أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الساهل - نهضة أم نهضتان: نحو تحيين جديد لكرونولوجيا الثقافة العربية















المزيد.....



نهضة أم نهضتان: نحو تحيين جديد لكرونولوجيا الثقافة العربية


محمد الساهل

الحوار المتمدن-العدد: 4702 - 2015 / 1 / 27 - 00:54
المحور: الادب والفن
    


نهضة أم نهضتان
نحو تحيين جديد لكرونولوجيا الثقافة العربية



مقدمة
إن التاريخ الثقافي بشقيه الفكري والأدبي في الجغرافيا العربية شهد إبدالات بنيوية ومتغيرات هيكلية، فهذا التاريخ يتنازعه خطان يؤسسان لدورة الثقافة العربية. إن تاريخ المكون الثقافي في هذه الجغرافيا هو تاريخ الانمحاء والانهدام من جهة وتاريخ الانوجاد والانكتاب من جهة ثانية، فالوضعية الأولى تنوجد حين يتسرب الملل إلى أضلاع المثلث الإبداعي مما يصيب المكون الثقافي بالموت والفناء، وبهذا يغدو الملل مبيدا للثقافة وعدوا لسيرورتها التاريخية، أما الوضعية الثانية فتنوجد حين يستكشف العقل الإبداعي الآخر مما ينعش الجسد الثقافي ويحينه من ناحية ويغنيه بأوعية فنية جديدة من ناحية أخرى، وبهذا يكون الآخر محركا للتاريخ الثقافي في البيئة العربية. والحاصل أن الثقافة العربية تسوء أحوالها كلما توفرت للملل منافذ ليتسرب منها إلى هذا الجسد ويتمدد في أقاليمه، في المقابل تتحسن أحوالها كلما ازدادت قربا من الآخر وغرفت من مشربياته اليانعة.
ومن المسطور في مصنفات التاريخ أن المنحنى التاريخي للثقافة العربية شهد نهضة أدبية في الحقبة الحديثة باستكشاف العقل الإبداعي للثورة الأجناسية، غير أن حفرا عالما في أركيولوجيا المدونة الثقافية العربية يطفل حقائق جديدة تستدعي أن نعدل هذا المنحنى، وذلك بأن نُمَوقع النهضة الأدبية كمرحلة ثانية في هذا المسار بعد النهضة الفلسفية التي انوجدت في الحقبة العباسية باستكشاف العقل الإبداعي للثروة الإغريقية.
نهضة أَمْ نهضتان
درج في كراسات التاريخ، الصفراء منها والحمراء على السواء، التأريخ للنهضة العربية، وبؤرة الحديث على النهضة الثقافية، بربطها بالعصر الحديث، غير أن النصفة تقتضي تأريخا جديدا وتقويما حديثا يعيد تشكيل التاريخ الثقافي في البيئة العربية من منظور شمولي لا يلغي سيرورة التاريخ وإبدالاته. إن بحثا عالما في حفريات التاريخ العربي لابد وأن يطفل حقائق جديدة تدحض ما هو كائن لتؤسس لممكن أريد له أن يغيب قسرا عن الذاكرة الفردية والجماعية العربية. إنه تاريخ أفكار وتاريخ ذوات فَقَدَ، كرها، إشعاعه علما بأن أعلامه أسسوا، في غفلة من التاريخ وأقلامه، لنهضة فلسفية. وإذ نشيد بكاتب التاريخ لأنه أرخ للمنجز الفلسفي ولإحداثياته الجديدة، ودبج سيرا لأعلامه الأفذاذ فإننا نعري ما علق بذلك من شوائب، فقد افتقد الشجاعة وأصابه الكلل حين لم يعلن عن نهضة أولى تحققت باكتشاف ينبوع جديد هو الفلسفة، وقد لا نحيد عن الصواب إذا قلنا إن النهضة الثانية التي كانت أدبية ما كانت لتتحقق لولا النهضة الأولى التي كانت فلسفية، فالثقافة العربية كانت ثقافة تتمركز حول الذات بما تنتجه من فكر ولغة وأدب، فالعقل العربي يؤمن، في بداياته، بالاكتفاء الذاتي في الميدان الأدبي بل إنه تصور ذاته مركزا والآخر هامشا، إنها المركزية العربية التي تمتلك وسائل الإنتاج الذاتي الذي يوفر للقارئ العربي حاجياته المعرفية والأدبية. إن نقد هذه المركزية، في تلك الحقبة من التاريخ العربي، لعمل يعرض زعماءه لأخطار متعددة، غير أن هذه النخبة ركبت المنى وخلعت الحذر لينفتح العقل العربي، المتمركز على ذاته، على ينابيع معرفية جديدة، وليصبح الآخر- الفكر والمعرفة، بعد مسار استدلالي، معينا للاغتناء ومنبعا للارتواء، فقد حللوا معارف الآخر ليتأتى لأعلام النهضة الثانية أن يغرفوا من الينابيع الأخرى دون أن يتجشموا أعباء قدرت على المتقدمين.
