فشل الاسلام السياسي
الافغان العرب يتجاوزون الاخوان المسلمين
الافغان العرب هو الاسم الذي تحظى به المنظمات الاسلامية المتطرفة التي حوّلت الكفاح المسلح الاسلامي الى نهج وعقيدة واخيرا الى فخ مدمر اوقعت نفسها فيه. وتسمى هذه الحركات "بالتكفيرية" لانها ترى في كل من لا يسير حسب مفاهيمها العقائدية كافرا، وقد قُتل آلاف المسلمين في الجزائر ومصر وباكستان بايدي هذه المجموعات.
يعقوب بن افرات
كثّفت وسائل الاعلام العربية في الآونة الاخيرة المقالات والمقابلات التلفزيونية حول الاسلام السياسي المتطرف المعروف بظاهرة الافغان العرب. وترمي هذه الحملة لتبرئة الاسلام من تهمة دعم الارهاب التي توجهها له حملة اعلامية عنيفة مضادة في امريكا. وليس من قبيل الصدفة ان المنابر التي تقوم بالحملة الدفاعية هي صحيفة "الحياة" ومحطة mbc الفضائية (نوفمبر 2001) التي يمتلكها الامير خالد بن سلطان، رئيس الاركان السعودي ابان العدوان الامريكي على العراق. فقد اصبحت السعودية المتهمة الاولى باحداث 11 ايلول، ولا يمض يوم دون ذكر اسمها في احدى الصحف الامريكية ذات الانتشار الواسع مثل "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست".
وقد قامت محطة mbc ببث مقابلة من عدة حلقات مع الامير السعودي تركي الفيصل، الذي كان المسؤول من طرف المملكة عن ملف افغانستان في العشرين سنة الماضية، وذلك بصفته مدير الاستخبارات العامة حينها. وكان ظهوره شاذا بعض الشيء وغير عادي اذ من المعروف ان مسؤولي المملكة لا يحبذون الاعلام ولا كشف اسرارهم، وتحديدا سرهم الاكبر وهو دورهم في افغانستان. الجديد انه منذ 11 ايلول تبذل المملكة جهودها لابعاد شبح طالبان عنها ونفض اية علاقة لها بتنظيم القاعدة، رغم الدعم الكبير الذي منحته له طيلة وجود طالبان في الحكم.
من خلال الحملة الدفاعية المسعورة بدأت تطفو على السطح معلومات كثيرة كانت خافية عن الجمهور لفترة طويلة، كانت فيها قضية الدور السعودي في افغانستان ومعظم القضايا المتعلقة بالعلاقة بين الانظمة والمعارضة من الممنوعات التي لا يجوز تناولها عبر وسائل الاعلام. ان مصطلح "معارضة" في العالم العربي امر غير محدد وقد يحمل اكثر من معنى، اذ ليس هناك شيء اسمه معارضة في النظام الاستبدادي الذي هو حال النظام العربي، لان كلمة معارضة المتداولة تعني السعي لقلب النظام او على الاقل منافسته على السلطة. ما يبقى اذن من المصطلح الكبير هو لعبة تجري احداثها وراء الكواليس بين النظام وبين ما يسمى "معارضة" والتي اصبحت حكرا على الحركات الاسلامية.
وقد بادرت صحيفة "الحياة" لسرد سيرة الافغان العرب، وهي تسمية تحظى بها المنظمات الاسلامية المتطرفة التي حوّلت الكفاح المسلح الاسلامي الى نهج وعقيدة واخيرا الى فخ مدمر اوقعت نفسها فيه. وتسمى هذه الحركات "بالتكفيرية" لانها ترى في كل من لا يسير حسب مفاهيمها العقائدية الخاصة كافرا، وليس هذا محصورا في اليهود والصليبيين والهندوس والبوذيين فقط، بل في المسلمين ايضا الذين قُتل الآلاف منهم بايدي هذه المجموعات في الجزائر ومصر وباكستان وسواها. وتحاول الصحيفة درء اللوم عن السعودية وتوجهه لمصر وتحديدا لحركة الاخوان المسلمين فيها التي كانت ولا تزال منبع الاسلام التكفيري.
وما يهمنا في هذا المضمار ليس التمركز حول طبيعة جماعة الاخوان، بل حول دور الانظمة العربية والاسلامية في بناء هذه الظاهرة ليس في مصر فقط كما يدعي محمد صلاح في مقاله الذي نشرته "الحياة" في حلقات (الاولى في 17/10) بعنوان "رحلة الافغان العرب: من كل مكان الى واشنطن ونيويورك"، بل في العربية السعودية وباكستان ايضا.
