عماد عبد اللطيف سالم
كاتب وباحث
(Imad A.salim)
الحوار المتمدن-العدد: 4695 - 2015 / 1 / 20 - 03:56
المحور:
الادارة و الاقتصاد
رغم ما ينطوي عليه التغيير من ايجابيات , فان مساحات الحوار المجتمعي لازالت محدودة ضمن اشتراطات المرحلة الأنتقالية التي يمر بها العراق حاليا ً . وتتركز مخاوف الشباب ( كغيرهم من الفئات الأجتماعية الأخرى ) حول غياب او تقييد آليات الحوار والمشاركة , وما يمكن ان يترتب على ذلك من تعطيل لما تبقى من صمامات الأمان في النظام السياسي والأجتماعي على حد سواء .
ان المراحل الأنتقالية ( بما يشوبها احيانا من عنف وعدم استقرار اقتصادي وسياسي واجتماعي , وتعثر وبطء في عمليات الأصلاح , وتراجع في مؤشرات الأداء في مختلف المجالات ) تحتاج الى قدر كبير من الضبط المؤسسي , والى توظيف افضل للموارد البشرية التي يشكل الشباب اساس قوتها , واستدامتها في الوقت ذاته . لذا فان تجاهل دور الشباب في هذا الصدد , يمكن ان يفضي الى تحول شرائح عديدة منهم من وضعهم غير المؤثر حالياً ( والشبيه بدور الأغلبية الصامتة في الأدب السياسي ) , الى قوى لا تتورع عن انتهاج سلوكيات عنيفة للأحتجاج على الوضع القائم , والمطالبة بدور اكبر في تقرير مساراته وتوجهاته . ان الجمود , وعدم الوضوح , وانعدام الكفاءة ,هو الذي يطبع المرحلة الأنتقالية في العراق بسماتها الخاصة الشاخصة امامنا حاليا. وبقاء الوضع على ما هو عليه الآن , دون تحسن يذكر , سيزيد من حدة التوترات المجتمعية , التي يجد الشباب انفسهم جزءا منها , سواء بارادتهم واختيارهم , أم بحكم كونهم يشكلون الأغلبية في نسيج المجتمع العراقي . إن انسداد الأفق , واليأس من ان تؤدي المرحلة الأنتقالية الى وضع افضل من الوضع السائد الان , قد يؤدي الى نزاع مجتمعي مسلح , تعمل القوى السياسية على تغذيته للخروج من مأزق عدم قدرتها على انجاز مهامها الأساسية , وعجزها عن تفكيك العقبات التي تواجهها . وفي وضع يائس كهذا لن يكون الشباب مصدر التغذية الرئيس لهذا النزاع فقط , وانما سيعطل هذا النزاع بدوره أية أمكانية للتوصل الى رؤى تنموية , تضع الشباب ودورهم في المكان المناسب , وفي المجالات كافة .
ان حصر القوى السياسية العراقية لأهتماماتها بالشأن السياسي والقانوني والدستوري , ومنحها الأولوية لهذه النشاطات , وأهمالها للقضايا الأقتصادية والأجتماعيىة والثقافية , قد افضى بالضرورة الى مقاربة مشوهة للشأن المؤسسي ذاته . وتحولت " المؤسسات الأنتقالية " التي يفترض ان تكون ضابطة وموجهة للأنتقال نحو اوضاع اقتصادية واجتماعية , افضل واكثر رقيّا ً, الى ميادين للتنافس الأنتخابي التقليدي , والى منابر للسجال الأيديولوجي .
لهذا جسدت " المؤسسات الأنتقالية العراقية الجديدة " , تلك " الأنقسامات العمودية القديمة " في المجتمع العراقي . وادى ذلك الى تنامي أحساس الكثير من الفئات الأجتماعية ( والشباب منها على وجه الخصوص ) بالتهميش والأستبعاد , وغياب الدور في عملية اتخاذ القرار , وضعف التاثير على عملية التحول برمتها . والخطير في الأمر هو تشكل ادراك معين لدى الشباب مفاده ان استبعادهم وتهميشهم هو فعل متعمد ومقصود . فمنعهم من المشاركة في صياغة سياسات وتوجهات المرحلة الأنتقالية ( كحاضر) , سيجعل وجهتها النهائية في غير صالحهم ( كمستقبل ) . وان ادارة عملية الأنتقال بهذه الكيفية , سيكرس في المستقبل مصالح وادوار القوى ذاتها المهيمنة الآن . وهذا يعني بالنسبة للشباب ان تكريس آليات استبعادهم الحالية , ستقود بالضرورة الى تكريس استبعادهم في المستقبل ايضا ً .
