أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حسام أبو حامد - المثقف العربي : من سياسة تدبير العوام و تدبير المتوحد إلى سياسة الاستقواء بالآخر















المزيد.....

المثقف العربي : من سياسة تدبير العوام و تدبير المتوحد إلى سياسة الاستقواء بالآخر


حسام أبو حامد

الحوار المتمدن-العدد: 1316 - 2005 / 9 / 13 - 10:23
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


لعل من أهم الآليات التي حكمت عملية الإنتاج المعرفي في الثقافة العربية الإسلامية, عبر تاريخها الطويل ابتدءا من عصر التدوين بشكل خاص، هي جدلية السلطة والثقافة. فلم يكن للمثقف ( بالمعنى الواسع لكلمة مثقف) أن ينتج بعيدا عن حضور السياسي سواء في مضمون هذا الإنتاج أو في أشكال التعبير عنه, فقد اتصفت علاقة المثقف بالسلطة السياسية بالريبة والحذر، وكان مهددا في أية لحظة بانقلاب السلطة السياسية عليه، حتى في الحالات التي كان فيها المثقف مقرباً من المتربع على قمة السلطة السياسية, سواء بصفته جليساً أو وزيراً أو طبيبا أو مرب لهذا الحاكم أو ذاك. والشواهد في التاريخ العربي الإسلامي قديمه وحديثه كثيرة ومتعددة. و في الوقت الذي واجه فيه المثقف أنظمة حكم سياسية أوصدت الباب أمام حرية الفكر والتطور الديمقراطي، فإنه أيضاً افتقد للقاعدة الواسعة من القراء الذين يشكلون نوعاً من الرأي العام يكون بمثابة سند له.
إن عملية الحصار الفكري والسياسي التي واجهها المثقف كحالة جماهيرية, قد شكلت حالة من الضغط كانت في أحيان كثيرة أشد وحشية من وحشية رموز السلطة السياسية وأجهزتها. فالسلطة السياسية إن كانت تخضع لذلك النوع من الحسابات الدقيقة في تحديد مصالحها ولنوع من التوازنات التي قد توفر للمثقف في بعض اللحظات هامشاً من الحرية، فإن سلطة الجماهير لا تعنى بحسابات كهذه أ و توازنات من أي نوع، فإن تحركت الجماهير، فإنما تتحرك بتوجيه من عاطفتها وانفعالاتها ومشاعرها، لاسيما إذا تعلقت المسألة بما يشكل بالنسبة لها نوعا من المقدس الذي لا يمكن المساس به. ويزداد الأمر صعوبة حين يقف خلف حالة الغليان الجماهيري التي لا تعرف المهادنة بعض من رجالات الدين ذوي العقلية النصية الأشد تعصبا. من هنا كان على النص المعرفي المنتج في حينه أن يكون نصاً مركباً يحتاج القارئ له والباحث فيه إلى كثير من الدقة والحذر في استنطاق النص ما سكت عنه أو قاله لكن مواربة ودون أن يفصح عنه صراحة. إن واقع علاقة المثقف مع الجمهور قد فرض على المثقف نوعا ما من الفوقية والتعالي على الجماهير والسعي لإقصائهم اتقاء لشرهم، ومن هنا باتت عبارة " المضنون به على غير أهله" إحدى العبارات التي ترمز للتقية الثقافية والحذر الأيديولوجي.
وإذا شئنا الانتقال من العام المجرد إلى الخاص المشخص، لوجدنا لدى الجاحظ توصيفاً دقيقاً لطبيعة العلاقة بين المثقف والجماهير. ففي الوقت الذي يطالب فيه الجاحظ بالحذر من جمهور العوام، يدرك أيضا مدى الحاجة إليهم. يقول : (( قاربوا هذه السفلة وباعدوها, وكونوا معها و فارقوها، واعلموا أن الغلبة لمن كانت معه، وأن المتهور من كانت عليه)). (رسائل الجاحظ ، ج1/84). هكذا يسعى الجاحظ إلى التأسيس لـ " سياسة تدبير العوام" إدراكاً منه لوزنهم ولأهمية السيطرة على الثقافة الشعبية التي كانت ساحة صراع بين تيارات واتجاهات سياسية فكرية متنازعة, وكان لها أيضاً دوراً هاماً في حسم هذا الصراع. لكن الجاحظ، في الوقت نفسه، يعترف بصعوبة سياسة العوام: (( وليس في الأرض عمل أكد لأهله من سياسة العوام)). ( الحيوان, ج2/94).