إن الاستقراء العلمي لأحداث التاريخ العربي بعامة والتاريخ الثقافي بخاصة يظهر أن هذا التاريخ قد شهد نهضتين، تتمثل الأولى في النهضة الفلسفية التي شهدها العصر العباسي وتتجلى ثانيهما في النهضة الأدبية التي تفجرت في العصر الحديث، لكن تاريخ المؤسسة قد غيب إنجازات عظيمة استحقت أن توصف بالنهضة الأولى، وحتى لا نقسو على هذا التاريخ لنقل إنه تناول تلك الإنجازات من منظور دياكروني، فقد مَوقَع هذه المنجزات في المنحى الذي رسمه للتاريخ الثقافي في البيئة العربية مما جعلها لا تَنمَاز عن غيرها من الأحداث الثقافية الكبرى، والحق أنها كان تستحق أن ينظر إليها نظرة تقدير واعتراف لما أحدثته من تغييرات جذرية في بنية العقل العربي، هذا العقل الذي كان في العصور الثلاثة الأولى عقلا عاطفيا وعقلا متمركزا حول ذاته ليصبح، بفضل الاكتشاف الجديد، عقلا يتزاوج داخله العاطفي بالمنطقي والذاتي بالغيري، ولعل امتدادات هذا الاكتشاف لتند عن الحصر، وأكثرها وضوحا، إلى جانب ما بيناه، أنه مهد الطريق للنهضة الثانية لتتفجر دون أن تتوجس خيفة من الآخر، والنهضة الأولى قد حللت معارفه وراكمت تجارب مهمة في الانفتاح على الآخر والاغتناء من فكره وأدبه.
المركزية العربية
كان العقل العربي في العصور الأولى عقلا يتمركز حول ذاته بما تنتجه من فكر وأدب ولغة، وقد أسهم في ذلك عوامل سياسية واجتماعية ودينية. وبما أن هذا العقل كان يؤمن بتفوقه فقد استصغر الآخر وقطع معه جسور التواصل المعرفي، والعقل العربي، في تلك الحقبة من التاريخ، لا يختلف عن العقل الغربي في العصر الحديث من حيث تعاليه وتضخمه، ومن حيث احتقاره للآخر، ومن حيث نزوعه إلى الهيمنة. إن العقل العربي يقدم، عهدئذ، ذاته للآخر بوصفه نموذجا للعلم والحضارة والأدب، فهو لا يحتاج أن يتعلم شيئا من غيره، وما يؤكد ذلك اكتفاؤه بأدبه وفكره بل وتصديره إلى الآخر، فالفتوحات العربية -الإسلامية هي نزوعات برُوميثية تتغيا التنوير ونشر المعرفة بألوانها المختلفة الأدبية والقيمية والدينية.
إن المركزية العربية لم يكتب لها أن تمتد طويلا في التاريخ الإنساني، لأن منطلقها لم يكن متينا ومتماسكا، كما أن آلياتها مسها الصدأ سراعا، مما لم يمكنها من تحقيق النجاحات التي رسمت لهذه الحركة، وقد تعرضت لما تعرض له بروميثيوس إذ إنه استبيح جسدها لتنهشه النسور، بيد أنها لم تستسلم لذلك وعملت على الانبعاث من رماد الآخر.
الحاجة أُمُّ الترجمة
الترجمة فعل عبور من ثقافة إلى أخرى ومن لغة إلى أخرى، وهي، من منظور مغاير، هجرة أفكار من جغرافيا إلى أخرى، والنص – المنطلق هو أرض تبعث على الخصب والحياة، إنه جغرافيا تسر الناظرين، والنص- الهدف ما هو إلا ظلال لتلك الأرض، أما المترجم فهو ساحر يغوي الأفكار بلذة الانتقال عبر اللغات والثقافات، فهذه هي البنية السطحية للترجمة، أما بنيتها العميقة فتُسر أشياء أخرى تتمَنع عن إبرازها، فالترجمة، في عمقها، استيراد، ومن المتقرر في أدبيات علم الاقتصاد أن الاستيراد مؤشر على أن اقتصادا ما لم يحقق اكتفاءه الذاتي من الحاجيات، لتكون بذلك الترجمة فعلا يخفي نقصا في ثقافة ما، كما يضمر عجزا في تحقيق الاكتفاء الذاتي من الحاجيات المعرفية، وإذ تدل الترجمة، كذلك، على استنفاذ ثقافة ما لمخزونها الفكري والفني فهي تحيل على غنى ثقافي في أرض أخرى. والحاصل أن للترجمة وجهان أحدهما جلي يتمثل في تأسيسه للثقافة الكونية، وثانيهما خفي يتجلى في تقسيمه للعالم إلى معسكرين؛ معسكر ينتج ويصدر وآخر يترجم ويستورد، وتمييزه بين حضارتين؛ حضارة مترجَمة وأخرى مترجِمة، فأن تترجَم ثقافة ما لدليل على إنتاجها، وأن تترجِم ثقافة أخرى لمؤشر على احتياجها.
