|
الإنسان صناعة الإنسان
صليبا جبرا طويل
الحوار المتمدن-العدد: 4705 - 2015 / 1 / 30 - 16:30
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يعطى الإنسان اسما قبل ولادته وتهيئ إمامه طقوس عبادته ويمنح جنسية دون رغبته في الحياة يبدأ رحلته لقدر عليه أن يصارع في كتابته لينسج معرفة مستقلة لذاته يحقق فيها تطلعاته وأحلامه يسعى ويا ليته يستطيع في عالم عربي صريع أن يجد حريته واستقلاليته وراحته
يصبح الإنسان مغتربا عن مجتمعه لحظة يبدءا بالقراءة، والبحث، والتساؤل، والاستفسار عما تعلم من قيم إنسانية، ولحظة يدرك أن ما تعلمه يعجز عن تقديم شيء للإنسانية، يبدءا بإعمال العقل والمنطق، لينضج وعيه ويصل لاستنتاجات مقنعة مقبولة ليتحرر من قيوده. في عالمنا العربي المواطن بأمس الحاجة إلى وقفت مع الذات لمعالجة ألأفكار السقيمة، والجاهزة مسبقا .
يلد الإنسان وعقله صفحة بيضاء، الأبوين، رجال الدين، المدرسون يكونون الحلقات الرئيسة الأولى والاهم في حياته ، هم المسئولين الأوائل عن قولبة وتشكيل عقله، ومفاهيمه، ومعتقده،. يصنعونه ويعطونه هوية انتماء ديني، ووطني، وقبلي على مستوى وقياس معرفتهم، وفهمهم السياسي، والديني ومركزهم الحضاري. بعدها تستمر رحلته في الحياة بشكل شبه مستقل معتمدا على برمجه سابقة، حددتها له بيئة. لذلك كل المجتمعات البشرية تؤكد أن " الإنسان ابن بيئته".
عوامل كثيرة مجتمعة بأصالتها، وعراقتها وقدمها وليدة تراكم كمي ونوعي تاريخي تعمل وتتداخل لتكوين وبناء وبلورة شخصيته. فالإنسان صناعة ألإنسان وليس صناعة السماء كما يروج، خاصة في مجتمعات غير متطورة، يعميها الفقر والجهل والمرض، حيث يبقى الإنسان فيها منجذبا وبقوة لعاداتها وتقاليدها وتعاليمها الجامدة. المجتمع مصنع لإنتاج الفرد المبدع، والمخترع، والمتطرف والمتشدد، والعنصري، والمنفتح، والمجرم، والفنان، والإرهابي الخ...
تختصر البشرية بعائلة واحدة رغم كل الاختلافات التي تمييز المجتمعات بعضها عن بعض.... فرضا زوجان لا ينتميان لمذهب ما، وليس لهما اهتمامات أيديولوجية وعقائدية، توفيا على اثر حادثة سير مأساوية. خلفا ورائهم خمس توائم بعمر ثماني شهور... أودع الأطفال في إحدى المؤسسات الخيرية لتقوم برعايتهم...بعد أربعة أشهر تقدمت خمس عائلات لتبنيهم.. أولهم ألماني ملحد، وثانيهم يهودي برازيلي، وثالثهم هندي بوذي، ورابعهم مسيحي استرالي، وخامسهم مسلم صومالي حدد بطلبه بأن يكفل أحدهم ويرعاه من منطلق أن " لا بنوة في الإسلام". سارت الأقدار بالخمسة إلى عالم وبيئة جديدتين.
تفرق الأخوة مشتيتين في قارات الأرض، استئصالوا من بيئتهم، ترعرعوا ونموا وتعلموا في بيئة فرضت عليهم. النتيجة الطبيعية أن كل واحد منهم أصبح ابن البيئة التي عاش فيها، يحمل فكرها وعقيدتها ، تربى وتشرب وتشبع من تعاليم بيئته، نشاء على معارفها كتبها عاداتها تقاليدها الخ... لقد تم بناءه من صغره أن يكون كما يريدون.
ماذا يمكن إن يحدث، لو نص بند في عقود التبني يفرض أن:" بعد عشرون عاما يتعهد كل المتبنين إن يجتمع المتبنون ثانية ليعيشوا معا تحت سقف واحد"... لو تم ذلك سنجد أن هناك عدة حواجز تفرقهم وتمييزهم، منها اللغة، والعادات والتقاليد، والمعتقد، وطبيعة النظام السياسي، والأحزاب، والمناخ الخ.... سينشأ بينهم دهشة، واستغراب ، يؤديان إلى الرفض أكثر منه إلى القبول . ماذا يمكن أن يحصل لو تناقشوا في أمور السياسة، أو الدين، أو التطور؟ لا بد أن كل منهم سيدحض أفكاره، ويدافع عنها، وقد يستميت من اجلها إذا تطلب الأمر في حال كانوا غير منفتحين عقليا...لذلك ليس للعامل ألوراثي اثر يذكر في تحديد دور الفرد في التربية، فالدور كله يسند إلى المجتمع.