وإذا كان المثقف مضطراً إلى كسب العوام بحدود قليلة أو كثيرة، فإنما يفعل ذلك اتقاء لشرهم، ولكن على هؤلاء ( العوام) أن يلتزموا حدودا معينة لا يتخطوها، فهو يلجأ إليهم لكن لتحييدهم. وقد أفصحت هذه الازدواجية التي اقتضتها سياسة تدبير العوام عن نفسها في فكر أبي حيان التوحيدي، ففي الوقت الذي حقرهم ناعتاً إياهم بأقسى الألفاظ حاول أن يحافظ على مسافة ما تقربه إليهم: (( الهمج الرعاع الذين إذا قلت لا عقل لهم كنت صادقاً)), و يتابع آخذا في الاعتبار كونهم: (( في هذه الدار عمارة لها، ومصالح لأهلها، ولذلك قال بعض الحكماء: لا تسبوا الغوغاء فإنهم يخرجون الغريق، ويطفئون الحريق، ويؤنسون الطريق)). (الإمتاع والمؤانسة، ج1/ 205).
لكن ما عجز عنه كل من الجاحظ والتوحيدي في تدبير العوام يمارسه الغزالي بمهارة وإتقان. فقد استطاع الغزالي أن يسوس العوام فيجيشهم ضد الفلاسفة أمثال الكندي والفارابي وابن سينا من خلال تكفيره لهؤلاء في ثلاث مسائل واعتبارهم مبتدعة في مسائل أخرى. لكنه أيضاً يحيد هؤلاء حين لا حاجة له بهم، فهؤلاء عليهم أن لا يخوضوا فيما ليسوا بأهل له. ففي كتابه (الاعتقاد), يذهب الغزالي إلى بيان أن الخوض في علم الكلام مهم في الدين من حيث كونه يختص بإقامة البرهان على وجود الخالق وصفاته وصدق رسله، لكنه في الوقت نفسه يؤكد على أن الخوض في هذا العلم، وإن كان مهماً, فهو في حق بعض الخلق ليس يهم بل الأهم هو تركه. وقد حمل أحد كتبه عنواناً ذي دلالة هو ( لجم العوام عن علم الكلام).
وربما كانت الفلسفة, ولا تزال,إحدى تلك الأنساق المعرفية والمنهجية في الفكر العربي الإسلامي الأقل قبولاً بين جمهور العوام مقارنة بغيرها من الأنساق المعرفية والمنهجية كالتصوف وعلم الكلام، الأمر الذي فرض على النص الفلسفي المنتج من قبل هذا الفيلسوف أو ذاك أن لا يقول إلا مواربة وتقية, فتطلب النص قدراً من العناية والحذر المعرفي والمنهجي لفض دلالاته, ذلك أن الفيلسوف لم يكن له أن يمضي فيما كان قد نهي عن الخوض فيه، كما عبر عن ذلك ابن طفيل. كان الفيلسوف هو الحلقة الأضعف المدان تحت الطلب. من هنا أتت محاولات التوفيق بين الفلسفة والدين كأحد الوسائل لاستحواذ المشروعية لما هو غير مشروع بعد، وكطريق للخلاص في مجتمع كانت فيه الفلسفة بالنسبة للعوام كما يخبر أبو القاسم الأندلسي في (طبقات الأمم) : (( مهجورة عند أسلافهم مذمومة بألسنة رؤسائهم وكان كل من قرأها متهماً عندهم بالخروج من الملة, و مظنوناً به الإلحاد في الشريعة، حيث سكن لذلك أكثر من تحرك للحكمة عند ذلك، وخملت نفوسهم وتستروا بما كان عندهم من تلك العلوم)). فكانت محاولة الفارابي في المدينة الفاضلة، المدينة التي تحقق لأعضائها السعادة باعتبارها الخير الأسمى المطلوب لذاته، ولا يتم ذلك إلا بان يسود الفيلسوف تلك المدينة تماما كما يسود القلب أعضاء البدن، وهنا في هذه المدينة، يكون معلوماً أن ما تقوله الشريعة ما هو إلا مثالات لما تقوله الفلسفة.