فلسفة النهضة ونهضة الفلسفة
شهد التاريخ الثقافي داخل البيئة العربية، في الحقبة الممتدة من العصر الجاهلي إلى العصر العباسي، جنسين أدبيين هما الشعر والنثر، وقد هيمن الجنس الشعري مما يبيح للدارس أن ينعت الحضارة العربية بحضارة الشعر، وفي المتن الشعري الذي تراكم في الحقبة الجاهلية ما يدل على اكتمال النموذج الشعري وإيناعه، ودوننا هذا الشاهد فخليق به أن يدعم هذه الخلاصة:
ما أرَانا نقول إلا مُعادا من قولنا مَكرورا (1)
إن حفرا عالما في هذا الأثر ليثمر حقيقة أخرى، فإعادة المعاني في ديباجة جديدة لن يكسب الأثر الشعري بريقا قويا كما أنه قد يشعر القارئ والمبدع على السواء بالملل، ولم يُنعش الشعر العربي إلا باكتشاف ينبوع جديد على البيئة العربية هو النص القرآني، فقد أنعش جزئيا الإبداع الشعري بما أمد به المبدع من ثروة معجمية جديدة وبما اقتحمه من معاني جديدة، وإذا كان الاكتشاف الجديد قد فتح للشاعر منافذ جديدة فإنه أغلق عليه أخرى ليُعاود الملل، من جديد، أضلاع المثلث الإبداعي، ولم يرضخ الشاعر العربي لهذا الواقع، فقد أجرى إبدالات متنوعة على القصيدة كاستبدال المقدمة الطللية بالاستهلال الخمري وتلوين الأداة التعبيرية بأصباغ البديع المختلفة واقتحام مضامين جديدة كالتصوف والزهد والغزل. والظاهر أن هذه المحاولات التجديدية كانت تحارب الملل الذي تسلل إلى أضلاع المثلث الإبداعي غير أنها لم تتوفق في ذلك لأن إنعاشه كان ذاتيا. والحق أن تاريخ الشعر العربي هو تاريخ مواجهة الذات للملل الذي يتسرب، من آن إلى آخر، إلى العملية الإبداعية. إن الشعر العربي مَلَّ نفسه، ولما كان الشعر في تلك الحقبة من التاريخ العربي عنوانا للثقافة العربية كان لزاما إنعاشها ما دام الملل قد نهش جسدها وتغلل في أعماقها مما يُنبئ بأن موتا معلنا يهددها ونهاية حزينة تنتظرها، وقد ثبت أن الإنعاش من داخل الذات لا يسد الثغرات جميعها فهو يمنح للملل منافذ للتسرب، فالإنعاش الحقيقي للثقافة العربية لن يتحقق ما لم تتغذى هذه الثقافة من مُشربَّيات أجنبية، وهذه خلاصة سبقنا إليها غوته في قوله: " ينتهي كل أدب بأن يمَلَّ نفسه ما لم ينعشه إسهام أجنبي" (2).
تأسست في العصر العباسي معلمة ثقافية أطلق عليها بيت الحكمة، ويعد هذا التأسيس منعطفا جديدا في التاريخ الثقافي في البيئة العربية، فقد انتقلت الحضارة العربية من ثقافة أفراد أو ثقافة قبائل إلى ثقافة وطن أو ثقافة أمة، كما تحولت هذه الثقافة، التي تراكمت بجهود فردية توزعت على جغرافيا هذه الأمة، من ثقافة لا تنضبط لمؤسسة ما إلى ثقافة تحتضنها مؤسسة مستحدثة، ولهذا التأسيس، كذلك، دلالتان، فهو يدل من جهة على اكتشاف الآخر، ويدل من جهة أخرى على اكتشاف رافد معرفي جديد هو الفلسفة.
ويعد العصر العباسي عصر اكتشاف وتأسيس وعصر انبعاث وإنعاش، فقد اكتشف العقل العربي في هذه الحقبة العقل الإغريقي الذي أبدع في التفكير الفلسفي والتفكير المنطقي، وراكم إنتاجا علميا ضخما يعد، بإجماع الباحثين، لبنة للعلوم الحديثة وعمودا للتقدم الإنساني، وقد اجتذب هذا المنجز العقل العربي الذي انطلق يترجم عيون معارفه وعيون علومه، لتتوفر بذلك للثقافة العربية مادة فكرية وعلمية اتخذها أبناء هذه الثقافة مجالا جديدا للاشتغال الفكري والنقدي، وللدارس أن يميز في هذا الاشتغال بين حركتين، فقد نهضت الحركة الأولى بمهمة شرح وتفسير المتن الفلسفي، وقد قاد هذه الحركة زمرة من الشارحين كابن سينا والكندي وغيرهم كثير، أما الحركة الثانية فهي الحركة التصحيحية والنقدية التي تزعمها المعلم الثاني الفارابي، وقد راكمت هذه الحركة إنتاج مهما من البنى الفكرية ومعجما ثريا من المفاهيم. وقد كان من نتائج هذا الاشتغال بشقيه النقدي والتفسيري ظهور فلسفة مكتوبة باللغة العربية، وقد يبدو هذا الاصطلاح غريبا على الساحة الفكرية في البيئة العربية، ونحن نعلم أن الوصف الذي اقترحته المؤسسة الرسمية لهذا الاتجاه الفكري هو الفلسفة العربية - الإسلامية، غير أن هذا الاصطلاح يضمر نزوعا عرقيا ودينيا ولا يعبر بموضوعية عن هذا الاتجاه وذلك لسببين، يتمثل أولهما في أن بعضا من أعلام هذا الاتجاه ليسوا عربا بالمعنى المُؤسَّساتي، أما ثانيهما فيتجلى في أن المؤسسة ذاتها قد رمت رواد هذا الاتجاه بتهم تتصل بالزندقة والإلحاد. والحاصل أن هذا الاصطلاح ينبغي إسقاطه من المؤلفات سواء المدرسية أو الأكاديمية واستبداله بهذا الاصطلاح الجديد أو باصطلاح آخر لا ينبي على معايير عرقية أو عقدية لا تعكس واقعه.