عالم اليوم أصبح قرية صغيرة بفعل التقدم الهائل في المعارف والمعلومات، التي مكنتنا التقنية الحديثة من الوصول إليها بسهولة ويسر. فمن واجب البشرية أن تبني ثقافة عالمية شاملة. عليها أن تدخل موضوع دراسة الأفكار والعقائد المنتشرة في العالم إلى مناهج التربية والتعليم من صفوف أول حتى الثاني عشر، المعاهد العليا والجامعات أيضا. عليها أن تمنع تدريس التربية الدينية في المدارس وتفويضها فقط لدور العبادة لتتولاها وتعتني بها وترعاها، مع ضمان مراقبتها، كي لا تخرج عن رسالتها الإلهية الإنسانية. الرقابة لا تجدي إن فرضت على دور العبادة فقط، جدواها وقيمتها تكون ذات قيمة إذا فرضت على المناهج المدرسية أيضا، لأن المدرسة كالعائلة مهمتها بناء الإنسان. لذلك يفضل تدريس تربية دينية شاملة لكل الأديان من اجل التقارب بين أبناء الوطن الواحد، وشعوب العالم. الهوس الديني الغير مبرر يؤدي إلى نشوء ظاهرة الخوف من ذوبان العقيدة. فمن يخاف على معتقده من الاضمحلال والزوال دليل على هشاشة إيمانه وعقيدته، وعدم قدرتها وثباتها في كل العصور. في الشرق، كلما هبت علينا نسائم التفرقة. نسارع بالتذكير بما كرره أجدادنا منذ أجيال: أن "الدين لله والوطن للجميع"، في محاولة للملمت جراحنا النفسية، وإجهاض الإشارة إلى وجود خلل. انه نوع من الكذب المحصن لإنكار ما يمكن أن يحدث، وطمر الحقيقة بدل معالجتها. عندما يغذي المجتمع العقيدة أكثر من المواطنة سيقف الوطن عندها على مفترق. ليولد شعور بتفوق عقيدة الاغليبية على عقيدة الأقلية. ونقص وحذر عند أتباع عقيدة الأقلية....في أحديثنا اليومية نركز ونشيد بالمساواة وبالعدالة بين الجميع معتمدين على ما نرغب فنكون كمن يكتب دستورا شفويا يؤسس حلم فكرة يصعب نقلها لتكتب على ورق.... أما في حال تغذية المواطنة على العقيدة من خلال تغذية سليمة والتركيز عليها دون إهمال العقائد المتعددة، يعني احترام الجميع. ونقل الفكرة على الورق لتصبح دستورا. المواطنة أوسع في مضمونها من العقيدة لأنها تضم كل مكونات المجتمع. العقيدة أضيق من المواطنة لأنها تضم تكتلات، وتجمعات داخل كل منها أشخاص يمارسون تعاليمهم بدرجات متفاوتة، فالبعض يحمل عقيدته بالاسم فقط وليس بالمضمون، والممارسة، انه انتماء لظل . فلا يمكن أن تختزل كل مكونات المجتمع بالعقيدة. في سعينا لبناء وطن سليم متعدد، علينا أن نركز على المواطنة. كي لا تصبح العقيدة دولة، والدولة عقيدة.
لقد أضعنا كل شيء كرامتنا حريتنا سمعتنا ووحدتنا وركزنا بتشدد على تفسيرات دينية. أنا لا أقف ضد أي عقيدة، لكن المغالاة بقدسية عقيدة على أخر تقلقني، وتدق ناقوس الخطر في عقلي ووجداني. ما هو الإنسان الذي نريد صناعته في الشرق؟.هل أعدت حكوماتنا العربية منهجا كي تنهض بالمواطن حضاريا؟ ما هي الطريق التي عليها أن تشقها حتى نصل إلى الحداثة؟...لماذا نبرز مقتطفات من تعاليم عقيدة الأغلبية دون الالتفات إلى الأقلية التي تعيش معنا في كتب اللغة. و نبرز رموزها الدينية في كتب الرياضيات، والعلوم، والجغرافيا، والتاريخ. لماذا ندرس بتوسع تاريخ إسلاميا – أعيشه يوميا وشارك في صنعه أجدادي أيضا - عمره أربعة عشرة قرنا ؟ لماذا لا نهتم بتاريخ المنطقة وبتاريخ البشرية جمعاء.هل التاريخ البشري بداء فقط منذ عهد رسالة النبي محمد ( صلعم) التي جاءت بالقران الكريم رسالة للبشرية جمعاء. التاريخ البشري، وتاريخ شعوب المنطقة سبق الإسلام بآلاف السنين. علينا أن لا ننغلق على ذاتنا . استجابة لقول النبي محمد( صلعم): "انتم أعلم في شؤون دنياكم". فالدين يسر وليس عسر. ليس هناك خطاء في الدين، بل يكمن الخطاء في رجل دين لا يعطي قراءة ، وتفسيرا عصرية له. الأديان في العالم اجمع تصلح لكل مكان وزمان.
