|
ذاك ال(6)طاس وذاك الحمّام
عماد حياوي المبارك
(Emad Hayawi)
الحوار المتمدن-العدد: 4694 - 2015 / 1 / 18 - 00:59
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تضمنت الأجزاء الخمسة السابقة، معايشتي لحرب الكويت والهجمة الشرسة والهزيمة المرّة والفشل السياسي الذريع للقيادة العراقية في تلك الأيام العصيبة. في هذا الجزء، مُناجاة الذات يعتصرها ألم وهي تشهَدُ احتضار وطن، بعض من مشاعر أحسستها وعشتها ـ أحسّها وعاشها ـ ملايين العراقيون سواءً كانوا داخل بلدهم أو على بُعد آلاف الأميال.
ذاك الطاس (6) وذاك الحمّام في مسقط رأسي مدينة (بعقوبة) في الستينات لم يكن سوى حمّام بلدية واحد، وكانت لي فرصة ذهاب له بمعيـّة أبي في طفولتي لم يصادف غيرها، غير أنها كانت كافية أن أعيش أجواءه كلما أسمعُ أهلي يُطلقون المَثــَل الشعبي (الطاس والحمّام) عند استيائهم وتذمرهم من عودة تصرف مُعيب لأحدٍ ما. فقد كان المَـثـَـل يأخذني سريعاً الى خارج الحمّام... لعالم الخيال، فأعيش دفء الحمام وأشعر بالبخار يلفني وأشمّ رائحة شاي الدارسين ! × × ×
... إنه شهر آذار 1991 وحَملة الأعمار قد بدأتْ، الجميع خلية عمل سبعة أيام بالأسبوع لإصلاح ما أفسدهُ القصف، وكلنا أمل بأن المغزى عميق و(الصفعة وجرّة الإذن) التي تلقتها الطغمة الحاكمة في العراق وإن لم تـُسقطها لكنها كافية لمراجعة الحسابات وتعويض الشعب ثمن ما دفع.
كنت أمُر صباح يوم جمعة في منطقة (العلاوي) قرب بدالة الصالحية التي نـُعيد تأهيلها، لمحتُ صاحبي و(مـُـنقذي) آمر سرية المشاة بالبصيّة يُطلق (صَفنة) وأناهيد... ـ هلو جمال، سلامات، شتسوي هنا؟ قال: آخر أمر تلقيناه عند اجتياح الأمريكان للبصية، هو منحنا إجازة مفتوحة لنتجمع بعد جمعتين بالعلاوي، وها أنا ذا ! ـ وشخبار أم علاوي؟ قال: تصوّر كان الهجوم البري بالضبط على قاطعنا... وأضاف: وجدنا أنفسنا خلفهم، لأن القوات الأمريكية وفي مشهد غريب (لبسونا) وتجاوزوا البصيّة باتجاه الخط السريع وتمركزوا بقاعدة (الإمام علي الجوية)، وهم من أعطى المجال أن نهرب... قسم منا أتبعَ طريق السماوة وفلت، وفضّل آخر الاستسلام للسعوديين كخَيار آمن !
ولما تعجبتُ من وجود قرابة الثمانين شخص من مجموع الفرقة قال... ـ فقط هذا العدد الذي بقي من فرقة ام علي، ستسألني كيف؟ وأضاف: راح أشرح لك الموقف بمعادلة رياضية، نصف الفرقة هرب قبل الهجوم البري علينا، والنصف الباقي نصه تأسر، البقيّة نصهم أستشهد، واللي بقي... ثلثه مجروح وثلثه نايم في بيته... البقية أمامك ! × × ×
كنت وكلما أسمع (القائد) يغرّد بالمذياع أو أن أرى وجهه يطل من خلال شاشة التلفاز، أشعر بضيق يجتاحني، وأتساءل هل سبب ذلك خوفي من بعض الكلمات التي أطلقتها ضده في مركز اتصالات المأمون والتي سمعها الجميع، فمجرد وشاية بي كانت تكفي للف حبل المشنقة حول رقبتي ورقبة أهلي وحتى جيراني، في وقت كان النظام فيه مسعوراً؟ أم سببها رد فعلي وتساؤلي كعراقي من هول الصدمة الفاجعة، أقف على أطلال بلدي، ونحن الجيل الذي ساهم ببنائه وتشييده؟
جيل يتساءل لماذا فرّط الأمريكان بأبسط فرصة لخلاصهم وخلاصنا منه، فقد مرت أيام ثار بها الشعب وأستطاع (كسر) حاجز الخوف، وبدا (القائد) ولأول مرة بتاريخه يفقد زمام الأمور كمن تلقى الضربة القاضية وصار (يترنّح) على الحبال... أم أنه كالثور الهائج الذي تلقى ما يكفي من السهام ولم يتبقَ سوى أطلاق رصاصة (الرحمة) عليه! هل أنه ومن وجهة نظر الأمريكان، لا يزال دوره لم ينتهِ، وأن وقت (قطافه) لم يحِن بعد؟