إن قيمة هذا الاكتشاف تتخذ أبعادا متعددة، فقد فرض التفكير الفلسفي والمنطقي تأثيره على العلوم العربية باختلاف مذاهبها، ودُونَنَا المصنفات النَّحوية والبلاغية والنقدية والكلامية فهي تَزْدان بآليات هذا التفكير ومفاهيمه وإوالياته. إن هذا الرافد المعرفي أسهم إسهاما كبيرا في بناء الثقافة العربية وتَحْيِينها وهي التي تسرب إليها الملل وتآكلت بفعل عواديه، فقد أنعش هذا العنصر الأجنبي أضلاع المثلث الإبداعي، فالمبدع انفتحت أمامه نوافذ جديدة وانبجست قُدَّامه عيون جديدة للارتواء والاغتناء بما يعطي للنص روحا جديدة. أما القارئ فقد توفرت له اختيارات جديدة للقراءة وهو الذي أُجْبِر، زمنا، على فنين؛ الشعر والنثر. أما الناقد فقد مكَّنه من أدوات جديدة تعينه في الاشتغال النقدي على النصوص الإبداعية مما أكسب العملية النقدية بعدا علميا وهي التي كانت تترنَّح بين الانطباعية والانفعالية. واضطلع هذا الاكتشاف، كذلك، بأدوار أخرى، فقد أصبح العقل العربي، الذي كان في بداياته عقلا عاطفيا، عقلا منطقيا برهانيا، كما أن الحركة العلمية التي شهدها هذا العصر قد حَلَّلَت معارف الآخر وفكره، ورسخت تقليدا جديدا ينظر إلى الآخر بوصفه مصدر اغتناء معرفي وارتواء فكري وليس عدوا ينبغي مقاومته و تنميطه. وقد عرَّفت هذه الحركة الفكرية، في عصور لاحقة، بالعقل العربي الذي كان نكرة في هذا الوجود فأصبح بهذه الجهود معرفة في الفكر الإنساني، فالإنسانية، وللحظة، بصم تاريخها بالترجمات التي أعدها حول الفلسفة الإغريقية وبالشروح التي قدمها لهذا المتن وبالإضافات التي عمق بها هذه المدونة، كما أن الأسماء التي نالت الحُظْوة في الحضارة الإنسانية هي تلك الأسماء التي صنعت النهضة الفلسفية، وليس يُعْرف العقل العربي، إلا فيما نذر، في المجتمع الإنساني بإنتاجه الشعري وبإبداعه النثري. والحاصل أن الإنسانية تعرَّفت على العقل العربي من خلال جهوده في ميدان الفلسفة، هذه الجهود التي اضطلعت بدور تاريخي، لا يجحده إلا المُغرِّضون، في بناء النهضة الغربية.
وقد لا تستوعب هذه المقالة، لطبيعتها وللهدف منها، امتدادات النهضة الفلسفية في الواقع المادي والنسق الفكري للحضارة العربية، لكنه من النصفة أن نوثق لامتدادين مهمين، يتمثل أولهما في أن هذه النهضة راكمت تجربة خصبة في ميدان الترجمة، وقد استفاد أعلام النهضة الثانية من هذه التجربة في بناء النهضة الأدبية، وتتضح هذه الاستفادة في مستويين؛ مستوى المفاهيم ومستوى المنهج. أما الامتداد الثاني فيتجلى في الإبدالات التي أحدثتها النهضة الفلسفية في الذهنية العربية، فهي التي غيرت نظرة العربي للآخر، كما حَلَّلت فكر الآخر ومعارفه، وأصبح المبدع والقارئ العربيين يؤمنان بأن الآخر قد يغذي ثقافته بما يعطيها روحا ونفسا جديدين. وجدير بالذكر أن هذه الإبدالات اقتضت من الفلاسفة، عهدئذ، مسارا طويلا من الاستدلال والاحتجاج حتى يقتنع بها العقل العربي الذي كان، وقتئذ، متمركزا حول ذاته. والظاهر أن النهضة الفلسفية قد مهدت الطريق للنهضة الأدبية، إذ كَفَتها الاستدلال والاحتجاج مما مكنها من أن توجه مجهودها نحو الآخر لتتغذى من مُشربَّياته المختلفة.
