أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الصحافة والاعلام - ياسين الحاج صالح - تسمية الأشياء بغير أسمائها: الإعلام محصنا ضد الحقيقة















المزيد.....

تسمية الأشياء بغير أسمائها: الإعلام محصنا ضد الحقيقة


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 1314 - 2005 / 9 / 11 - 11:18
المحور: الصحافة والاعلام
    


منذ أواسط السبعينات، اعتمد نظام الحكم السوري اعتمادا مكثفا على جهازين ارتكازيين، هما الجهاز الإعلامي والجهاز الأمني. وظيفة الأول هي تسمية الأشياء بغير أسمائها، ووظيفة الثاني هي منع تسمية الأشياء بأسمائها. ينتج الإعلام الكذب، وينتج الأمن الخوف الكافي لصيانته. وفي عقد الثمانينات المظلم تم التخلي عن مبدأ الخوف الكافي لمصلحة مبدأ الخوف الأكبر بالتوازي مع تغير الطلب الحكومي: صار المطلوب من الناس جميعا أن يحاكوا وسائل الإعلام الرسمية في تسمية الأشياء بغير اسمائها او بعكسها، وصارت تسمية الأشياء بأسمائها موردا للمهالك. لم يعد الإعلام اختصاصا أو جهازا، لقد اضحى بعدا منتشرا لكل نشاط اجتماعي مسموح به. ولم يعد الناس مخاطبون بوسيلة إعلامية مختلفة عنهم، صاروا هم وسيلة إعلام. فقد كانت المهرجانات والاحتفالات و"الأعياد الوطنية" والخطب والأناشيد والتماثيل والصور والأعلام إعلانات للولاء والوفاء، تعقد أمام الإعلام ومن أجله.. وهذه جميعا افعال إعلان وافعال إرعاب. واستخدم الجمهور لمسرحة فعل الخضوع وتمثيله واستعراضه من خلال "مسيرات شعبية" مليونية. وساعد في المسرحة العمومية أن خطاب الجمهور وخطاب وسائل الإعلام وخطاب مسؤولي الدولة كاد يتقلص إلى بضع عشرات من جمل ثابتة، مشحونة بالسلطة واليقين والقداسة، يستطيع أيا كان استظهارها (يعرض فيلم عمر أميرالاي "الطوفان" نموذجا مأساويا على الاستظهار والتبْليه). ولعل من الشائق تقصي العلاقة بين التراجع الحاد في المسارح ودور السينما منذ ذلك الوقت وبين مسرحة فعل الخضوع الاجتماعي. لقد "صرنا سينما" أو مشهدا، فلم تعد بنا حاجة للذهاب إلى السينما أو مشاهدة المسرحيات. على أن تدهور السينما والمسرح أوثق صلة بإحدى نتائج مسرحة الخضوع منها بالمسرحة ذاتها، أعني نزع مدنية المجتمع السوري وانكفاء الناس على الدائرة الأهلية والحياة الخاصة، خوفا ورهبة وفقدانا للثقة ببعضهم. السينما والمسرح، إنتاجا وتمثيلا وحضورا، فعلا تصويت على الثقة بالنظام الاجتماعي السياسي. الانحصار في البيوت فعل تصويت معاكس. مشاهدة التلفزيون، جهاز السلطة الوفي، ليس فعل تصويت، بالخصوص حين كان قسريا ولا منافس له. كان يقوم بدور مرآة: يري الخاضعين صور خضوعهم، ويلبي حاجة السلطة إلى الافتتان النرجسي بصورتها.
وبحكم وظيفتيهما ونوعية إنتاجهما قام الجهازان بدور لا مجال للمبالغة فيه في ترسيخ وتثبيت حالة الانفراط الاجتماعي والثقافي والسياسي الضروري لاستقرار التسلطية.