كما يقر صلاح نفسه، بدأ نفوذ الحركة الاسلامية في مصر بعد انقلاب السادات على اليسار بقيادة علي صبري، وطرد السوفييت من مصر وانفتاحه على امريكا. ولكن الكاتب يتجاهل انقلابا آخر تم في نفس الفترة قام به الجنرال ضياء الحق في باكستان، والذي اتخذ من الحركة الاسلامية بزعامة قاضي حسين، غطاء ايديولوجيا لانقلابه اليميني.
تفاصيل نشوء العلاقة بين انور السادات وجماعة الاخوان يسردها محمد صلاح في الحياة: "رفع السادات شعار دولة العلم والايمان، واصدر تعليماته للتلفزيون والاذاعة لبث آذان الصلوات الخمس يومياً، واجرى تعديلاً دستورياً ينص على ان الشريعة الاسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. وقبلها كان اطلق المعتقلين من الاخوان بعدما ظلوا سنوات طويلة قابعين في السجون. واطلقت وسائل الاعلام عليه لقب الرئيس المؤمن بعدما زادت شعبيته في حرب تشرين الاول (اكتوبر). ولم تكن لقاءات السادات مع مرشد الاخوان عمر التلمساني سراً. اذ كان يعلم مدى الشعبية التي يتمتع بها الاخوان، خصوصاً في الاوساط الشعبية، لذلك سمح لهم بالنشاط من دون ان يمنحهم فرصة الحصول على رخصة حزب او منبر سياسي، ورضوا بذلك.
"ويبدو ان حرص السادات على استمرار علاقاته الطيبة مع الاخوان، كان سبباً في عدم اقدامه على اتخاذ اجراءات ضد الاسلاميين الراديكاليين حين ظهر اول فصيل منهم عام 1973، ولم يكن يعلم ان نهايته ستكون على ايدي فصيل آخر يعتنق عناصره الافكار نفسها، وانه سيحصد ما زرعه".
المفارقة ان الاخوان المسلمين هم الذين ساعدوا السادات على خيانة العرب عندما دعموا انقلابه ضد اليسار لتمهيد انفتاحه على امريكا وابرام السلام مع اسرائيل. فقد اجاز الاخوان المسلمون لانفسهم التعاون مع امريكا والانظمة التابعة لها بهدف مكافحة اليسار، وتحول هذا النهج الى استراتيجية الحركة منذ نشوئها. ووصلت العلاقة بين النظام المصري والاخوان الى درجة منحهم حقائب وزارية هامة تتعلق بتعبئة الجمهور الواسع كالاعلام والمساجد. هكذا تصف "الحياة" هذا التعاون:
"وفقاً لدراسة اعدها الدكتور فاروق ابو زيد، فان السادات لم يكتف بالافراج عن المعتقلين من الاخوان المسلمين، بل سمح لهم بقدر كبير من حرية الحركة، خصوصاً في مجال الاعلام، فوافق على اعادة صدور صحيفة الدعوة لسان حال الجماعة، واعاد بعض الاخوان الى اعمالهم السابقة في الصحف واجهزة الاعلام، واحتل بعضهم مواقع مؤثرة في هذه الاجهزة.
"ولعل من مظاهر ذلك ان وصل اثنان من القادة السابقين للجماعة الى منصب الوزارة وهما الدكتور عبد العزيز كامل الذي تولى وزارة الاوقاف (اصبح نائباً لرئيس الوزراء)، وهي الوزارة التي تشرف بشكل مباشر او غير مباشر على جميع المساجد في مصر واهم وسيلة للاتصال والاعلام المباشر على الاطلاق في كل الدول الاسلامية، كذلك تولى الدكتور احمد كمال ابو المجد وزارة الاعلام، وهي الوزارة المسؤولة مباشرة عن كل الشبكات الاذاعية والخدمات التلفزيونية بالاضافة الى مصلحة الاستعلامات، فضلا عن تأثيرها المعنوي في
الصحف والصحافيين".
