أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سامر أبوالقاسم - الجابري وإشكالية الفصل والوصل بين الدين والسياسة















المزيد.....


الجابري وإشكالية الفصل والوصل بين الدين والسياسة


سامر أبوالقاسم

الحوار المتمدن-العدد: 1316 - 2005 / 9 / 13 - 10:23
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


في معرض الحديث عن ثنائية ( دين / دولة )، يذهب الدكتور محمد عابد الجابري إلى القول في الصفحة الثامنة من العدد 28 من سلسلة مواقف، المعنون بـ"الدين والدولة وتطبيق الشريعة"، بأنه من المفروض » للجواب عن هذا السؤال، جوابا مثمرا، يجب تجنب الاتهامات المجانية من قبيل الرمي بالتعصب وضيق الأفق إلخ، فضررها أكثر من نفعها، فضلا عن كونها تنم عن عدم فهم، أو على الأقل عن عدم تفهم لمحددات تفكير من يصدر عن المرجعية التراثية « ، ويرتب على ذلك قوله بأن سؤال "هل الإسلام دين أم دولة؟" هو سؤال لا ينتمي إلى التراث الإسلامي، بل يستقي مضمونه وتحديداته من مجال آخر، وهو يرمي بذلك إلى "الغرب".
مثل هذه المقولات، لا توحي إلا بكونها نابعة عن عمق في التصور المذهبي للبعد الفكري والعلمي والمنهجي والأخلاقي، الذي ينبغي أن ينعكس بالإيجاب على السلوك الفكري والخطابي واللغوي لمن تصدر عنه مثل هذه "النصائح" و"الخلاصات"، خاصة وأن الجابري يعمد إلى التنصيص على أن دوره يكمن في إعادة تحديد مقومات وخصائص السؤال داخل بنية التفكير العربي، والمساهمة في تصحيح السؤال كمنطلق لتلمس المداخل الصائبة للإجابة عنه، وتقديم الفهم الإيجابي و"الصحيح" لطبيعة الإشكال، في ارتباط بما يشكل همّا فكريا وسياسيا داخل بنية الفكر العربي، دون الانجراف أو الميل في اتجاه استيراد إشكالات غير ذات صلة أو علاقة ببنية هذا الفكر أصلا.
ومن هذه المنطلقات يسمح الجابري لنفسه أن يسم كل تيارات الفكر العربي المعاصر بـ » انغلاق كل منها داخل مرجعيته الخاصة وانشداده المطلق إليها ونفي كل ما عداها، إما بجهله أو تجاهله« ؟ ص:8، وهي- في اعتقادنا- أحكام مسبقة تعبر عن نوع من التعالي على بنية التفكير للمنظومة المعاصرة للفكر العربي، خاصة إذا قمنا بمقارنة أحكام القيمة الواردة في كتابه بأسلوب كتابته، الذي أصبح يعتمد على لغة القطع والوجوب، والحقائق والصحة والصواب، فيما يذهب إليه.

إن ما يمكن استخلاصه من الملاحظة السالفة الذكر، هو أن لغة الجابري تنزاح بكل مقوماتها وخصائصها عن منطق التحليل النسبي للظواهر والأشياء، وكذا عن منطق التحلي بالاعتراف بأحقية الاختلاف في الرأي والطرح، وأن خطابه يبتعد عن أدبيات النقاش، التي جعلها مدخلا أساسيا لمعالجته إشكالية "الدين" و"الدولة "، ليدخل بذلك في معمعان رمي الآخر- بشكل مطلق- بالتعصب والانغلاق وضيق الأفق، وهو ما كان له- بشكل أكيد- الضرر الكبير على مستويات التحليل الموضوعي لطبيعة وشكل التعاطي مع الإشكال القائم في علاقة مطلب فصل الدين عن الدولة بالتاريخ والفكر العربيين.