يتبين، بما لا يدع للشك مجالا، أن تلك الحركة الفكرية التي تفجرت في الحقبة العباسية تستحق أن تمثل النهضة الأولى في التاريخ الثقافي في البيئة العربية لإنجازاتها التي لا تخطئها العين على مستوى الذهنية العربية ، وكذا على مستوى إنعاشها للثقافة العربية حين عرَّفته على رافد معرفي جديد هو الفلسفة، أما امتداداتها في الأنساق الفكرية فتند عن الحصر. والحق أن هذه الجهود تستحق، من باب العدل والإنصاف، أن نُمَوْقِعها في المنحنى الثقافي على أنها نهضة فلسفية. وخليق بالدارس أن يبحث في الخلفيات التي حالت دون التأريخ لهذه الجهود بإنصاف وموضوعية، وذلك بوضعها في الكفة التي تستحقها من الميزان، والرأي عندي في هذه القضية أن المؤرخين لم يكن يَعُوزهم الإنصاف والعدل وإنما كان يَعُوزهم المصطلح، فمصطلح النهضة الذي يبدو ملائما لوصف هذه الحركة وإنجازاتها لم يظهر، فيما نعلم، إلا في البيئة الغربية وفي العصر الحديث، ولما كان الأمر كذلك التمسنا العذر للمؤرخ، في نظرته التي افتقدت للدقة، نحو الحركة الفكرية التي شهدها العصر العباسي على أن يعيد قراءتها من منظور جديد وبأدوات مُحَيَّنة.
نهضة الأدب وأدب النهضة
من الثابت أن الملل تسرب إلى الثقافة العربية في العصور الثلاثة الأولى، وقد كاد الملل أن ينال من هذه الثقافة غير أن اكتشاف العقل العربي للآخر قد أنعش ثقافته وحَيَّنها، ولقد امتد مفعوله في هذا الجسد لحقبة زمنية مهمة، لكن الملل مارس من جديد طقوسه على هذا الجسد الذي عاش عليلا تُطْلِيه الصفرة إبان الحكم العثماني للجغرافيا العربية، ودُونَنَا هذا الأثر الفني فخليق به أن يختزل المشهد الثقافي، لحظتئذ، في البيئة العربية:
أبو الطلاب لا ينفك منهم حنان الأم بالطفل العظيم (3)
إن المتذوق لهذا النص ليحس بالاشمئزاز، فلا المعنى يأسر القلوب ولا الصورة تثير النفوس. فالامتداد الزمني والمكاني للإمبراطورية العثمانية لم يشهد مبدعا أو متنا إبداعيا يسرُّ المتذوقين ويدهش المؤرخين، فهذا التاريخ هو تاريخ حروب وغزوات وصراعات، وتاريخ الرداءة الفنية والضعف الأدبي والانهيار الثقافي، وللدارس أن يقول لقد ماتت الثقافة في هذه الحقبة من التاريخ العربي، فهذا التاريخ ينضح بشهادات تؤكد أن الموت قد حاصر هذه الثقافة التي تآكل جسدها، من ذلك ما نقرأه في " العقد المنظوم في أفاضل الروم": قد انتهيت إلى زمان يرون الأدب عيبا ويعدون التضلع في الفنون ذنبا" (4). إن حفرا دقيقا في أركيولوجيا هذا التاريخ ليفضح الجهات التي خندقت الثقافة في هذا الطابور المظلم، ولعل أكثرها تأثيرا سياسة التتريك بما تعنيه من وأذ للثقافة العربية وتَحْيين للثقافة التركية، بالإضافة إلى أن السياق الاجتماعي، عهدئذ، كان في حاجة إلى لغة أخرى غير لغة الأدب والفن لما كان يتهدد الإمبراطورية العثمانية من أخطار أجنبية ولما كانت تسعى إليه من أطماع خارجية. والحاصل أن الثقافة العربية كانت تعيش، لما يناهز ستة قرون، في سبات عميق بل في موت محقق، فقد كانت جسدا عليلا ينخره الضعف والرداءة من الداخل، كما كان يتنفس بصعوبة وهو يستجدي، بإلحاح، النجدة لكي لا يلفظ أنفاسه الأخيرة.
