نضال نعيسة
كاتب وإعلامي سوري ومقدم برامج سابق خارج سوريا(سوريا ممنوع من العمل)..
(Nedal Naisseh)
الحوار المتمدن-العدد: 1313 - 2005 / 9 / 10 - 11:56
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
قديما ,وفي مرحلة ما ,من التاريخ العربي ,بدت مزدهرة لوهلة خاطفة,انشغل الناس بالشعر ,والأدب ,وتذوق جمالياته التي لا تنتهي ,ولاتقف عند حدود.فسطع اسم المتنبي كمالئ للدنيا وشاغل للناس في تلك الحقبة الجميلة من تاريخ المنطقة بفروسيتها ,وعذب كلامها ,وحركتها الأدبية النشطة التي لا تهدأ ولا تنام ,وتحول بلاط سيف الدولة الحمداني إلى مايشبه مركزا ثقافيا دائما, ومفتوحا ,تقام فيه أماسي الشعر ومسابقاته ,ويستعرض فيه عذب الكلام وحلوه الذي يخاطب الروح ,وشفاف الفؤاد.وإذا كان هذا هو حال العرب أيام العز ,والسؤدد ,والفخار ,فما هو حالهم وقد مالت بهم الأحوال ,وسيطر الجهل ,والأدعياء ,والانحطاط في كل ركن من أركان الحياة,وسادت لغة الموت ,والقتل ,والإرهاب محل لغة التعقل ,والتصالح ,والتفاهم والحور؟وأصبحنا بحاجة لميليس ,وأمثاله ليصفوا لنا خلافاتنا ,ويفصلوا بين "الأخوة الألداء,ويطيّبوا الخواطر ,ويبوّسوا اللحى والشوارب لأبناء العمومة والأشقاء ,بعد أن عز ,واستحال التصافح ,واللقاء.
ومن كان سيسمع أو سيعرف باسم المدعي الألماني سابقا,ورئيس لجنة التحقيق الدولية حاليا, لولا التمادي في الأخطاء,والإصرار على "ركب الرأس" ,وارتكاب جريمة اغتيال المغدور رفيق الحريري, في يوم الحب تماما, وعيد الفالانتين ,وكأن حال القتلة يقول أن لا مكان للحب والتسامح في هذه الأصقاع؟ وهل سنرى بعد الآن متنبيا آخرا في دنيا الكلمة يشبع ظمأنا للألحان؟أوأبا فراس,يعيد لنا هيبتنا, في ساح الوغى,والقتال؟أو سيفا,أو حتى "مدية" للدولة,ولاضير, في أي بلاط؟ولماذا لم يعد أمرنا بيدنا ؟واستلمنا ميليس,وغيره , من سايكس,وبيكو,ولارسن ومجلس الأمن وكوندوليزا رايس ,وطابور الأوصياء الكثر,وباقي شلة المفوضين الساميين و"البيبي سيترز" اللازمين تماما في حضانات السياسة, وكأننا أطفال صغار نحبو, ونترنح في أولى الخطوات في السياسة ,والإقتصاد ,والإجتماع, والحياة,بكل تفاصيلها, بشكل عام. وهكذا ,أصبحت الأسماء الغربية مألوفة تماما في عالم العربان,ويتجهون-والحمد لله- نحو العولمة ,بقوة وثبات .وأصبحنا لا نستطيع العيش, والحراك ,أو مجرد التفكير بدون بيكر,وكيسنجر ,وبريمر,أو وصاية وقرار من هذا المجلس ,أو تلك المنظمة ,أو هذا الاجتماع. فلجنة للتحقيق في المقابر الجماعية ,وأخرى لأسلحة الدمار الشامل,وسابعة للإطلاع على الواقع ,وواحدة لتقصي الحقائق,وأخرى لفض الأشتباك ,وثالثة للكوارث والمجاعات ,وعاشرة لدراسة أوضاع حقوق الإنسان المتردية التي أكلها, ونكرها الجنرالات,وهكذا دواليك في حال العربان هذه الأيام.