ولا نعتقد أن لهذا الضرر علاقة بخصوصية المسألة الدينية في الحالة العربية بشكل عام، والمغربية على وجه الخصوص، بقدر ما له علاقة وثيقة بنوعية ومستويات القراءة والفهم والتحليل لدى الجابري لطبيعة وشكل الموضوع المدروس، أي بنوعية المقاربة المنتقاة لتناول المطلب/الظاهرة، سواء في بعدها التاريخي أو الواقعي في بنية الفكر العربي .
فهل يمكن اعتبار ما ذكر مؤشرا دالا على دخول خطاب الجابري ضمن نطاق "الأصالة الدينية" و"الخصوصية الثقافية" المبشر بها من طرف التيار السياسي الديني المحافظ، أو على الأقل ضمن سياق الهدنة السياسية، خاصة بعد احتدام النقاش حول مشروع خطة العمل الوطنية لإدماج المرأة في التنمية؟ أم هو تعبير عن درجة معينة من درجات التماهي بالآخر، من حيث الاعتماد على تكتيك محاصرة المختلف في الرأي أو الطرح، بهدف تشذيب لغته وخطابه والتقليل من أهميته أمام القارئ/المتلقي من جهة، مع عدم التورع في الهجوم والتوظيف لأشنع الأوصاف دون مراعاة للجوانب العلمية والمنهجية والأخلاقية في التعامل مع الآخر؛ من قبيل وسم أسئلته بأسئلة الأطفال، كما ورد في أول كتابه من جهة أخرى؟
إن مثل هذه النعوت لا يمكن تصنيفها إلا في سياق ما ينبني على خلفية الإقصاء، وهو ما يتنافى تمام التنافي مع القيم الفكرية والعلمية. فالفكر والعلم ينبنيان على احترام الآخر وتقدير رأيه أو طرحه، ومراعاة أدب محاورته، وهذا ما يقتضيه حسن التناظر والنقاش، بل إنهما يدعوان إلى تجاوز هفوات الآخرين، إن حصلت، لا أن يتم نعت أسئلة المختلف في الرأي بأسئلة الأطفال.
ولعل الخطأ الجوهري، في تقديرنا، الذي دفع الجابري إلى السقوط في مثل هذه المطبات المجحفة في حق الغير، وغير المنضبطة للقيم الفكرية والمعرفية، يكمن في نظرته للمطالبين بفصل الدين عن مجال الممارسة السياسية، على أساس اعتبار دعوتهم شكل من أشكال استنساخ إشكالات "الغرب العلماني"، وجهلهم بمعطيات التاريخ والواقع العربي والإسلامي. وهو ما يصب في طرح من يعتبر مطلب فصل الدين عن السياسة نوعا من الاجتثاث لمنابع التدين داخل المجتمع.
إن مثل هذه الاستنتاجات تجعلنا نتجاوز حدود الاستفهام عن الضوابط المنهجية والأخلاقية للخطاب، لأنه في نهاية المطاف محصلة ونتاج التوجه الفكري والعلمي والسياسي العام لصاحبه، والمرجعية التي ينهل منها، والمقاربة التي يعتمدها في التعليل والتحليل والاستنتاج. لذلك، ومن منطلق الأمانة العلمية والرصانة الأدبية في التعليق على الآخر ونقده أو انتقاده، آثرنا أن يكون تعليقنا هذا غير مقتصر على هذه الجوانب الشكلية الأساسية فقط في مباشرة إشكالية "الدين والدولة".
فالجابري إذا، ومن هذا المنظور، ومن حيث لا يدري، يسقط في مطب الإحساس المتفرد بـ"الوعي" بمعطيات الفكر والتاريخ العربي، بدعوى المفارقة بين واقع التدين المسيحي الغربي ووضعية التدين الإسلامي في المشرق، وهي المفارقة التي لا زالت في حاجة ماسة إلى غير قليل من التحقق العلمي والمنهجي.
