سارت العلاقات العراقية الاميركية بشكل طبيعي لغاية 1967 فلم يكن هناك اي عداء مباشر بين كلا الدولتين حيث جمد العراق علاقاته الدبلوماسية والاقتصادية في حقبة مؤتمرات القمة التي كان عبد الناصر يدعو اليها.
تلك المقاطعةهي منعطف تحول كبير في السياسة الامريكية اتجاه العرب لاحقا فقد سعت الولايات المتحدة الى تكثيف جهودها للانفراد بكل دولة عربية على حدة وبشكل علني أو سري تنفيذا لفلسفة هنري كيسنجر استاذ العلوم السياسة في جامعة هارفارد قبل ان يصبح وزير للخارجية.
يقول غاندي :- " لو أختلفت سمكتان في اعماق المحيط وفتشت عن السبب لوجدته بريطانيا".
خرجت بريطانيا من العراق مرتين بشكل قاسِِ الاولى على يد عبد الكريم قاسم عام 1958 بعد ان تلقى دورة عسكرية في بريطانيا بترشيح مباشر من نوري السعيد! والمرة الثانية على يد صدام حسين عام 1972 ( وان كان لهذا القرار ابعاد ومداخلات مختلفة ليس الان مجال بحثها) وتلقت بريطانيا كلا الضربتين بهدوء ولم تبدي ردود فعل ارتجالية اتجاهها شأن السلوك الانجليزي المتأتي والذي يفضل العمل المضاد خفية.
الانجليز ناموا على صدور شعبنا واحد واربعين عاما 1917-1958 تحت كل اشكال التسميات السياسية وهم الذين مارسوا ضد الشعب العراقي كل اساليب القمع بعد ان اكتشف الشعب كل اساليب كذبهم السياسي ومناوراتهم البائسة طمعا في استغلال امكانيات العراق خدمة للتاج البريطاني وبريطانيا تعرف تاريخ العراق جيدا وتعرف تركيبة المجتمع العراقي جيدا لانها كانت طرفا مباشرا في العراق ولم يكن العراق من اهتمامات الولايات المتحدة ابدا اما حينما ارسلت اسطولها الى لبنان عام 1958 تحسبا لما حصل في العراق فكان ذلك بدايات المحاولات الاميركية للتقرب من منطقة الشرق الاوسط وابداء الاهتمام بها وكانت الولايات المتحدة قد اولت جل اهتمامها الى مصر في الفترة 1952-1960 لانها نظرت الى امكانية مصر السياسية بشكل مختلف عن العراق لموقع مصر واسباب اخرى وراهن الامريكان على احتواء مصر وفق سياسة دالاس وفلسفة الكاوبوى بالسيطرة على راس القطيع لكن بريطانيا استمرت على نهج الانتقام والعدوانية من العراق فبعد عام 1972 وخلال السبعة سنوات السمان التى عاشها العراق بعد جني عوائد النفط لم تبدي بريطانيا اي عداء سافر للعراق لان تلك الفترة شهدت بعض الانفتاح السياسى الداخلى في العراق وتراصف الاحزاب مع حزب البعث قبل ان ينفرد صدام بكل اشكال السلطة بعد تصفية خصومه ورفاقه فلم يكن بالامكان مواجهة علنية بل راحت بريطانيا تطبخ عشاء الانتقام على نار هادئة وراحت تدفع بشكل سري نحو المواجهة مع ايران مستفيدة من خبراتها في تاريخ كلا البلدين وواقعهما السياسي والديني ومن الروح العدوانية والطوح الاجوف لصدام حسين ليكون زعيما بارزا في منطقة الشرق الاوسط والعالم كما انها استوعبت ان فرنسا( عدوها التقليدى زمنا ليس قصيرا) اصبح الرابح الاول من عملية تاميم النفط.