لكن انهزام المثال أمام ضغط الواقع جعل (حي بن يقظان) يعود إلى جزيرته ليعيش مع (أبسال) على منهج العقل والتأويل العقلي بعد أن رفض(سلامان) وقومه العيش إلا على ظاهر الشرع. هذه الهزيمة دفعت الفيلسوف إلى أن يتخلى عن سياسة تدبير العوام بعد أن فشل فيها ليعول على سياسة تدبير المتوحد. فلم يعد طريق السعادة هو الجماعة وإنما (( تكون لهم سعادة المفرد, وصواب التدبير إنما يكون تدبير المفرد، و سواء أكان المفرد واحداً أو أكثر من واحد, ما لم يجتمع على رأيهم أمة أو مدينة، وهؤلاء الذين يعنيهم المتصوفة بقولهم غرباء)) (تدبير المتوحد, ص46).
هكذا كانت الحال مع ابن باجة، أما مع ابن رشد، يكون أوان القطيعة مع محاولات التوفيق قد حان. فإذا كانت الحكمة حق و الشريعة حق، وكان الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد عليه، مع ذلك فلكل منهما منهجه، وما لدى الفقيه معرفة ظنية أما ما لدى الفيلسوف فمعرفة يقينية، و طريق المعرفة اليقينية هو البرهان والفلاسفة هم وحدهم البرهانيون أصحاب الحق في التأويل.
لكن تمييز الفلاسفة لأنواع البراهين ابتداء من ( الخطابية والشعرية) وانتهاء بـ (البرهانية)، لم يبدأ مع ابن رشد, بل هو استمرار لتلك السياسة التي أراد بها المثقف تحييد العوام عن ساحة صراعه مع السلطة السياسية المستبدة من جهة ومع بعض رجالات الدين المتعصبين الذين مارسوا سياسة التكفير المنهجي المنظم واستطاعوا في أكثر من مناسبة تجييش العوام كسلاح فعال في معركتهم الفكرية والسياسية من جهة أخرى, أو في مواجهة السلطتين معا حين ينعقد ذلك التحالف بين الدين والسياسة. وبالإضافة لهذا البعد الأيديولوجي لعملية التمييز بين أنواع البرهان المتمثل في الوظيفة التي أدتها تلك العملية، فإننا نضيف إلى ذلك بعداً معرفياً استطاع الفلاسفة برأينا القبض عليه، ألا وهو واقع التمايز بين ثقافتين في المجتمع الواحد، الثقافة الشعبية والثقافة النخبوية. تعبر الأولى عن نفسها بمثابتها انتماء بسيط مباشر يكفي صاحبه مجرد الإعلان عنه، أما الثانية نعني بها تلك الثقافة التي تبحث عن الاتساق واليقين من خلال اعتمادها على مناهج وأسس محددة. وقد عبر هذا التمايز بين الثقافتين عن نفسه، في أحد وجوهه، من خلال النظر إلى الثقافة النخبوية من جهة كونها حاملة لقيم ثقافية خارجية، فقد أدين المشتغلين بالفلسفة من حيث أنهم المشتغلون بعلوم الأوائل، وكان في أحد أسباب تحريم الاشتغال بها هو كونها بالذات علوم الأوائل، أي الآخر المخالف في الملة والاعتقاد. ألم يتهم عديد من المثقفين قديماً وحديثا بأنهم يمثلون الآخر المختلف أو المخالف ويستقوون به؟ ألم يتهم ابن خلدون بتأييده لسقوط بغداد على يد التتار بقيادة هولاكو عام 1258 م؟
لعل ما نسب إلى ابن خلدون من موقف كهذا يستحق الوقوف عنده. فإذا كان هناك من تأييد خلدوني لسقوط بغداد، فإن هذا التأييد هو تأييد لسقوط نظام الاستبداد الذي كان لا يزال قائماً خلال حكم الخليفة المستعصم، وهذا واضح من كلام ابن خلدون نفسه, حيث نقرأ في (تاريخ ابن خلدون) ما يلي:
(( وصرف هولاكو وجهه إلى بلاد اصبهان وفارس ثم إلى الخلفاء من المستبدين ببغداد وعراق العرب فاستولى على تلك النواحي واقتحم بغداد على الخليفة المستعصم آخر بني العباس وقتله وأعظم فيها العيث والفساد)). (التشديد مني, ح. أ. ح.)، ولا ننسى أن ابن خلدون نفسه قد عانى من الاستبداد, وله في المقدمة تحليل هام للاستبداد والظلم وأثره في خراب العمران وفساد النفوس: (( ومن كان مرباه بالعسف والقهر [...] سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقاً وفسدت معاني الإنسانية التي له)).( المقدمة, ص540). أما ما فهم على أنه تأييد خلدوني لسقوط بغداد فينبغي أن يفهم من خلال النظر إلى الفكر الخلدوني كبنية واحدة، وأن نضع موقفه ذلك ضمن السياق الذي ينبغي له أن يكون فيه. فعند ابن خلدون تسير الدولة إلى الزوال بعد الجيل الهادم من حكامها، وحتى لو قام ملك متحمس بمحاولة إرجاع شباب الدولة فإنه يفشل، ذلك أن فعل القوانين الحتمية أقوى من فعل الأفراد، فسقوط الدولة عند ابن خلدون هو نتيجة حتمية للجيل الهادم المتفسخ بفعل تراكم عوامل الانحلال فيه، فالهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع. وبالتالي فما نسب إلى ابن خلدون من تأييد لسقوط بغداد هو في الحقيقة تسليم بحتمية سقوطها بعد الحال الذي آلت إليه، فحكم ابن خلدون هنا يندرج ضمن أحكام الوجود ولا يندرج ضمن أحكام القيمة. بمعنى آخر ابن خلدون يصف ويفسر ولا يبحث فيما ينبغي أن يكون.
