فؤاد علي منصور
الحوار المتمدن-العدد: 1313 - 2005 / 9 / 10 - 09:47
المحور:
المجتمع المدني
كاتب سوري
شاع عبر تاريخنا العربي والإسلامي مفهوم إلغاء الآخر، وهذا المفهوم أثّر بشكل سلبي في تفكيرنا وحضارتنا، كأنّ الرأي عدو الآخر، وكأنّ الأرض لا تتسع لرأيين، وكأنّ كلّ المسائل الخلافية أو الفكرية محسومة لصالح رأي واحد أو شخص واحد.
لا أدري من أين دخل مفهوم الإلغاء والإقصاء إلى فكرنا وتاريخنا, وهل الإلغاء عربي أصيل؟ ولماذا لا نتقبل في أغلب الأحيان الرأي الآخر؟، بل نهاجمه ونهاجم صاحبه وقد يصل الأمر بنا إلى إلغاء الآخر نهائيّاً عندما يتعارض رأيه مع رأينا.
نعود إلى حسين بن منصور الحلاَج الذي عاش في بغداد أواخر القرن الثالث الهجري، وقتل وصلب وأحرقت جثته ونثر رمادها في دجلة في بداية القرن الرّابع.
واختلف فيه أهل عصره اختلافاً متبايناً شاسعاً, كلّ طرف يوصله إلى أقصى التطرف، فمنهم من رآه عالماً حافظاً عالماً بالأخبار والآثار صائماً قائماً, يعظ ويبكي (ابن سريج ) أخبار الحلاج لابن الساعي - 50.
ومنهم من رآه زنديقا يدعي الألوهية أو النبوة على أقل تقدير وادعى أنه يعتنق مذهب الحلولية أو التناسخ (رسالة الغفران للمعري – 348).
ومنهم من اتهمه بالسحر والشعوذة والضلال والإضلال (الجنيد، أخبار الحلاج لابن الساعي - 50) وقد كفره أغلب علماء عصره, لأن رأيه لم يوافق آراءهم, ولأن كلامه لم يأت كما يريدون وكما يشتهون, قال العاملي في الكشكول: كان يصيح في بغداد وهو يقول: (يا أهل الإسلام أغيثوني عن الله فلا يتركني ونفسي فآنس بها، ولا يأخذني من نفسي فأستريح منها، وهذا دلال لا أطيقه). ويضيف العاملي: إن هذا الكلام أحد بواعث قتله 595.
هل اتهموه لأنه أحب الخالق، أم لأنه تكلم على الخالق بما لا تهوى أنفسهم, هل اتهموه لأنه اتحد مع الخالق؟ هل لأنه رأى ما لم يحط عقل غيره بعلمه حتى يقتل ويصلب.....؟
ومن كلام الحلاج الذي أشكل على (علماء وفقهاء) ذاك العصر, قوله: (من ظن أن الإلهية تمتزج بالبشرية، أو البشرية تمتزج بالإلهية فقد كفر, فإن الله تعالى تفرّد بذاته وصفاته عن ذوات الخلق وصفاتهم). أخبار الحلاج لابن الساعي 24.
وقال يدعو إلى التأمل والتفكر وإعمال العقل:
تأمل بعين العقل ما أنا واصف
فللعقل أسماع وعاة وأبصار
هل كانت دعوته إلى التأمل بعين العقل مقتله، أم أنّ قدر المفكرين القتل إذا ألقوا أحجارهم في مستنقعات التّفكير الآسنة؟ هل رأى فيه علماء بغداد خطراًً على الله وعلى الإسلام لأنّه دعا إلى لغة العقل، يقول الحلاج:
(خذ من كلامي ما يبلغ علمك، وما أنكره علمك فاضرب بوجهي، ولا تتعلّق به، فتضلّ عن الطّريق) أخبار الحلاج لابن الساعي (12).
إذن دعوته إلى التفكير لم تكن تلزم غيره بأكثر من دعوته إلى التفكير فيها، فكيف يقتل على فكر قابل للنقاش، والحلاج ما دعا في كلامه إلاّ إلى لغة العقل والتفكير بوضوح وبإخلاص ولم ينظر لغيره من المسلمين نظرة شك أو استخفاف، أو تكفير، وحتى النّصرانيون واليهود كان ينظر إليهم على أنهم أسماء مختلفة لمقصود واحد، يقول: (يا بني: الأديان كلّها للّه عز ّوجل، شغل بكل دين طائفة لا اختياراً فيهم بل اختياراً عليهم، فمن لام أحداً ببطلان ما هو عليه فقد حكم أنّه اختار ذلك لنفسه، واعلم أن اليهودية والنصرانية والإسلام هي ألقاب مختلفة وأسامٍ متغيّرة والمقصود منها لا يتغير ولا يختلف) أخبار الحلاج لابن الساعي 38-39.
هل يلام ُصوفي أحب الخالق حتى ذاب فيه وتوحد معه، وقال وهو من أجمل ما قيل في التوحد:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حلّلنا بدنا
نحن من كنا على عهد الهوى
نضرب الأمثال في النّاس بنا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته قلت: أنا
وسئل الحلاّج عن التّوحيد فقال: (تمييز الحدث عن القدم، ثمّ الإعراض عن الحدث بالإخبار عن القدم وهذا حشو التّوحيد، فأمّا محضه فالفناء بالقدم عن الحدث، وأمّا حقيقة التّوحيد فليس لأحد عليه سبيل إلاّ لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم) أخبار الحلاج لابن الساعي (51).