وفي جميع الأحوال فأن عدم وضوح دور الدولة والقطاع الخاص في المرحلة الأنتقالية , ونشوء شراكة من نوع خاص تجمع بين رأسمالية الدولة المالية , والقطاع الخاص المالي ( المرتبط والمستفيد من السلوك الريعي لهذه الدولة ) يشكل في جميع الأحوال عائقا امام تنامي الدور الأقتصادي للشباب . فمجالات عمل الشباب تقع تماما خارج دائرة الشراكة اعلاه . ان المشروعات الصغيرة , والخدمات غير المالية , وجميع اوجه النشاط الحقيقي القائمة على المبادرة ( وهي مجالات العمل المفضلة للشباب في العراق حاليا ) تقع كلها خارج اطار العلاقة التشاركية بين الدولة والقطاع الخاص المشار اليها اعلاه . وربما كان هذا احد اسباب " تغريب " الشباب أقتصاديا في بلدهم , وتحويلهم الى وسطاء هامشيين في سوقهم الوطنية , وتضاؤل حصتهم من الفائض الأقتصادي , وحرمانهم من الحصول على فرص حقيقية لبناء التراكم الرأسمالي الكافي , والضروري , ليكونوا عنصر الأستقرار والتوازن والسلام في هذا البلد , بدلاً من الخيارات الضارة والسلبية التي يفرضها سلوك الدولة والمجتمع عليهم الآن .
ومع التسليم بان البعد الأقتصادي هو المحدد الرئيس لدور الشباب في المجتمع , قان علاقة الشباب بالسوق , او بوسائل الأنتاج لاتزال ملتبسة وغير واضحة . والسبب في ذلك هو عدم وضوح والتباس موقف الدولة ذاتها بصدد دورها , ودور الأنشطة الخاصة في الأقتصاد . وكلما طالت مرحلة عدم اليقين هذه , كلما بقيت الأنشطة الأقتصادية للشباب موّزَعة بين الدولة كخالقة للوظائف , وبين السوق كخالق للثروة والمكانة وقوة الدور .
وهذا هو ما يعيق تحول الشباب إلى قوة اقتصادية وسياسية , انطلاقا ً من كونهم فاعلين اقتصاديين ضمن فئة اجتماعية محددة , وذات مصالح تستحق العمل من اجلها , وقابلة للدفاع عنها في ذات الوقت .
ان الشباب يقومون بدورهم في السوق , سواء أكانت سوق رسمية , او سوق غير رسمية . ولكن لا يمكن للشباب ان يكونوا منتجين , أو مؤمنين بقيم الأنتاج والكفاءة التنافسية , في اقتصاد ريعي يفتقر الى المؤسسية والتنظيم ووضوح السياسات , ويخضع لكم هائل من الضغوط ( الداخلية والخارجية ) الناجمة عن الأنقسام السياسي ( بدرجة اساسية ) .
ان الأشكالية التي يواجهها الشباب في العراق ( في المجال الأقتصادي ) لا ترتبط بالأنتاج والسوق , بل من عدم ادراك القوى السياسية الحاكمة حاليا لقدرتهم على احداث التغيير ( والتحول ) المطلوب , والأنتقاص من امكاناتهم وقدراتهم بهذا الصدد .
ان الأصرار على " توزيع الريع " ( الذي يتجسد في عوائد الصادرات النفطية التي تهيمن عليها الحكومة هيمنة مطلقة ) يجعل الدولة الريعية مترفعة عن الدور الأقتصادي للشباب ( كما غيرهم ) . كما انها ومن خلال آليات هذا التوزيع ستعمل على تحييدهم سياسيا ً, ان لم تنجح في دمجهم في منظوماتها الريعية ( وهي منظومات قيم ثقافية وسلوكية , ومؤسسات دولة , وانماط ادارة حكومية تتغلغل وتمارس هيمنتها في مجالات العمل والنشاط كافة ) . وبهذا يتم تجريد الشباب من امكاناتهم الفعلية, وقدرتهم الحقيقية على احداث التغيير , من خلال دفعهم للعمل في انشطة غير قابلة للأستدامة , ومكرسّة للسلوك الطفيلي , وعاجزة عن تعظيم فائضها الأقتصادي الخاص بها , في نهاية المطاف .
الشباب والمجتمع والدولة في العراق : إشكاليات خاصة
تتحدد إشكاليات الشباب في العراق كما هي في بلدان أخرى من خلال ارتباطها بعاملين أساسيين: الأول هو التحول من المجتمع التقليدي إلى مجتمع الحداثة . وثانيا بالتحولات التي فرضتها العولمة وتداعياتها على الشباب وسلوكياتهم وثقافتهم وقيمهم ، ومن ثم على قضاياهم المختلفة .
