|
نصوص من كتاب مقدمات لدراسة المجتمع العربي، للدكتور هشام شرابي، العائلة العربية المدينية
اللجنة الاعلامية للحزب الشيوعي الاردني
الحوار المتمدن-العدد: 4696 - 2015 / 1 / 21 - 14:01
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
هشام شرابي، استاذ تاريخ الفكر الأوروبي في جامعة جورجتاون في واشنطن.
العائلة البطريركية العربية، المدينية
وكما سيبدو لنا بوضوح، فان الصفة المميزة للعائلة*، هي استمرار الأنماط الأساسية للروابط العشائرية في تنظيم العائلة وعلاقاتها. وبالرغم من ان سيطرة الأب على العائلة قد فقدت من شدتها، فان وضعه فيها يبقى اسياسياً، وهناك، في بلدان (متقدمة) كسوريا ولبنان عائلات كبيرة من الطبقة الوسطى والأقرب الى الوسطى تنعكس فيها بوضوح بنية العائلة العشائرية. ويمكننا ان نطلق على هذه العائلات تسمية العشيرة أو العائلة لأن العشيرة و العائلة، تصبحان في الواقع شيئاً واحداً. وتجدر الاشارة هنا الى أن الروابط العشائرية هي أقل تماسكاً في الطبقات الفقيرة، خاصة بين فقراء المدن من جهة، وأوساط الطبقة الوسطى ذات الثقافة الغربية من جهة اخرى. ومع ذلك، فان الأب يظل يمارس سلطة واسعة في هذه الأوساط بالذات. والزواج في العائلة يجري في معظم الأحيان في اطار القربى العائلية. والمرأة يجري تدريبها لتصبح امرأة مكرسة للواجب، وواجبها الأول في الزواج لا تتوثق عراه قبل انجاب الأولاد، والصبي البكر، هو اثمن ما تملكه العائلة. انه (روح امه) و(حبيب قلبها) الذي (سيقبرها) ويظل البكر، حتى بعد ولادة أطفال اخرين عالم امه الوحيد ودليل قيمتها كامرأة، وضماناً لحياتها في المستقبل. والعائلة ميدان تفاعلات مستمرة وشديدة بين مختلف اعضائها، وهذا في الواقع مصدر كل ما في الحياة العائلية من سعادة وتعاسة. فعاطفة الحب لا تشكل لحمة العائلة ولا توجد في اطارها تعبيرات واضحة عن الحب، ما خلا بعض العواطف الحارة التي تبديها النساء تجاه الصبي، حتى لو كان الأب لطيفاً وحنواً فهو يبقى بعيداً عن متناول أطفاله، لما يبديه من ابتعاد وتعال، ولذلك فان الطفل في معظم العائلات ينمو ويشعر-على درجات متفاوتة- بأنه مكبوت ومظلوم وتعس. وسرعان ما يكشف الطفل النزاع والتوتر الموجودين في صلب العائلة، كما يظهر أن في عداء الأم نحو الأب، وهو في كثير من الأحيان عداء مبطن وكما في عداء الأخ نحو أخيه والأولاد نحو والديهم. الا أن أشد عداء يشعر به الطفل الذكر هو تجاه ابيه، مصدر السيطرة التي تحطمه وتجعل العائلة تعيش في جو من الطغيان. ان تماسك العائلة، يتحقق بواسطة ادراج الطفل في المجتمع من خلال اعتماده على العائلة وربطه بها ودعمه اياها. ومن اهم نتائج هذا الاعتماد، أن الطفل ينمو وشعوره بأن مسؤوليته الأساسية هي تجاه العائلة لا تجاه المجتمع. والابن المتحسس بواجبه هو الذي تدفعه تربيته الى الشعور بأن واجبه هو، من جهة، التضحية في سبيل والديه واخوته، ومن جهة اخرى، بذل كل ما في وسعه، من أجل اقربائه. فهو مثلاً لا يتزوج اذا كان اشقائه الصغار ما زالوا في المدرسة، او اذا كانت شقيقاته لم يتزوجن بعد، او اذا كان والده في حاجة الى الاعالة. وفي اطار هذه الشروط النفسية والاقتصادية لا يبقىة سوى مجال صغير للشعور بالواجب تجاه المجتمع الأكبر الذي يتصوره الفرد كفكرة مجردة لا ينطبق عليها مفهوم المسؤولية بصورة طبيعية. وبالنسبة الى الفرد المرتبط عائلياً بهذا الشكل، لا يمثل المجتمع سوى عالم الصراع والكفاح الذي ينتزع الفرد لنفسه فيه مكاناً ليدعم كيانه وكيان العائلة ورفاهها. ان العائلة مرتبطة في المجتمع بعلاقة جدلية (دياليكتيكية) فهي تدعم المجتمع وتناهضه في ان واحد. واذا اتفق وجود مطالب اجتماعية وعائلية متناقضة فمن الأسهل على الفرد ان يوفق بين الجهتين بالقيام بواجبه تجاه العائلة لا المجتمع.