وقد هيأ هذا التحالف بين نظام السادات والحركة الاسلامية البيئة التي نشأ فيها الاسلام التكفيري، والذي انقسم لاكثر من مجموعة اهمها الجماعة الاسلامية برئاسة الدكتور عمر عبد الرحمن السجين في امريكا بعد ادانته بتفجير مركز التجارة العالمي في نيويورك مطلع التسعينات، والثانية جماعة الجهاد بقيادة الدكتور ايمن الظواهري، مساعد اسامة بن لادن، والمشتبه بالمسؤولية عن الهجوم الاخير على نفس المبنى الامريكي وبناية البنتاغون في 11 ايلول.
يتطرق مقال الحياة للعلاقة الغريبة التي ربطت بين نظام السادات والتيار المعتدل في حركة الاخوان من جهة وبين الاخوان والجماعات الاسلامية الراديكالية التي تحدت قيادة الاخوان، وهي مسألة هامة لفهم طبيعة العلاقة القائمة بين الانظمة العربية وبين الاسلام السياسي بشكل عام. تقول "الحياة" وهي تقتبس دراسة الدكتور فاروق ابو زيد: "كان السادات يعتقد ان في امكانه دائماً السيطرة على حركة هذا التيار، خصوصاً ان الكثيرين من رموزه قبلوا التعامل مع السلطة والتعاون معها، بل وصار بعضهم جزءاً منها. ففي ذلك الوقت لم يكن برز التمايز الواضح بين تيار متطرف وتيار آخر معتدل داخل الحركة الاسلامية في مصر. وظل هذا التمايز او الانقسام محصوراً في نطاق ضيق وداخل الحركة الاسلامية، وكان هناك حرص شديد من جانب الاخوان المسلمين وبقية التيار الاسلامي المعتدل على عدم اخراج الخلاف مع المتشددين الى العلن خوفاً من انقسام الحركة الاسلامية وتشتت جهودها مع بداية نشاطها في السبعينات، وإن لم يكن لدى المتشددين هذا الحرص نفسه".
ولم تقتصر جهود السادات لكسب التأييد الشعبي على تأجيج المشاعر الدينية بالتعاون الوثيق مع حركة الاخوان، بل انضم ل"الجهاد" في افغانستان داعما بذلك المعسكر الامريكي. في المقابلة مع mbc سرد تركي الفيصل تقسيم الادوار في هذا الجهاد ففي حين ساهمت السعودية بالمال ومثلها فعلت امريكا، تولت المخابرات الباكستانية التدريب والاشراف المباشر، اما السادات فكان دوره تقديم السلاح السوفييتي للتمويه على التدخل الامريكي المباشر الذي كان يجب ان يبقى سرا.
ويعتمد محمد صلاح في مقاله على دراسة امريكية اعدت عام 1993 جاء فيها: "ان السادات فتح باب الهجرة الى باكستان وافغانستان بايعاز من اميركا. وعلى ذلك تحركت مجموعات تمثل حركة الاخوان المسلمين وتنظيمات اصولية متطرفة انضمت الى مجموعات من بلدان عربية عدة وجدت نفسها في ساحة واحدة وفي حوزتها احدث الاسلحة وارقى التدريب واحتشد الجميع تحت راية الجهاد".
من الاخوان لطالبان
وقد لعب ضياء الحق في باكستان نفس لعبة التحالف التي لعبها السادات مع الحركات الاسلامية. وقد كان هذا التحالف ممكنا لان الطرفين، النظام العسكري الاستبدادي والحركات الاسلامية، يرفضان الديمقراطية، اذ يرى الاسلام فيها بدعة لانها تعبر عن نظام علماني مناقض للشريعة. واثبت هذا التحالف نجاحه في الدول الاسلامية التي احكمت فيها الطغمة العسكرية قبضتها على رقاب الشعوب المضطهدة، خاصة ان التحالف نشط جدا ضد التيارات الشيوعية او اليسارية التي طالبت بتحويل الاقتصاد للقطاع العام.
وكانت افغانستان نقطة التقاء عناصر الكتلة الرجعية، السعودية ومصر وباكستان، التي ايدت الاستراتيجية الامريكية العالمية ضد الاتحاد السوفييتي، سعيا للحصول على دعم الامريكان. فباكستان شعرت بتهديد من الهند، بينما دخلت مصر لوضع من العزلة وفقدت دورها القيادي في العالم العربي اثر توقيعها على اتفاق السلام مع اسرائيل، اما السعودية فنظرت برعب لثورة الخميني التي اطاحت بنظام الشاه الايراني.