وإذا كنا قد أعلنا في ما تقدم براءة ابن خلدون مما نسب إليه، فهل بمقدورنا تبرئة مثقفين آخرين؟ ألم يلجأ بعض المثقفين قديماً وحديثاً إلى الاستقواء بالآخر؟ ولكن بالمقابل, ألم تكن خيارات المثقف ضئيلة في مواجهة الواقع الاجتماعي السياسي والثقافي؟ كان على المثقف إما أن يعلن تمرده ويدخل في مواجهة مفتوحة متحملا كل النتائج المترتبة على ذلك بما فيها تصفيته جسدياً، أو يحكم على أفكاره الصدامية، إن ظل حياً، بالتهميش وانعدام الفاعلية الاجتماعية, و إما أن يعلن خيبته ويستسلم لمرارة الواقع، فيقوم هو بإحراق كتبه قبل أن يحرقها الآخرون بعد استصدار قرار بإدانته. فقد أوصى التوحيدي بإحراق كتبه بعد موته ، ويبرر ذلك بقوله: (( إني فقدت ولداً نجيباً وصديقاً حميماً وصاحباً قريباً وتابعاً أديباً ورئيساً منيباً, فشق علي أن أدعها لقوم يتلاعبون بها، ويدنسون عرضي إذا نظروا فيها، ويشتمون بسهوي وغلطي إذا تصفحوها, ويتراءون نقصي وعيبي من أجلها)). (ياقوت الحموي: إرشاد الأريب,ج5/386). ولما لم تجد نفعاً سياسة تدبير العوام ولا حتى سياسة تدبير المتوحد وجد المثقف في سياسة الاستقواء بالآخر الملاذ الوحيد.
لكن, وهو ما ينبغي الانتباه إليه، أن سياسة الاستقواء بالأخر لم تكن حكراً على المثقف وحده، فكثيراً ما لجأت السلطة السياسية نفسها إلى الاستقواء بالآخر لقمع أي بوادر لتمرد داخلي، تماماً كما أيدت الجماهير الآخر أملا في خلاصها. إن المسئول الأول، وإن لم يكن الأخير، عن سياسة الاستقواء بالآخر هو النظم السياسية المستبدة, التي لجأت هي نفسها إلى سياسة الاستقواء بالآخر لقمع شعوبها، والتي حاولت دائماً تقنين الحريات والعملية الثقافية والتثاقفية بما يخدم حساباتها وأيديولوجيتها، تماما كما قننت لقمة العيش لمواطنيها، والتي أرادت لمجتمعاتها أن تتأسس على التوحيد بالقوة بدل أن تقيمها على رؤى وقيم مشتركة، فحكمت بذلك على النمو الثقافي بالتشوه، فبات عاجزاً عن حل التناقض بين الفرد والجماعة دون التضحية بأحد الطرفين لصالح الآخر. أما مثقفنا العربي فيتحمل مسؤولية التذبذب في المواقف بين باب الله وباب السلطان محاولاً أن يجمع بين " مكاسب السلطة وشرف المعارضة", كما يتحمل مسؤولية تأجيل النضال من أجل الديمقراطية لصالح تورطه في مشاريع أيديولوجية كبرى بدت تطالب بالعدالة الاجتماعية لكنها لم تفرز إلا مزيداً من الاستبداد والجور، وفي الوقت الذي كان فيه شعارها المساواة ووحدة الصف لم تنتج إلا مزيداً من التباغض الاجتماعي، بل حملت معها كل أشكال إلغاء الآخر المشارك في الوطن. فتاريخياً لم يكن نضال المثقف العربي يهدف إلى ديمقراطية من نوع ما بقدر ما كان نضالاَ في سبيل الاعتراف له بدوره في المجتمع. وانطلاقا من حالة نخبوية قدم المثقف نفسه على أنه الذي يفكر عن الآخرين. فمدينة الفارابي الفاضلة،على سبيل المثال، لم تكن تلك المدينة التي تسودها الديمقراطية، فمدينة كهذه، حسب الفارابي، هي مدينة الشر إذ لا يمكن للرعاع كما يقول أن يشاركوا في الحكم. فيكفي للمدينة كي تكون فاضلة أن يرأسها الفيلسوف ولا حاجة للديمقراطية. بل كثيراً ما كان مثقفنا نفسه استبدادياً ما أن تتاح له السلطات أو آليات القوة اللازمة لذلك، فالمعتزلة الذين رفعوا شعار الحرية وقالوا بقدرة الإنسان على الاختيار