|
اليسار وجذُور التطرّف (2)
عزالدّين بوغانمي
الحوار المتمدن-العدد: 4710 - 2015 / 2 / 4 - 09:19
المحور:
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية
بعض الذين تربّوا في مداجن لتصنيع المخصيين التّابعين المُصفّقين. يقولون لي: "ألست أوّل المدافعين عن فلان؟" طبعًا دافعت. ولكن كان ذلك في إطار دفاعي عن مشروع وطني لبلدي. وليس عن فلان أو علّان. نعم دافعت عنه حين كان يعمل لإسقاط حركة النّهضة. والآن، حين أصبح يعمل موضوعيًّا على عودة النّهضة للحكم. ماذا أفعل؟ أُصفّقُ له؟ أنا صاحب رأي، منحاز لبلدي وشعبي ولستُ موظّفا. ومن أجل ذلك ليس لي ولاء لأي أحد، مهما قدّم نفسه على أنّه المقاوم الوحيد والبطل الأممي الوحيد. بل أنا مُطالب بتحطيم التماثيل المُزيّفة خاصّة إذا كان حزبه ليس فيه جرأة، ليكف عن تعظيم مَن ليس بعظيم، أو تكبير مَن ليس بكبير.
الجميع يعرف أنّي لا أتحدّث عن الهادي الجويني الآن، ولا عن التّيجاني عبيد. بل المقصود هو رأس الجبهة غير المنتخب.
مجلس الأمناء، بعد أن خرج من سباق الرّئاسة، أخرج معه الجبهة من دائرة الفعل، حيث تمّ تبديد تصميمها على كنس قتلة قادتها، وتمّ التّراجع عن التّوجّه المدني الحداثي الذي بُني في باردو بدم شكري والبراهمي. دعوناهم حينها إلى تبنّي موقفًا شُجاعًا، يُمّكّن الجبهة لاحقًا من استحقاق الحلّ والرّبط في اختيار الحكومة. ويمكّنُ من غلق الباب أمام عودة النهضة للسّلطة. كتبنا هذا، وقلناه ومارسناه. ولكن مجلس الأمناء بحكم رفضه لآراء تأتي من خارجه، ظلّ أعضاؤه يُزايدون على بعضهم البعض ويتبارون، أيّهم أقدر على ترديد أناشيد الستّينات الحربيّة. ونسوا أنه في السياسة لا وجود للفراغ. فإن أنت تركت مكانك سيملأه الآخرون وجوبا. وأن "لاشيء للجبهة" ، سيعني "كل شيء لحركة النهضة". وأن ما هو في متناول اليد اليوم ، لن تقدر على استرداده غدا، بحكم علاقات القوة المتحركة باستمرار. وأن السياسة لا تحتمل كراس الشروط. إذ لا يمكن مثلا أن ترفض المشاركة في الحكومة، وفي نفس الوقت تفرض عدم تشريك هذا الطرف أو ذاك. ولا يمكن أن تحكم على نفسك بالخروج من دارة أهلية المشاركة في القرار. ثم تكتفي بالشتم بذهنية "أشباعناهم شتما و فازوا بالإبل" ! هكذا، وبموجب سياسة النعامة، فُتِح الباب على مصراعيه أمام النهضة لتعود للسلطة. ومعنى ذلك أن الرفيق الذي دافعنا عنه أمس، حين كان في قلب المشروع الوطني متقدما معركة الحرية. لا يمكننا مواصلة الدفاع عنه، حين يخرج عن الطريق، وينخرط في مغامرات سياسوية وحسابات ضيقة مهلكة.
الجماعة ليسوا مقتنعين ببعضهم البعض. ولا هم مقتنعين بأن حركة النهضة لها يد في اغتيال شكري والبراهمي. وهذا ما جعلهم ينجرون إلى الموقف العدمي الذي يسوي بين النهضة والنداء. وكأنهم يقولون لنا. أحداث 9 أفريل، أحداث الرش في سليانة، الهجوم على إتحاد الشغل، ميليشيات العنف، مخازن السلاح في المساجد، الإغتيالات، الإنهيار الاقتصادي، الأزمة الأمنية... كل هذه الأمور ليست مشكلة كبيرة بالنسبة لمجلس الأمناء.. يجب أن ننتظر بعد مئة سنة حتى نحصل على وثائق دقيقة يقتنع بها السيد حمة الهمامي مثلا، لنبدأ بمعاينة الموضوع. إرسال "مجاهدين" إلى المحرقة السورية دفاعا عن الدواعش وعن المشروع الأطلسي. ليست مشكلة، ننتظر خمسين عاما حتى تكتمل التحقيقات العالمية والإحصائيات المتخصصة، لنفهم بالضبط ما هو الموضوع بالأرقام. تحالف خليجي صهيوني أمريكي نهضاوي لتعفين الوضع في تونس وإفساد فكرة الثورة، والتآمر لكسر ظهر الجزائر. ليست مشكلة، ننتظر مئة و خمسين سنة حتى تفتح وكالة المخابرات الأمريكية ملفاتها، ثم ننظر بالقضية .... أهم شيء هو الدقة العلمية، حتى لا نظلم أصدقاءنا في حلف 18 أكتوبر، من أجل شكري و محمد اللذان وقفا ضده..