وكان دعم "الجهاد" في افغانستان افضل وسيلة لحرف انظار الناس عن القضية الجوهرية التي كانت محور النضال ضد امريكا واسرائيل، وهي القضية الفلسطينية. فقد كان ضياء الحق متواجدا في الاردن اثناء مذبحة ايلول الاسود عام 1970، وكان السادات قد فتح المجال باتفاقيته مع اسرائيل لغزو الاخيرة لبيروت وارتكابها مجزرة صبرا وشاتيلا، اما السعودية فكانت ولا تزال الد اعداء حركات التحرر في العالم اجمع ولم تخرج منظمة التحرير الفلسطينية عن هذا الاجماع.
وفي ساحة "الجهاد" بافغانستان، لعب الاخوان المسلمون الباكستانيون دورا رئيسيا. وقد نصحوا رئيس المخابرات الباكستانية حميد غول بدعم حزب قلب الدين حكمتيار (من قبيلة البشتون) دون سائر الاحزاب الاسلامية الافغانية. وكان في هذا اشارة الى ان الاسلام ليس امة واحدة بل هو منقسم الى تيارات ومجموعات واعراق، ويعتمد على القبلية والعائلية اكثر من اي فكر آخر.
وقد برزت هذه الخلافات القبلية بحدة بعد انسحاب السوفييت من افغانستان، الامر الذي حكم بالفشل الذريع على المشروع الاسلامي الذي رعته جماعة الاخوان الباكستانيين بدعم المخابرات الباكستانية والامريكية. فقد رفض حكمتيار البشتوني الاصل تقاسم السلطة مع نظيريه برهان الدين رباني واحمد شاه مسعود الطاجيكيين، وراح يقصف العاصمة كابول التي خضعت لسيطرتهما حتى حوّلها لانقاض. وجاء منافس آخر هو اسماعيل خان الشيعي الهزاري الاصل، ليزيد اللهيب ويحول الارض الافغانية الى بركان التهم الاخضر واليابس. وعندما سؤل تركي الفيصل لماذا فشل المشروع الافغاني كان له هذا الجواب البسيط، "الطمع بالسلطة".
ان متابعة الاحداث التي دمرت افغانستان بايدي المجاهدين، هي مقدمة ضرورية لفهم جذور المجموعات التكفيرية. فقد كان دور "الافغان العرب" المنتمين للجماعات التكفيرية، هامشيا اثناء الحرب ضد السوفييت، وذلك باعتراف احد افرادهم في صحيفة الحياة. ولكن بعد انتهاء الحرب اواخر الثمانينات والانتقال للحرب الاهلية، ابتعد الافغان العرب عن افغانستان سعيا وراء الجهاد ضد الانظمة العربية "الكافرة". وقد برز مطلع التسعينات نشاط الجماعات التكفيرية الدموي في اكثر من بلد كانت اشهرها مصر والجزائر، الا ان نشاطها وصل ايضا لليمن والصومال والسودان وليبيا ايضا التي ذاقت ويلات المحاولة الدموية لفرض الاسلام الحقيقي، دون ان تحقق الجماعات نجاح في أي من هذه المواقع.
المفارقة ان المكان الوحيد الذي استطاع الاسلام المتطرف ان ينجح فيه كان افغانستان التي تحولت لقاعدة خلفية للاسلام المتشدد. وقد رفع لواء هذا الاسلام هناك حركة طالبان التي تشكلت في باكستان واعتبرت لذلك دخيلة على الساحة الافغانية. وكنا في مقال سابق للصبّار (العدد 145) قد شرحنا كيفية إقحام طالبان لافغانستان، بعد التحالف الحكومي بين رئيسة الحكومة حينذاك بنازير بوتو وبين رئيس حزب جمعية علماء الاسلام فضل الرحمن. من موقعه في الحكومة اقنع فضل الرحمن وزير الداخلية، الجنرال نصر الله بابار، بدعم مجموعة الطلاب البشتونيي الاصل لاحتلال كابول ووضع حد للفوضى المتسببة عن الحرب الاهلية.
ومع دخول طالبان للصورة دخل الدور السعودي باكثر حدة. فاذا كان للسادات ضلع في مستهل القضية الافغانية، وكان ضياء الحق المسؤول المباشر عن دعم الجهاد، فان المسؤولية عن ملف طالبان تقع على عاتق السعودية، وتحديدا تركي الفيصل الذي تحمس للفكرة.