والعائلة، في خصائصها الأساسية صورة مصغرة عن المجتمع. فالقيم التي تسودها من سلطة وتسلسل وتبعية وقمع، هي التي تسود العلاقات الاجتماعية بصورة عامة. فالنزاع والتباين والتنافر هي عوامل تميز العلاقات بين اعضاء المجتمع، كما تميز العلاقات بين اعضاء العائلة. كذلك فان بنية العائلة القائمة على السلطة الفوقية تقابلها بنية اجتماعية مماثلة اياً كان النظام الاجتماعي، مع العلم أن الفرد مضطهد في كل منهما على حد سواء. ومن حيث هي نظام، تقوم العائلة في ان واحد بتجسيد ودعم النظام الاجتماعي الأكبر. كما أن جميع المؤسسات التي تقوم بدور الوسيط، بما في ذلك المؤسسات التربوية والدينية، تقوم هي ايضاً بتعزيز القيم والمواقف التي بواسطتها تدرج العائلة اعضاءها في الحياة الاجتماعية. وغني عن القول أن قيم ومؤسسات الطبقات المهيمنة اجتماعياً (الطبقات البرجوازية-الاقطاعية) هي القيم السائدة في هذا المجتمع، وبقدر ما يكون الفقراء في المدن والأرياف تحت سيطرة الثقافة السائدة فانهم جزء من المجتمع، كما أنهم يخرجون عنه بقدر ما ينفلتون من هذه السيطرة. ومن الواضح ان تغيير المجتمع يقتضي تغيير العائلة والعكس صحيح.
السيطرة: وكما أن الصبي يشعر بأن أباه يضطهده، فهو يشعر بأن امه تسحق شخصيته. وأما البنت فيمكنها ان تكون محبوبةً، الا انها تنتمي الى فئة مختلفة غير تلك التي ينتمي اليها الذكور، وهي تلقى في العائلة معاملة مختلفة. والواقع، أن الأنثى يجري تمييزها عن الذكر بصورة اساسية. فهو، أي الذكر، كسب للعائلة، وهي عبئ عليها. والبنت منذ نعومة اظفارها تدفعها العائلة الى الشعور بأنها غير ضرورية، وغير مرغوب فيها، وتعلمها على قبول وضعها كأنثى، وهذا صحيح خاصة في لعائلات المحافظة أكثر من غيرها. من المتوقع اذن، ان تلقى البنت في اثناء طفولتها اهتماماً أقل من الذي يلقاه الصبي، ومن النادر ان تكون مركز الاهتمام الأول في العائلة اذا كان لها اشقاء. ولكن هذا يتيح لها أن تنمو بحرية أكثر، وأن تتعلم كيف تواجه المصاعب بنجاح لأنها لا تخضع للضغط نفسه الذي يخضع له الصبي. ولذلك فهي تميل الى النضوج نضوجاً اسرع وتتعلم كيف تواجه مشكلات الحياة بصورة أكثر فعالية من الصبي. هناك في المجتمع العربي كما في سائر المجتمعات القائمة على سيطرة الرجل، ميل الى الافراط في تضخيم دور الرجل والتقليل من اثر المرأة. ونعود فنقول أن الأم مع سائر الاناث الموجودات في البيت يؤثرن ابلغ تأثير في نمو الطفل اثناء السنين الأولى من حياته، أما الأب فهو نادراً ما يهتم بأطفاله الصغار الا عندما يخطر على باله ان يلاعبهم أو يعرضهم على الضيوف.