هذا الرّجل المتصوّف قتل وصلب بعد ما عذب وسجن ست أو سبع سنوات، لأنّه فكر، وهل التّفكير جريمة؟ قتل لأنه تكلم إلى من أساؤوا فهمه, يبدو أن تاريخنا لا يرحم ولا ينصف، إلاَ من يسير بركبه ويقول: (نعم) لكل ّعلمائه وقادته وساسته.
الغريب أن الحلاَج عندما (حُقِّق) معه قال: (اعتقادي الإسلام ومذهبي السّنة وتفضيل الأئمة الأربعة والخلفاء الرّاشدين وبقيّة العشرة من الصّحابة، ولم يزل يردّد هذا القول وهم يكتبون خطوطهم إلى أن استكملوا ما احتاجوا إليه، وانفضوا من المجلس وحمل الحلاَج إلى السجن، وكتب الوزير إلى الخليفة المقتدر فعاد جواب المقتدر بأنّ القضاة إذا كانوا قد أفتوا بقتله فليسلّم إلى صاحب الشرطة) مرآة الجنان وعبرة اليقظان لليافعي 1498.
وقال العاملي في الكشكول: (أجمع علماء بغداد على إباحة دمه ووضعوا خطوطهم على محضر يتضمّن ذلك، وهو ـ الحلاَج ـ يقول: (الله الله في دمي، فإنّه حرام، ولم يزل يردّد ذلك، وهم يثبتون خطوطهم) أخبار الحلاج لابن الساعي 1035.
وقال الوطواط في (غرر الخصائص): اجتمعت /85/ فتوى وافقت الخليفة المقتدر على قتل الحلاَج 568.
وذكر ابن الملقّن (في طبقات الأولياء): أنّ الحلاَج (قتل بسيف الشّرع في بغداد سنة 309 هـ) 202.
إن فكرنا وأدبنا وتاريخنا وحضارتنا يعيشون أزمة أزلية إشكاليّة ألا وهي الاستبداد بالرأي, وترتب على ذلك إقصاء الآخر وإلغاؤه، والسؤال المطروح هنا: من أسهم في ذلك؟ هل نظام الحكم هو الذي فرض الاستبداد؟، هل طبيعة الجهل والتّخلّف والتزمّت هي التي أفرزت مفهومي الاستبداد وبالتالي الإلغاء؟!
أنا هنا لا أدافع عن الحلاَج وآرائه، ولا أتبنى موقفاً من مواقفه، ولكنّي أتألم لمصير شخص، تأمل وفكر وأعلن عن الملأ ما فكر به، وهو الذي دعا لنقاشه وعدم أخذ ما لا يقبل, فكيف تتم المؤامرة؟.
كيف تنسج خيوطها، لإزاحة رأي!
كيف يمكن أن تتقدم أمة, نصفها يلغي نصفها الآخر, أو عشرها يلغي تسعة أعشارها!!!
كيف تتقدم أمة تصادر الرأي, وتصلب صاحبه؟
لماذا لا ننظر إلى كل الآراء بصورة موضوعية, ثم نحكم, ولا نحاكم..
قال ابن سريج عن الحلاج: أراه حافظاً عالماً يتكلم بكلام لا أفهمه, فلا أحكم بكفره...
هل مثل هذا الرأي الموضوعي يسيء لصاحبه، لقد حكم الرجل على الحلاج بأنه يتكلم كلاماً (غير مفهوم) ولم يقل عبارة واحدة تشكك في دين ومروءة وعقل الرجل, ولم يصدر عليه حكماً بل قال: (لا أحكم بكفره).
هل يعاب كلام إمام كالغزالي عندما يقول عن الحلاج وآرائه أنها: تؤخذ على محمل النية الحسنة (نهاية الأرب في فنون العرب 14282).
هل يضيرنا أن نكون موضوعيين في كلامنا وفي أحكامنا؟ بل لماذا دائماً نطلق الأحكام, حتى وإن لم يطلب رأينا, وحتى ولو كان رأينا صائباً فهل كل الآراء الأخرى خاطئة بالضرورة!!!
أذكر هنا مثلاً إنكليزياً يقول: لا شيء مخطئ على الدوام, حتى الساعة الواقفة تكون على صواب مرتين يومياً.
لكي نتقدم علينا احترام الآخرين وآرائهم, علينا أن نحترم كل الآراء مهما كانت بعيدة عن رأينا, لسنا أنبياء حتى نكون معصومين عن الخطأ، وحتى تكون آراؤنا وحياً يوحى..
الآخرون ونحن معاً نشكل الحياة، وكل منا جزء من فسيفساء الحياة, وإن سقط حجر صغير منها شوّه اللوحة بأكملها.
هذه دعوة لنا جميعاً لنعيد النظر بكثير من الآراء المغلوطة التي شابت ثقافتنا وحضارتنا, ودعوة للحوار في كل المفاهيم.......
ولكن.. بدون إلغاء أو............ مقصلة.
[email protected]
#فؤاد_علي_منصور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