تطوّر الضيق بنفسي وتحول إلى مواجع، ولم أعـُـد أتحمل سعيرها في أعماقي، فكلما أشاهده وهو ينعم بالراحة والسعادة، حتى تنتابني ثورة لم يعهدها فيّ أحداً من عائلتي، زوجتي تحيّرت وبكى أبني البكر ذو السنتين على وقع (هسترتي) أمامه، وصرت أطلق كلماتي نحو السماء، اُعاتبها... ـ لماذا يا الهي دفـّعتنا هذا الثمن الكبير دون أن تخلصنا منه... لماذا ؟ لست أدري، هل هي كفر أم هو انهيار أم يأس... أتساءل هل كان الله يسمعني؟ لكنه على أية حال قد أحسّ بقلوب ملايين العراقيين الذين خلقهم للأسى والقهر، تستغيث وتسأله الرحمة والرأفة... توجّه أيديها ناحية السماء بعد يأسها من رحمة بشر أسودت قلوبهم وعمت بصيرتهم... كان العالم مُبتهج والكويتيون يرقصون ويلوّحون بإشارات النصر رافعين أعلام بلدهم المُحرر، بينما الأعلام العراقية ترزح... تحت الأقدام ! يقول مثل هولندي: أن البشر أخبث الحيوانات على وجه الارض*. والمثل الإغريقي يقول أنّ الإنسان، أياً كان، لو أتيحت له فرصة أن يظلم إنسان... لظلم.
هل فعلاً تنطبق هذه الأمثال علينا، نحن البشر خبثاء وظلّام، أم هي صفات حكامنا فقط؟ وبينما كنت أقاسي الأمرين، ألقتْ المرحومة (أمي) نظرة خاطفة على جهاز التلفاز لترى القائد (المنتصر) يتوعد مواطنيه ويُقسّم البلد لمحافظات بيضاء وأخرى سوداء وثالثة رماديّة... ثم يلطف الجو ليطلق كعادته (كهكهات) عالية بلا استحياء... عقـّبَتْ بإيجاز بسيط... (شو رجعنا، ذاك الطاس... وذاك الحمام)!
عندها أعادني المثل لأجواء الحمام، لكن... بدل الدفء، شعرتْ نفسي بحرارة الجرح، ولفني بدل البخار... خيبة الأمل، وشممت بدل الدارسين... رائحة اليأس! عماد حياوي المبارك آذار 1991 المثل الهولندي: Mensen zijn de gemeenste dieren die er bestaan
معنى المثل بالانكليزية: People are the meanest animals that exist ومعناه بالعربية: البشر أخبث الحيوانات الموجودة.
#عماد_حياوي_المبارك (هاشتاغ)
Emad_Hayawi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أي(5)ام صعبة
-
هولوكوست المل(4)جأ رقم 25
-
م(3)ركز 12047
-
جليكان مل (2) يان بالمجان
-
خ(1)راب البصيّة
-
(سِكس) طابوق
-
الأمرأة التي تحب عمرها... وتعشق الحياة
-
هل أنّ الشاعرَ موسيقارٌ؟
-
أميريغو فسبوتسي
-
أول مَن نطقَ (أحبكِ)... مجنون!
-
مورفي... مورفي
-
كارتير... بوري
-
قوم الآنسة (بك كي)
-
قضية أمن دولة!
-
مجرد كلام قادسية الذبان
-
صرخة الحبانية
-
شمسنا الغالية
-
دعوة سياحية
-
غضب سانت هيلنز
-
هل تخلع (أنتركتيكا) ثوبها الأبيض؟
المزيد.....
-
من قوته إلى قدرة التصدي له.. تفاصيل -صاروخ MIRV- الروسي بعد
...
-
نجل شاه إيران الراحل لـCNN: ترامب و-الضغط الأقصى- فرصة لإنشا
...
-
-لقد قتلت اثنين من أطفالي، فهل ستقتل الثالث أيضا؟-: فضيحة وف
...
-
كيم: المفاوضات السابقة مع واشنطن لم تؤكد سوى سياستها العدائي
...
-
الوكالة الدولية للطاقة الذرية تعتمد قرارا ينتقد إيران لتقليص
...
-
ZTE تعلن عن أفضل هواتفها الذكية
-
مشاهد لاستسلام جماعي للقوات الأوكرانية في مقاطعة كورسك
-
إيران متهمة بنشاط نووي سري
-
ماذا عن الإعلان الصاخب -ترامب سيزوّد أوكرانيا بأسلحة نووية-؟
...
-
هل ترامب مستعد لهز سوق النفط العالمية؟
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|