غير ان هذه التحولات ليس لها التداعيات ولا الصيرورات ذاتها في جميع البلدان . فبفضل الريع النفطي وما افرزه من سلوك سياسي واقتصادي وقيمي , (على وفق ميكانزماته الخاصة به) , لم يتحقق في العراق ذلك الانتقال من الاقتصاد التقليدي القائم على الزراعة إلى اقتصاد ومجتمع صناعي متمحور حول قيم العمل والانتاج . ولم تحدث تغيرات جوهرية في بنية العائلة والمؤسسات والقيم والعلاقات الاجتماعية ، ولم يبرز الفرد - المواطن - الانسان باعتباره قيمة قائمة بذاتها ، ولم تقم بين هذا الفرد وبين الدولة والمجتمع علاقته مباشرة يحكمها الدستور والقانون والانتماء الطوعي . ان نشوء الفرد بهذا المعنى لم يتحقق في العراق حتى الآن لأسباب شتى . فالهجرة الواسعة (من الريف الى المدن) لم تكن مرتبطة بأشتراطات عملية الأنتقال من اقتصاد تقليدي ( في الريف بشكل خاص ) الى اقتصاد صناعي ( في المدن ) . فغالبية سكان المدن العراقية حاليا هم من سكان الارياف الذين هاجروا نتيجة الاوضاع المرتبطة باقتصاد زراعي متخلف ، وعلاقات إقطاعية بالية تقوم على الاستغلال والقهر , الذي وصل احيانا الى حدود الاستعباد ، ( حيث يتحول المزارعون الى مجرد اقنان مرتبطين بالارض ) ؛ وحيث لا يكون ثمة مجال للإفلات من نمط الانتاج المتخلف هذا الا بالهجرة الى المدن . وفي هذه الحالة لايترتب على الانتقال من الريف الى المدن اي تحول حقيقي وملموس في القيم المجتمعية . فالمدينة ( التي تسود فيها الانشطة التجارية والخدمية بشكل رئيس ) ستتحول الى حاضنة لقيم تقليدية – ريفية يعززها هؤلاء المهاجرون داخل المجتمع المديني ؛ بحيث يعملون وبوتائر متسارعة ، وبفعل ثقلهم السكاني المتنامي على " ترييف المدن " التي هاجروا اليها، ولاحقا " ترييف السلطة " التي تجد في المدن ركيزتها الأساسية ؛ والى حيث تتحكم مخرجات هذه العملية بمعادلة القوة والثروة في البلد بأسره .
ولم تتغير هذه المعادلة في العراق بعد العام 2003 . وما تحقق ليس أكثر من نمط هجين للتحول , تتعايش فيه انماط القيم والسلوك التقليدية ، مع افضل تقنيات العولمة و واخر صيحة في مخرجات تكنولوجيا المعلومات المرتبطة بها .
كما لم يكن نموذج دولة الرعاية في العراق مقترناُ او منتجا لقيم العدالة والتضامن الاجتماعي والمواطنة والتشغيل الكامل والدخل الدائم , وبما يؤدي الى تحقيق جوهر " التحديث " أو " الحداثة " للدولة والمجتمع على حد سواء . ولم تنجح هذه الدولة ايضا في تحقيق التوازن بين الابعاد الاقتصادية والاجتماعية ضمن سياسات التنمية التي اعتمدتها منذ اوائل الخمسينيات من القرن العشرين , بسبب ظروف تكوينها الخاصة من جهة ، وطبيعة الفائض الاقتصادي, وانماط السلطة والسلوك والادارة المرتبطة به , من جهة اخرى .
والمفارقة ذات الصلة بهذا الموضوع في العراق ،ان الانقسام والاستقطاب الاجتماعي سيبقى قائما سواء تفككت دولة الرعاية ام لا . فالدولة - السلطة في العراق ( وليس الدولة – الأمة ), هي دولة مستقلة عن المجتمع , ومترفعة عليه ( بسبب طبيعة الفائض الاقتصادي الذي تتحكم هي وحدها به) . وحين تفشل هذه الدولة – السلطة في اداء مهامها الاقتصادية والاجتماعية (بسبب الانقسام السياسي ) فأن ذلك سيقود ذلك بالضرورة الى اتساع نطاق الحرمان والفقر والاستقطاب الطائفي والعرقي وأنهيار منظومات السلم الاهلي ، وسيكون " العراقي " , الذي لم تتشكل ملامح هويته – مواطنته بعد , هو الخاسر الاكبر في ظل هذا الوضع.
ان هذه التحولات " الأنتكاسية " التي طبعت التاريخ الحديث للعراق بطابعها الاشكالي ( الذي ذكرناه انفا ), كانت لها اثار متعددة المستويات على مختلف " الفئات – العمرية - السكانية " " والفئات الاجتماعية " وبالذات على فئة الشباب ) . ولن تتوقف مفاعيل هذه الاثار على الحاضر فقط ( بخصائصه المعروفة ) بل ان لها امتداداتها المستقبلية ايضا .