ويتناسى أصحاب هذا الطرح، وضمنهم الجابري طبعا، أنه على الرغم من وجود اختلاف بين المواطنين المغاربة في فهم دينهم الإسلامي ونصوصه، وعلى الرغم من وجود التفاوت على مستوى درجات التشبع بقيمه وأخلاقه، وبالرغم من حالة الانفصام الواقعة للبعض على مستوى الاعتقاد والممارسة، رغم كل ذلك فإن الأساس هو الانتماء إلى نفس الهوية المغربية، التي يشكل فيها الدين الإسلامي مكونا من المكونات الأساسية، دون أن يعني ذلك بالضرورة التطابق في الرؤية والتصور المؤطر لأية قراءة أو فهم أو تحليل لمختلف الظواهر المرتبطة أساسا بمجال وحقل التدين، لا بالدين ذاته.
ومما كان ينبغي لأصحاب هذا الطرح أن يحترموه ويقدروه بشكل كبير في ارتباط بمهامهم الفكرية والعلمية والتربوية، هو حق الجميع في السؤال كمنطلق للتعبير عن الوجود من جهة، وكمدخل لامتلاك ناصية التعرف والمعرفة، بدل النزول بهذا الحق الإنساني والوجودي إلى درك التبخيس وجعله مقترنا بـ"الاتهامات المجانية"، وبالأساس لو كان هذا الحق ممارسا من طرف "الأطفال"، الذين لا يولون للخلفيات والحسابات والمزايدات السياسية أية أهمية، باعتبار كونها قد تشكل إحدى المعيقات الأساسية للتفكير الموضوعي في القضايا والإشكالات المصيرية.
وفيما يخص إشكالية "الدين" و"الدولة" في "المرجعية الإسلامية"، نود أن نثير الانتباه إلى مسألة هامة، وهي المتمثلة في مدى وجوب العمل بما روي وأثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم. هذه القضية في اعتقادنا هي أشد ارتباطا بالخلافات السياسية التي لاحت في الأفق بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، خاصة فيما يتعلق بخلافته، ومن ثمة لعبت هذه الخلافات دورا كبيرا جدا في إضعاف السنة من حيث الاستناد إليها في مجال التشريع، على اعتبار أن هذه الخلافات كانت لها الأثر العميق في الوضع والكذب على الرسول، لا لشيء إلا ليدعم كل صاحب رأي رأيه بخصوص القضية الخلافية المركزية ( الخلافة أو الإمامة ) بنص من النصوص التي تتخذ صبغة القدسية باعتبار مكانتها في التشريع الإسلامي، وهي الخلافات التي أدت إلى تفريق المسلمين في عهد الصحابة إلى شيعة وخوارج ومرجئة وإلى ما تناسل بعد ذلك من فرق ومذاهب. ولعل أول من أحس ولامس عمق الإشكال المرتبط بالخلط بين الأمور الدينية - خاصة على المستوى التشريعي - والأمور السياسية هم الذين اشتغلوا على التمحيص والتدقيق في صحة الأحاديث، ونعني بهم "علماء الحديث".
معنى هذا أن الإشكال قديم في بنية التفكير من منطلق العلوم التي اعتبرت شرعية صرفة، كما أنه يعني متى ما تم الخلط بين الدين والسياسية، إلا واستطاعت هذه الأخيرة أن تنزل بالدين من مكانة التنزيه والتقديس إلى وضعية التلاعب والوضع والكذب، وتمكنت من إلباس كلام أو رأي البشر "لبوسا دينية" للعمل على تطويق الخصوم السياسيين بمعطى "الشرعية الدينية"، وهو ما عكسته كل الفرق الكلامية والمذاهب الفقهية تقريبا، سواء تلك التي كانت موالية لأنظمة الحكم السائدة في مرحلة تاريخية معينة، أو تلك الرافضة والمعارضة لها.
وبما أن الخلافات السياسية التي عرفها الصحابة في عهدهم مباشرة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم هي خلافات حول إشكالية الخلافة أو الإمامة، وبما أن هذا المركز أو المنصب المتنازع حوله يدخل في صلب هيكلة الدولة - دون أن يكون مفهوم الدولة مرتبطا بالسياق الدلالي المتداول في الحاضر - فإن إشكالية علاقة الدين بالسياسة هي إشكالية قديمة في تاريخ "الفكر الإسلامي" قدم إشكالية مرتكب الكبيرة.