إذا كان اكتشاف العقل العربي في الحقبة العباسية للآخر هو الذي أنعش ثقافته وحَيَّنها، وهو الذي كان قبل ذلك يواجه السقوط بإمكانياته الذاتية ، فإن الآخر في الحقبة الحديثة هو الذي أنعش من جديد المكون الثقافي في البيئة العربية وهو الذي أصابه الشلل لردح طويل من الزمن. لقد اكتشف العقل العربي في هذه الحقبة العقل الأوربي الذي راكم إنتاجا أدبيا ضخما شمل مختلف الأجناس الأدبية من رواية ومسرح وقصة، وكان هذا الاكتشاف عن طريق البعثات الطلابية إلى الجغرافيا الأوربية. وللدارس أن يميز بين حركتين أسهمتا في إنعاش الثقافة العربية بعامة والأدب العربي بخاصة، وتتمثل أولهما في تلك الحركة التي ترجمت المنجز الأدبي الغربي إلى اللغة العربية، وقد ساهمت هذه الحركة في التعريف بالأجناس الأدبية الجديدة بين الجمهور العربي، كما اضطلعت بدور تاريخي في مواجهة تلك التصورات الرجعية التي ناهضت هذه الأجناس وأَفْتَت بضرورة تجنبها بدعوى أنها تفسد أخلاق الناشئة من جهة وتهدد دين المسلمين من جهة ثانية، وينضاف على ذلك أن هذه الحركة أسست لذوق فني متعدد وهو الذي كان على مر التاريخ العربي ذوقا أحاديا يتذوق جنسا واحدا هو الشعر فأصبح ، بفضلها، يمتلك مؤهلات تمكنه من تذوق أكثر من نوع أدبي، أما الحركة الثانية فهي تلك الحركة التي أبدعت نصوصا أدبية تنتمي للأجناس الجديدة، وخليق بالدارس أن ينوه بهذه الحركة لأنها امتلكت الجرأة اللازمة في ركوب هذه المغامرة واقتحام أنواع أدبية تعد، عهدئذ، غربية على البيئة العربية، فالمجتمع العربي في تلك الحقبة الزمنية لم يكن يُمَتِّع المبدع بالقدر الكافي من الحرية ليقتحم أشكال جديدة في الكتابة الأدبية، فالنموذج الشعري التقليدي كان ينظر إليه على أنه النموذج الجمالي الذي يستحق الاحتذاء، وما حركة البعث والإحياء الشعرية إلا حركة ممانعة للأجناس الجديدة لأنها تهدد ديوان العرب بخاصة والتراث الديني والثقافي بعامة، وينضاف إلى انعدام الحرية الإبداعية وجود تيار نقدي نَصَب ذاته وَصِيَّا على المجال الأدبي، وكان هذا التيار يتصدى للنصوص الجديدة التي انزاحت عن القاعدة الشعرية بالنقد العنيف من خلال رمي المبدعين بتهم شتى كالردة والمؤامرة وغيرها كثير، فرفاعة الطهطاوي باعتباره رمزا لهذا التيار يعتبر الكتابة الروائية جريمة يستحق صاحبها أقصى العقوبات. والحاصل أن الأجواء التي اقتحم فيها الأديب العربي الأنواع الجديدة كانت محفوفة بالمخاطر لذلك اضطر إلى أن يبدع تحت اسم مستعار لتفادي الأخطار التي تتهدده كما فعل محمد حسين هيكل الذي نشر روايته " زينب" تحت مسمى آخر هو "فلاح مصري" حتى لا يجر عليه سهام النقد المحافظ الجارحة.
إن المحاولات الإبداعية الأولى التي اقتحمت الأنواع الأدبية الجديدة حققت، وإن كانت تنطوي على ضعف فني وخور بنائي، منجزات تند عن الحصر، فقد استطاعت أن تدحض تلك الأطروحة التي تذهب إلى أن اللغة العربية هي لغة الكتابة الشعرية وبالتالي فهي لا تصلح في الإبداعين الروائي والمسرحي، فقد أثبت هذه المحاولات أن اللغة العربية عابرة، كباقي اللغات، لمختلف الأنواع الأدبية، كما استطاعت أن تؤسس لقناعة جديدة في المحيط العربية مؤداها أن الأنواع الجديدة لا تهدد الثقافة العربية بقدر ما تغنيها، بالإضافة إلى أنها أفادت كثيرا الجيل الثاني في إنتاج نصوص أدبية دون تكرار أخطاء الجيل الأول وهفواته الفنية والبنائية، وأسهمت، كذلك، في تشكيل ذوق عربي جديد يتفاعل بشكل إيجابي مع الأنواع الأدبية الجديدة، ولعل أهم منجزاتها إيجاد منافس أدبي جديد لجنس الشعر مما يفسح أمام المبدع مساحات كبيرة للاختيار الإبداعي كما يفتح في وجه القارئ نوافذ متعددة للاختيار القرائي.
دُرِج في كراسات التاريخ أن توصف المنجزات الأدبية في الحقبة الحديثة بالنهضة الأدبية، وهذا الوصف دقيق بالنظر إلى الشلل الذي أصاب المكون الثقافي في المراحل الزمنية السابقة، والمتأمل في هذه المنجزات لابد أن يقسمها إلى خمسة أطوار متسلسلة:
- طور الاستكشاف والتذوق
اكتشف العقل العربي الأنواع الأدبية الجديدة كالرواية والمسرح والقصة، وقد تَمَّلْكته، لحظتئذ، الدهشة وهو الذي اعتقد أن الأدب هو الشعر، ولما تذوقها في لغتها الأصلية أراد أن يتقاسم لذتها مع أبناء الجغرافيا العربية.
- طور الترجمة والتبيئة
ترجم العرب الأعمال الأدبية الغربية إلى اللغة العربية، وقد خضع هذا الفعل لاعتبارات دينية وقيمية مما حتم على الآلة المُتَرْجِمة أن تُجْري على النص الأصلي تعديلات حتى يتلاءم والنسق الفكري والشعوري للقارئ العربي لدرأ الصدمة والنفور من جهة وكسب التفاعل الإيجابي من جهة أخرى، ومن الأعمال الأدبية التي ترجمت للغة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر "مغامرات تيليماك" لفنلون و حكايات لافونتين ورواية "البؤساء" لفكتور هيجو.