وهذا يعني قبل كل شيء، أن العائلة لا تتيح للطفل سوى مجال ضيق لتحقيق استقلاله الذاتي. فاذا حاول الطفل تسلق الدرج او فتح الباب او زحزحة الكرسي يجد من يقوم بهذا العمل بدلاً عنه. وكذلك فهو سرعان ما يتعلم العزوف عن النشاط المستقل، منتظراً من الاخرين ان يقوموا بالأعمال التي يتوجب عليه القيام بها، ومن نتائج ذلك أن الافراط في الاتكال يؤدي عند معظم الأطفال الى شعور بالعجز. كما يؤدي عند البعض الى استغراق الطفل في ذاته واكتساب عادة الخجل والجبن وأشكال اخرى من السلوك اللااجتماعي. ان نظام التربية متصلباً كان ام متساهلاً، لا يكتفي بتعليم الطفل انه عاجز عن فعل اي شيء بنفسه، بل يعلمه ايضاً انه عاجز عن تحقيق الاحترام الذاتي، بمعنى انه لا يكتسب اهمية الا اذا اعترف الاخرون بها ومنحوه المكانة والتقدير. ان الطفل يتعلم كيف يبني صورته الذاتية، وبالتالي كيف يغذي احترامه لنفسه على اساس رأي الاخرين فيه. وهو يفعل ذلك لأنه لا يلقى اي تشجيع في تكوين مقاييس تختلف عن مقاييس الاخرين وتمكنه من تكوين رأي مستقل في نفسه وشؤونه وفي كل الشؤون الأخرى. ان هذه الظاهرة، كما سنرى فيما بعد، تجد دعماً في عدد من أنماط الحياة الاجتماعية لا يعلق أهمية كبرى على تنمية قدرة التساؤل الحر عند الفرد وتطوير نضوجه الذهني بشكل مستقل. ان النظام التربوي والاجتماعي يثني الطفل عن الثقة في ارائه الخاصة ويشجعه على قبول اراء الاخرين دون تردد او تساؤل، وهذا ما ينمي في نفسه الاذعان للسلطة، أي لأبيه وللشيخ وللمعلم وفقيما بعد لكل من هو أقوى منه أو أعلى منزلةً او جاهاً. وهو اذ يكبر، يتعلم ان يكون متحفظاً والا يتخذ موقفاً حاسماً في اي موضوع، لذلك نراه يكتسب عادة (استشارة الاخرين و(أخذ رأيهم) لعجزه عن اتخاذ قراراته بنفسه. واسوة بشعوره بالخجل فان شكه في نفسه يزداد بسبب فقدانه السيطره على ذاته، كما يسبب قبوله بالسيطرة الخارجية عليه لدى دخوله المعترك الاجتماعي. ولا شك أن الافراط في الحماية كما في العقاب له اثر كبير في نمو شخصية الطفل وتكاملها. مثال ذلك أن الأم التي لا تسمح لطفلها ان يلعب لوحده في الحديقة او في الشارع فتبقيه دوماً الى جانبها تعيق تحقيق امكاناته تحقيقاً تاماً حراً. فالطفل (العاقل) هو، في نظر الأم، الذيب يجلس الى جانبها هادئاً ساكناً مطيعاً. فهي تتصور ان الطفل الحسن التربية هو الذي لا يحدث ضجة والذي يفعل ما يطلب اليه فعله والذي يحترم من يكبره سناً. وبنتيجة ذلك يصبح الطفل في كثير من الأحيان طفلاً خجولاً يهرب في وجه التهديد ولا يقاتل عندما يعتدي عليه طفل اخر، يبكي ويشتكي ويلتمس الرحمة عندما يقع