أغلب أعضاء مجلس الأمناء هم عبارة عن مجموعة من المغرورين. يعتقدُ كلّ واحدٍ منهم أنّه عبقريّة زمانه. ولذلك كان آداء الجبهة سيّئًا جدًّا. والنّتيجة كارثيّة. ولا يفهم الرّفاق سبب حقد هذا المجلس العجيب على مثقّفي الجبهة وإبعادهم وتهميشهم. والحقيقة أّنّ سبب وجود الجبهة اليوم في ركنٍ ضيّق هو غياب الهياكل والمؤسّسات، وغياب المِخْبِر السّياسي الذي يُزوّد القيادة بالخطط الممكنة تجنّبًا للارتجال والمزاجيّة، وسجن القرار داخل الأقفاص الإيديولوجيّة والأوهام والأمزجة المظطربة. الجبهة تحتاج قيادة وطنيّة منسجمة فيما بينها، قادرة على بناء تسيقيّات جهويّة ومحلّية ومؤسّسات مركزيّة، بناءا ديقراطيًّا على أساس برنامج قواسم مُشتركة يصوغه رفاق موهوبون أذكياء يعرفون إمكانيات البلاد بِدقّة. ويعرفون مسالك تحقيق مقتضيات المرحلة من خلق الثروة، والتّشغيل، وتحقيق الأمن، وحماية الحرّيات .. وينظرون إلى كلّ هذه القضايا في ضوء الأوضاع الإقليميّة والدّوليّة، ورصد الفُرص والمصاعب، وأطماع الأطراف الدّوّلية، ومخاوف الأجوار. والجبهة تحتاج عمليّة إصلاح ديمقراطي عميقة تقطع مع البنية القمعيّة الموروثة للأحزاب اليساريّة والقوميّة، ممّا يُمكّنُ من تحرير التفكير النقديّ والنقاش النظريّ المبدع. كما هو معلوم يقتصر التثقيفُ الحزبيّ -إن وُجِد- في أحزاب الجبهة، في أحسن الحالات على ترديد توجّهات الأمين العامّ، بصفتها قراراتٍ ينبغي التعاملُ معها كما يتعامل أتباعُ التيّارات الدينية مع تفسيرات مشائخهم للنصوص الدينيّة. والأصل أن ينجم الخطابُ السياسيّ عن أرضيّات معرفيّة، نابعة من دراسات مُعمّقة وإلّا أصبحت الممارسةُ السياسيّة عشوائيّة، مزاجيّة، غيرَ منتجِة على المدى الطويل. ولنا شاهد دامغ على ذلك في مسار ثورتنا، فضعف القوى الثّوريّة وغيابها عن مواقع الحكم ناجم عن ضعف التصرّف وإدارة المعركة السّياسيّة. ففي غياب أرضيّات معرفيّة للتحرّك الجماهيريّ، وفي غياب تنظيمٍ متاسك قادرٍ على فهم مقتضيات كلّ مرحلة، وتنظيف الإحتجاج من اللاجدوى، وتوظيفه لخدمة الثورة، وتزويده بالهدف السياسي، وصلت الجبهة الشعبية أخيرا إلى طريق مسدود. وضاعت أرصدتها الشعبية ومكانتها السياسية. وعادت إلى مستوى 15/217 = 6,9 في البرلمان كما كانت مكوناتها غداة 23 أكتوبر 2011 إذا وزعنا هذه النسبة على 11 مكونا من مكونات الجبهة !
أحد أسباب هذه النتيجة السياسية، هو وجود قيادة اعتباطية مغلقة تحتقر مناضليها و أنصارها وكفاءاتها. قيادة لا تسمع ما يقال لها. وتحتقر "التنظير"، وهذا ما جعل تحركها عشوائيًّا وقابلاً للتوظيف من قِبل الخصوم.