لذلك، انبرى "علماء الحديث" تحت شعار "فصل الدين عن السياسة" - وإن لم يكن لهذا الشعار نفس التسمية في بنية "الفكر الإسلامي" آنذاك - للعمل على تشذيب السنة بصفة عامة، والحديث بصفة خاصة، من كل ما علق بها من وضع بمنطلقات سياسية ومذهبية.
يبقى السؤال إذا مطروحا حول الشروط والظروف المتاحة آنذاك، هل كانت تسمح لمختلف الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والدينيين ببلورة طرح يعتمد على موقف الفصل بين الدين والسياسة كما وقع في تاريخ "الفكر المسيحي" أم لا، وحول ما إذا كنا قد تمكنا لحدود الساعة من الاطلاع على كل تفاصيل وجزئيات هذه المراحل التاريخية أم لا، وحول ما إذا كان التوثيق المتوفر لدينا لحد الآن يسعف في الخروج بخلاصات جازمة بخصوص الموضوع، وحول ما إذا كانت الأدوات المنهجية والعلمية المتوفرة لدينا تسعف في الحصول على استنتاجات يقينية أم لا.. هذا ما لا يزال الباب بخصوصه مفتوحا لحدود الساعة لتعميق النظر والبحث والدراسة، ولا يجوز لأي باحث أو دارس - مهما بلغ من الرواية والدراية - أن يسده بخطاب متضمن لصيغ قطعية - كما يفعل الجابري حاليا - نافية لأية احتمالات ممكنة، غير تلك التي وصل إليها البعض، وأصبحت تشكل جزءا من اعتقاده ويقينه.
لذلك لا يسعنا بهذا الخصوص إلا أن نسجل اختلافنا مع أصحاب هذا الطرح، ما دام إشكال العلاقة بين الدين والسياسة (وفي القلب منه الدولة باعتبارها كائنا سياسيا) مطروح منذ عهد الصحابة - إن لم نقل منذ عهد الرسول حين قال: أنتم أدرى بشئون دنياكم - وبنفس درجات الحرارة المطروحة اليوم على الساحة السياسية في الوطن العربي عموما، وفي المغرب على وجه الخصوص، أما قول بعضهم « لم يكن هناك في التاريخ الإسلامي بمجمله "دين" يميز أو يقبل التمييز والفصل عن الدولة »، فإن أي حديث عن الفصل والوصل بموجب المسار التاريخي الذي عرفه هذا الإشكال لا يمكن أن يتم إلا من خلال مقاربة إشكالية التدين التي مناطها الإرادة الإنسانية، وبالتالي فإن الذي يصل أو يفصل هو الإنسان وليس الدين، إذ الدين لا يخرج في نهاية المطاف عن كونه مجموعة من النصوص القابلة للقراءة والتفسير والتأويل من طرف الإنسان ذاته.
وهنا يمكننا الوقوف على بعض الأحكام الإطلاقية التي لا ينتبه إليها من دأب على إطلاقها دون الوعي بمستلزمات الاعتقاد بها، ومنها إشكالية التمييز بين الديانات، والتي في اعتقادنا مردها إلى الجانب الاعتقادي والإيماني الصرف الذي ينطلق منه أي باحث.
