من أبرز السمات لتلك الإتفاقية هي بناء القاعدة المادية للتصنيع في بلد كان إقتصاده ريعيا ً بنسبة 100 % معتمدا ً في أكثر من 95 % بالمئة منها على واردات تصدير النفط التي كانت تغتنمها الشركات الإحتكارية وتلقي بفضلات مائدتها للحكومات العميلة لها ولسياساتها في العهد الملكي .
فكانت عشرات المعامل و المصانع المشادة بالمعونة السوفيتية و التي أتفق على مقايضة منتجاتها بمنتجات التصنيع الثقيل في روسيا السوفيتية تشكل علامة بارزة على طريق بناء بلد أكتملت مخططات قادته ببناء المستشفيات و الكليات و الجامعات التي عجزت حكومات متعاقبة في العهد الملكي المباد عن إنجازها رغم إقرارها من قبل مجلس الإعمار قبل ثورة الرابع عشر من تموز بزمن طويل .
لقد كان لإنجاز قانون الأحوال الشخصية وقانون تأميم الأراضي غير المستغلة من قبل شركات النفط و الممنوحة لها كإمتيازات طويلة الأمد من قبل الحكومات الرجعية المنهارة أثرهما الكبير في إصطفاف القوى الدينية والإقطاعية التي تضررت مصالحها بشكل كبير نتيجة لإقرار تلك القوانين , مع قوى التيارات القومية من بعث و حركة إشتراكية , و تزاوج مصالح الجميع المشبعة بالأنانية والفردية البعيدة عن أي حس أو إنتماء وطني مع مصالح الشركات الإحتكارية البريطانية النازلة في تأثيرها و التاركة الساحة لنجم الإحتكارات الأمريكية المتصاعد في العمل سوية على أسقاط هذه التجربة التي كانت ستكون منارا ً مشعا ً و حافزا ً وباعثا ً قويا ً لباقي الشعوب لتنهض في نضالها ضد الهيمنة الأمبريالية وللإقتصاص من حكامها الخونة الذين بنوا عزهم و مجدهم على آلام وشظف عيش الفقراء من أبناء شعوبهم .
ومن أشد الإمور أسفا ً في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ الوطن , أن تضيع المقاييس وتشذ البوصلة لدى أجيال كثيرة ممن يفترض إنها تنعمت بخيرات تلك المنجزات من دون أن تدري , عبر ما تحقق من عدالة أجتماعية خلال العمر القصير للثورة لعوائلهم , فلولا قرارات مجانية التعليم لما كان الآلاف من هؤلاء اليوم قد نالوا فرصتهم في الحياة و حملوا ما حملوا من شهادات و ألقاب , فينبري بعضهم بحجة كونه باحث أو أستاذ لينتقد تلك التجربة المجيدة التي لولاها لكان اليوم خيرهم أما عتالا ً ينقل الأحمال في الأسواق أو فلاحا ً مشردا ً من أرضه بسبب جور الملاك الأقطاعي و سراكيله .
لقد كتب لنا أن نعايش الفترة المتأخرة من العهد الملكي و رأينا ما رأينا من الوقائع التي تحدثت عنها سابقا ً و في نفس المناسبة , و في رد على بعض الألسنة التي تدعي بأن العراق وبسبب من ثورة تموز لم يرى الخير , بينما تصف العهد الملكي بأنه كان عهد ذهبي .
لا أدري عن أي ذهب تتشدق تلك الأفواه ؟ هل عن أولئك الفلاحين الفقراء الحفاة بالملابس البالية الذين كان يسوقهم الإقطاعي و رجاله لكري الأنهار ( الحشر ) بالمسحاة و مجانا ً لضمان وصول الماء إلى أرضه دون أن يزودهم حتى بلقمة الخبز ... و مازال صدى أهازيج الأطفال ورائهم ... حشارة الله أيساعدكم ... خبز شعير ما عدكم .
أم عن آفات الجهل و المرض وإنعدام الخدمات ... حتى إن الشارع الرئيس في القضاء الذي ولدت فيه كان ترابيا ً حتى العام 1959 عندما شهد رش الأسفلت السائل و الحصى فوقه في عملية التبليط البدائية , وكانت الكهرباء ذات الـ 110 فولت المنتجة عن طريق مولدات ضخمة هي مصدر النور الوحيد آنذاك لدى الطبقة المنعمة , بينما كانت بيوت الفقراء و هم الأغلبية تنار عن طريق القنديل الذي هو عبارة عن زجاجة خمر أو عصير مملوءة بالنفط و تتوسط فوهتها بلحة (ثمرة تمر ) مثقوبة تتدلى منها فتيلة قطنية تشعل في المساء لتنير البيت , و التي ذهب الكثير من أبناء هذه العوائل ضحايا للتدرن الرئوي وباقي الأمراض الصدرية التي أودت ببعضهم إلى الموت .
أي مؤشر للنمو كان في تصاعد أبان العهد الملكي ( كما يدعي بعضهم اليوم ) , الذي يتحسر عليه و على أيامه بعض من تضررت مصالحهم من ثورة تموز ولا يحاول اليوم إلا أن يغرز في أذهان ابنائه و أحفاده كل ما أكتنزه من حقد عليها و على مسيرتها .