محاولين عقلنة الدين والمجتمع لجأوا هم أنفسهم إلى الاستبداد ما أن كفوا عن أن يكونوا هم المعارضة وأصبحوا في موقع السلطة. هكذا فقد المثقف مصداقيته أمام الجماهير التي سعت هي بدورها إلى محاولة المحافظة على مصالحها وتقاعست عن المواجهة قبل أن تخسر ما تبقى لها من سبل العيش الباقية، وإن علمت أنها تحافظ عليها إلى حين. الأمر الذي سهل على أجهزة السلطة عزل الرأي العام على نحو شبه كامل عن التطورات السياسية والإقليمية والعالمية, فغدا مفهوم الرأي العام العربي شبه خال من المضمون يكاد لا يوجد منه سوى الاسم.
التاريخ لا يعيد نفسه، هذا صحيح، فالحادثة التاريخية حادثة مرتبطة بزمان ومكان معينين، لكنه صحيح أيضاً أن التاريخ يعيد نفسه من حيث المعنى، معنى الحادثة التاريخية هو الذي يتكرر. لذلك لا يمكن النظر إلى ابن العلقمي كشخص، وإنما ينبغي النظر إليه كظاهرة عامة قابلة للتكرار بغض النظر عن محدداتها التاريخية أو الإقليمية أو الطائفية ، فابن العلقمي هذا قد يكون هو السلطة أو المثقف أو الجمهور. قد يكون هنا أو هناك كتعبير عن سياسة الاستقواء بالآخر كملاذ أخير فرضه واقع الاستبداد والقهر المسلط على رؤوس الشعوب، وحالة الإفلاس السياسي والاجتماعي للأنظمة الحاكمة، التي سيدت الفئات الفاسدة عل حساب الفئات الأخرى التي وجدت نفسها مهمشة وبعيدة عن المشاركة السياسية والاقتصادية والفكرية. على ذلك فإن العراق – ابن العلقمي يشكل حالة نموذجية لتلك البلدان التي تحكمها أنظمة تتحمل مسؤولية كبرى في إيصال الأوضاع إلى أفق مسدود، وفي جعل مجتمعاتها من دون دفاعات أمام الآخر المستعمر. ولعل خير ما نختم به هو قول لعميد الأدب العربي (مرآة الإسلام, ص303-304)، وفي قوله هذا عميق دلالة. يقول طه حسين: (( إذا بلغت الشعوب هذا الحد من الضعف، ضعفت حكوماتها فلم تجد من القوة إلا ما يمكنها من ظلم الرعية و استذلالها واستغلالها. ولم تستطع أن ترد عن نفسها ولا عن شعوبها طمع الطامعين فيها [...] بل ربما وجدت الشعوب شيئاً من السرور والرضى بسقوط حكوماتها وانهزامها أمام العدو المغير [...] فهي طامعة في شيء من العدل قليل أو كثير عند المغيرين عليها والمحتلين لبلادها. نسيت كرامتها وجهلت هذه الكرامة وغفلت عن حقوقها وعن واجباتها أيضاً، وطمعت في شيء واحد هو أن تخلص من هذا الشر الجاثم عليها)).



#حسام_أبو_حامد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حركة -حماس- واستحقاقات مرحلة ما بعد الانسحاب الإسرائيلي من غ ...


المزيد.....




- رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن ...
- وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني ...
- الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
- وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله- ...
- كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ ...
- فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
- نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
- طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
- أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حسام أبو حامد - المثقف العربي : من سياسة تدبير العوام و تدبير المتوحد إلى سياسة الاستقواء بالآخر