قبل المضي في شرح مرحلة طالبان لا بد من اغلاق ملف المرحلة السابقة بالاشارة الى ظاهرة التصفيات التي تعرض لها "مناصرو الجهاد" في افغانستان. فقد اغتيل السادات ولقي ضياء الحق مصرعه في حادث طائرة، اما الدكتور عبد الله عزام الذي بادر لتجنيد الافغان العرب فقد اغتيل في انفجار وقع بسيارته في مدينة بيشاور الباكستانية. وكان آخر اغتيال لمن اعتبر بطل الجهاد ضد السوفييت، وهو احمد شاه مسعود، الذي قتل بايدي عرب اياما قليلة قبل احداث 11 ايلول، الامر الذي يزيد من نقمة الافغان الاصليين على الافغان العرب الدخلاء.
دخول السعودية للصورة الافغانية واختيارها دعم الجناح المتشدد المتمثل بطالبان، سبب تراجعا كبير في اسهم الاخوان المسلمين اولا في باكستان ثم في انحاء العالم العربي. فالتيار الذي طبقته طالبان في افغانستان هو التفسير السلفي المتشدد للاسلام، والذي يلائم المفهوم الوهابي الذي تطبقه السعودية ايضا.
وقد رأى الافغان العرب الذين تزعمهم ايمن الظواهري واسامة بن لادن، في النظام الطالباني الجديد بافغانستان فرصتهم الذهبية لتحويل البلد الى قاعدة خلفية، ينطلقون منها الى معركتهم الاخيرة والحاسمة ضد اليهود والصليبيين. وكان استياء الشعوب العربية من فساد الانظمة واستهتار الامريكان بمصيرها، الموجة التي ركبها هؤلاء لاعلان جهادهم على الانظمة والامريكان. ولكن لم يكن لهم مخرج وبرنامج لتوجيه شعور الجماهير بالحقد على امريكا والانظمة باتجاه الوصول لحل واقعي ثوري.
وقد ادخل الاسلام المتشدد الاخوان المسلمين المعتدلين في ارباك وهدد مستقبل تحالفاتهم الانتهازية مع الانظمة. ولكن بدل مواجهة خطورة الاسلام المتشدد وفضح عدم واقعيته واقامة الحد الفاصل بينها وبينه، دخلت الحركات المعتدلة الى لعبة المبررات، محمّلةً امريكا المسؤولية بدل محاسبة نفسها وطرحها الديني الذي ابعد الناس عن الواقع، وأدخلهم لحالة تتأرجح بين الحماس غير المبرر للقضاء على كل شيء، وبين اليأس والاحباط الذي يقود للسلبية. وقد ادت احداث 11 ايلول لارباك وتراجع في صفوف الاسلام السياسي، بعد ان اصبح من المستحيل التفريق بين التكفير والدعوة وبين الجهاد المتشدد والجهاد المعتدل.
والحقيقة انه لم يكن بمقدور الحركات الاسلامية مواجهة التطرف الاسلامي، بعد ان بدأت تفقد مصداقيتها في الشارع. فتاريخيا كانت الحركات الاسلامية تدعم نظاما ما لتحارب نظاما آخر، وكانت الشيوعية بالنسبة لها العدو الرئيسي، وبعد هزيمته انقلبت على حليف الامس سواء الانظمة او امريكا. وقد نمت الحركات المعتدلة في فترة تحول الانظمة العربية باتجاه الانفتاح على امريكا واسرائيل، وكان لها دور مهم في تمرير هذا التحول مقابل توليها السيطرة على الشارع. ولكن بعدما تحول الشارع الى عنصر مهم ومقرر ومعاد بوضوح لامريكا والانظمة، فقدت الحركات الاسلامية المتواطئة سيطرتها واستسلمت للتطرف الاعمى. والآن بعد 11 ايلول وصل الاسلام السياسي الى نهاية المطاف.
ان محاربة امريكا هي فرض عين، ولكن ليس ذلك من منطلق ديني بل انساني بحت واممي في مضمونه وبرنامجه، سعيا لتأسيس نظام افضل يلغي الفروق القومية والدينية. ليست حرب حضارات التي امامنا، بل حرب من اجل الحضارة الانسانية ككل. في هذه الحرب نقف ضد حضارة امريكا الرأسمالية وضد حضارة الاسلام المتطرف اللتين قربتا البشرية من الدمار الشامل.