في الصعوبات. ومن الأمور التي يتعلمها الأطفال بصورة خاصة، العرفان بجميل الوالدين. ونجد أن الخصام بين الوالدين كثيراً ما يتخذ شكل المنافسة في كسب ولاء الطفل والاستئثار بعاطفته. فالطفل مدفوع الى الشعور بأنه مدين لوالديه أو لأحدهما بكل شيء. والأم بسبب قربها من الطفل، لها حظ اكبر في كسبه الى جانبها. فكلما كبر الولد، كلما امتعض من شعوره بالدين، ثم يقمع هذا الشعور، ثم يقوي هذا الامتعاض في مرحلة المراهقة التي هي اشد المراحل ضغطاً وحرماناً بالنسبة الى الفرد العربي، ذكراً كان ام انثى. فالصبي يعتمد على ابيه ويرغب في التحرر من الاتكالية، وهو بسبب القيود الاجتماعية القاسية يتشدد في قمع ميوله الجنسية والعاطفية. وهو لا مكانة له في هذا العمر لأنه ما يزال يعتمد اقتصادياً على ابيه ويعيش تحت جناحيه مجبوراً على الذل والخنوع. وبما ان شعوره بعدم التلاؤم يبلغ القمة في هذه المرحلة فهو مسحوق، بما يشعر به من عجز وتفاهة، ولذلك فما ان يبلغ سن الرشد حتى يكون متعطشاً الى ابراز ذاته والى اعتراف الاخرين به والى الحصول على المكانة الاجتماعية والسلطة.
التعليم: ان التعليم كما يجري في اطار العائلة وخارجها يتميز بصفتين رئيسيتين، فهو من جهة، يقلل من أهمية الاقناع والمكافأة، ومن جهة اخرى يزيد من أهمية العقاب الجسدي والتلقين. ان ضرب الأولاد طريق مقبولة لضبط السلوك، وهذا يتم بأشكال مختلفة لكن أكثرها شيوعاً هو الصفعة التي قد لا تكون مؤلمة بقدر ما هي وسيلة اذلال، وهذا ما يفسر فاعليتها. فالصفعة يمكن توجيهها بسرعة ودون سابق انذار، والطفل المعتاد على هذا النوع من العقاب يرفع ذراعه فوق وجهه بصورة الية عندما يتعرض لأي تهديد. والى جانب كونها وسيلة (تأديب)، فالصفعة وسيلة اخرى لتأكيد السلطة وفرض الخضوع الفوري، والواقع ان الطاعة في العائلة العربية هي نتيجة الخوف أكثر مما هي نتيجة الحب والاحترام. ان هذا الشكل من أشكال ضبط السلوك يجعل الطفل يشعر بالعجز وفقدان الحماية. والطفل الذي يلقى معاملة كهذه يعتاد البكاء والنحيب ويكتشف ان عليه، لحماية نفسه، ان يستجدي الرحمة والغفران، وأن يبرر نفسه ويهدد ويبكي قدر طاقته ما يمكن. وههنا نجد ايضاً ان احترام الطفل لذاته هو الثمن الذي يدفعه لتعزيز سلطة الأب، والسلوك العدواني الذي يتبعه الأطفال الكبار تجاه الصغار ليس مجرد استئساد عليهم بل هو ايضاً محاكاة لسلوك الكبار ووسيلة للتفريج عما يعانونه من اذلال. وفيما بعد يصبح تحقير الاخرين طريقة عفوية في توكيد الذات يمعنى أن الفرد يشعر بالرفعة اذا حط من قدر الاخرين باذلالهم او لاستهزاء بهم او التقليل من قيمتهم.
