غسان المفلح
الحوار المتمدن-العدد: 1314 - 2005 / 9 / 11 - 11:17
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ــ 1ــ
استباق لنص الواقع في وعي شقي , انهيار للذات الواعية في حبائل التوليفات النظرية التي تلتهمها اللحظة السياسية بعد تخريب لقيمتها المعرفية في تفاصيل هذا اليومي الذي يتعالى على الفكر في أبهته النظرية والتنظيرية .. المشهد يغيب عن المنظٌر والساحة حكرا على بندقية وسجن وسجال بين القائمين على خدمة الله والقائمين على حشر الواقع في النص المنسوب أصلا إلى قيمة هي خارج حقل : الحال في التفاصيل اليومية لهندسة الواقع المعطى سلطويا بالدرجة الأولى , معطى كي تغيب السلطة المعاصرة عن مساحة الرؤيا , والمثقف يحمل حقيبته ويتجه صوب : نفسه والآخر / الذي يشبهه .. مما يعزل النص عن صاحبه ويدخله في تأويلاته التي أشبعتها السلطة المخفية في تلافيف النص : تأويلا .. والسلطة الظاهرة قمعا وشخصنة , هي الأكثر قدرة على جعل النص يستبطنها , يستبطن تأويلاتها , ثم يتجه نحو مفاعيل إرادتها .. والإرادة هنا في هذه اللحظة بالذات من التاريخ الراهن : إرادة نظرية يراد لها أن لا تدخل اللحظة السياسية في جوانيتها
والبقاء في النص النظري : فاقدا لقيمته المعرفية ــ أليس هذا ما عملت السلطة عليه في صيرورتها لمصادرة المفهوم والأرضية التي يخصب فيها هذا المفهوم واحتكرته لذاتها وهذا حال الكثرة المتكثرة من المفاهيم المتداولة حاليا في الخطاب السوري المعارض ..
المفهوم ليس في لحظة تأسيس وإنما لحظة انعتاق من دلالاته المتداولة : الليبرالية لم تشهد منطقة من مناطق هذا العالم الحديث والمعاصر مفهوما يتم طرحه دوما في سوق التداول الثقافي والسياسي منذ أكثر من قرن .. قرن هذه الحزمة من المفاهيم وهي تستهلك النفوس والأرواح ..والليبرالية هو أحد هذه المفاهيم التي يجري عليها التركيز في هذه اللحظة السياسية . وكأن لازال لدى المجال الثقافي الخيار في تبني هذه الدلالة أو تلك أو هذا المفهوم أو ذاك ؟
مثال من الحال والحال معاش : يستطيعون سن دستور يهضم الكثير من حقوق المرأة العراقية لكنهم لا يستطيعون سن دستور يمنعها من العمل !! ولم يعودوا قادرين أيضا على فرض الحجاب دستوريا !!! مهما كانت إسلاميتهم متشددة .. فليس كل بلد يمكن أن ينتج طالبان إيران أو أفغانستان ..
بات العصر أكبر من مفاهيمه ولهذا لم تعد اللحظة السياسية لحظة تبشير بل هي لحظة .. تلق غزير من العصرنة .. لا أحد يستطيع منعه إلا بقوة السلاح .. إن أتت أكلها حتى !! .. واللحظة السياسية تقول عاملان رئيسيان وراء منع اللبرلة والدقرطة :
1ــ النظام السياسي الفاسد .. 2ــ والإسلام السياسي ... وهذا مهما تبدى نجاحه الجزئي أحيانا ــ العراق الديني في الشق الدستوري ــ لكنه لن يستطيع الوقوف في وجه عصر بحاله ..بكل حمولاته العلمية والاقتصادية والسياسية والمعرفية والقيمية ..ولن ننسى العسكرية !!!