المثل الخالد يقول : " لايمكن أن تغطي نور الشمس بغربال " و اليوم وبعد نصف قرن كان للحقيقة أن تتجلى عبر حديث لأحد عملاء وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في أحدى جامعات بلاده فاضحا ً كل ما جرى من محاولات لإغتيال الثورة وقائدها الرمز الشهيد عبد الكريم قاسم , إذ يقول في معرض حديثه : " لقد كانت لمقولة الزعيم عبد الكريم قاسم إن نفط العراق يجب أن يكون للعراقيين ... أي هدف نبيل هو هذا ؟ " يقولها متسائلا ً امام حشد الطلبة الذين قاطعوا كلمته بالتصفيق المستمر ... ليفضح بعدها الكيفية التي جرى بها تجنيد عصابة البعث و القومجين من قبلهم لتنفيذ مؤامرة إغتيال الشهيد عبد الكريم في ساحة الغريري .
و الدليل الآخر القاطع على أن عصابة البعث و القومجين كانت لا تمثل سوى نفسها كعملاء مأجورين هو ذلك السيل البشري المليوني الذي أحاط بوزارة الدفاع , مقر الزعيم الشهيد مطالبين بالسلاح للدفاع عن الثورة والذي رفضه الشهيد الخالد لتجنيب البلاد حربا ً أهلية لا تبقي و لا تذر , الأمر الذي لم تجد له وسيلة لأختراقه دبابات البعث إلا باللجوء للخداع ( الذي هو ديدنهم منذ نشأتهم كأحزاب مأجورة وصنيعة للإمبريالية ) برفع صور الشهيد عليها والإدعاء بأنهم قوة مناصرة للزعيم و ثورته , والذي أنطلى بدوره على الجماهير المندفعة عفويا ً , وهو الأمر الذي ينفي الإدعاءات المريضة من قبل الإنقلابيين , بأن الشيوعيين وحدهم من دافع عن الثورة , نعم إن الشيوعيون كانوا في مقدمة المدافعين عن الثورة و طلائعهم , رغم ما تعرضوا له من تنكيل من قبل أجهزة الثورة الأمنية منذ منتصف العام 1961 و حتى يوم الجمعة المشؤوم , و كان لمقاومتهم المسلحة الباسلة دور يشار له بالبنان ولكن الحقيقة تقول إن تلك الأمواج البشرية التي كانت تحيط بالوزارة لم تكن كلها شيوعية , بل كانت ممثلة لكل فئات الكادحين والشغيلة و بسطاء الناس الذين وجدوا إن مصيرهم مرتبط ببقاء و ديمومة ثورة الرابع عشر من تموز , لذلك أندفعوا في كل الإتجاهات من أجل الدفاع عنها .
أما حقد الإنقلابيين و أسيادهم فقد أنصب على الحزب الشيوعي العراقي , بإعتباره الخطر الأعظم على مصالحهم , لذلك كان دور السفارة الأمريكية في تزويد الإنقلابيين بقوائم أسماء الشيوعيين و عناوينهم له كبير الأثر في الإعتقالات التي شملت هؤلاء , كما إنه كان عامل دفع كبير في صدور البيان الضحل المعروف بالبيان رقم (13) الداعي لإبادة الشيوعيين , و الذي باركه كل الخونة من رجال الدين و المرجعيات القذرة والإقطاعيين و أزلامهم , لتشهد البلاد بعده حمامات دم .
إن إنقلاب شباط الدموي الفاشي و ما تركه من شرخ كبير في جبين الوطن , هو ما أجبر بعد حين العديد من قياداته من أمثال علي صالح السعدي و غيره على الإعتراف بأنهم صنيعة مأجورة للمخابرات الغربية و إنهم بصريح عبارته : " لقد جئنا للسلطة في شباط 1963 بقطار أمريكي " .
ما يسر اليوم و نحن نتذكر ذلك اليوم الأليم , إن قادة الثورة , الشهيد عبد الكريم قاسم , و رفاقه وصفي , ماجد , المهداوي والأوقاتي والآخرين , ظلت وستظل محفورة و موشاة بالذهب في ضمائر الخيرين والشرفاء , و خالدة في صفحات التاريخ , مهما حاول البعض من ضعاف النفوس و أحفاد تلك الصفوة من العملاء و المتضررين من محاولات لتشويه صورة الثورة و تبييض صفحة إنقلابيي شباط الأسود والعهد الملكي المقبور .
و ما يسر أيضا ً إن اسماء (سلام عادل , والحيدري و العبلي ) ورفاقهم الأبطال ستظل ناصعة في جبين التاريخ , شاءت إرادة حثالات العملية السياسية الجارية اليوم , من عبيد أمريكا و أحفاد الخونة الداعمين لردة الثامن من شباط , أم أبت .
وإن أسماء معظم الإنقلابيون و شركائهم بات يطويها النسيان , لأنها ذهبت إلى المكان اللائق بها و بأمثالها , مزابل التاريخ .
المجد والخلود للقادة و الضباط والجنود الشهداء ولقادة الحزب الشيوعي العراقي و رفاقهم الأبطال الذين بذلوا حيواتهم في الدفاع عن ثورة الجيش و الشعب المجيدة .
و الخزي و العار الأبدي لكل من شارك أو خطط ونفذ مؤامرة إغتيال الوطن .
#عامر_الدلوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