وهكذا اوقعت العراق في فخ الحرب مع ايران ولتغذى ديمومة واستمرار الحرب لسبعة سنوات عجاف اخرى وحين افرزت الحرب متغيرات جديدة على الساحة وحين حان موعد وضع استراتيجية جديدة للعشرة سنوات القادمة في السياسة الامريكية التى تستبدل الكثير من خططها كل عشرة سنوات بفعل احتمالية بقاء الرئيس المنتخب مدة 8 سنوات ( راجع هذه المتغيرات في اعوام 1960-1970-1980-1990- 2000) وسعى العراق للخروج من مأزق الحرب واعادته العلاقات مع الولايات المتحدة وتطويرها في فترة رونالد ريغان ساهم الامريكان على صياغة القرار 598 في 1 اب 1987 واذا عدت الى خطاباب لصدام حسين في 6 كانون الاول 1987 تجده قد تطرق الى النقاط الخمسة التى وردت نصا في القرار 598 وبذات التسلسل الذى وردت فيه وقبل 7 اشهر من صدوره مما يثبت ان الجهود التى بذلتها مصر والاردن قد ادت الثمار فهل قدمت الادارة الامريكية ذلك القرار لانهاء الحرب هدية مجانية لصدام حسين؟ام عطفا بالشعب العراقي؟ام تحقيقا لمصالحها المستقبلية في العراق ؟وهل تم ذلك التعاون خوفا من صدام حسين ام رغبة للتقرب اليه بعد ان ادى دورا هاما للسياسة الغربية؟ وماهي تلك الشروط السرية التى بقت طى الكتمان تعلمها الاطراف الاربعة؟ ولماذا رفض صدام استقبال وفد ثلاثى من الكونغرس الامريكي بعد ان وافقت ايران على القرار 598 رغم مرور سنة على صدوره؟ وهل فعلا شفت ايران من عقدة تصدير الثورة لاسلامية الى ارض العرب مهبط الرسالات السماوية؟ ام بفعل الدور المستتر الذى لعبه الانجليز ايضا نيابة عن الامريكان في دفع ايران للقبول به؟ولماذا لم يمتلك ذلك القرار اى قوة قانونية او دولية مثل القرارات اللاحقة التى صبها الامريكان على العراق؟
نعم كانت هناك شروطا سرية وافق عليها صدام حسين ولكنه رفض التعامل بها لاحقا مع الامريكان خاصة عندما رفضت ايران القبول بالقرار مباشرة ومضى سنه عليه اخذ صدام يتحول خلالها الى مهاجم شرس مستخدما الاسلحة الكمياوية محققا ماكان يتصوره انتصارات والحقيقة كلها ان ذلك كان جزء من لعبة مشابه تماما لثغرتي " سعسع والدفرسوار التى يعرفها ابطال الجيشين المصرى والسوري في 1973 " وصدام رفض اجراء هذه اللعبة كما وردت الاشارة اليها في كلامه عندما اقترحها شاويشكو الزعيم الروماني والاب الروحي لتلك الثغرتين ايضا والتي اقترحها عليه بعد حوالى 8 اشهر من بدء الحرب العراقية الايرانية وقبول الطرف الايراني بها انذاك قبل ان يبدا صراع المراكز الدموي بين اقطاب السلطة في ايران .
لكن تمرد صدام حسين على التعامل مع الامريكان ورفضه استقبال الوفد الامريكي بعد عام 1988 كما فعل مع ممثل جلالة ملكة هولندا الذى قابله برجاء من الملكة لاعادة النظر في موضوع تاميم حصص نفط شركة هولندا ويقول للرفاق في 1 حزيران 1975 " ما اخفيكم رفاقي انى صابني الغرور وطسيت الغليون وحطيت رجل على رجل على مكتبي وقلت له هسه انت يالاحمر جاي تترجاني ان انظر بطلب صاحبة الجلالة روح سلملي عليها وقل لها ان نتحدث عن المستقبل" ولكنه لم يفعل ذلك مع الامريكان بل اظهر لهم التعالى والغطرسة مما باغت الادارة الامريكية وشعرت بشدة اللطمة على قفاها فقال الامريكان حسنا سنرى من يفوز اخيرا!