ــ2ــ
حدثية الآن وآنية الحدث, طزاجته وحبائله الأخاذة والمدهشة , جنونه في تاريخية معاصرته وسلطاته النفاذة حتى القاع .. تهتك ستر المخبوء وتخبئ أبجديات سلطته
وما يعرٌفها .. إن ما يحدث الآن من تفجير لكل خصوصيات المخبوء في هتك ستره هو المعبر القسري للذي يحاول المقدس بكل حضوره الهروب من مواجهته , والمقدس عندنا يتمحور حول سلطته التي تارة هي نظام سياسي متسلط أو حمولات تاريخية وتراثات لم يتم مسها وهي متلبسة في حضورها التاريخي .. راهنا . حدثيا بمعنى ما , وفي تفاصيل هذا الحدث يتم خرق سلطوي فاضح لدلالات المفاهيم ــ والمفاهيم لم تكن أبدا خارج هذا التاريخ ــ فتصبح الديمقراطية إصلاح وتحديث
وتصبح : حقوق الإنسان سعيا لتحسين مياه الشرب ومياه المجاري والنفايات ..الخ وإطلاق سراح المعتقلين : ثورة في هذا الإصلاح ورواده من بقايا النظام السياسي العربي !! بالتأكيد الحدث أكبر من الرؤى مهما اتسعت مجالات الرؤيا .. لهذا عندما يفرض الحدث الخارجي دلالاته على واقع هو أضعف منه .. يصبح البحث تحت سيطرة هذه الحدثية .. لهذا حاولنا قدر الإمكان ألا نوسع الرؤيا نحو ما لا نراه في الواقع .. تحت ضغط الانجرار لشعبوية من نوع خاص أو لنخبوية لم تعد تجد من
ينخِبها .. والحدث الديمقراطي ليس حدثا نخبويا ولا هو حدثا شعبويا : إنه مساعدة على توسيع مجالات الرؤى .. وأرضية للموجود في هذا الوجود الحدثي الخاص
كي لا يبقى مستترا خلف عباءات سلطوية أو ما قبل سياسية ومدنية .. إنها بتعبير الساسة : إخراج كل القوى الفاعلة في التاريخ اليومي والمعاصر إلى العلن إلى الهواء الطلق ..مهما كانت طبيعة هذه القوى ومدى تأثيرها .. وفي واقع الحال الذي هو مدار الحوار والنقاش : سواء كانت قوى ديمقراطية أو ليبرالية أو دينية أو طائفية أو عشائرية ..الخ ولا داعي بعد اليوم للبحث المضني والشاق والحساسيات التي ترافقه من أن يستهلك الأوطان والمجتمعات الوليدة ..
الديمقراطية لم تكن بحياتها وصفة لعلاج أمراض المجتمعات بل هي الصيغة التي توفر المعرفة الحقيقية لما يدور في هذه المجتمعات لأمراضها لمخبوءاتها لسلطاتها
التي هي داخل التاريخ الحدثي أو خارجه .. ومن قال أن الديمقراطية يمكن لها أن تمنع الفكر السلفي مثلا من السيطرة على المجتمع .. أليست النازية الألمانية هي من
أعتى اللحظات الديمقراطية وأغناها للدرس والبحث .. الحدث يريد أن يرى الجميع في ساحته عراة من كل تلوين ومن كل ثياب سواء كانت محلية أو مستوردة ..هذه
هي الديمقراطية .. وليس القول أن حرية الرأي هي الفاتحة الديمقراطية إلا تأكيدا على أن هذا الحدث الديمقراطي ليس سلطة وإنما هو فتح المجال لسلطات متعددة
وبالتالي لتعايش مصالح متناقضة ومتقاربة ومتنافسة .. الخ أليست حرية الرأي هي لكافة الآراء .. مهما كانت : لدينا في فرنسا مثلا : لوبان وجوسبان وشيراك والحزب الشيوعي الفرنسي والأممية الرابعة .. أحزاب وتجمعات متباينة ومتناقضة الرؤى .. ألم يكن لوبان قاب قوسين أو أدنى من النجاح في الانتخابات الأخيرة وأسقط مرشحي اليسار في الدورة الانتخابية الأولى للرئاسة الفرنسية .. ؟؟
ــ3ــ
لم تكن الديمقراطية كما نفهمها ونطرحها نموذجا مثاليا للعمل , وليست شكلا من أشكال السلط الحلمية التي نرسمها في ذهننا أبدا , كما أنها ليست تكتيكا أو استراتيجيا لأنها بالنسبة لنا خارج هذه المعادلات النمطية من التفكير السياسي , إنها آلية : لنتعامل فيها مع بعضنا في هذه المجتمعات المنكوبة بكل وضوح ودون خوف وكي نتعامل أيضا مع الحداثة من حولنا دون وصاية على طرق العبور والتعامل من أي طرف كان سواء كان علمانيا أو دينيا أو أية سلطة أخرى .. كما أنها ليست جزء من الهوية المشتهاة التي تعتمل في تفكيرنا ووجداننا .. لأننا نعتبرها حقا مهدور ومصادر وبديهي في زمن رديء كهذا الزمن .. حيث تصبح فيه العقلانية
خيانة , والطائفية وطنية وديمقراطية لكنها ليست ليبرالية !! نريد أرضية كي نتحدث بصراحة عن حقوقنا وحقوق غيرنا .. كي نساهم في أن نوصل صوتنا إلى من يستطيع أن يدخلنا ومجتمعنا في بدايات الهوية المشتهاة والتي لم نجدها في الواقع بعد !! ولهذا مجرد تهويمات هووية لكن من حق هذه التهويمات الهووية أن تجد من يمثلها سياسيا أو يتقاطع معها كما من حقها أن تعرف بالعلن وفي ضوء النهار من يقف ضدها .. إنها الآخر حاضرا ضدي وبدون خوف منه أو مني ..