التخلف والانحطاط، سمتان موجودتان عادتا ثانية للظهور وبوضوح خلال الربيع العربي وبينّتا أن المسافة بين القديم والعلمانية والحداثة، في تباعد مستمر يوما بعد يوم. الصراع العالمي على مر العصور هو صراع فكري بين الحديث والقديم، لذلك لا تجابه الأفكار بقوة السلاح. الفكرة تقارع بالفكرة. علينا أن نجتهد في بناء الإنسان المفكر. القيود الفكرية والعقائدية تكبل العقل في حال أسأت للأسرة البشرية. العالم سيتسمر للأمام، فلا القوة، ولا الكراهية، ولا القتل يجدي في النهاية . وجهة المتخلف عن مسيرة التطور ستكون حتما نحو الاندثار. انه قانون طبيعي، فإما المسايرة أو الانقراض. البقاء دائما للأفضل، والأقوى في سلم الفكر والتطور.
المطلوب إيجاد حل مشترك لإذابة التناقضات بين المجتمعات الإنسانية وبين المجتمع الواحد. فذلك يسهل التفاهم، ويزيل التوترات المحلية والعالمية. الحل الأمثل لضمان امن، وحرية، واستقلال، ومساواة الجنس البشري بعضهم ببعض هو التفريق بين الدين والسياسية.لأنها السبيل الأفضل لتفادي الحروب، والويلات، والماسي البشرية، بشكل خاص في دول تعاني من عقدة نقص وتتظاهر بأنها ضحية أمم وشعوب الأرض بسبب عقيدتها. معظم أهداف الحروب ماضيا، وحاضرا، ومستقبلا هو الاستيلاء على خيرات وأراضي الشعوب من اجل ما تملك من نفائس ثمينة في دولها وليس من اجل ضرب عقيدتها. من عجزنا على مواجهة واقعنا الأليم فإننا نغلف كل قصور لا نقوى على التخلص منه بالدين. فبدل أن نصنع الإنسان العصري المؤمن بتعاليمه. فإننا نصنع إنسانا مقهورا له بعد واحد وهو الكراهية .
أتوجه إلى رؤساء الدول، والأحزاب، والعقائد في كل أنحاء العالم قائلا:"من منكم يخاف على مبادئه السياسية، وأفكاره الاجتماعية، وتعاليمه العقائدية من الاندثار، فذلك له معنى، وتفسير واحد بان ما يؤمن به قد أصبح باهتا، وفقد قيمته لان مركزية الفكر، والروحانية فيه فقدت قيمتها ورسالتها ومعناها الإنساني وقدرتها على الصمود أمام متغيرات الزمن لضعف فيها وانحلالها، ولعدم وجود قوة تماسك فيها أمام الحداثة والعولمة مما أدى إلى عدم قناعة الناس فيها . محاربة أفكار التحديث لا تفيد شيئا حتى وان قامت على ثقافة الكراهية والموت. فالحجة تقارع بحجة أقوى واثبت منها تحمل في داخلها بذرة حيويتها وديمومتها. الخطاء ليس في جوهر العقيدة الخطاء مصدره الإنسان النفعي، وليس الروحي... كل الخوف أن يبقى الإنسان رهينة التفسيرات الخطاءة وبعيدا عن هدف العقيدة الإنساني. ويستسلم لمن يسيء صناعته.
#صليبا_جبرا_طويل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الله والعقل واستمرار والوجود
-
النقد بابٌ للحريات وللتقدم
-
متدين، أم مؤمن؟!
-
الإعلام المرئي يحرض على الإرهاب
-
ماذا بعد ضرب داعش؟
-
داعش والأبجدية
-
مسلمون ومسيحيون معا
-
ما هذا الوطن؟؟؟
-
مهزلة فكر وثقافة
-
المراءون يغتالون الوطن
-
أيها العاطلون عن العمل اتحدوا
-
غياب المعرفة سبب تراجعنا
-
طفل يتيم أنا
-
سلام للمرأة في الثامن من آذار
-
المرأة والحرية
-
لك في عيد الحب - فالنيتين -
-
عزيزي كيري
-
الله ومعركة العقل
-
أوطان هشة من ورق
-
اضطهاد المرأة
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|