التلقين: أما التلقين فهو الشكل الأكثر تنظيماً بين العقاب والتشريب Indoctrination وهو طريقة تعتمد على الترديد والحفظ بحيث لا يبقى مجال للتساؤل والبحث والتجريب. والهدف من التلقين هو نقل قيم المجتمع وعاداته الثابتة في مواجهة العالم الى صميم التركيب الذهني في الفرد. ان الفرد يتلقى نماذج متكاملة فيحولها الى نمط سلوكي دونما تفهم او نقد، وفيما هو يفعل ذلك يعتاد رؤية الأشياء وتقييمها بصورة تدعم نزعة الامتثال وتضعف طاقة الابداع والتجديد يجري توجيهها نحو اشكال مسبقة في التفكير والتصرف، مما يساعد بدوره على تعزيز نزعة الامتثال. والتلقين من حيث هو طريقة تسلطية في التعليم يجعل المتعلم يستجيب باكتساب عادة الصم (أو البصم)، اي الدراسة والتعلم باالاستظهار. ان ما يدرسه الطفل بهذه الطريقة يحفظه كما هو، بمعنى أن الفرد المتعلم لا يتأثر بموضوع التعلم لأنه لا يهتم بفهمه واداركه بل باستنساخه وحفظه. والتلميذ المجتهد هو الذي يثبت ذاته وينال المكافأة لا بطرح الأسئلة الملائمة بل باعطاء الأجوبة الصحيحة (الملقنة). ان المعرفة في اطار كهذا تصبح بالضرورة معرفة (مجردة) ليس لها سوى علاقة واهية بتجارب الحياة اليومية. انها ذات وظيفة متعالية كجزء من طقوس واحتفالات وترفيه اجتماعي، وبالتالي فهي ليست عملية تطبيقية. وهنا نجد أن التمييز بين المعرفة النظرية والتطبيق هو تمييز متصلب لا وساطة ديناميكية حية فيه، انه تمييز يحافظ على الفصل الموجود عند الفرد بين الفكر والعمل وبين الحلم والواقع. والفرد المتعلم عندما يحول السلطة الخارجية (الأب، المعلم، الرئيس) الى شيء في داخله ينتظر منه ان يستجيب استجابة منفعلة Reflexive دون تسائل كما يفعل الأطفال في مدرسة الكتاب. يتعلم الطفل باكراً جداً كيف يستجيب طوعاً للتلقين. فما أن يبدأ بالكلام حتى يجري تدريبه على ترديد الأسماء، كأسماء الأهل والأقارب، وينال مكافأة جزيلة على استجاباته الصحيحة، ثم يجد في المدرسة الابتدائية وبعدها، أن اسلم طريقة للدراسة وأكثرها ارضاءاً للمعلم هي طريقة الصم (البصم).
وبالرغم من ان الأطفال العرب، يشعرون عامةً بالخجل امام الغرباء. فلا عجب ان يعتادوا في خلال نموهم على التهذيب والدماثة والتملق. وبما أنهم يبدأون بالتعامل مع الناس في سن مبكرة سرعان ما يتعلمون بسرعة فن ارضاء الاخرين ومسايرتهم، بحيث أن الطفل المرضي عنه هو الذي يعرف كيف يتفوه بالقول المناسب أمام الأقرباء والضيوف. واذا سلمنا مع لسلي هوايت (ان المعرفة هي القدرة على التصرف بصورة ملائمة في وضع معين) فان اثمن معرفة في بيئة كبيئتنا هي معرفة اصول التعامل مع الناس. فالقول ان سمير (ولد شاطر) يعني انه يعرف كيف يتدبر امره مع الاخرين، اي كيف يتعامل مع بيئته المؤلفة من والديه وأشقائه وأقربائه وجيرانه. ولكن الطفل العربي اذا وجد في بيئة اخرى، في الطبيعة مثلاً، شعر بالارتباك (الا اذا ترعرع في القرية) لأن ما ينقصه بالضبط هو القدرة على التعامل مع الأشياء. ان التدرب على فن المعاشرة هو في الواقع تدريب على المسايرة، والمسايرة تعني حرفياً ان يسير المرء مع الاخر ويرافقه و(يتلائم) معه.