وافرز التعاون البريطاني –الامريكي عن التخطيط لاثارة مشكلة الكويت والالقاء بقشر الموزة تحت اقدام صدام حسين وساهم غباء السياسة الكويتية في الحصول على الاعتراف ب"امارتهم" باي وسيلة كانت منها انهم ساهموا مع السعوديين في اطالة امد الحرب العراقية الايرانية خوفا من ايران ورغبة في انهاك العراق وتدميره ثم انتهى الحال بهم الى لصوصية فجة بسرقة النفط العراقي لاستفزاز صدام حسين بصورة وقحة وكان هذا هو الدور المرسوم لهم اصلاً.
والان جاء القرار 1441 (رغم مافيه من اجحاف بحق الدولة العراقية والشعب العراقي وخير دليل انه لم يشر اي اشارة حسنة الى شعب العراق وهذ يتفق مع الرؤيا الامريكية فقد كانت مصر كلها سيئة بعهد عبد الناصر واصبحت كل مصر جيدة بعهد السادات ومن عيوب هذه الفلسفة الامريكية الربط الازلى بين الحاكم وشعبه ولهذا القرار احاديث اخرى)
القرار 1441 سيعلم صدام درسا في كيفية احترام قواعد السياسة الدولية وعلى فهم المتغييرات التي تحصل خلال كل عقد من الزمن والقرار نهج امريكي على اذلال الشعوب والقادة كما فعلوا مع الشاه عام 1979 وسيضع هانز بليكس الذى لايعرف عنه اى ذكاء سياسي مطلقا امام قزم اسمه صدام وفق بنود القرار . وهانز يختلف عن سابقه بتلر الفيزياوى المغمور الذي كان يلحس مؤخرات العلماء الامريكان اثناء دراسته في الولايات المتحدة لكنها ارادت تهئية الرجل لدور سياسي في بلده استراليا بعد ان حصل على ثروة جيدة من رواتبه التي تقاضاها من ماساة العراقيين وصار اسمه معروفا في بلده ومنافسا لمنصب رئيس الحكومة وبهذا تواصل امريكا نهج صنع النماذج الجاهزة لاستخدامها في المراحل القادمة من سياستها الخارجية (وبالمناسبة صدام طالب جيد في المدرسة الامريكية فهو تعلم صناعة النماذج الركيكة من المحيطين به فالاعور يمكن ان يكون ملكا للعميان. وقد قالت كل من كريماته في عريضتى التطليق من حسين وصدام كامل –ولقد خلقك ابي من العدم-)
وهكذا الحال منذ 50 عاما مضت كانت بريطانيا قد تركت مشاكل للعديد من الدول والشعوب بعد رحيلها عن تلك الدول كما في شبه القارة الهندية وجزء من شرق اسيا وامريكا تصنع النماذج كما في ماركوس وبهلوى ولادن وبتلر وغيرهم لانعرف الكثير عنهم (البعض اعتبر غاربتشوف واحدا منهم) فهي معجبة بفكرة صنع الدمى المتحركة والتخلص منها عند عدم الحاجة اليها .
لكن الان يبدو ان امريكا في طريقها الى تغيير هذه الفلسفة بعد معاناتها من نموذجين اخفقت في السيطرة عليهما سريعا ويبدو انها سائرة لوضع ثوابت جديدة في صنع النماذج الجماعية .
يعني بتعبير عراقي جميل " شدة ورد" مجموعة من الرجال الذين يتم اختيارهم بصورة غامضة ووفق مواصفات مختلفة نافعة في الحين او مؤجلة لزمن قادم تتضارب مصالحهم فيرجع كل منهم للرقاد تحت مظلة صانعه.
ويبدو ان الانجليز ايضا سائرون لتغيير عميق في فلسفتهم السياسية يريدون الان هم يصنعون النماذج وامريكا تصنع المشاكل .
انتظروا معي السنوات القادمة لنشاهد ماذا في جعبة كل منهما من تغيير استراتيجي فهما سيتفقان على تبادل المراكز خلال الحقبة القادمة والايام بيننا.