|
المتطرفون في الفيس بوك
سمير الحمادي
الحوار المتمدن-العدد: 4705 - 2015 / 1 / 30 - 22:40
المحور:
الصحافة والاعلام
من الظواهر المثيرة والمقلقة التي تنتشر ويتعاظم أثرها وخطرها في شبكات التواصل الاجتماعي، وتحديداً الفيس بوك، ظاهرة التطرف الفكري والتعصب الأعمى للرأي التي تصدمنا كل يوم في تفاعلنا مع كثير من الأصدقاء الافتراضيين الذين لا نعرف في الغالب معظمهم معرفة شخصية. هذه الظاهرة نادراً ما ينجو منها أحد من الفيسبوكيين المداومين، خاصة إذا كان ناشطاً فكرياً اختار أن يمارس قليلاً من حريته في العالم الافتراضي بعد أن تعذر عليه ــ لأسباب معلومة ــ ممارستها في العالم الواقعي..
الواحد من هؤلاء المتطرفين / المتعصبين، وعلى نحوٍ مثير للتعجب.. والشفقة، يتوقع وينتظر ويطلب منك، بل يفرض عليك فرضاً، أن تفكر كما يفكر هو، وتتكلم كما يتكلم هو، وتكتب ما يريده هو، وتعبر عن رأيك في الاتجاه الذي يحدده هو، وبالطريقة التي تناسبه وتناسب أفكاره ومعتقداته، سواء كانت هذه الأفكار والمعتقدات دينية أو سياسية أو فكرية أو حتى مجرد وجهات نظر حول مسائل بسيطة وثانوية يمكن الاتفاق أو الاختلاف عليها دون مشاكل، وإلا فإنه لن يتردد في التكشير عن أنيابه بلا مواربة وإشهار عدائه في وجهك، وإعلان الحرب عليك بحسب الاستطاعة، وذلك من خلال طريقتين:
الأولى: أن ينقض عليك وأنت آمن مطمئن في صفحتك، فيغلظ لك في القول، ويمارس عليك ما يسمى في الأدبيات الفقهية التراثية "التثريب على المخالف"، فيوجه لك كلاماً لاذعاً وقاسياً، ويستنكر بشدة وعنف ما أنت فيه وعليه من ضلال مبين، ويعيب عليك بألفاظ خارجة عن الأدب وقد تكون جارحة ومسيئة ما تُدرجه في صفحتك من تفاهات ونفايات وهرطقات تسيء إلى هذا المقدس أو ذاك، والمقدس هنا هو بالضبط قناعاته التي يؤمن بها، والتي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ولا يمكنك حتى مناقشته في بعض من تفاصيلها وشبهاتها، إذ عليك أن تقول له آمين في كل ما يقوله على طول الخط وعرضه، وأن تحرص على تأثيث صفحتك بالأثاث الذي يقترحه هو، ويعجبه هو، في كل وقت، وإذا تمردت مرة، أو أبديت اعتراضاً هنا أو ساورك شك هناك، فأنت في نظره بدأت تحيد عن الصراط المستقيم، وتزيغ عن طريق الحق وجادة الصواب، ولك واجب النصح والوعظ مرة أخرى، وإذا لم تمتثل، ولم تثب إلى رشدك في الحين والتو واللحظة، فهنا تكون قد اخترت أن تصبح خارج مداره، إذ سرعان ما يتم إقصاؤك نهائياً من الوجود بحذف اسمك من قائمة أصدقائه / أصحابه المبشرين بالجنة.. ولا اعتراض على أمر الله.. وأمره.