لا يمكن للنص أن يجاري الحدث مهما أدعى .. فما بالك إذا كانت السلطة الحقيقية للحدث هي نفسها سلطة النص المطروح للتداول .. الديمقراطية هي الهويات الجزئية
مهما كان شكلها ومضمونها حاضرة في التداول .. في الحوار في النقاش ومن ثم أو محايثة في صندوق الاقتراع .. الديمقراطية هي بتعبير فج ربما لا يرضي الكثيرين : هي سوقا سياسية و مفاهيمية و مصلحيه و هووية و قيمية واجتماعية واقتصادية ..الخ والسوق لا يمكن أن يصادره أحد أو أن يمنع أحدا أحدا آخر من طرح بضاعته ... هذا فهما محايثا للتاريخية الديمقراطية أو للديمقراطية في التاريخ المعاصر واليومي وليس مستنتجا أو مستنبطا من قبل عبقرية ما سياسية كانت أو فكرية أو معرفية .. وأكثر ما يضايق النص ويعتبره النص احتقارا لأدواته التواصلية هو نزولها لسوق التداول النصي أو المعرفي أو السياسي ..الخ لأن النص هنا
يطرح نفسه كبديلا عن الواقع .. مشتهى على الجميع اللحاق به والعمل للوصول إليه .. وبطبيعة الحال المشتهى نزوي وغدار أحيانا ومتلون بنزواته أحيانا أخرى ..
ــ 4ــ
بين الهوية والهوية المشتهاة يقبع النص العربي المسكون بهاجس الهوية , الكائن الفرد تائه بين ما كان وما يتمنى أن يكون والكينونة غير مرمية في قلق الماضي
و حدثية الآنية ولا أوهام أو أحلام الآتي : المشتهى النصي يفتقر للتاريخية : لأن رموز الماضي بحمولاتها حاضرة كي تغلف الحاضر والمستقبل أو كي تتحول إلى كلية عناصره كبديل عن الراهن .. ما هي علاقة العربي بالآخر في الهوية المشتهاة / الهوية الحلم .. المثقف العربي لم يعد من صناع التاريخ , بات من مروجي بضائعه : كحالتي في هذا السعار الديمقراطي .. ولا أكتب كي أصنع التاريخ بل أكتب كي أسوق بضاعة النص ليس أكثر من ذلك , لهذا كثيرا ما وجدت نفسي بعد قراءة ما أكتبه أنني كنت عصابيا قليلا : كالتاجر الذي يكتشف أنه كان يمكنه تحقيق ربحية أكثر لو كان قد عدل على رونق بضاعته أو غير في حجمها أو شكلها ..الخ
إنه النزوي والمشتهى في حضوره الآثم في هذا الخطاب الذي أسوقه للآخر : المشتهى أن نكون كبقية خلق الله وليس أسيادا عليهم ولا أوصياء فأنا لا تعنيني أمجاد
غابرة ولا سيطرة لاحقة : لهذا عندما كتبت عن الهوية السورية أسميتها : دعوة للعيش .. ومن هنا أرى أن التنظير الأيديولوجي لي ولغيري هو من باب التاريخ المصادر على : العيش هذا .. مصادر من قبل أنظمة فاسدة , وليس من قبل غرب مستغل أو من قبل أمريكا كقطب آحادي .. ولنوضح الفكر أكثر بمثال يقارب المدرسية في الطرح : أن يستغل العامل بفضل القيمة وفق الرؤية رأس المال لماركس لا يعني أن هذا العامل يفتقد للحرية والحياة ومصادرة رأيه .. حتى تستغل كعامل من قبل الرأسمال لابد أن تمتلك حريتك في بيع قوة عملك لمن تشاء , ولا بد من قانون يحمي الرأسمالي ويحمي هذا الحق .. وهذا القانون هو بالضبط الذي تكره سلطاتنا التعامل معه .. وبين رأسمالي ورأسمالي يقف العامل مستفيدا من الكيفية التي يديرون المنافسة العادية والاحتكارية !! بينهم لأن إدارة هذه المنافسة تحتاج لقوانين كي لا يستولي أحدهم على الآخر بقوة السلاح ..!!إنها البداهة في الشرط الديمقراطي , البداهة التي تشترط هذا الشرط الديمقراطي كما يشترطها أيضا,