...... يكمل الدكتور هشام شرابي، فيما بعد.....
وللكن للمسايرة مساوئ اجتماعية عديدة، فمما لا شك فيه أن العمل الاجتماعي الذي تسيطر عليه روح التسلية والمجاملة لا يمكن أن يؤدي الى نتيجة فعالة. فمعالجة المشكلات المطروحة معالجة فعالة أمر صعب التحقيق عندما يكون التعامل الاجتماعي** مطبوعاً بالمسايرة والأدب الشكلي. والواقع أن المسايرة تضع عراقيل هائلة في طريق العمل والتنفيذ، بحيث يعتذر التعبير عن الخلافات أو حلها عند لقاء الناس وجهاً لوجه وبحيث أن المعارضة المكبوتة تستمر في الغليان، فتصبح القايا مرهونةً بالأشخاص انفسهم، وهكذا فان التمييز، في الحياة العامة، بين الناس وأفكارهم يبقى تمييزاً مستحيلاً. والمسايرة أكثر من مجرد سلوك تقليدي، فهي تفترض موقفاً ذهنياًَ يتهرب من المواجهة المباشرة ومن معالجة المشكلات في جذورها، موقفاً يفتش عن الحلول في تسويات مؤقتة. والطفل اذ يتعلم كيف يتكيف مع الناس يفعل ذلك، لا لتعلم ما يلائم من اسلوب الحديث والتصرف وحسب بل ايضاً لتكييف ذاته نفسياً مع فن التعامل الاجتماعي.***
يكمل هشام شرابي في مكان اخر: كذلك نجد أن المتكلم في حديث عادي او في مناقشة خاصة او عامة يميل بتوكيد ذاته بالاستحواز على انتباه الاخرين واعجابهم. واسوةً بالطفل الصغير الذي يسمع درساً يتقنه، فان المتكلم الراشد حريص على انتباه كسب اطراء الناس سزاءاً بهز الرأس دليلاً على الموافقة أو الابتسام دليلاً على الاعجاب او بالتعليق بصورة مؤاتية. ومن الشائع جداً في اللقاءات الاجتماعية ان يتبارى المتكلمون وأن يقاطع بعضهم بعضاً. ان العدوانية في حالات كهذه تنبع من حاجة الفرد الى توكيد ذاته، وبالتالي فهي تعزز ما في المناقشة من (تمثيل). ان المستمع الصبور لا مكان له في اطار كهذا، فهناك انتقاص لدور المستمع لأن الصمت يعتبر تقصيراً وبالتالي نقصاً في المكانة الفكرية و(قوة الشخصية). ان الدور الذي يمثله المتكلم يتصف الى حد كبير بردود الأفعال التي يتخيلها المتكلم عند المستمعين. فالأفكار والايحائات تتبدل بحسب رد الفعل المفترض من جانب المستمعين، والاطراء الذي يبديه هؤلاء لا يعكس مجرد استجابة موضوعية للأفكار، بل حكماً على قيمة المتكلم الممثل ككل. وبالتالي، لا يمكن للنقد أن يكون موضوعياً بل هو سلاح هجوم، ذلك ان ما هو أقل من الاطراء الشديد يعتبر نوعاً من الذم والاستخفاف، وهكذا نجد بوضوح أن المسايرة، في مجتمعنا، لا تسيطر على اللقاءات الاجتماعية فحسب بل ايضاً على المناخ الفكري للمثقفين. ان الرياء الذي ترتكز عليه المسايرة يؤدي بصورة تلقائية الى تغذية الروح العدوانية التي تظهر خاصة في (الاستغابة)، اي في النيل من سمعة الاخرين. وبالاضافة الى ان الاستغابة وسيلة للتفريج عن العدوانية المكبوتة، فهي تدعم الميل الى المعاشرة. فالطفل يتعلم الاستغابة عندما يلاحظ أن والديه وغيرهما من الكبار ينالون من سمعة اشخاص يعرفهم، وهو، اذ يتعلم كيف يخاطب الناس، يتعم ايضاً كيف يستغيبهم. والواقع، ان الاستغابة هي الوجه الاخر للمسايرة، ونتيجةً من نتائجها الحتمية. يمكن الاستنتاج من ذلك ان التوافق الظاهري الذي تحققه المسايرة يؤدي في الواقع الى توتر مبطن، وبدلاً من أن يتيح الناس لخلافاتهم وتناقضاتهم ان تنحل بصورة صريحة وواضحة نجدهم يكتمونها ويجعلونها تتأزم في نزاع باطني، ولذلك فان التفاعل الاجتماعي لا يجري الا على مستوى المجاملات. اما سائر مستويات التفاعل الاجتماعي فهي كلها مستقطبة حول العداء والمخاصمة والنزاع.