فالجابري مثلا لا ينفك عن تجسيد اعتقاده - باعتباره مسلما - حين يميز بين المسيحية والإسلام على مستوى قضية سد باب الاجتهاد، وينطلق من معطى يقيني متعلق بتحريف الإنجيل كرسالة إلهية، لذلك يطلق العنان لهذه الشحنة الاعتقادية حين يعتبر "أن الكنيسة عملت على إغلاق باب الاجتهاد كلية، مع إبقاء الإسلام له مشروعا على مصراعيه" ص:10، والحال أن المسلمين أنفسهم عملوا على سد باب الاجتهاد في مرحلة تاريخية طويلة جدا، وتم خلالها الاكتفاء بالشروح والحواشي لمضامين اجتهادات "السلف الصالح" من جهة، ومن جهة ثانية فإن حركات التجديد التي قامت داخل الديانة المسيحية في القرون الأخيرة دليل على أن باب الاجتهاد تم فتحه من جديد، ودليل على أن مسألة الفتح والإغلاق هي مرتبطة بالإنسان ذاته لا بالدين كنصوص محفوظة، سواء تعلق الأمر بالدين الإسلامي أو المسيحي. فالمسألة إذا بعيدة نوعا ما عن إدخال الجانب الاعتقادي للدارس والباحث كبعد في مجال التحليل والمقارنة.
ومن ثمة لم يكن من اللائق بالنسبة للدارس - خاصة من موقع المكانة الفكرية التي يحتلها الجابري - إجراء مقارنة بين فعل وممارسة رجال الكنيسة في الديانة المسيحية وبين نصوص الدين الإسلامي في مجال سد باب الاجتهاد. فالمقارنة يلزم أن تقوم بين طرفين متساويين من حيث المكانة والأدوار التي يطلعان بها داخل بنيتهما الاعتقادية، فإما أن تكون بين النصوص الدينية للديانتين معا، وهو ما لا نتفق على إجرائه، على اعتبار أن النصوص "حمالة أوجه" فيهما معا، وإما أن تُجرى بين المسلمين والمسيحيين، باعتبار مسؤولية الإنسان في اختيار أفعاله، وللحقيقة والتاريخ كلاهما سد باب الاجتهاد في وقت ورجع إلى فتحه في أوقات أخرى.
بالإضافة إلى هذه المنزلقات التي تترك بصماتها واضحة في كل مستويات التحليل والتركيب والتموقف، يرى الجابري بأن « سؤال "هل الإسلام دين ودولة؟".. يكرس ثنائية مزيفة تطرح جوابا مزيفا » ص:11، على اعتبار أن مثل هذه الأسئلة « لا تستمد إشكاليتها من الواقع، بل هي تعبر عن إشكالية فكر حالم، أو فكر مجرد، ميتافيزيقي، أو تطرح في مجال معين مشكلة تستقي مضمونها وتحديداتها من مجال آخر » ص:6، وبالتالي فإن الأمر يتطلب إعادة النظر في الكيفية التي يجب أن تطرح المسألة بها داخل "المرجعية التراثية" حتى يمكن أن يكون لها جواب مستمد من هذه "المرجعية" نفسها، وفي تحليل العناصر التي يتحدد بها الجواب الذي تقدمه هذه "المرجعية"، وفي الكيفية التي طرح بها المشكل في "المرجعية النهضوية العربية الحديثة والمعاصرة"، وفي علاقة المسألة بالواقع العربي الراهن وآفاقه المستقبلية.
ومن هذه المنطلقات يقترح إعادة صياغة السؤال على الشاكلة التالية:« هل الإسلام أحكام شرعية أم سلطة مكلفة بتنفيذها؟» ص:11، وباعتبار الدولة سلطة فيجب أن تتولى تنفيذ الأحكام، لذلك لا يسعه في نهاية المطاف إلا أن ينظر إلى المطالبين بفصل الدين عن مجال الممارسة السياسية، من حيث اعتبار دعوتهم شكل من أشكال استنساخ إشكالات "الغرب العلماني"، وجهلهم بمعطيات التاريخ والواقع العربي والإسلامي.
وإذا ما وقفنا على هذه الخلاصة بشيء من التمعن والتفحص أمكننا الوصول إلى ضعف ووهن مقومات وخصائص هذا النوع من التحليل الذي تنبني عليه مثل هذه الخلاصة. لذلك آثرنا أن نتوقف قليلا عند هذا الإشكال من خلال زوايا نظر أخرى، إذ يرى الدكتور أحمد الخمليشي في كتابه "خلل يجب الوعي به" بأنه « يسهل القول بأن عدوى الابتعاد عن المرجعية الدينية، لم تأت إلا من استعمار الغرب للعالم الإسلامي الذي مكنه من فرض ما كان لديه من تشريعات ونظم...» ص:200، كما يسهل القول بأن « ما حدث في الغرب لا مبرر له في المجتمع الإسلامي الذي لا وجود فيه لمؤسسة كالكنيسة أو الإكليروس تتوسط في قراءة وتفسير نصوص الوحي، وتحرم ذلك على بقية المؤمنين بالرسالة» ص:200.
