|
لسنا -كلنا شارلي-
مايا ميخائيلي
الحوار المتمدن-العدد: 4695 - 2015 / 1 / 20 - 23:20
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تظاهر الآلاف من الجزائريين في 17 أكتوبر 1961 في وسط باريس، ضد العقوبات التي فرضها عليهم النظام الفرنسي في أعقاب الحرب التي دارت رحاها في الجزائر. كانت المظاهرة سلمية، وجرت تحت شعار حرية التعبير. إعتقد المتظاهرون، على ما يبدو، بأن هذه القيمة التي تعتبر حجر أساس في فرنسا، ستسمح لهم بالتعبير عن محنتهم وغضبهم، حتى ولو إختلفت مواقفهم عن مواقف النظام في فرنسا. ولكن المدهش للأمر كان قيام شرطة باريس بقيادة موريس بابون، ضابط فرنسي تم الكشف بعد عدة سنوات من ذلك عن تعاونه مع النازيين، بقمع المظاهرة بعنف شديد. حيث تم إلقاء القبض على آلاف المتظاهرين وتم قتل العشرات منهم، وألقيت جثث بعضهم في نهر السين من قبل الشرطة. لا يزال الخلاف قائما حول عدد القتلى الدقيق، من بين جملة أمور أخرى، بسبب الإسكات المتعمد الذي فرض حول السلوك الوحشي الذي إنتهجته شرطة باريس تجاه المتظاهرين، فقد تم إخفاء الأدلة، وهكذا تم إخفاء الحدث من الوعي الجماعي الفرنسي. جرت مياه كثيرة في نهر السين منذ تلك الحادثة. في 7 يناير 2015 قام إرهابيون، عرفوا أنفسهم على أنهم ينتمون إلى تنظيم "القاعدة"، بقتل عشرة من أعضاء تحرير المجلة الأسبوعية الساخرة "شارلي هيبدو" وشرطيين، في عملية تبين لاحقا أنها بداية لسلسلة من الهجومات. إعتبر حادث القتل وإستقر في الوعي العام الفرنسي بكلمات الرئيس الفرنسي، فرنسوا أولاند، فور وصوله إلى مكان الحادث على أنه "إعتداء على حرية التعبير". يبدو أنه ومن دون التقليل من حجم إدانة هذه العملية، هنالك حاجة إلى التفكير بمصطلح "حرية التعبير" ونقاطه العمياء. فرنسا، كغيرها من الدول الأخرى، بما فيها إسرائيل، لا تسارع إلى نشر أو كشف جرائم قامت بإرتكابها. لم تكن جريمة 17 أكتوبر الجريمة الوحيدة التي تم إسكاتها: فقد سبقها جرائم نظام فيشي، والتي إعتبرت خلال عقود عديدة على أنها لا تمت للجمهورية الفرنسية بصلة. وبشكل مماثل، لم تجري فرنسا أية نقاش حول مسؤوليتها عن مذبحة رواندا وأسكتت الأصوات التي حاولت إدخال الموضوع إلى الخطاب الجماعي. الخطاب العام الذي يظهر في أعقاب العمليات التفجيرية لا يزال يثبت بأن حرية التعبير هي بقبضة الذين يرغب النظام بسماع صوتهم. بمعنى آخر، هو ممكن فقط لأولئك الذين يسيطرون على اللغة، بالمعنى الواسع للكلمة، ليس فقط الذين بوسعهم صرف الأفعال أو يمتلكون ثروة لغوية فقط، بل من خلال معرفتهم الدفينة بالثقافة، والتاريخ، وبنى القوة، والفروق الدقيقة وطبقات المعنى، وإستخدام التداعيات الجماعية وأيضا الإشارة بشكل معين - وليس آخر - للفكاهة. كشفت الأيام الأخيرة أن حرية التعبير مصونة بشدة، وتم فرضها وتحولت لشعار الجمهورية والغرب المستنير كله عندما تم إستخدامها بشكل خاص للسخرية من الرموز المقدسة للأقليات المستضعفة والمضطهدة، كالكاريكاتوارت التي تسخر من النبي محمد التي نشرت في "شارلي هيبدو". رغم إعتقادي بأن بعض هذه الكاريكاتوارات مثير للجدل ويتسم بالإبتذال والعنصرية في بعض الأحيان، فمن الممكن تفسيرها بطرق مختلفة، وبالتالي يجب عدم فرض الرقابة عليها. ومع ذلك، لا يجب الإحتفاء بها كرمز مطلق لحرية التعبير. وغني عن القول تقريبا، أن هنالك هوة شاسعة ما بين نقد صحيفة وبين إقتحام مكتبها ببنادق الكلاشينكوف، وكل محاولة لجسر هذه الهوة هي محاولة غير أخلاقية. من الضروري في هذه الأوقات العصيبة، خاصة عندما يتكرر على مسامعنا، وبشكل خاص في وسائل الإعلام والشبكات الإجتماعية والشارع الباريسي، ثغاء قطيعي كـ "كلنا شارلي"، "وحدة وطنية"، و"ديموقراطية ضد البربرية"، من الضروري إسماع صوت آخر. هذا الصوت سيمنع من أن يكون مصير حرية التعبير التحول إلى مجرد شعار فارغ، وناقص وزائف، إذا تم النظر إليها على أنها قيمة تهدف إلى الدفاع عن أصحاب النفوذ فقط. إذا كانت حرية التعبير عزيزة على القلوب، كما يتضح من الخطاب العام الدائر حاليا، فيجب تبنيها في هذا الوقت بشكل خاص من أجل الإشارة إلى نقاط عميان الديمقراطية. تكرار شعار "كلنا شارلي" لن يؤدي إلا إلى ترسيخ الآراء المتغطرسة. أما خطاب جديد، ومتعدد الأصوات، فسيعكس تعقيدات علاقات القوة بين أجزاء العالم الذي يسمى "الغرب المستنير" والأقليات التي تعيش فيه، والتي كانت تحت قبضته الإستعمارية في الماضي، ويتحمل المسؤولية الحقيقية عن جرائم الماضي، ويشمل فهم الآثار المترتبة لهذه المسؤولية على أرض الواقع، وهكذا ربما سيكون بالإمكان الحد من العنف، والإسكات والإرهاب، في كلا الطرفين.
مايا ميخائيلي هي طالبة دكتوراة في كلية الدراسات الثقافية في جامعة تل أبيب وفي كلية التاريخ في معهد "سيانس-بو"، في باريس.
#مايا_ميخائيلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لسنا -كلنا شارلي-
المزيد.....
-
الرئاسة المصرية تكشف تفاصيل لقاء السيسي ورئيس الكونغرس اليهو
...
-
السيسي يؤكد لرئيس الكونغرس اليهودي العالمي على عدم تهجير غزة
...
-
السيسي لرئيس الكونغرس اليهودي العالمي: مصر تعد -خطة متكاملة-
...
-
الإفتاء الأردني: لا يجوز هجرة الفلسطينيين وإخلاء الأرض المقد
...
-
تونس.. معرض -القرآن في عيون الآخرين- يستكشف التبادل الثقافي
...
-
باولا وايت -الأم الروحية- لترامب
-
-أشهر من الإذلال والتعذيب-.. فلسطيني مفرج عنه يروي لـCNN ما
...
-
كيف الخلاص من ثنائية العلمانية والإسلام السياسي؟
-
مصر.. العثور على جمجمة بشرية في أحد المساجد
-
“خلي ولادك يبسطوا” شغّل المحتوي الخاص بالأطفال علي تردد قناة
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|