- طور التمرن والاستنبات
كانت المحاولات الإبداعية الأولى محض تمارين على الأنواع الأدبية، وتنطوي هذه المحولات، كما هو قدر كل البدايات، على أخطاء وهفوات استطاعت المحولات اللاحقة تداركها، فقد اشتغل المبدعون من الجيل الثاني على استنبات الأنواع الأدبية في البيئة العربية، وحرصوا على إعطائها هوية عربية من خلال المادة التي ازدانت بها هذه الأوعية الجديدة، فقد استثمر الأدباء القوالب الجديدة في التعبير عن قضايا المجتمع الذي ينضح، عهدئذ، بأزمات عميقة وتناقضات صارخة، لذلك جاءت الأنواع الأدبية الجديدة تعبيرا عن صوت المضطهدين ومرآة تعكس، بكل أمانة، الواقع العربي ومحنة إنسانه الغريب والممزق. غير أن النصفة تقتضي أن نقول إن ما أنتجته الأقلام العربية في هذه الحقبة من التاريخ العربي لم يكن مختلفا عما كان يتنج من أعمال أدبية في باريس ولندن(5).
- طور التأصيل والتتويج
راكمت الثقافة العربية إنتاجا ضخما في الأنواع الأدبية الجديدة، وقد عرفت سبعينات القرن العشرين دعوات متكررة لبلورة شكل روائي ومسرحي عربي يضمن الأصالة، ويغني عن استيراد أشكال غريبة عن الثقافة العربية، وقد تغيا المبدعون إنجاح هذا المشروع من خلال استثمار السرديات التراثية والانفتاح على الطقوس الفُرْجَوية الشعبية وتجريب أشكال جديدة في الكتابة الروائية والمسرحية كشَعْرَنَة هذين الخطابين واستغلال جماليات التهجين اللغوي، وقد أثمر ذلك خطابا روائيا متميزا في شكله ومضمونه عن الخطاب الروائي الذي يصدر من القطر الغربي، كما أطفل ذلك خطابا مسرحيا متميزا في ديباجته وتيماته عن المسرح الأرسطي. وخليق بالدارس أن ينظر إلى حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل للأدب على أنه تتويج لتلك المجهودات التي تغيت التأصيل للأنواع الأدبية الجديدة ومنحها هوية عربية خالصة.
- طور الترجمة المعاكسة
يعد تتويج نجيب محفوظ منعطفا جديدا في التاريخ الثقافي العربي، فقد انتقل العقل العربي، بعد هذا الحدث التاريخي، من عقل مستورد ومستهلك للإنتاجات الأدبية إلى عقل مُصَدِّر للأعمال الإبداعية، فهذا التتويج حَفَّز الآخر على قراءة المنجز العربي بل وترجمته إلى لغات جديدة مما جعل الأدب العربي يعبر مجاله الإقليمي إلى مجالات شاسعة، فأسهم، بذلك، في إغناء الأدب العالمي.
إن تاريخ الأدب العربي، في الحقبة الممتدة من العصر الجاهلي إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، هو تاريخ الشعر وفنونه بامتياز، فقد استأثر هذا الجنس الأدبي بالحُظْوة عند العامة والتقدير عند الخاصة. إنه الصوت الذي هيمن على باقي الأصوات الأخرى لأسباب متعددة، لعل أهمها أن الشعر كان ينظر إليه، إلى زمن ليس ببعيد، على أنه التاريخ العربي نفسه، فالمدونة الشعرية العربية ما هي إلا تأريخ شعري لتقاليد الإنسان العربي وقيمه، وسرد شعري لحياة هذا الإنسان في ديناميته التاريخية، فالشعر في البيئة العربية يعد قطرا في الدائرة الأدبية أما ما عداه من الفنون الأدبية الأخرى فتعتبر هامشا. وقد اكتمل النموذج الشعري في العصر الأول مما جعل الملل يتسرب إلى أضلاع المثلث الإبداعي في العصور اللاحقة، وما الإبدالات التي أحدثها الشعراء في بنية هذا النموذج إلا سعي حثيث لمحاربة الملل الذي إذا تمَكَّن منه أرداه ميتا، وقد نجح الشعراء نسبيا في محاربته في العصور الأولى، لكنه في عصر الانحطاط تمكن الملل من الأدب بعامة والشعر بخاصة، وللدارس أن يصف هذا العصر بعصر الانهيار الأدبي والانتكاسة الثقافية، والانتقال من هذا الطور إلى طور جديد يستعيد فيه المكون الثقافي توهجه والمكون الأدبي بريقه اقتضى من العقل العربي الانفتاح على الآخر وهو الذي أصبح يؤمن بأن الأدب العربي كل ما ازداد قربا من الآخر تحسنت أحواله واستعاد وجهه نَضَارته. وقد انفتح العقل العربي، في الحقبة الحديثة، على العقل الغربي، هذا الانفتاح الذي لم ينعش أدبه فحسب بل أغناه، كذلك، بأنواع أدبية جديدة لم يسمع بها من ذي قبل كالرواية والمسرح والقصة، فقد استطاع هذا العقل أن يبعث، بالانفتاح على الآداب الأجنبية، الشعر العربي الذي كان يعيش إبان الحكم التركي للجغرافيا العربية موتا محققا، وجعله يشهد إبدالات جديدة في الشكل والمضمون، ويتخذ مسارات متعددة، ويعرف حركات متنوعة، فالتياران الذاتي والحر في الشعر العربي الحديث هما نتيجتان طبيعيتان لاستكشاف العقل العربي للآخر. والحصيلة أن انفتاح العقل العربي على الآداب والثقافات الأجنبية قد أغنى ثقافته بأنواع أدبية جديدة من جهة وأنعش شعره وحَيَّنه من جهة أخرى.