لكن بالرجوع إلى الأسباب التي أدت إلى واقع الفصل بين الدين والدولة في المجتمع الأوربي، والتي أدت إلى بروز المطالبة بالفصل بينهما في "المجتمع الإسلامي"، يمكننا أن نقف على الكثير من أوجه التشابه المبررة لوجود هذا المطلب داخل مجتمعنا ومشرعنة له.
فالأسباب الجوهرية التي قام عليها الفصل في "المجتمعات المسيحية" يرجع بالأساس - حسب الخمليشي - إلى:
1. الجمود الفكري لدى رجال الدين أو الإكليروس الذين يمثلون الكنيسة الناطقة باسم الله. ص:196.
2. احتكار "رجال الدين" لفهم النصوص الدينية والإفتاء باسمها. ص:197.
وتمثلت نتيجة ذلك في « أن كل الأفكار الجديدة والعميقة اعتبرت من نتاج العقل ومناهضة للتعاليم الدينية وإن صدرت من أفراد متشبثين بعقيدتهم الدينية» ص:198.
أما الأسباب الأساسية التي قام ويقوم عليها مطلب الفصل في "المجتمعات الإسلامية" حسب سياق "سريان العدوى"- على حد تعبير الخمليشي- فيمكن إجمالها في الآتي:
1. ما خلفه "الأئمة" من نصوص وما دون من أجوبتهم هو الشريعة التي أنزلها الله، وأمر بالحكم بها ونهى عن تجاوزها. ص:203.
2. حفظة هذه النصوص والأجوبة هم الناطقون باسم الدين، المالكون لسلطة التحليل والتحريم، وعلى الباقي من المسلمين التلقي والامتثال. ص:203،204.
3. كل إضافة أو جديد لم يرو عن "الإمام المقتدى به" هو ضلال وفساد: "شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار". ص:204.
4. انغلاق التعليم والمعرفة بشأن تنظيم المجتمع وعلاقة الإنسان بالكون المحيط به. ص:204.
ونتج عن ذلك فراغ في التخصصات العلمية وما يتبعها من المعرفة أفقيا وعموديا، وخصاص كبير إزاء التنظيم الشامل للمجتمع ولمؤسساته. وقد كان ذلك في رأي الخمليشي سببا لنقل ما لدى الآخرين المؤسَّس على فلسفة العلمانية المستقلة عن "المرجعية الدينية".
وبدون التعريج على العديد من المواقف المثبتة في هذا الباب للكثير من الدارسين والباحثين الجادين، يمكن القول إن مسألة الإحساس المتفرد بـ"الوعي" بمعطيات الفكر والتاريخ العربي، التي أوصلت صاحبها إلى درجة الحديث بشكل قطعي عن إشكالية الفصل بين الدين والسياسة من منطلق كونها إشكالية مستوردة من "الغرب" فقط، ودون أن يكون لها ما يسوغها في واقع مجتمعنا سواء الحاضر أو الماضي، لا مبرر واقعي لاستحضارها في مجال البحث العلمي، وهو ما يجعلنا نذهب إلى القول بتبلور هذه الإشكالية في سياق التطور الذي يعرفه المجتمع المغربي، والذي يطرح مشاكل مرتبطة أساسا بقضية التدين وتَمَثل القيم والأحكام والتعاليم الدينية، في ارتباط وثيق بتفاعل هذا المجتمع بالمنظومة المجتمعية الكونية.