في هذا السياق، كوادر الجبهة ومثقفوها محمول عليهم وضع أصابعهم على الجراح، والكف عن المهادنة وتزيين الضعف. لأن ما يوجد على الأرض هو آداء سياسي ضعيف جدا ومضحك أحيانا، ولا يتناسب مع حجم التعاطف الشعبي الذي تمتعت به الجبهة في أيامها الأولى. ما يوجد على الأرض، هو خواء معرفيّ وانحلال تنظيمي وصراعات داخلية ومحاصصات ومنهجية انعزالية، لا تنتج هيئة سياسية محترمة تحمل خطابًا سياسيًّا منسجمًا، يوحي بكون هنالك فعلا رافعة سياسية لمشروع وطني يختزل تطلعات الكتلة الشعبية التي انتفضت وأطاحت برأس النظام. ما يوجد على الأرض، هي شبه تنظيماتٌ "يسراويّة" في مجملها، قياداتها بلا ثقافة ولا تمثل للقيم الوطنية ولا عمق سياسي، إلا ما رحم ربك. وأفراد/ قادة يشبهون في تصرفاتهم وتعاطيهم ملوك الأنظمة العربيّة. وفي علاقاتهم ببعضهم، مداهنون يجيدون لعب السبع ورقات والمناورة والتآمر على بعضهم البعض. أمناء عامون مدى الحياة، قامعون للتيّارات النقديّة وللتجديد. يتجنّبون الفكر والمعرفة والفلسفة والقراءة. يستعينون ببعض الخدم لتمجيد نقائصهم وشرعنتها و تحويلها إلى عبقرية و نجاح. وبالتالي فالفشل هو النتيجة المنطقية لـ "مشروع" يقوم على أسس كهذه. ويعتمد القائمون عليه أساليب عمل كهذه. هذ التقاء لمجموعة من الانفصامات والعقد. ولذلك فالمشروع الوطني بمعناه الكفاحي، كما حلمت به أجيال من المناضلين لم يولدْ بعد. وهذا مربطُ الأمل.
#عزالدّين_بوغانمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بعد أربع سنوات، ماذا تحقق من مطالب الثورة ؟
-
-داعش- و - إسرائيل- !
-
في ذكرى الثورة الفرنسية. أتراهم يحتفلون بتقدّمهم فقط؟ أم بكو
...
-
تكفير العلمانيّة.
-
الأرشيف، ذاكرة أُمّة في يد نصف رئيس مجنون
-
اليسار وجذُور التطرّف
-
في الذّكرى الرّابعة للثّورة: لماذا أساند الباجي قائد السّبسي
...
المزيد.....
-
النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 583
-
تشيليك: إسرائيل كانت تستثمر في حزب العمال الكردستاني وتعوّل
...
-
في الذكرى الرابعة عشرة لاندلاع الثورة التونسية: ما أشبه اليو
...
-
التصريح الصحفي للجبهة المغربية ضد قانوني الإضراب والتقاعد خل
...
-
السلطات المحلية بأكادير تواصل تضييقها وحصارها على النهج الدي
...
-
الصين.. تنفيذ حكم الإعدام بحق مسؤول رفيع سابق في الحزب الشيو
...
-
بابا نويل الفقراء: مبادرة إنسانية في ضواحي بوينس آيرس
-
محاولة لفرض التطبيع.. الأحزاب الشيوعية العربية تدين العدوان
...
-
المحرر السياسي لطريق الشعب: توجهات مثيرة للقلق
-
القتل الجماعي من أجل -حماية البيئة-: ما هي الفاشية البيئية؟
...
المزيد.....
-
مَشْرُوع تَلْفَزِة يَسَارِيَة مُشْتَرَكَة
/ عبد الرحمان النوضة
-
الحوكمة بين الفساد والاصلاح الاداري في الشركات الدولية رؤية
...
/ وليد محمد عبدالحليم محمد عاشور
-
عندما لا تعمل السلطات على محاصرة الفساد الانتخابي تساهم في إ
...
/ محمد الحنفي
-
الماركسية والتحالفات - قراءة تاريخية
/ مصطفى الدروبي
-
جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ودور الحزب الشيوعي اللبناني
...
/ محمد الخويلدي
-
اليسار الجديد في تونس ومسألة الدولة بعد 1956
/ خميس بن محمد عرفاوي
-
من تجارب العمل الشيوعي في العراق 1963..........
/ كريم الزكي
-
مناقشة رفاقية للإعلان المشترك: -المقاومة العربية الشاملة-
/ حسان خالد شاتيلا
-
التحالفات الطائفية ومخاطرها على الوحدة الوطنية
/ فلاح علي
-
الانعطافة المفاجئة من “تحالف القوى الديمقراطية المدنية” الى
...
/ حسان عاكف
المزيد.....
|