*الحديث يدور حول العائلة البطرياركية العربية، المدينية. ** نحن نرى، بأن المقصود بالتعامل الاجتماعي هنا، هو التعامل (على مستوى العلاقات السطحية) بين الأفراد وحسب، او ما يطلق عليه في السيكولوجيا الاجتماعية الماركسية (العلاقات السيكولوجية)، ولا يتعمق بحث الدكتور شرابي، في تأثير هذا بمستوى (العلاقات الاجتماعية) العميقة، اي مستوى العلاقات الاجتماعية بين الفئات الاجتماعية، والطبقية، بمستوياتها السياسية والاجتماعية والأيديولوجية. *** لا يقصد ب(فن التعامل الاجتماعي)، الابداع الأخلاقي، في السلوك المتوضع بين الأفراد الاجتماعية. بل، يقصد هنا، التلائم، والتكيف مع منظومة السطوة الاجتماعية.
#اللجنة_الاعلامية_للحزب_الشيوعي_الاردني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
علم الجمال (aesthetics)، اسسه العلمية ومراحله التاريخية
-
المبادئ المعرفية للفلسفة الوجودية
-
المادة والوعي
-
البنيوية الفرنسية
-
فلسفة كارل بوبر
-
نظرية الانعكاس والفنون
-
بيان صادر عن الحزب الشيوعي الاردني حول هجوم -داعش- الارهابي
...
-
نصوص من كتاب المنطق الشكلي والمنطق الدياليكتيكي
-
مقاطع من كتاب، الدين والجنس والصراع الطبقي، بوعلي ياسين
-
صداقة هنريتش هاينه بكارل ماركس وزوجته, الصداقة الأبدية
-
ظهور الحياة على وجه الأرض
-
بعض الأسباب التاريخية لانبثاق ما يسمى (الاشتراكية العربية, ا
...
-
سلسلة تاريخ نشوء الماركسية
-
سلسلة مادية فويرباخ الانثروبولوجية.
-
الأخلاق عند ماركوس اوراليوس
-
(البراغماتية) في الأخلاق
-
الأخلاق عند جان بول سارتر
-
(الصداقة), سويولوجياً, سيكولوجياً وأخلاقياً
-
تجربة في ظل الاشتراكية الحية... بلغاريا آنذاك والآن
-
الأمر القطعي (Categorical Imperative)
المزيد.....
-
حزب النهج الديمقراطي العمالي يثمن قرار الجنائية الدولية ويدع
...
-
صدامات بين الشرطة والمتظاهرين في عاصمة جورجيا
-
بلاغ قطاع التعليم العالي لحزب التقدم والاشتراكية
-
فيولا ديفيس.. -ممثلة الفقراء- التي يكرّمها مهرجان البحر الأح
...
-
الرئيس الفنزويلي يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
-
على طريق الشعب: دفاعاً عن الحقوق والحريات الدستورية
-
الشرطة الألمانية تعتقل متظاهرين خلال مسيرة داعمة لغزة ولبنان
...
-
مئات المتظاهرين بهولندا يطالبون باعتقال نتنياهو وغالانت
-
مادورو يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
-
الجزء الثاني: « تلفزيون للبيع»
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|