موت الخبر
كان استعداد وزير الداخلية السوري للقول إنه لا يعرف يقينا من هو المسؤول المباشر عن محاولة اغتيال لاجئ فلسطيني واسرته في دمشق يوم 13/12/2004 خبراً بحد ذاته. خبرا من حيث كونه خروجاً على تقاليد اليقين الجاهز السورية العريقة. كانت هذه التقاليد قد قضت على الإعلام في سوريا بأن ألغت الحدث (الجديد، الطارئ، الخارق للعادة، الاستثنائي، غير المألوف، المهم)، أي ما يمنح الخبر "خبريته"، وذلك عبر إذابته في مخطط ثابت، مستو، معروف سلفا ومسبق التقدير. ما يقوله هذه المخطط إن سوريا في حالة حرب، وإن المؤامرات والمخاطر (الخارجية بداهة) من طبائع هذه الحالة التي تستوجب أقصى درجات الاستنفار الوطني إذ لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. وتتكفل حالة الطوارئ المجايلة عمرا لحكم حزب البعث برعاية الاستنفار هذا. لا شيء يفاجئ المخطط، ولا شيء يند عن علمه المحيط، ولا شيء ينبو على مبادئه أو ينتأ من استوائه. وما لا يفاجئ لا يشكل خبرا، وما لا ينبو لا يمثل نبأ، وما لا ينتأ لا ينال اهتماما.
المفارقة ليست هنا. المفارقة أن إلغاء الخبر، أي الحدث والاستثنائي والمفاجئ والطارئ، تم عبر تطبيع أو تبذيل الطارئ والاستثاني وغير المتوقع في حياة الناس على يد حالة الطوارئ، وليس عبر استقرار العادة ورسوخ الدوام.
لقد ألغى رفع الاستثنائية إلى مرتبة هوية وطنية مفهوم الاستثنائي والخطير من حياة المجتمع والدولة ومن السياسة، أكثر حتى مما ألغى العادي والحياة العادية. فحين يكون كل شيئا استثنائيا يكف اي شيء عن كونه استثنائيا. وحين يكون الاستثناء هو القاعدة يتحطم الاستثناء ذاته. وإذا خلا تصور السوريين لحياتهم من مفهوم الطارئ والداهم الذي يقتضي مقاربة مختلفة، إن لم نقل مبتكرة، فالفضل لحالة الطوارئ بالذات. والمشكلة أن حياة البلاد والدولة مفعمة بالفعل بالطارئ والاستثنائي والخطير، لكن قدرة الثقافة المرعية على الإحساس به واستيعابه وتغطيته مفهوميا وقيميا تكاد تكون معدومة. إذ ينبغي أن نلاحظ أن العقيدة المشرعة لحالة الطوارئ والمفروضة سياسيا وتعليميا وإعلاميا كعقيدة وطنية ليست هي ذاتها طارئة. إنها الطبيعة الوطنية السوية والدائمة، بل الخالدة. إن إنتاج الطبيعة الوطنية هو النشاط النوعي لطبقة السلطة ومنبع شرعيتها. وهذا لأن من قوانين الطبيعة تلك أن تحتل طبقة السلطة موقعها الأعلى غير القابل للمنافسة. ولا تأبه الطبيعة الوطنية الخالدة بالمحسوس والخبرة الحية والتجربة، بل هي لا تقوم إلا على تبليد الحس وخفض مرتبة الخبرة الشخصية والتجربة الحية لمصلحة الحقيقة الرسمية. إن ثبات مستوى القرقعة الصماء التي ينتجها الإعلام المحلي ويسميها المعركة أو المصير أو المرحلة الحرجة... يفضى منذ عقود إلى نتيجة ثابتة: تعطيل الحس وتخدير عصب السمع وشل الحواس وقتل الخبر.
من أين يأتي الخبر إذن؟ فآخر خبر هو مثل أول خبر: المعركة مستمرة، والمرحلة حرجة، والخطر محدق، والعدو على الأبواب. وهذا خبر وفلسفة إعلامية ومخطط لكل وعي ممكن في الوقت ذاته. والاستنفار المستمر يثمر في النهاية نفورا مقيما. أو كما يقول المثل الشعبي "كثرة الشد ترخي". وإذا كان ثمة اخبار من سوريا وعنها في بضع السنوات الأخيرة فليس بفضل المخطط الثابت بل رغما عنه. يكتشف الناس ان سوريا بلدا يشبه غيره ولا يشبه صورته الرسمية، وان الناس فيها يشبهون بني البشر، وليسوا بحال أبطالا صامدين أو خونة مارقين.

موت السياسة
على أن تسمية الأشياء بغير أسمائها لا تقتل الخبر فقط بل هو تشوش المدارك وتقوض قدرة الناس التوجه السليم وتقلل من سيادتهم على أنفسهم وأفعالهم. ولم يكن في مقدور السلطات تضليل مواطنيها دون أن تنجح في تضليل ذاتها. يقول المسئولون أقوالا واضحة البطلان، لكنها هي كل ما لديهم من قول. وبلغ من انطلاء لعبتهم عليهم أن أضحوا غير قادرين على تكوين صورة مناسبة عن الواقع، وتاليا عن بلورة سياسات متسقة للتعامل معه. إبان وبعيد الخروج القسري من لبنان دأب رسميون سوريون على تصوير الانسحاب استكمالا لخطط قديمة بدأت قبل عام 2000. هذا غير صحيح كما يعرف الناس جميعا. وقد ذهب بفائدة الاعتراف بارتكاب "أخطاء" في لبنان، الإقرار الوحيد الذي كان يمكن بلورة سياسة متماسكة حوله. ولا ريب أن الافتقار إلى أرادة بناء سياسة حول هذا الإقرار(ما يعني محاسبة وعقاب المخطئين وتغيير السياسة التي تسببت بالأخطاء..) هو الذي ذهب به، وفتح الباب للإعلانات الزائفة حول "الاستكمال". وهذه ليست غير صحيحة فحسب وإنما هي خطرة على مطلقيها قبل غيرهم، بالخصوص في ظل عدم الفصل بين الإعلام والسياسة بل تنامي "أعلمة" السياسة الرسمية في سوريا في السنوات الأخيرة (في جانب منها، "الأعلمة" ضريبة تدفعها السلطة لمجاراة المعارضة التي احتلت من الإعلام حيزا يفوق وزنها الاجتماعي والسياسي). لماذا خطرة؟ ببساطة لأن سياسة جيدة لا تبنى على معلومات وتحليلات سيئة. ونميل إلى الاعتقاد بأن الحكوميين السوريين لا يقولون أقوالهم البخسة للاستهلاك المحلي أو لإنقاذ ماء وجههم. لقد باتوا محميين من الحقيقة ومفصولين عن الواقع بطبقة سميكة من الحقائق والوقائع المزورة. ولهذا الشرط ضلع في تراكم "أخطاء" السياسة السورية في السنوات الأخيرة. تراجع السيادة الوطنية والأهلية السياسية لطبقة السلطة لا ينفصل عن حقيقة انحصار أربابها في سجن لغة عقيم فقدت قدرتها على الإحساس بالواقع. أرادوا صيد وعي مواطنيهم فاصطادوا أنفسهم.