الطريقة الثانية هي أن يتولى عنك صاحبنا مرة واحدة دون مقدمات، أي أن يبادر إلى حذفك من قائمة أصدقائه بلا إشعار بالطرد، مع العلم أنه في الغالب هو من طلب إضافتك إلى صفحته بعد أن توسم فيك الخير والتقوى والصلاح، ثم اكتشف بعد أن قرأ لك موضوعاً أو تعليقاً عابراً أنك خُلُوٌّ من هذه الفضائل، ولست سوى اسماً جديداً في قائمة الضالين المشبوهين، وبالتالي لا مكان لك في صفحته الشريفة العفيفة التي لا يستحق الانتساب إليها إلا المطهرون من أولي الإيمان، الذين لا يعيرون السمع والبصر والفؤاد للشيطان، ولا يدنسون صفحاتهم بنشر الضلالات الدينية أو السياسية أو الفكرية...الخ، وهذه الطريقة في نظري هي الأفضل، لأنها توفر عليك أياماً وربما شهوراً طويلة من المماحكات والاستفزازات، والقيل والقال، وافعل هذا ولا تفعل ذاك، ولماذا كتبت هذا ولم تكتب ذلك، وكيف سمحت لنفسك.. وكيف صَدَّقْتَ.. ولماذا لا تُصدّق.. ومتى.. وأين.. ويا أيها الذين.. ولعنة الله على الذين.. وقال الشيخ فلان.. وأفتى الشيخ علان.. واتق الله هنا.. ولا تتبع الهوى هناك.. ولا تكن من الذين قال فيهم الله.. وكن من الذين قال فيهم الرسول.. طبعاً كل هذه النصائح والمواعظ والاتهامات مبنية على زاوية رؤية وفهم وإدراك هذا الشخص / الفرد / العبد / الضعيف للأمور: أي اجتهاده الشخصي الذي يخصه وحده، ولا يخص أحداً غيره، ولا يمكنك هنا أن تفترض مثلاً أنه مخطئ أو أنه هو الضال الشارد الهائم على عقله الذي يحتاج إلى من يأخذ بيده ويهديه إلى سواء السبيل، أبداً، إذا صارحته بهذا الافتراض أو حتى فكرتَ في التفكير فيه فانتظر أن تسمع منه ما لا أذن سمعت من صنوف الكلام البذيء الذي لا يقيم اعتباراً لأخلاق أو قيم، حتى تلك التي يدعي هو نفسه أنه يمثلها، وأنه مبعوث من السماء خصيصاً لنشرها بين الناس.. في الفيس بوك .
أعرف أن التطرف موجود في كل مكان، وأن الانترنت هو مرآة تعكس وجوهنا وملامحنا وأحوالنا وأمراضنا وعقدنا النفسية التي نحملها معنا من العالم الواقعي إلى العالم الافتراضي كما هي، لكني كنت أتمنى أن تكون هذه التكنولوجيا المتطورة جداً والخطيرة.. الخطيرة جداً دافعاً لنا للتحرر والانعتاق من أسر الماضي والحاضر بكل رواسبه العفنة العالقة فينا، التي وُلدنا وعشنا ونحن ننوء بثقلها يوماً بعد يوم. كنت أتمنى أن يكون الفيس بوك بوابتنا للانفلات من إسار هذا الانحطاط العربي الذي يلُفُّنا من كل جانب، في كل لحظة، لكن يبدو أننا حقاً لا نتعلم الحياة إلا لكي نتخلف أكثر، ونتراجع أكثر، وننهزم أكثر، وننهار أكثر، ونظل كالمخمورين البائسين نقعي على أرصفة الجهل والخرافة والبؤس أكثر.. وأكثر.
إنها الحقيقة.. مع كامل الحزن والأسف.
#سمير_الحمادي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفراغ الأيديولوجي: أزمة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وا
...
-
في مفهوم الشرعية السياسية
-
خلفاء خارج الصندوق
-
موقف الإسلاميين المغاربة من تنظيم -الدولة الإسلامية-
-
-وعاظ السلاطين- لعلي الوردي: قراءة وإضاءات
-
قراءة في كتاب -حديث الشيطان: مقابلات مع سبعة طغاة- لريكاردو
...
-
جماعة بوكو حرام
-
مقدمة في تاريخ الحركة الجهادية في سورية
-
قراءة في مصطلح -السلفية الجهادية-
-
في بؤس الإعلام المصري
-
عن الكواكبي.. ومعضلة الثورات العربية
-
عبد الله القصيمي: الأصولي المنشق
-
الإسلامولوجيا وسؤال الكفاية: نموذج مغربي
-
برقية.. إلى ثوار -الربيع العربي-
-
السياسة تفرّق شمل السلفيين في المغرب
-
في أزمة الربيع العربي
-
الوهابية والسلفية الجهادية: أسئلة العلاقة
المزيد.....
-
-حالة تدمير شامل-.. مشتبه به -يحوّل مركبته إلى سلاح- في محاو
...
-
الداخلية الإماراتية: القبض على الجناة في حادثة مقتل المواطن
...
-
مسؤول إسرائيلي لـCNN: نتنياهو يعقد مشاورات بشأن وقف إطلاق ال
...
-
مشاهد توثق قصف -حزب الله- الضخم لإسرائيل.. هجوم صاروخي غير م
...
-
مصر.. الإعلان عن حصيلة كبرى للمخالفات المرورية في يوم واحد
-
هنغاريا.. مسيرة ضد تصعيد النزاع بأوكرانيا
-
مصر والكويت يطالبان بالوقف الفوري للنار في غزة ولبنان
-
بوشكوف يستنكر تصريحات وزير خارجية فرنسا بشأن دعم باريس المطل
...
-
-التايمز-: الفساد المستشري في أوكرانيا يحول دون بناء تحصينات
...
-
القوات الروسية تلقي القبض على مرتزق بريطاني في كورسك (فيديو)
...
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|