وبينما لم تفضي محموعة من المتغيرات المهمة , مثل العولمة ( بمخرجاتها وتداعياتها الوافدة الى العراق بقوة وزخم شديدين بعد العام 2003 ) , والانفتاح على العالم , وأنهيار النظام الشمولي ؛ والشروع في عملية اصلاح اقتصادي , تشكل نقطة البداية في بناء " الأقتصاد الحديث " , الى تفكيك فكرة دولة الرعاية , مع انها عملت على إضعافها نسبياً , إلا ان الكثير من أنظمة الضبط والاندماج الاجتماعي (التي كانت سائدة في المجتمع بدرجة او باخرى , ولسبب او لآخر ) قد انهارت ، او تآكلت بسرعة غير عادية ، وخلفّت مايشبه الصدمة او الزلزال الذي قوض كل الاسس ؛ ولكنه ابقى منظومات القيم والسلوك التقليدية (ماقبل الحداثية ) شاخصة وفاعلة في مايفترض انه " الدولة الجديدة " و " المجتمع الجديد ".
ولهذا لم يتح هذا الانتقال (الذي تم من الخارج اساسا وليس بفعل ديناميات داخلية- محلية ) فرصاً اضافية امام الشباب . وسرعان ما أدرك هؤلاء حقيقة مفادها أنهم عالقون في " مرحلة انتقالية " طويلة الامد لم تحسم وجهتها بعد .
ووسط هذا الالتباس المجتمعي ( بمظاهره السياسية والاقتصادية ) , وانطلاقا ً من هذا الأدراك بالذات , بدأ الشباب بالعمل على صياغة اسئلتهم حول حقيقة وضعهم وادوارهم الحالية والمستقبلية , وهي اسئلة يكتنفها في الغالب الالتباس وعدم الوضوح والافتقار الى دالة محددة للهدف بالضرورة . انها في جميع الاحوال اسئلة المجتمع والدولة والمواطنة التي لم تحسم بعد على مستوى العراق كله ، بمختلف فئاته وشرائحه وطبقاته الاجتماعية ؛ ومشروع دولته , الذي ينتظر بدوره اعادة تشكيله وتحديده من جديد .
ووسط هذا كله بدأت بالتشكل , داخل رحم دولة الرعاية - الريعية الهشة في العراق ؛ " طبقة وسطى جديدة " ؛ تتطفل على الريع , وتتوسد بنية الفساد المتفشية في جميع المجالات . وهذه الطبقة، او الفئة الاجتماعية الصاعدة , نتيجة " حراك إجتماعي " زائف وسريع ومنفلت لم تعد (بحكم وظيفتها التقليدية ) تحمل افكارا تحديثية او مشروع مجتمعي عام ، ولا تبحث عن حلول فئوية (او فردية) لمشاكل المجتمع الذي تعيش وتعمل وتنمو ادوارها ومكانتها في أطاره . إن كونها " طبقة وسطى " هو مجرد مرحلة قصيرة الأجل ، سرعان ما تلتحق بعدها (هذه الطبقة) بالطبقة العليا في المجتمع ، لتتحول من عامل للتقريب والدمج بين الفئات المجتمعية المختلفة , ومن ممارسة دورها المفترض كموازن سياسي وأقتصادي بين هذه الفئات , إلى عامل للاقصاء والاستتقطاب ؛ وتعميق مشاعر الاحباط والغضب , والعنف الناجم عن انعدام العدالة ، وتكافؤ الفرص .
ومع ان بعض الشباب قد وجدوا انفسهم فجاة جزءا من هذه الطبقة (باختيارهم او عن طريق الأنتماء العائلي) , الا ان الاحساس بتراجع القدرة على التأثير على مسار الامور لم يتغير . وبالنسبة لفئة الشباب ككل ، فقد اصبح المنتمون منهم لهذه " الطبقة الجديدة " خارج المعادلة الشبابية . وعندما حاولت شرائح من الشباب الانتظام في اطر مهنية ونقابية وسياسية ومحلية خاصة بهم , اخترقت القوى والاحزاب السياسية والاجتماعية المتنفذة هذه الاطر بسهولة ؛ وحولتها الى مؤسسات ومنظمات تخدم اهدافها ومصالحها , وليس مصالح الشباب المنتمين لها والعاملين ضمنها . ومرة اخرى كان " الكبار " يستثمرون الانقسام المجتمعي , بمظاهره المختلفة , لاحتواء اية مبادرات تنظيمية شبابية وافراغها من محتواها وحرفها عن مسارها .
#عماد_عبد_اللطيف_سالم (هاشتاغ)
Imad_A.salim#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