|
مطلوب ألف مارتن لوثر
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 4697 - 2015 / 1 / 22 - 21:45
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
البسطاءُ يخلطون بين "النظرية" وبين "تطبيق النظرية". البسطاءُ يخلطون بين "النصّ"، وبين "الإنسان" الذي ينقلُ النص. معظم النظريات الوضعية والفلسفات التي ابتكرها الإنسانُ منذ فجر التاريخ الإنساني، تسعى لجعل الحياة أفضلَ وأكثر تنظيمًا تحضرًا ويُسرًا وأكثر عدلا بين الناس. لكن الطغاة غالبًا ما يُسيئون تطبيق تلك النظريات الطوباية الطيبة فتفسد مع الوقت. حتى تأتي أجيالٌ جديدة لم تقرأ النظرية الأصلية، فلا يرون أمامهم إلا تطبيقها الخاطئ فيظنون أن ذلك هو صحيحُ "النظرية" الأصلية، فيعتنقون ذلك الخطأ الدارجَ ويدافعون عنه، بل يقتتلون من أجله. لا يختلفُ الأمرُ كثيرًا مع "النص المقدس" الذي نقله أنبياءُ ورسلٌ عن رب السماء. كثير من البسطاء لم تسنح لهم الفرصة لقراءة النصوص المقدسة: (التوراة – الإنجيل – القرآن). إما وجدوا صعوبة في فهمها لأنها نزلت بلغة لا يعرفونها، أو نزلت بلغتهم ولكنهم لا يدركون معانيها الدقيقة بسبب لغتها الإبداعية وصوغها المركّب. فماذا يفعلون؟ يلجأون لرجال قرأوا النصوص وزعموا فهمها الصحيح (منهم الصادقون ومنهم المدّعون). فيصدقون رجالا يزعمون أنهم ناقلون أمناءُ لتلك النصوص المقدسة، ويسميهم البسطاءُ "رجال دين"، ثم لا يراجعون أولئك الرجالَ فيما يقولون، بل يأخذون عنهم أقوالهم كأنها مقدساتٌ ومسلّماتٌ لا محلّ فيها لخطأ ولا زلل ولا سهو ولا تدليس، ويغفلون أن لأولئك الرجال نزعاتٍ ومرامىَ ومطامعَ وأهواءً، كما لديهم مستويات عقلية وثقافية وفكرية متفاوتة، وقدرات متباينة على فهم النصوص، تجعلهم قد يُسرّبون داخلها معانى لم تُقصد في النص الأصلي، لكنها تخدم مزاعمهم، أو يُخفون من متون النصوص المقدسة أشياء قد تتعارض مع مصالحهم وأهوائهم، وبهذا يُفسدون النصَّ الأصلي. ثم يأتي بسطاءُ (لم يقرأوا النصَّ) فلا يجدون أمامهم إلا أولئك الرجال المُفسدين لأصول النصوص، فيأخذون مزاعمهم كمسلّمات ظانّين أنها الأصول الحقّة، فيصدقونها ويؤمنون بها، بل يقتلون بعضهم البعض دفاعًا عنها. ولأن مفسدي النصوص كثيرون، ومتباينون وذوو أهواء متعارضة، تجد النصَّ الأصليَّ وقد أصبح "نصوصًا كثيرة" بعدد أولئك الرجال، فتحارُ أيهم تتبع وأيهم تصدق، وأيهم تهجر! هنا تنشأ الطوائفُ والملل والمذاهبُ ويختلف الناسُ ويتشتتون ويتشاحنون كلٌّ يزعم أنه "الصحيح" الأوحد، ثم يقتتلون فتنشأ المعارك باسم الله الذي ما خلق البشر إلا ليتعارفوا ويتحابوا ويعمّروا الكونَ في سلام وتحضّر وتوادّ! كان باباوات الكنيسة الكاثوليكية حتى القرن السادس عشر في أوروبا يفعلون ذلك. رفضوا ترجمة الكتاب المقدس (التوراة والإنجيل) من اللاتينية (لغة النبلاء ورجال الدين) إلى اللغة الألمانية (لغة العامة والبسطاء)، لكي لا يفهموا "النص الأصلي"، فيستغلهم الباباوات باسم الدين ويبتزون أموال الفقراء والمعدمين تحت مسمى "صكوك الغفران" لحمايتهم من جحيم الله! فكان الفقراء يبيعون أشياءهم البسيطة لشراء الغفران خوفًا من "بطش" الله وسعيره، بدلا من حبه والثقة في حنوّه ورحمته. حتى جاء رجل ذكي وجسور حاول إفهام البسطاء أن السبيل لرضوان الله ليس بشراء قطع في الجنة كما أوهمهم رجالُ الدين، وليس بشراء صكوك الغفران من الكنيسة، بل بالعمل الصالح، لأن الله لا يريد أموالنا بل صلاح قلوبنا. كتب لوثر 95 رسالة تنويرية إصلاحية وعلّقها على أبواب الكنيسة لكي يقرأها البسطاءُ ويفهموا جوهر الدين ويصلوا إلى معرفة حقيقة الله الصالحة التي لا تُشترى بالمال، ولا يبيع فردوسَه إلا للأنقياء الصالحين، وليس للأغنياء ذوي المال. كتب في الرسالة رقم 86: “لماذا يريد البابا بناء بازليك القديس بطرس من مال الفقراء، بدلاً من ماله أو مال الڤ-;-اتيكان الخاص؟" لكن البسطاء (الذين انتصر لهم وناصرهم) كانوا أول من هاجمه ورموه بالزندقة والكفر حتى طورد وعُذّب. ثم قرر ترجمة الكتاب المقدس للألمانية حتى يقرأه العامةُ ويفهمون الله بلسانه وليس بلسان الناس الذين يتكلمون باسم الله. وفهم الناس وقرأوا وبارت تجارة تجّار الدين ونجت أوروبا من ظلامها وخرجت إلى النور والمدنية والحضارة. لكن كل ما سبق حدث في القرون الوسطى من القرن الخامس حتى القرن الخامس عشر . لكن حدوث مثل تلك الضلالات في الألفية الثالثة، فهو أمرٌ يدعو للرثاء على البشرية ويدعو للرعب من مصير الإنسان الذي يرتد للوراء بدل أن يتقدم! عام 2012، هتف إمامُ مسجد بفرشوط، في خطبة الجمعة: "مَن سبَّ الشيخ حسّان، عليه أن يغتسل ويعودَ إلى إسلامه، عسى الله أن يغفر له ذنبه." لم يقل للناس إن "السبَّ" على إطلاقه مرفوض في الإسلام، لأن الرسولَ، عليه الصلاة والسلام، نهى عنه": “لا تلاعنوا”، بل خصّ أحد خلصائه، فقط بعدم جواز سبابه، وورمى بالكفر من ينتقده! والناس يصدقون ويؤمنون، وما خرج منهم رجلٌ يشبه مارتن لوثر يقول لهذا الدعيّ: “مَن أنت حتى تزعم امتلاكك صكوك الكفر والإيمان؟! لستَ إلا بشرًا خطّاءً مثلنا أساء فهم العقيدة، ويريد أن يملأ رؤوسنا بضلالاته.” كتبتُ في ذلك الحين مقالا بجريدة "المصري اليوم" عنوانه "مطلوب مارتن لوثر مصري" بتاريخ 16 أبريل 2012. والآن، بعد كل هذه الردّة الفكرية التي نحياها، برأيكم، كم "مارتن لوثر" مصريًّا نحتاج؟
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
محاكمتي في قضية رأي تتزامن مع معرض الكتاب والرأي
-
رسالةُ حبٍّ ستخطئ طريقَها!
-
رسالةُ حبٍّ ستخطئ طريقَها!
-
فاتن حمامة، احملي هذه الرسالة
-
يا معشر الثيران، متى يشبعُ الأسدُ؟!
-
الدهشة
-
انظر خلفك دون غضب (2)
-
(تحيّة للمناضلة المصريّة فاطمة ناعُوت)
-
اسمُها -حسناء-
-
شكرًا لطبق السوشي
-
نُعلنُ التنويرَ عليكم
-
انظر خلفك دون غضب - 1 -
-
حواديت ماجدة إبراهيم
-
انظر خلفك دون غضب (1)
-
عماد ديفيد
-
صالون حجازي
-
خبر مدهش: عودة الصالونات الثقافية
-
حذارِ أن تصادق شربل بعيني
-
يا معشر الثيران
-
حكاية الآنسة: ربعاوية وبس!
المزيد.....
-
المقاومة الإسلامية في العراق تعلن مهاجتمها جنوب الأراضي المح
...
-
أغاني للأطفال 24 ساعة .. عبر تردد قناة طيور الجنة الجديد 202
...
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|