لاشك بأن تاريخ المنطقة السياسي سيدوّن ,من الآن وصاعدا,بما قبل ميليتس ,وما بعده.وإن كان هناك بعض الاستشراف لسير التحقيقات ,إذا ما ربطت بالنوايا المعلنة ,والمشاريع التي يتم تفصيلها على مقاس مصالح "لوبيات" الضغط المتعددة في المنطقة. وقد طغى اسم المحقق الألماني على كل فعل ,وحركة ,وربما,وفي هذه المرحلة بالذات, على اسم الرئيس الراحل المغدور رفيق الحريري بكل ما كان لهذا الأخير من نفوذ مالي ,وتأثير سياسي واسع الطيف. فكل تعليقات الصحف ,وافتتاحياتها ,وتحليلاتها لابد أن تشير إلى المكان الذي هو به الآن ,وماذا يفعل ,ومن قابل ,وربما قبل أن يتم الحديث عن درجات الحرارة, التي تهم الناس في هذه المنطقة الملتهبة مناخيا ,وسياسيا ,واقتصاديا.....وإرهابيا.وحين تقابل ,أو تتصل بصديق ,فلا بد سيكون العزيز ميليس واحدا من محاور الحديث الحميم.وإذا أراد تاجر أن يباشر مشروعا,أو يستثمر أموالا ,أو أن يعقد صفقة فلا بد أنه سيلقي بنظرة متأنية وفاحصة على "مؤشر "ميليس" السياسي قبل النظر إلى خرائط تصميماته.وإذا أراد سياسي ما أن يخوض في الليبرالية ,والديمقراطية ,وحقوق الإنسان , وحل معضلة تهم الصالح العام ,فإن ذلك مؤجل إلى حد كبير بانتظار ما سيقوله ميليس في تقريره النهائي .وأصبح الرجل واسمه ,وتحركاته محورا ,ومحطا للمتابعة والملاحقة والاهتمام من السياسيين قبل الإعلاميين والصحفيين المنشغلين بتغطية الأخبار.وأصبح من الضرورة إنشاء خلية متابعة اسمها خلية ميليس , لما أصبح للرجل من تأثير واضح على إيقاع الحياة السياسية اليومية بشكل عام. وإذا كنت تتابع مسلسلا كوميديا ,أو فيلما تراجيديا ,أو ندوة عن الديمقراطية الموؤودة في متاهات النفاق السياسي ,فسرعان ما سيتم الإنتقال بك,ودون أخذ رأيك طبعا, إلى مكان ما مرتبط بمهمة ,وعمل السيد ميليس, وأين وصل هو وتحقيقاته.فيما أصبح اسمه مادة دسمة وجذابة للعديد من المواد ,والعناوين الصحافية التي يبدأ الجميع بها يومهم. وكل شيء أصبح منوطا ,ومتداخلا ,ومتشابكا ,بطريقة ما ,بما ستسفر عنه نتائج تحريات ديتلف ميليس مالئ الدنيا وشاغل العربان هذه الأيام.
الحركة المثيرة,وفي مرحلة حاسمة من تطور عملية التحقيق,تجلت في اعتقال أربعة من جنرالات الأمن المرعبين وكانت بحق خبطة مدوية , وأمرا مجلجلا لم يألفه تاريخ المنطقة السياسي حيث كانت دائما تتم ترقية العابثين بقوت ,وأمن ,وصحة ,وسلامة الشعوب ,والناهبين لثروات البلاد,والجاثمين على صدرها وتكريمهم ,وانتقالهم من حسن إلى أحسن حتى يأخذ الله أمانته,لاسيما بعد تسريبات صحفية عن ثروات هؤلاء التي بلغت حد المئة مليون دولار لكل واحد منهم ,واللهم لاحسد ,فالعاطي هو الله رب العباد.ويتساءا الخبثاء هل من أسماء أخرى كبيرة على لائحة ميليس الإعتقالية؟ هذا ,ولم يسبق أن رأى مواطن عربي واحدا من جنرالات البطش يُقتاد ,بمهانة ,هكذا أمام ناظريه ,إلى أقبية التحقيق كما كان يفعل هو سابقا-الجنرال- مع معارضي نظامه الأمني الشمولي, ,وأن يقفوا في نفس المكان والموقع الذي اعتاد هو نفسه أن يوقف فيه طويلي اللسان ,والمشاغبين من أبناء جلدته الأشرار.
وبغض النظر عما ستفضي إليه نتائج التحقيقات,وإن أصبح سيرها, تقريبا, شبه مكشوف للعيان ,وعلى أكثر من محور ,والقادم ماهو إلا تحصيل حاصل بروتوكولي ,وربما محض إجرائي ولوجستي ,فإن كل ذلك يدخل في نطاق القصف الإعلامي والتمهيد المسبق ,وتهيئة الرأي العام العالمي والمحلي إلى ماستؤول إليه الأمور بعد الانفضاض من المرحلة "الميلسية" التي ستكون ,ولا شك,مقدمة لمرحلة عاصفة أخرى بعدها ,ربما تكون أكثر دراماتيكيا ,وقد يتذكر الناس هذه المرحلة ’بما فيها من غموض ,وإثارة ,وخبطات ,بنوع من الحنين إلى ما كان عليه سابق العهد إذا ماجربت ,وبحماقة,الفوضى البناءة مرة أخرى , هذا إذا ظلت النوايا الغربية على ما هي عليه الآن ,ولم تعقد مساومات اللحظة الأخيرة من تحت الطاولة ,و"يا دار ما دخلك شر".ولكن السؤال الأهم ,فيما لو حصل ذلك,هل سيسكت ورثة المغدور, عما أحاق بهم ,وقد أصبح يتوفر لهم ,وحتى اللحظة,الكثير من المعلومات ,والمعطيات الهامة,وقد أكدوا مرارا أن لا مساومة على دم الحريري ومهما كانت الأثمان.كل ذلك,مرة أخرى,مرتبط بما ستسفر عنه تحريات ميليس,وربما ماسيدفع من ثمن سياسي هو الأهم من كل ذاك في النهاية ,وستأتيك الأيام القادمة بالكثير من المفاجآت.
لا يمكن تشبيه هذه الحالة التي يعيشها كثيرون الآن ,إلا كمثل طلاب العلم في مرحلة الترقب والحذر التي تسود قبل صدور النتائج, وتوزيع الشهادات, حيث سيعرف من سينجح وينتقل إلى بر الأمان,ومن سيفشل ,ومن سيطرد ,ولن يتم قبوله نهائيا في "المدارس" السياسية بعد هذا "الامتحان" الشاق,وإن كان من الممكن,ومن الآن, التكهن بأسماء بعض الراسبين.
#نضال_نعيسة (هاشتاغ)
Nedal_Naisseh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