أيعقل أن يكون هذا الاستغلال هو ما نشتهي كما يتهمنا الرفيق سلامة كيلة .. لا أظن ذلك .. ولكن دعنا ياصديقي نتعرف على أنفسنا وعلى مستغلينا وعلى ما نختلف عليه أو نتفق في العلن في الضوء في الهواء الطلق .. لماذا مؤشرات حرية الرأي هي الأسوأ في العالم العربي ..؟
الديمقراطية إذن من جديد وفي القديم آلية اجتماع لأناس أحرار .. وأصبحت بداهة ولم تعد مشتهى , بداهة عند غالبية شعوب الأرض .. ماعدا النظم التي تقبع على رقابنا وكأننا غنم ورثتها عن العشيرة أو القبيلة أو الطائفة أو استخلفها الله عز وجل فينا .. إنها البداهة التي ما عاد النص يحتملها كمشتهى ويقول صارخا :
هيهات ... متى تصبح الديمقراطية عندنا في سوريا ...!! متى يستطيع شعبنا أن يمتلك الحق على الأقل ياسيدي بالسؤال : أين تذهب أمواله وهو فقيرا ...؟؟
ــ5ــ
الديمقراطية بفضل الغرب الأمريكي لم تعد نصا نختلف عليه أو وثيقة نحتاج الحفر فيها كي نكتشف المزيد من سلطاتها وقيمها المخبوءة في ثناياها ثم نؤولها أو نفككها !! كما يفعل البحاثة العرب في الوثيقة الإسلامية !! والتراث والأمجاد وإعادة الاعتبار لأهل الحل والعقد على طريقة : جورج جبور !! إنها الحدثية الراهنة بكل حمولاتها وفجاجتها , إنها السلطات واقفة بدماء هذا المجتمع سدا في وجه هذه الدعوة للعيش كبقية البشر في هذا العالم .. لم أعد أحتاج أن تدافع عني منظمة العفو الدولية أو الهيومن رايتس وواش .. أو الشبكة الأوروبية المتوسطية أو حتى البرلمان الأوروبي .. أو أن يحمل وزير خارجية أمريكا مطلبا للإفراج عن الإصلاحيين في السعودية أو غيرها من البلدان العربية .. لماذا ؟؟ نطالب نظامهم المعرفي والقيمي والسياسي بالدفاع عن قضايانا الإنسانية وبأن لا تكون هنالك معايير مزدوجة بالتعاطي مع قضايا شعوبنا , أو أن يكفوا عن التدخل في شؤوننا الداخلية ونحن عندما ذهبنا إلى أسبانيا لم يكن تدخلا في هذه الشؤون الداخلية ؟ كان عبارة عن هداية لطريق الحق , وعبارة عن تبشير بالدعوة لأناس كانوا ينعمون بضلالهم وملحدون أو نصارى ومع ذلك ... نريد هم أن يبقوا آخرا .. إنهم لم يعودوا آخرا
يا صاحبي إنهم الأنا العالمية ... خصوصا النغمة الأثيرة عند دعاة حقوق الإنسان : قوميا !!! أنهم الأنا التي فيها المستغٍل والمستغُل فيهم الدافع عن حق الإنسان في الحياة الحرة الكريمة وفيهم الليبرالي على طريقة جورج سورس , ولأنه فيهم كل هذا باتوا هم صورتنا وباتوا هم ما يريد العالم أن يكونه .. و كانه ...!!
وكي لا توقعنا اللغة في حبائلها : إنهم نحن وهم وكل العالم : إنهم الأنا الكونية بامتياز ... ونظامهم المعرفي والقيمي والأخلاقي هو نظام البشرية الآن .. ومن هم هؤلاء إنهم : البشر ... وأظن نحن لسنا خارج البشر ولا يجب لكوننا مسلمين أن نكون كذلك .. أليست هذه هي الحداثة كما هي في التاريخ حالة كحلول الله عند سبينوزا ...؟ وللحديث صلة ...
#غسان_المفلح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