وعليه يكون على أصحاب الطرح المشار إليه تغيير نظرتهم للمطالبين بفصل الدين عن مجال الممارسة السياسية، على اعتبار أن دعوة الفصل في المجتمع المغربي على الأقل لا تدخل في سياق استنساخ إشكالات "الغرب العلماني"، بل تنطلق أساسا من المشاكل الناتجة مؤخرا عن تمثلات التيار السياسي الديني للقيم والأحكام والتعاليم الدينية، وانتصابه لاحتكار فهم النصوص الدينية والحديث باسم "مراد الله". وبناء على هذه الحيثيات يصعب على الجابري نفسه أن يعلل موقفه المتسرع والمتمثل في وصف من يدعو إلى الفصل بالجهل بمعطيات التاريخ والواقع العربي والإسلامي. بل إن مواقفه السالفة الذكر لا يمكن تصنيفها سوى في خانة إعاقة بلورة مشروع المجتمع الديمقراطي الحداثي حين تنطلق من اعتبار الدعوة إلى الفصل نوعا من الاجتثاث لمنابع التدين داخل المجتمع.
أفلا يكون الجابري بمثل هذه المواقف قد وسم نفسه إلى جانب كل تيارات "الفكر العربي" المعاصر بـ» انغلاق كل منها داخل مرجعيته الخاصة وانشداده المطلق إليها ونفي كل ما عداها، إما بجهله أو تجاهله«؟
أما بخصوص السؤال الذي اقترحه الجابري بعد القيام بعملية إعادة الصياغة وتحويله إلى سؤال "صحيح"، والمتمثل في: "هل الإسلام أحكام شرعية أم سلطة مكلفة بتنفيذها؟"، فنود أن نذكره بأن هذا السؤال كان مركز ومحور الجواب القائم على الحكم بواسطة نظرية الحق الإلهي، إذ يكفي للحاكم أن يدعي أمر تنفيذ الأحكام الشرعية ليتمكن من القبض على زمام الأمور كلها والسلط جميعها والطاعة بكل أصنافها، علما بأن ممارسات الحكام جلها إن لم نقل كلها كانت بعيدة كل البعد عن هذا الهدف البعيد المنال.
وبهذا الخصوص نود أن نترك للجابري ومن يتمثل معه هذا الطرح سؤالا قد يمكنه من إعادة النظر فيما ذهب إليه من مواقف بخصوص مطلب فصل الدين عن السياسة أولا، وإعادة صياغة السؤال مرة أخرى ثانيا، ويتمثل سؤالنا في التالي: كيف يعمل "الغرب العلماني" اليوم تشريعا وممارسة على أجرأة أحكام الزواج ذات المنبع الديني المسيحي وما يتعلق بها، هل بحكام مسيحيين يجمعون السلط ويركزوها في أيديهم، أم باحترام ذلك على مستوى منظومة القيم وإعمالها في البنيات التشريعية والعملية لبلدانهم؟



#سامر_أبوالقاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحقل التربوي وإكراهات واقع التدين ومتطلبات إرادة التحديث
- القوى الديمقراطية بين واقع التدين ومطلب التغيير الاجتماعي
- الأحزاب السياسية وضرورة توفير مناخ المصالحة بين الفرد والمجت ...
- حين تتحجر الأفكار


المزيد.....




- “التحديث الاخير”.. تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah T ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف بالصواريخ تجمعا للاحتلال ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تعلن قصف صفد المحتلة بالصواريخ
- المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف مستوطنة راموت نفتالي بصلية ...
- بيان المسيرات: ندعو الشعوب الاسلامية للتحرك للجهاد نصرة لغزة ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف بالصواريخ مقر حبوشيت بالجول ...
- 40 ألفًا يؤدُّون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
- المقاومة الاسلامية في لبنان تواصل إشتباكاتها مع جنود الاحتلا ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف تجمعا للاحتلال في مستوطنة ...
- “فرحة أطفالنا مضمونة” ثبت الآن أحدث تردد لقناة الأطفال طيور ...


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سامر أبوالقاسم - الجابري وإشكالية الفصل والوصل بين الدين والسياسة