إن الناظر في تاريخ الثقافة العربية لا بد أن يلاحظ أن الذات الثقافية المُنْتِجة لا تَنْوَجِد إلا باستكشاف الآخر والاغتراف من مُشْرَبَّيَاته الخصبة، فالآخر يعد مُحَرِّكا للتاريخ الثقافي في الجغرافيا العربية، فهو الذي نقله من طور الاحتضار والأُفُول إلى طور الانبعاث والتوهج، كما نقل الحضارة العربية من حضارة أحادية الجنس الأدبي (الشعر) إلى حضارة متعددة الأجناس الأدبية ( الرواية – المسرح – القصة )، وإذا كان الآخر قد أمد الأقاليم العربية بأوعية فنية جديدة فإن العقل الإبداعي في هذه الأقاليم قد شحنها بمواد حية، كما دبجها بألوان محايثة لهذه البيئة مما مكنها من أن تَتَمَشْهَد في ثوب يُشْعِر القارئ العربي بأنها ممتدة في ذاكرته الجماعية ويحس ، في الآن ذاته، بأنها منتوج يُغْنِي المدونة العالمية. فقد راكم العقل الإبداعي إنتاجا أدبيا يتسم بالوفرة من حيث كمه، ويتمتع بالنوعية من حيث كيفه، ويتصف بالتعدد من حيث جنسه، ويتميز بالغنى من حيث أفقه، كما استطاع أن يعبر مجاله الجغرافي إلى مجالات واسعة. والخلاصة أن انْوِجَاد العقل الإبداعي العابر للأنواع الأدبية في البيئة العربية كان باستكشاف الآخر كما أن الانْكِتَاب في المدونة الأدبية العالمية كان بإبداعات أدبية أرَّخت للذات الإنسانية الكُوسْمُوسِية.
خاتمة
إن المنحنى الجديد للثقافة العربية يَنْمَاز بلحظتين تاريخيتين، فالقراءة العَالِمة لمنجزات العقلين البرهاني والأجْنَاسي وامتداداتهما في الأنساق الفكرية والشعورية للذات الفردية والجماعية العربية تستدعي تَحْيِين الكرونولوجيا القديمة للثقافة العربية بالتأريخ لنهضتين إحداهما فلسفية والأخرى أدبية، فالنهضة الفلسفية التي انوجدت في الحقبة العباسية استطاعت أن تُغيِّر نظرة الأنا العربية إلى الأنا الغربية التي اعتبرتها، زمنا، عدوا ينبغي نفيه أو تنميطه، ليصبح، بعد ذلك، صديقا معرفيا تَغْتَنِي من مُشرَبَّياته المتدفقة، كما استطاعت ، بعد مسار استدلالي، أن تُحَلِّل معارف الآخر ومداركه، فقد اتخذ العقل العربي المدونة الفلسفية الإغريقية مادة للاشتغال النقدي والعمل النَّقْلِي ليصبح العقل العربي عقلا يتزواج داخله العاطفي بالبرهاني والذاتي بالغيري متجاوزا، بذلك، تَمَرْكُزَه حول ذاته بما تنتجه من فكر وأدب، كما أن انْكِتَابَه في التاريخ العالمي وبروزه في الفكر الإنساني قد تحقق بما أنجزه من ترجمات للمتن الفلسفي الإغريقي وبما قدمه من قراءات جديدة لهذا المتن. أما النهضة الأدبية التي انوجدت في الحقبة الحديثة فقد استكشف عقلها الإبداعي الثورة الأجْنَاسِية في الجغرافيا الغربية مما أنعش أدبه الذي كان يتجه إلى الانمحاء والانهدام من جهة، وأغنى رصيده الأجناسي بأنواع أدبية جديدة من جهة أخرى، لتنتقل، بذلك، الحضارة العربية من حضارة أُحَادية الجنس الأدبي إلى حضارة متعددة الأجناس الأدبية، كما استطاع العقل الإبداعي أن يعبر بإبداعاته مجاله الإقليمي إلى مجالات جديدة لينْكَتب في الأدب العالمي.

المراجع
- (1): "عناصر الوحدة والربط في الشعر الجاهلي" – سعيد الأيوبي، مكتبة المعارف، طبعة 1986، ص 126
- (2): " أتكلم جميع اللغات، ولكن بالعربية" – عبد الفتاح كيليطو، ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى- 2013 ، ص 23
- (3): "شعرنا القديم والنقد الجديد" – وهب أحمد رومية، سلسلة عالم المعرفة، عدد 207- مارس 1996، ص 105
- (4): م. ن، ص137
- (5): " أتكلم جميع اللغات، ولكن بالعربية" – عبد الفتاح كيليطو، ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى- 2013 ، ص 24



#محمد_الساهل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح ...
- فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
- قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري ...
- افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب ...
- تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
- حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي ...
- تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة ...
- تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر ...
- سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
- -المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية ...


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الساهل - نهضة أم نهضتان: نحو تحيين جديد لكرونولوجيا الثقافة العربية