حياة الإعلام
هناك سياسة إعلامية وحيدة صحيحة هي حرية الإعلام. أما الانتقال من "الإعلام الموجه" إلى "الإعلام الهادف"، حسب تعريف وزير الإعلام الحالي في بداية عهده لإصلاحيته الإعلامية، أو من "إعلام الحكومة" إلى "إعلام الدولة" حسب رئيس تحرير إحدى صحيفتين رسميتين في البلاد، فلن يفضي إلى غير تحديث فوقي وعقيم لسياسة الهيمنة والوصاية. إن هدف الإعلام لا يتحدد قبل حرية الإعلام أو من خارج الإعلام الحر. بل إن حرية الإعلام هي الشرط المسبق ليكون للإعلام هدف، وما ذلك إلا لأنها الشرط المسبق للإعلام ذاته. والفرق بين الإعلام الحر والإعلام "الموجه" أو "الهادف" هو الفرق بين الحقيقة الممكنة والزيف الأكيد.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خوض الحرب السابقة
- إصلاح سوريا ولبنان للإصلاح بينهما
- سياسة الفرط والبعثرة: إعادة احتلال الميدان العام في سوريا
- من أين يأتي التغيير؟ جدليات الداخل والخارج في -الشرق الأوسط-
- السيف والندى: تأملات سياسية
- في تضاعيف المسألة الإرهابية
- الإسلاميون ومبدأ الشرعية المتساوية
- علمانية في العالم الاجتماعي أم في عالم المثل؟
- علمانية وإسلامية وديمقراطية في السجال السوري
- حقائق وزير الحقيقة البعثي
- الانحلال حلا: تأملات لا عقلانية في الشرط العربي
- البعثية السورية: من الإرادوية إلى الإداروية
- استعصاء
- وحيدا على قيد البقاء المطلق: حزب البعث في أسر السلطة
- هايل ابو زيد: آخر ضحايا نظام الاستثناء الأمني
- كلام على هيبة الدولة
- بين السلطة والإخوان: لا بديل عن التفاوض
- مخرج عقلاني من وضع مقلق
- حزب الشعب الديمقراطي السوري وتحدي بناء الذات
- المـوت الضـروري لـسـميـر قصيـر


المزيد.....




- سحب الدخان تغطي الضاحية الجنوبية.. والجيش الإسرائيلي يعلن قص ...
- السفير يوسف العتيبة: مقتل الحاخام كوغان هجوم على الإمارات
- النعمة صارت نقمة.. أمطار بعد أشهر من الجفاف تتسبب في انهيارا ...
- لأول مرة منذ صدور مذكرة الاعتقال.. غالانت يتوجه لواشنطن ويلت ...
- فيتسو: الغرب يريد إضعاف روسيا وهذا لا يمكن تحقيقه
- -حزب الله- وتدمير الدبابات الإسرائيلية.. هل يتكرر سيناريو -م ...
- -الروس يستمرون في الانتصار-.. خبير بريطاني يعلق على الوضع في ...
- -حزب الله- ينفذ أكبر عدد من العمليات ضد إسرائيل في يوم واحد ...
- اندلاع حريق بمحرك طائرة ركاب روسية أثناء هبوطها في مطار أنطا ...
- روسيا للغرب.. ضربة صاروخ -أوريشنيك- ستكون بالغة


المزيد.....

- السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي / كرم نعمة
- سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية / كرم نعمة
- مجلة سماء الأمير / أسماء محمد مصطفى
- إنتخابات الكنيست 25 / محمد السهلي
- المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع. / غادة محمود عبد الحميد
- داخل الكليبتوقراطية العراقية / يونس الخشاب
- تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية / حسني رفعت حسني
- فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل ... / عصام بن الشيخ
- ‏ / زياد بوزيان
- الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير / مريم الحسن


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الصحافة والاعلام - ياسين الحاج صالح - تسمية الأشياء بغير أسمائها: الإعلام محصنا ضد الحقيقة